الرئيسية/خطب/الأعمال التي يجري ثوابها بعد الممات
|categories

الأعمال التي يجري ثوابها بعد الممات

مشاهدة من الموقع

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

حديث: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث”

عباد الله: أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة  أن رسول  قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له [1]، في هذا الحديث العظيم يبين النبي أن عمل الإنسان ينقطع بالموت، فإن من مات فقد انقطع عن دار العمل، وانتقل إلى دار الجزاء والحساب، ولذلك فإن الحياة فرصة عظيمة للأحياء في أن يعملوا، وفي أن يتزودوا بالأعمال الصالحة فرصة لئن ينيبوا إلى الله تعالى، ويرجعوا إليه.

إنك أنت أيها الإنسان إنك في دار يتمناها الأموات لكي يعملوا صالحًا، وما من ميت يموت إلا وقد ندم إن كان مسيئًا ندم ألا يكون قد استعتب وأناب، وإن كان محسنًا ندم ألا يكون قد ازداد.

رؤي بعض الموتى في المنام، فقال: “نحن أيها الأموات نعلم، ولا نستطيع أن نعمل، وأنتم أيها الأحياء تعملون، ولا تعلمون، والله لتسبيحة واحدة يجدها أحدنا في صحيفته خير من الدنيا وما فيها”.

ولذلك فقد نُهِي عن تمني الموت؛ لأنه بالموت تنقطع الأعمال، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: لا يتمنينّ أحدكم الموت لضر نزل به؛ إن المؤمن إذا مات انقطع عمله، وإن المؤمن لن يزيده عمره إلا خيرًا [2].

عباد الله: وفي هذا الحديث العظيم يخبر الصادق المصدوق بأن أمورًا ثلاثة لا تنقطع بالموت، وإنما يجري للإنسان أجرها وثوابها بعد مماته.

نعم، إن الموت تنقطع به الأعمال، لكن هذه الأمور الثلاثة لا تنقطع بالموت:

الصدقة الجارية

الأمر الأول: صدقة جارية، قال: صدقة جارية، والصدقة الجارية هي: الوقف، والتسبيل في أمور الخير، فما وقفه المسلم لله تعالى فهو من الصدقة الجارية التي يستمر ثوابها له بعد مماته؛ كعمارة المساجد، والأوقاف التي تسبل وتوقف للإنفاق منها على الفقراء والمحتاجين والغارمين، وتفطير الصائمين، وسقيا الحجاج، وفي مجال الدعوة إلى الله ​​​​​​​، ونشر العلم النافع، ونحو ذلك من الأوقاف في أمور الخير.

والوقف هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، فلا يباع، ولا يورث، ولا يوهب، وهو من أفضل أنواع القرب إذا كان في أمور الخير، ويكفي في بيان فضله أن ثوابه يستمر للإنسان بعد مماته ما دام ينتفع به، ولهذا أشار به النبي على عمر بن الخطاب لما استشاره في أنفس مال أصابه ماذا يفعل به؟ ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر، فأتى النبي يستشيره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالًا قط هو أنفس عندي منه؛ فما تأمرني به يا رسول؟ فقال له النبي : إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها (أي أوقفتها) فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يورث، ولا يوهب، تصدق بها في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها، أو يطعم صديقًا [3].

فتأملوا رحمكم الله هذه القصة، وكيف أن النبي  أشار على عمر في أنفس مال أصابه عمر في حياته، فأشار عليه النبي بأن يوقفه، فأوقف عمر هذه الأرض في وجوه الخير، على الفقراء، وعلى أقاربه، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف.

قال أهل العلم: ولو كان هناك شيء أفضل من الوقف لأشار به النبي على عمر ؛ لأن المستشار مؤتمن، وعمر أتى النبي يستشيره في أنفس مال أصابه في حياته، فأشار عليه الصلاة والسلام على عمر بالوقف، فدل ذلك على أن الوقف هو أفضل ما تبذل فيه الأموال، ولهذا فقد حرص الصحابة على الوقف حرصًا شديدًا، يقول جابر : “لم يكن أحد من أصحاب النبي ذو مقدرة إلا وقف”.

والمسلمون في العصور الماضية على مر العصور الماضية حرصوا حرصًا كبيرًا على الأوقاف، بل إن سر نهضة الحضارة الإسلامية هو الوقف، فإن الدولة الإسلامية في العصور الماضية كانت مهمتها حفظ الأمن الداخلي والخارجي، والتقاضي بين الناس، وأما ما يتعلق بالخدمات سواء في مجال التعليم، أو الصحة، أو الطرق، أو غير ذلك من الخدمات، فكانت تعتمد اعتمادًا كليًّا على الأوقاف.

فالوقف هو أفضل ما تبذل فيه الأموال، والوقف إن وفق الواقف في أن يكون مما ينفع المسلمين فقد وفق لخير عظيم.

كم من إنسان هو في عداد الأموات ووقفه الذي وقفه يدر عليه حسنات عظيمة وهو في قبره، وهذا من التوفيق الذي يوفق الله تعالى له بعض من يشاء من عباده.

علم ينتفع به

والأمر الثاني مما يستمر أجره وثوابه للميت بعد مماته: علم ينتفع به، والمراد بهذا العلم: العلم الشرعي المستمد من كتاب الله وسنة رسوله الله ، ويكون توريثه بالتعليم والتأليف والنشر، ونحو ذلك، وها نحن نذكر علماء ماتوا من مئات السنين، ونترحم عليهم، وندعو لهم، هذا هو العلم النافع الذي يبقى للإنسان بعد مماته، وكلما كان العلم أكثر نفعًا وأوسع انتشارًا كان أعظم ثوابًا وأجرًا، ويدخل في ذلك من دعا إلى هدى فإن له من الأجر مثل أجور من تبعه ولو كان ذلك بعد مماته، يقول النبي : من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا [4].

دعاء الولد الصالح

وثالث هذه الأعمال التي لا تنقطع بالموت: أو ولد صالح يدعو له دعاء الولد الصالح، وهنا نقف وقفة مع هذا الأمر: كيف اعتبر النبي دعاء الولد الصالح عملًا للإنسان وكسبًا له مع أن الدعاء من عمل شخص آخر هو الولد؟

قال أهل العلم: أن الولد يعتبر من كسب الإنسان، وفي هذا دليل على أنه ينبغي للمسلم أن يسعى لطلب الولد عن طريق الزواج فإن الزواج من سنن المرسلين؛ كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً [الرعد:38]، وقال النبي : يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء [5]، ثم إنه بعد ما يرزق بالولد ينبغي أن يسعى إلى إصلاحه وتربيته، وذلك ببذل أسباب هداية الدلالة والإرشاد له، وسؤال الله تعالى هداية الإلهام والتوفيق.

وفي هذا الحديث دليل على أن دعاء الولد الصالح لوالديه أنه ينفعهما بعد مماتهما، قال النووي رحمه الله: “في هذا الحديث من الفوائد: أن الدعاء يصل ثوابه إلى الميت، وكذلك الصدقة، وهما مجمع عليهما، بل إن دعاء الولد لوالديه حري بالإجابة؛ لأن الله تعالى قد أمر به في قوله سبحانه: وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء: 24]”.

فينبغي لك أخي المسلم أن تجتهد في الدعاء لوالديك في حياتهما وبعد مماتهما، فإن هذا داخل في البر بهما، وقد أمر الله تعالى به في معرض أمره بالبر بهما، فقال: وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ۝وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24].

فذكر الله تعالى الدعاء للوالدين من البر بالوالدين، فينبغي للمسلم الدعاء للوالدين خاصة بعد مماتهما، وانقطاع أعمارهما، وإن من يفعل ذلك لحري بأن الله تعالى يقيض له من أولاده من يفعل به كذلك فيدعو له بعد مماته.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.

اجعل لك أثرًا بعد موتك

عباد الله: إن من الناس من يموت ولا يكون له أي آثار من أعمال صالحة بعد مماته، بل تطوى صحيفة حسناته بموته.

كم من إنسان كان يملك ثروة كبيرة قد تعب في جمعها وتحصيلها، ثم فجأة جاءه الموت فانتقل من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، وانتقلت هذه الثروة للورثة من بعده لهم غنمها، وعليهم حسابها، ولم يوفق لجعل شيء من هذه الثروة فيما ينفعه بعد مماته؟

ومن الناس من يوفق فيكون له آثار من أعمال صالحة، هو من عداد الأموات لكن ثوابها وأجرها يجري له من صدقة جارية أنفذها في حياته، أو من علم ينتفع به بقيت آثاره بعد مماته، أو من دعاء ولد صالح له.

عباد الله: كل الناس يتمنون أن يكون لهم آثار من أعمال صالحة يجري ثوابها لهم بعد مماتهم، ولكن بعض الناس يؤتى من جهة التفريط والإمهال، وطول الأمل، حتى يبغته الموت أو حتى يبغته مرض الموت، فلا يستطيع حينئذ أن يقدم ما كان يتمناه، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ يبيتُ ليلتين، له شيءٌ يريدُ أن يوصيَ فيه، إلا ووصيتُه مكتوبةٌ عند رأسه [6]، قال ابن عمر رضي الله عنها: “ما بت ليلة إلا وصيتي مكتوبة عند رأسي”.

فينبغي أن يبادر المسلم لإنفاذ ما يريد من أوقاف أو وصايا وكتابتها، والاشهاد عليها، وينبغي أن يستشير أهل العلم في صياغتها حتى لا يشكل تنفيذها على الورثة من بعده فإنه ربما دل على صياغة محررة يكون التنفيذ واضحًا بعد مماته، ولا يشكل تنفيذ الوصية، أو الوقف بعد مماته.

الوقف أفضل من الوصية

والوقف أفضل من الوصية، الوقف يكون في جميع المال إذا لم يكن الإنسان في مرض الموت فللإنسان أن يوقف ما شاء، وأما الوصية فإنها لا تكون إلا في حدود الثلث فأقل إلا إذا كان الوقف بعد الممات فيكون حكمه حكم الوصية.

عباد الله: ومن الأمور الحسنة التي يفعلها بعض الناس: أنه يوقف بيته، ويشترط أن يسكنه هو طيلة حياته، ويسكن فيه من بعده من يحتاج من ورثته، فيكون هذا البيت مركزًا للعائلة من بعده، يسكن فيه المحتاج من عائلته، من أرملة، أو بنت مطلقة، أو لم تتزوج، ومن أولاد صغار يعيشون في هذا البيت معززين مكرمين، ليس لأحد عليهم منة، وإذا استغنى عنه جميع الورثة جعله ريعه في وجوه البر، فهذا من حسن التدبير الذي يوفق له بعض الناس، فيحسن بهذا الوقف للمحتاج من الورثة إحسانًا عظيمًا، وهو مأجور على هذا الإحسان.

ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، وقد أمركم الله بذلك، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين، اللهم انصر من نصر دين الإسلام في كل مكان، واخذل من خذل دين الإسلام في كل مكان، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يُعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وترفع فيه السنة، وتُقمع فيه البدعة، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وأصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم وفق ولاة أمور المسلمين في تحكيم شرعك، واجعلهم رحمة لرعاياهم.

اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، اللهم وفقه وولي عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم إنّا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.

نسألك اللهم من الخير كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201].

رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 1631.
^2 رواه مسلم: 2682.
^3 رواه البخاري: 2737، ومسلم: 1632.
^4 رواه مسلم: 2674.
^5 رواه البخاري: 1905، ومسلم: 1400.
^6 رواه مسلم: 1627.
مواد ذات صلة