الرئيسية/خطب/وقفات مع قصة سليمان مع ملكة سبأ
|categories

وقفات مع قصة سليمان مع ملكة سبأ

مشاهدة من الموقع

الحمد لله المحمود على كل حال، الموصوف بصفات الجلال والكمال، المعروف بمزيد الإنعام والإفضال، أرسل الرسل وفضَّل بعضهم على بعض وختمهم بمحمد الصادق المقال، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو العظمة والجلال، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۝يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

الحكمة من إرسال الرسل

عباد الله: أرسل الله تعالى الرسل لدعوة الناس إلى عبادة تعالى وحده، وجعل الله الرسل قدوات للبشر، وفضَّل بعضهم على بعض، وجعل منهم الغني الشاكر، وجعل منهم الفقير الصابر: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90].

نبوة وملك سليمان عليه السلام

ونقف في هذه الخطبة وقفات مع رسول عظيم جعله الله تعالى غنيًّا شاكرًا، وأتاه الله الملك والنبوة؛ سليمان بن داود عليه السلام، وقد سأل الله تعالى أن يهب له ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ۝فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ۝وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ۝وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ۝هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ۝وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص:35-40].

قصة سليمان عليه السلام مع النمل

وقد ذكر الله تعالى لنا قصصًا عظيمة عن هذا النبي، ومما ذكره الله تعالى في سورة النمل قوله سبحانه: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [النمل:17]؛ أي: جُمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فركب فيهم في أبهة عظيمة، وكان الإنس الذي يلونه، والجن بعدهم، والطير فوق رؤوسهم؛ فهم يوزعون أي: يكف أولهم على آخرهم؛ لئلا يتقدم أحد عن منزلته التي هي مرتبة له، أي أنهم يساقون بنظام عجيب.

حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ [النمل:18] أي: مر سليمان بموكبه من الإنس والجن والطير على واد النمل وهو موضع بالشام قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [النمل:18].

وقد علَّم الله تعالى سليمان لغات الطيور والحيوانات فسمع كلامها وفهمه؛ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا [النمل:19] سبحان الله! رب العالمين نقل لنا في كتابه الكريم كلام نملة من بين أمة النمل؛ لأن هذه النملة قامت وبادرت وتكلمت ناصحة ومحذرة ومنذرة للنمل من خطر تحطيم سليمان وجنوده، فعرضت أولًا المشكلة وهي تحطيم سليمان وجنوده لهم بوطئهم لهم بأقدامهم، ثم قدمت الحل فقالت: ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ واعتذرت لسليمان وجنوده بأنهم لا يشعرون.

ومن فوائد هذه القصة: بيان أهمية المبادرة بالنصح وألا يكون الإنسان سلبيًّا؛ فهذه النملة بادرت ونصحت النمل فنقل الله تعالى لنا كلامها في محكم كتابه.

ثم إن سليمان لما سمع كلامها تبسم ضاحكًا من قولها، وتذكر عظيم نعم الله عليه، ومن ذلك تعليمه فهم لغة الحيوان فقال: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19].

سليمان عليه السلام والهدهد

وكان سليمان عليه السلام يسوس مملكته بحزم وعزم وحكمة فتفقد الطيرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ [النمل:20] قال ابن عباس: “كان الهدهد مهندسًا يدل سليمان على الماء إذا كان بأرض فلاة طلبه؛ فنظر له الماء في تخوم الأرض كما يرى الإنسان الشيء الظاهر على وجه الأرض، ويعرف كم مساحة بعده عن وجه الأرض؛ فإذا دلهم عليه أمر سليمان الجان فحفروا له ذلك المكان حتى يستنبط له الماء من قراره”.

فنزل سليمان يومًا بفلاة من الأرض فتفقد الطير؛ ليرى الهدهد فلم يره فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ [النمل:20]، ثم توعده: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا قال ابن عباس: يعني نتف ريشه، أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أي أقتله، أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:21] أي: بعذر واضح بيَّن.

وفي تفسير ابن كثير لما قدم الهدهد قالت له الطير: ما خلَّفك فقد نذر سليمان دمك، قال: هل استثنى؟ قالوا: نعم، قال: نجوت إذن.

وهذا من كمال عدل سليمان وحكمته مع حزمه فقد توعد الهدهد بالعذاب الشديد أو الذبح إلا إذا كان له عذر فلن يعاقبه.

فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ، أي: غاب الهدهد زمنًا يسيرًا ومع ذلك توعده سليمان بهذا الوعيد؛ وهذا يدل على عظيم قيمة الزمن في حياة الأنبياء، ويدل على الانضباط الشديد في مملكة سليمان.

فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ يقول الهدهد هذا الطائر الضعيف يقول لسليمان النبي الملك الذي سخَّر الله له الإنس والجن والطير يقول له هذا الكلام أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وما كان الهدهد ليقول ذلك لولا أنه يعلم عدل سليمان وحلمه وإنصافه؛ ولهذا لم ينكر عليه سليمان هذه المقولة لعلم سليمان بأنه بشر ولا يعلم الغيب.

ثم قال الهدهد: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:22] وسبأ مدينة معروفة في اليمن، وسليمان كان في بيت المقدس.

ثم قال الهدهد: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23] وهؤلاء من حمير، وملكتهم هي بلقيس بنت شراحيل، وأوتيت من كل شيء من متاع الدنيا، ولها عرش أي: سرير تجلس عليه، عظيم هائل مزخرف بالذهب وأنواع الجواهر واللآلئ.

قال ابن كثير: “قال علماء التاريخ: وكان هذا السرير في قصر عظيم مشيد رفيع البناء وكان فيه ثلاثمائة وستون طاقة من شرقه ومثلها من غربه، وقد وضع بناؤه على أن تدخل الشمس كل يوم من طاقة وتغرب من مقابلتها، فيسجدون لها صباحًا ومساء”.

ولهذا قال: وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أي عن طريق الحق فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ۝أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي: ما جعل الله فيهما من الأرزاق كالمطر من السماء والنبات من الأرض وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ۝اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل:24-26].

سبحان الله! الهدهد حيوان ومع ذلك استنكر بفطرته هذا المنكر من قوم سبأ وهو سجودهم لغير الله وألقى عند سليمان هذه الخطبة العظيمة التي نقلها لنا ربنا في محكم كتابه، وهذا يدل على أن الطيور والحيوانات أنها موحدة لله، بل ومُسبِّحة له سبحانه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44]، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور:41].

بل قد ذكر بعضهم أن البهائم عند القحط وعند الزلازل ترفع رؤوسها إلى السماء.

جاء الهدهد بهذا الخبر لسليمان: قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل:27] لم يصدقه ولم يكذبه وإنما تثبت، وقال: سَنَنْظُرُ، وهذا منهج عظيم في التعامل مع الآخرين، خاصة من يشك فيهم، فخشي سليمان عليه السلام أن الهدهد إنما قال ذلك لأجل أن ينجو من العقوبة، فأراد أن يتثبت، فكتب لبلقيس كتابًا، وأعطاه الهدهد: اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ [النمل:28].

قصة سليمان مع ملكة سبأ

فحمل الهدهد هذا الكتاب، وجاء به إلى قصر بلقيس إلى الخلوة التي كانت تختلي فيها بنفسها، فألقاه إليها بين يديها، ثم تولى ناحية أدبًا، فتحيرت مما رأت، وهالها ذلك، ثم عمدت إلى الكتاب فأخذته فإذا فيه: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل:30-31]، فجمعت أمراءها ووزراءها وكبار مملكتها، ثم قالت لهم: يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ [النمل:29]، وتعني بكرمه ما رأته من عجيب أمره، وكون طائر أتى به فألقاه إليها ثم تولى عنها أدبًا، وهذا أمر لا يقدر عليه أحد من الملوك.

ثم قرأته عليهم: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل:30-31]، وهذا الكتاب في غاية البلاغة والوجازة والفصاحة فإنه حصَّل المعنى بأيسر عبارة وأحسنها.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره: “لم يكتب أحد بسم الله الرحمن الرحيم قبل سليمان”.

قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ [النمل:32] وهذا يدل على كمال عقلها وسداد رأيها إذ أنها لم تستبد بالرأي بل استشارت أهل الحل والعقد في مملكتها.

قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ [النمل:33] فوضوا أمرهم إلى امرأة ينتظرون منها أن تأمرهم بأي أمر يفعلونه، وكانت أحسن منهم رأيًا: قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل:34].

ثم إنها رأت من قضية الكتاب الذي مع الهدهد أمرًا عجيبًا بديعًا وتسمع عن سليمان وعن عظيم عدله وقوته وأرادت أن تختبر سليمان فقالت: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النمل:35].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: “قالت لقومها: إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه، وإن لم يقابلها فهو نبي فاتبعوه”.

فبعثت إلى سليمان عليه السلام بهدية عظيمة من ذهب وجواهر ولآلئ، وغير ذلك: فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ۝ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل:36-37]، وغرض سليمان عليه السلام أن يؤمنوا بالله وحده، وأن يعبدوه، وأن يتركوا عبادة الشمس.

فلما رجعت إليها رسلها بهديتها، وبما قال سليمان عليه السلام، وعرفت أنها لا قِبل لها بسليمان عليه السلام وجنوده سمعت وأطاعت هي وقومها، وأقبلت تسير إليه في جنودها خاضعة ذليلة، معظمة لسليمان عليه السلام، ناوية متابعته في الإسلام، والتوحيد لله ​​​​​​​.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله الغني الحميد، المبدئ المعيد، ذي العرش المجيد، الفعال لما يريد، أحاط بكل شيء علمًا وهو على كل شيء شهيد، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.

قصة سليمان وعرش بلقيس

عباد الله: لما تحقق سليمان عليه السلام من قدومهم عليه ووفودهم فرح بذلك وسُرّ، وأراد أن يُري ملكة سبأ بعض ما خصه الله تعالى به من الآيات؛ حتى تعلم بأنه نبي مرسل من عند الله وليس فقط ملكًا.

قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ۝قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل:38-39] أي قال: هذا العفريت من الجن قالوا إنه في ضخامته كأنه جبل.

قال: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ أي من مجلسك، وكان سليمان يجلس للناس لقضاء حوائجهم من أول النهار حتى تزول الشمس: قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل:40]، وهذا الذي عنده علم من الكتاب قيل: إنه كان صِدِّيقًا من الإنس، وكان يعلم اسم الله الأعظم، فدعا الله باسمه الأعظم أن يأتي بعرشها فتمثل بين يديه.

ويقال: إنه لما دعا الله باسمه الأعظم استجيب له فحملت الملائكة العرش في هذا الوقت القصير جدًّا قبل أن يرتد إليه بصره، واستدل بهذا بعض أهل العلم على أن الملائكة أقوى من الجن.

فَلَمَّا رَآهُ أي: رأى سليمان العرش مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:40].

ثم إنه لما جيء بعرش بلقيس إلى سليمان قبل قدومها عليه أمر به أن تغير بعض صفاته ليختبر معرفتها وثباتها عند رؤيته، وهل تعرف أنه عرشها أو أنه ليس هو، قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ [النمل:41].

فغُيِّر عرشها وزيد فيها ونقص منه فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ فلم تجب بنعم لما فيه من التغير ولبعد مسافته عنها فإن العرش كان في اليمن وسليمان في بيت المقدس فكأنها استبعدت أن يؤتى بعرشها فلم تجب بنعم ولم تجب بلا لما رأت من آثاره وصفاته وإن غُيِّر ونُكِّر؛ فأجابت بجواب يسع الاحتمالين جميعًا فـ: قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ قال المفسرون: وهذا الجواب في غاية الذكاء فعرف سليمان رجاحة عقلها، ثم قال سليمان: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ [النمل:42] أي أعلمنا وأخبرنا عن عقلها فتحققنا من ذلك لما سبرناها فكأنه قيل بعد ذلك كيف تجتمع رجاحة العقل وعبادة غير الله تعالى؟ فكان الجواب هو قول الله تعالى: وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ [النمل:43] أي صدها عن عبادة الله العقائد التي نشأت عليها والبيئة التي نشأت فيها؛ لكن لما عرفت الحق تركت عبادة غير الله.

إسلام ملكة سبأ

ثم إن سليمان عليه السلام أمر الشياطين المسخرة بأمره فبنوا له قصرًا عظيمًا من قوارير أي من زجاج وأجري الماء تحته.

قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ أي هذا القصر العظيم ليريها ملكًا أعز من ملكها وسلطانًا أعظم من سلطانها، فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً أي ماء لكن الماء يجري تحته والزجاج يحول بين الماشي والماء، وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا لا تشك أنه ماء تخوضه، قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ فدعاها سليمان عليه السلام إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الشمس من دون الله، فلما رأت هذه الآيات العظيمة استجابت لدعوة سليمان: قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [النمل:44].

عباد الله: هذه قصة من قصص نبي الله سليمان قصها الله علينا في كتابه الكريم لأجل أن نأخذ الدروس والعبر، هذا النبي العظيم الذي أعطاه الله ملكًا عظيمًا، وفيه أمور لا يمكن أن تدرك بالأسباب، وإنما هي تقدير الملك الوهاب، مثل تسخير الرياح لأمره، وتسخير الشياطين وجنوده من الجن والإنس والطير، ومهما بلغ البشر في الترقي في العلوم المادية فلن يصلوا إلى ما أعطيه سليمان، وقد جعل الله تعالى سليمان مثالًا للغني الشاكر، فمع هذا الملك العظيم، وهذه الأبهة التي لم تحصل لغيره من البشر لم يطغ، ولم يتكبر، ولم يتجبر، بل كان شاكرًا لربه، متحريًا العدل، حريصًا على دعوة الناس لعبادة الله ، وما إن علم عن هذه الملكة وقومها أنهم يعبدون الشمس من دون الله حتى عمل ما عمل إلى أن دعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده، فأسلموا لله رب العالمين، فصلوات الله وسلامه عليه، وصلوات الله وسلامه على أنبيائه ورسله فقد جعلهم الله تعالى قدوات وأسوات للبشر: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90].

ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير؛ فقد أمركم الله بذلك، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم أذل النفاق والمنافقين.

اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء اللهم فأشغله في نفسه، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميرًا عليه، يا قوي يا عزيز، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.

اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان.

اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وازرقه البطانة الصالحة الناصحة التي تعينه إذا ذكر، وتذكره إذا نسي، ووفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، والعمل بكتابك وسنة نبيك محمد ، واجعلهم رحمة لرعاياهم، يا رب العالمين.

اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.

ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.

مواد ذات صلة