الرئيسية/خطب/وقفات مع غزوة بدر وفتح مكة
|categories

وقفات مع غزوة بدر وفتح مكة

مشاهدة من الموقع

الحمد لله نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، أحمده تعالى وأشكره حمدًا وشكرًا كما يحب ربنا ويرضى، وأحمده وأشكره حمدًا وشكرًا عدد خلقه، وزنة عرشه، ورضا نفسه، ومداد كلماته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].

معركة بدر يوم الفرقان

عباد الله: شهر رمضان شهر القرآن والفرقان، قرآن وفرقان، يملأ العقول حكمة، والقلوب طهارة، والنفوس انشراحًا وبهجة: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].

وفي شهر رمضان فرقان من نوع آخر، فرقان بين الحق والباطل، إنه فرقان بدر، المعركة الكبرى: إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [الأنفال:41]، هذه الغزوة الفاصلة في تاريخ الإسلام والمسلمين، قد تضمنت دروسًا وعبرًا كثيرة للأمة على مر الأجيال.

سبب معركة بدر

وقد وقعت هذه الغزوة في العشر الأواسط من شهر رمضان، وجمع الله تعالى بين المسلمين وبين عدوهم من غير ميعاد؛ وذلك أنه قد بلغ رسول الله خبر العير المقبلة من الشام لقريش، فندب النبي الناس للخروج إليها، واستطاع قائد تلك العير أبو سفيان النجاة بها، لكن قريشًا أصرت على الخروج لقتال رسول الله بطرًا ورئاء الناس، وصدًّا عن سبيل الله، حتى يقول أبو جهل: والله لا نرجع حتى نبلغ بدرًا، ونقيم فيها ثلاثًا، ننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونُسقى الخمور، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدًا.

استشارة النبي لأصحابه

وأعلم النبي أصحابه أن الله قد وعده إحدى الطائفتين: إما العير، وإما قريشًا، واستشار النبي أصحابه، وكان يستشير أصحابه في جميع أموره امتثالًا لأمر ربه بقوله: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159]، مع أنه أصوب الناس عقلًا، وأعظمهم بصيرة، وأحسنهم رأيًا، لكنه يريد أن تتأسى به أمته في الاستشارة، لا سيما ممن له نوع رعاية وقيادة.

ولما استشار النبي أصحابه تكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثانيًا فتكلم المهاجرون وأحسنوا، ثم استشارهم ثالثًا ففهمت الأنصار أنه يعنيهم؛ وذلك لأنهم إنما بايعوه على أن يمنعوه وينصروه في ديارهم، فاستشارهم ليعلم ما عندهم، فقال سعد بن معاذ : “كأنك تعرض بنا يا رسول الله، لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًّا عليهم أن لا ينصروك إلا في ديارها، وإني لأقول عن الأنصار، وأجيب عنهم: فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا منها ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت بنا حتى تبلغ البرك من غمدان” وهو مكان معروف باليمن “والله لنسيرن معك، والله لئن استعرضت بنا هذا البحر خضناه معك، إنا لصُبُر عند اللقاء، صُدُق عند اللقاء، ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك”.

ثم قام المقداد بن الأسود فتكلم وقال: امض بما أمرك الله يا رسول الله، فو الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، ولكن نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك. فأشرق وجه رسول الله وسُرّ بما سمع من أصحابه، وقال: “سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم”.

استغاثة النبي بربه يوم بدر

وسار رسول الله بأصحابه إلى الموقع، واختار المكان الأصلح بعد الاستشارة، فلما طلع المشركون، وتراءى الجمعان، قال رسول الله : اللهم هذه قريش قد خرجت بفخرها وخيلائها جاءت تحادّك وتكذّب رسولك، اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أُنشدك عهدك ووعدك [1]، وما زال رسول الله يستغيث، ويتضرع، حتى إن الجميع في تلك الليلة في ليلة بدر كان نائمًا إلا رسول الله قائمًا يدعو ربه ويستغيث، ويتضرع، حتى سقط رداؤه من على منكبه، فأخذ أبو بكر رضي الله عنه رداءه، وألقاه على منكبه، والتزمه من ورائه، وقال: يا رسول الله كفاك مناشدتك لربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، وأغفى عليه الصلاة والسلام إغفاءة، ثم خرج وهو يقول: سيُهزم الجمع ويولون الدبر، وأخذ كفًّا من الحصباء، فرمى بها وجوه العدو فلم تترك رجلًا منهم إلا ملأت عينيه، وشُغلوا بالتراب في أعينهم، وشُغل المسلمون بقتلهم وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ.

الشيطان يوم بدر

قال ابن عباس رضي الله عنهما: “لما كان يوم بدر سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين، وألقى في قلوب المشركين أنه لن يغلبكم أحد، وإني جار لكم، وقام الشيطان فيهم واعظًا، فلما التقوا ونظر الشيطان إلى إمداد الله بالملائكة، نكص على عقبيه، وقال: إني أرى ما لا ترون، إني بريء منكم”.

تحريض النبي  أصحابه على القتال

ووعظ النبي الصحابة، وحثهم على القتال بكلمات معدودة، فقال: “والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم مسلم صابر مقبل غير مدبر إلا أدخله الله الجنة، فقام عمير بن الحمام وكان بيده تمرات، وقال: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض، إنها إذًا لحياة طويلة، وألقى بتمرات كانت في يده، وقاتل مع المسلمين حتى قُتل ، ونصر الله تعالى أولياءه، وهُزم المشركون، فقُتل منهم سبعون، وأُسر منهم سبعون، وقُتل أبرز صناديدهم، وأبرز زعمائهم” [2]، قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ۚ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ [آل عمران:13].

نتائج غزوة بدر

نصر الله عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123].

ودخل رسول الله المدينة مؤيَّدًا، منصورًا، قد خافه كل عدو، وأسلم بشر كثير من أهل المدينة، فكانت تلك الغزوة فاتحة خير، ونصرًا عظيمًا للإسلام والمسلمين.

فتح البلد الأمين

عباد الله: كما كان في مثل هذا الشهر، في شهر رمضان، في أواخر العشر الأواسط منه، كان فيه فتح مكة، فتح البلد الأمين؛ وذلك في السنة الثامنة من الهجرة.

سبب فتح مكة

لما تم الصلح بين رسول الله وبين قريش في الحديبية، بعدما تم الصلح في السنة السادسة، كان من أحب أن يدخل في عهد النبي فعل، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش فعل، فدخلت خزاعة في عهد النبي ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وكان بين القبلتين دماء في الجاهلية، فانتهزت بنو بكر هذه الهدنة، فأغارت على خزاعة، وهم آمنون، وأعانت قريش حلفاءها بني بكر بالرجال والسلاح سرًّا على خزاعة حلفاء النبي ، فقدم جماعة من خزاعة إلى النبي وأخبروه بما صنعت بنو بكر وإعانة قريش لها، أما قريش فسقط في أيديهم، ورأوا بفعلهم هذا أنهم قد نقضوا عهدهم، وأرسلوا زعيمهم أبا سفيان إلى رسول الله ليشد العقد، ويزيد في المدة، فكلم النبي فلم يرد عليه، ثم كلم أبا بكر وعمر ليشفعا له إلى رسول الله فلم يفلح، ثم كلم علي بن أبي طالب فلم يفلح.

خروج النبي  إلى مكة

وسار النبي بجيش عظيم، سار إلى مكة، وقال: اللهم خذ الأخبار والعيون عن قريش حتى نبغتها، سار في نحو عشرة آلاف مقاتل، وفي الطريق أسلم عمه العباس، وأخذ أبا سفيان واستأمنه ثم أسلم، ثم أمر النبي العباس أن يوقف أبا سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل، حتى يمر به المسلمون، فمرت به القبائل على راياتها، ما تمر قبيلة إلا سأل عنها أبو سفيان العباس فيخبره، فيقول: ما لي ولها، حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها، قال: من هذه؟ قال العباس: هؤلاء الأنصار، عليهم سعد بن عبادة معه الراية، فلما حاذاه سعد قال: أبا سفيان! اليوم يوم الملحة، اليوم تُستحل الكعبة، ثم جاءت كتيبة هي أقل الكتائب وأجلها، فيهم رسول الله وأصحابه، ورايته مع الزبير، فلما مر رسول الله بأبي سفيان، أخبر أبو سفيان النبي بمقولة سعد بن عبادة، فقال النبي : كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم فيه الله الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة [3].

ثم أمر النبي أن تؤخذ الراية من سعد بن عبادة، وأن تدفع إلى ابنه قيس، ورأى أنها لم تخرج من سعد خروجًا كاملًا، إذ صارت إلى ابنه، انظروا كيف عالج النبي هذا الموقف، لم يترك الراية مع سعد لكونه تكلم بهذه المقولة غير المناسبة، بل أخذها منه، لكنه عليه الصلاة والسلام كان يجبر خواطر أصحابه، لما أخذ الراية منه جبر خاطره بأن دفعها إلى ابنه، ورأى أنه بدفعه إلى ابنه لم تخرج عن سعد خروجًا كاملًا؛ فصلوات الله وسلامه عليه.

دخول النبي مكة

ثم مضى رسول الله ، وأمر أن تركز رايته بالحجون، ثم دخل مكة فاتحًا مؤزرًا منصورًا، قد طأطأ رأسه تواضعًا لله ​​​​​​​ حتى إن جبهته لتكاد تمس رحله، وهو يقرأ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا [الفتح:1] يرجّعها، وبعث على إحدى المجنبتين خالد بن الوليد، وعلى الأخرى الزبير بن العوام، وقال: من دخل المسجد فهو آمن قيل: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يُحب الفخر، فلو قلتَ فيه شيئًا، قال: من دخل دار أبا سفيان فهو آمن، ومن دخل بيته وأغلق بابه فهو آمن ثم مضى رسول الله حتى أتى المسجد الحرام فطاف على راحلته، وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنمًا فجعل يطعنها بقوس معه، وهو يقول: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ:49]، والأصنام تتساقط على وجوهها [4].

ثم دخل الكعبة فإذا فيها صور، فأمر بها فمُحيت، ثم صلى فيها، فلما فرغ دار فيها، وكبّر في نواحيها، فوحد الله ​​​​​​​ ثم وقف على باب الكعبة، وقريش تحته ينظرون ما يفعل، فأخذ بعضادتي الباب (وهما خشبتان منصوبتان مثبتتان في الحائط على جانبيه)، وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده [5].

ثم قال: يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم عُبِيَّة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب [6]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]، ثم قال: يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: فإني أقول لكم كما قال يوسف لأخوته: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ اذهبوا فأنتم الطلقاء [7] لم يستغل لحظة النصر هذه في الانتقام ممن آذاه أشد الأذى سنين طويلة، آذوه أذىً عظيمًا، حتى ألقوا سلا الجزور على ظهره وهو ساجد، ومع ذلك لما انتصر عليهم لم يستغل تلك اللحظة، وإنما أعلن العفو والصفح عنهم، هذه هي أخلاق الأنبياء، وهذه هي أخلاق العظماء، وهذه هي أخلاق الكبار، فصلوات الله وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار، وصلوات الله وسلامه عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار.

وبهذا الفتح المبين تم نصر الله، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وأصبحت مكة بلدًا إسلاميًّا، وصارت الدولة للمسلمين، واندحر الشرك وأهله: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ۝وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ۝فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.

فضل العشر الأواخر من رمضان

عباد الله: قد مضى أكثر من نصف شهر رمضان، ونستقبل بعد أيام قلائل موسمًا عظيمًا، هو أفضل مواسم السنة على الإطلاق، نستقبل العشر الأواخر من رمضان، هذه الليالي التي هي أفضل ليالي السنة على الإطلاق، والتي فيها ليلة هي خير من ألف شهر، فيها ليلة القدر، التي أنزل الله تعالى فيها قرآنًا يُتلى، بل سورة كاملة تُتلى إلى قيام الساعة: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ۝وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ۝لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ۝تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ۝سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:1-5]، هذه الليلة العظيمة العمل الصالح فيها خير من العمل في ألف شهر، وألف شهر تعادل ثلاثًا وثمانين سنة وأربعة أشهر، فيا له من خير عظيم لمن وفّق لهذه الليلة، وهذه الليلة قد أخبر عليه الصلاة والسلام بأنها في العشر الأواخر من رمضان، ولكن الله تعالى أخفاها لكي يجتهد الناس بالعبادة، ويتبين من كان جادًّا في طلبها ممن كان كسلانًا متهاونًا.

هدي النبي في العشر الأواخر

عباد الله: وقد كان النبي يخلط العشرين الأولى من رمضان بصلاة ونوم، فإذا دخلت العشر الأواخر شمّر وشدّ المئزر، وأحيا ليله، وأيقظ أهله، وكان عليه الصلاة والسلام إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان انقطع عن الدنيا، وانقطع عن الناس، وتفرّغ للعبادة تفرغًا كاملًا، فكان يعتكف في مسجده طيلة العشر الأواخر من رمضان، مع أنه عليه الصلاة والسلام هو قائد دولة الإسلام، ومفتي الأنام، وهو الموجه والمرشد، والنبي، والرسول، والمرجع للأمة في كل شيء، ومع ذلك كان إذا دخلت هذه العشر انقطع عن الدنيا، وتفرغ للعبادة طلبًا لليلة القدر، فينبغي أن نقتدي بالنبي ، ومن تيسر له أن يعتكف في هذه العشر الأواخر فهذا هو السنة، ومن لم يتيسر له أن يعتكف فليعتكف ولو بعض الليالي، خاصة ليالي الوتر التي تُرجى فيها ليلة القدر، ومن لم يتيسر له هذا ولا ذاك فلا أقل من أن يتخفف من مشاغل الدنيا التي لا تنقضي، وأن يزيد الوقت المخصص للعبادة، فإنها ليالٍ معدودة، وسرعان ما تنقضي، وتطوى صحائفها، وعمر الإنسان في هذه الدنيا قصير، وهذا موسم عظيم مبارك ينبغي أن نجتهد فيه بالعبادة والطاعة.

الانشغال بالتسوُّق والاستعداد للعيد

عباد الله: وإنَّ واقع بعض الناس إذا دخلت هذه العشر: انشغل بالاستعداد ليوم العيد، وانشغل بالذهاب للأسواق، ونحو ذلك في هذه الليالي المباركة، وهذا -والله- من الحرمان، ينبغي أن تؤجل الأعمال التي يمكن تأجيلها، وأن يخصص المسلم ما يستطيع من ليال هذه العشر المباركة في العبادة والطاعة، وأفضل عمل ينشغل به الإنسان في ليال هذه العشر هو الصلاة، فإن الصلاة أحب العمل إلى الله، ثم إن هذا هو هدي النبي فقد كان يحيي هذه الليالي العشر كان يحييها بالصلاة، وقد صلى معه نفر من أصحابه ليلة ثلاث وعشرين، وصلى بهم إلى ثُلث الليل، ثم صلى بهم ليلة خمس وعشرين إلى منتصف الليل، فقالوا: لو نفلتنا بقيت ليلتنا هذه؟ قال: من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة [8]، ثم صلى بهم ليلة سبع وعشرين الليل إلا شيئًا يسيرًا، حتى قال الصحابة: حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح أي: السحور، ثم ترك النبي أداء صلاة التراويح بالناس بالمسجد خشية أن تُفرض على أمته.

ثم بعد وفاته عليه الصلاة والسلام -حيث إن الوحي قد انقطع- اجتمع الصحابة، وجمعوا الناس على إمام واحد، فأصبحت صلاة التراويح تصلى في المساجد من عهد عمر إلى وقتنا هذا، إذ قال عليه الصلاة والسلام: من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه [9]، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه [10].

فاجتهدوا رحمكم الله، اجتهدوا في هذه الليالي الفاضلة فإنها غنيمة مباركة لمن وفقه الله ​​​​​​​: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3].

اللهم وفقنا لليلة القدر، اللهم وفقنا لليلة القدر، اللهم وفقنا لليلة القدر، اللهم اجعلنا ممن يقومها إيمانًا واحتسابًا.

اللهم اجعلنا ممن يقوم رمضان إيمانًا واحتسابًا، واجعلنا في هذا الشهر ممن تغفر لهم، واجعلنا من عتقائك من النار.

اللهم بارك لنا فيما تبقى من شهر رمضان، وأعنا على إتمام صيامه وقيامه على الوجه الذي يرضيك، ووفقنا فيه لما تحب وترضى من الأقوال والأعمال، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

اللهم وأعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين.

اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، والعمل بكتابك، وسنة نبيك محمد .

ووفق إمامنا وولي أمرنا لما تُحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة التي تدله على الحق وتعينه عليه، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ۝ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ۝ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182].

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 بنحوه رواه البخاري: 4875.
^2 بنحوه رواه البخاري: 3820، ومسلم: 1901.
^3 رواه البخاري: 4030.
^4 بنحوه رواه مسلم: 1780، 1781.
^5 بنحوه رواه أحمد: 23493.
^6 رواه أبو داود: 5116، والترمذي: 3956.
^7 بنحوه رواه البيهقي في السنن الكبرى: 18276.
^8 رواه الترمذي: 806.
^9 رواه البخاري: 37، ومسلم: 759.
^10 رواه البخاري: 1901.
مواد ذات صلة