الرئيسية/خطب/وصايا لقمان
|categories

وصايا لقمان

مشاهدة من الموقع

الحمد لله الذي بيده الفضل يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21]، يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [البقرة:269]، أحمده تعالى وأشكره حمدًا وشكرًا كما يحب ربنا ويرضى، وأحمده وأشكره كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المسلمون: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

عباد الله: نقف في هذه الخطبة مع وصايا من رجل حكيم لابنه، وصايا عظيمة، ووصايا جامعة نافعة، ذكرها ربنا في كتابه الكريم، وسميت إحدى سور القرآن العظيم باسم هذا الرجل الحكيم، إنها وصايا لقمان لابنه.

من هو لقمان الحكيم؟

ولقمان كان رجلًا صالحًا، ولم يكن نبيًا في قول أكثر أهل العلم، وكان من بلاد النوبة جنوب مصر، وقد آتاه الله الحكمة، وهي: حسن الفهم، والإصابة في القول والعمل، ومعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه.

حكمة لقمان

والحكمة منحة وهبة عظيمة يتفضل الله تعالى بها على من يشاء من عباده؛ كما قال : يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [البقرة:269].

وكان من أعظم الحكمة التي أوتيها: شكره لله على نعمه العظيمة، وآلائه الجسيمة.

إن رأس الحكمة هو شكر الله المنعم المتفضل على العباد.

ثم بيَّن الله سبحانه أن فائدة الشكر ترجع للشاكر لا للمشكور، فالله سبحانه لا ينفعه شكر العباد، فهو غني بذاته لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، وإنما العبد الشاكر هو الذي ينتفع بشكره لربه؛ لأن من سنة الله أن النعم تقر، وتزيد بالشكر، ولهذا قال سبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [لقمان:12].

وأما من كفر بنعمة الله عليه فإن الله غني عنه، ولهذا قال سبحانه: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [لقمان:12].

إن من الناس من أنعم الله تعالى عليه بالنعم العظيمة، ومع ذلك تجده دائمًا متسخطًا متشكيًا جاحدًا بلسانه أو بحاله، جاحدًا لنعم ربه عليه، إن هذا يوشك أن تسلب منه هذه النعم، وأن تزول جزاء له على كفر نعمة الله سبحانه.

وفي المقابل نجد من الناس من هو شكور يشكر الله تعالى ويحمده في كل حين، في السراء وفي الضراء يلهج دائمًا بحمد الله وشكره، تجده عندما يتحدث الناس في مجالسهم يذكرهم بنعم الله عليهم، ويذكرهم بشكر هذه النعم، ولكن هذا الصنف من الناس قليل؛ كما قال سبحانه: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13].

أهمية تربية الأبناء على مكارم الأخلاق

ثم ذكر الله ​​​​​​​ وصايا لقمان لابنه، وفي ذكر هذه الوصايا من رجل لابنه إشارة إلى أنه ينبغي للأب أن يعنى بتربية أولاده، وأن يوصيهم بطاعة الله سبحانه، وما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم، ولهذا فإن هذه الوصايا تعد أصلًا عظيمًا من أصول التربية.

إن الأب مطلوب منه أن يغرس في نفوس أولاده القيم الفاضلة، والخصال الكريمة، يغرس في نفوسهم محبة الله ومحبة رسوله ، يغرس في نفوسهم محبة الصلاة، يوصيهم بها، يبين لهم عظيم قدرها ومنزلتها في الدين، يغرس فيهم التقوى لله سبحانه بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات.

الوصية الأولى: التحذير من الشرك

وأولى وصايا لقمان لابنه: إفراد الله بالعبادة وتوحيده، والبعد عن الشرك: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، قيل: إن ابنه كان مشركًا فلم يزل لقمان يعظه وينهاه عن الشرك، حتى آمن بالله وحده.

وقوله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ الشرك بالله هو أعظم الذنوب، أعظم ذنب عُصي الله به هو الشرك بالله، فهو ظلم لحقوق الخالق، وظلم المرء لنفسه إذ يضع نفسه في حضيض العبودية للمخلوقات، جاء في الصحيحين عن ابن مسعود قال: “لما نزل قول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] شق ذلك على أصحاب رسول الله ، فقالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟! فقال النبي : إنه ليس بذلك ألا تسمعوا قول لقمان: أن الشرك لظلم عظيم[1].

إن من أشرك بالله فقد افترى الإثم العظيم، وقد ضل الضلال البعيد؛ كما قال ربنا سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48]، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء:116]، إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة:72].

وإن بعض الناس يظن أنه بعيد عن الشرك، ولكنه ربما وقع فيه أو حام حوله من حيث لا يشعر، فإن من الناس من يذهب إلى المشعوذين والدجالين الذين يزعمون أنهم يعالجون الناس، وربما أمروهم بأمور شركية، وربما أمروهم بالذبح لغير الله تعالى أو بأمور أخرى من أمور الشرك، وصرف العبادة لغير الله ​​​​​​​، بزعم أن ذلك سبب للشفاء، وهذا هو الشرك الأكبر: من ذبح لغير الله فقد أشرك [2].

الوصية الثانية: الإحسان إلى الوالدين

ثم قال : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ، فقرن وصيته إياه بعبادة الله وحده بالبر بوالديه: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ أي: ضعفًا على ضعف، فإن المرأة ضعيفة بطبعها، فيجتمع مع ذلك ثقل الحمل، ويزداد ضعفها بامتداد زمن الحمل، ثم الضعف الذي تلاقيه عند الطلق والولادة، وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْن أي: إرضاعه بعد وضعه في عامين؛ كما قال سبحانه: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ، وإنما ذكر الله تعالى ذلك ليبين عظيم حق الأم على ولدها، فإنها قد حملته وولدته وأرضعته، وهكذا الأب فإنه قد عانى من أجل تربيته والإنفاق عليه حتى كبر، ولكن حق الأم آكد؛ لأن تعبها أعظم، جاء رجل للنبي فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال ثم من؟ قال: أبوك [3]، فجعل للأم ثلاثة حقوق، وجعل للأب حقًا واحدًا.

ثم قال : أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]، فأمره الله تعالى أن يشكر الله على نعمه العظيمة، ثم يشكر لوالديه على تربيته وهو صغير.

ثم قال: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا [لقمان:15] أي: وإن حرص والداك كل الحرص وجاهداك أشد المجاهدة على أن تشرك بالله فلا تطعهما في هذا الأمر.

وهكذا إذا أمراك بما فيه معصية لله لا تطعهما في ذلك، فإن طاعة الله مقدمة على طاعتهما، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولكن مع ذلك: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15] أي: أحسن إليهما، وهذا يدل على عظيم حق الوالدين، فإن الله أمر بالإحسان إليهما حتى مع أمرهما؛ بل مع مجاهدتهما لولدهما بأعظم ذنب عصي الله به وهو الشرك، فأمر الله تعالى الابن بألا يطيعهما فيما أمراه به من الشرك، ولكن ذلك لا يمنع من البر بهما، والإحسان إليهما.

يا له من دين عظيم! غاية العدل، وغاية الإنصاف، والدان يجاهدان ولدهما على أن يعصي الله بأعظم معصية، وهو الشرك ومع ذلك يقول الله: فَلَا تُطِعْهُمَا، ولم يقل بعد ذلك: وعقهما، أو حتى وأعرض عنهما، وإنما قال: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا.

عن سعد بن أبي وقاص قال: “كنت رجلًا بارًّا بأمي فلما أسلمت، قالت: يا سعد ما هذا الذي أراك قد أحدثت لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت، فتعير بي؟ فيقال: يا قاتل أمه، فقلت: لا تفعلي يا أمه، فإني لا أدع ديني لشيء، فمكثت يومًا وليلة لم تأكل، فأصبحت وقد جهدت، ثم مكثت يومًا وليلة أخرى لا تأكل، فأصبحت وقد اشتد جهدها، فلما رأيت ذلك قلت: يا أمي والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني هذا، فإن شئت فكلي، وإن شئت لا تأكلي فأكلت” [4].

فأمر الله ​​​​​​​ حتى مع أمر الوالدين بالمعصية بالإحسان إليهما: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان:15].

ثم وصى لقمان ابنه فقال: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16] أي إن عملت أي عمل من خير أو شر حتى وإن كان عملًا يسيرًا وزن حبة من خردل، وإن كان خفيًّا في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله يوم القيامة ليوفيك جزاءها؛ فإن الله لا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.

فالإنسان يجازى على ما عمل من خير أو شر مهما كان صغيرًا ومهما كان خفيًّا وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47].

الوصية الثالثة: إقامة الصلاة

ثم وصَّى لقمان ابنه بالصلاة فقال: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ [لقمان:17] فإن الصلاة عمود الدين، ومن حافظ عليها فهو لما سواها أحفظ، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.

والآباء مطلوب منهم أن يأمروا أولادهم بالصلاة، فإن ذممهم لا تبرأ إلا بذلك، ومطلوب منهم أن يصبروا، بل يصطبروا على ذلك، فإن الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة، وربما تثاقل الأولاد عن أدائها، ولهذا قال : وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].

إن بعض الناس يرى أولاده نائمين على فرشهم ولا يوقظهم للصلاة وذمته لا تبرأ بذلك، لا بد من أن يأمر الأب والأم أولادهما بالصلاة فإنهما مسؤولان أمام الله الرجل راع في أهل بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها [5].

الوصية الرابعة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر

ثم وصى لقمان ابنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ [لقمان:17]؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم شعائر الدين، بل عده بعض أهل العلم الركن السادس من أركان الإسلام، ولكن لما كان يحتاج إلى صبر قرن وصيته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قرنها بالصبر، فقال: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17]؛ لأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قد يناله بعض الأذى لكونه ربما حال بين بعض الناس وبين شهواتهم المحرمة فآذوه بالقول أو بالفعل أو بهما، فهو مأمور بالصبر على ما قد يصيبه من أذى الناس.

ولهذا قال بعض السلف: إذا أردت أن تأمر بمعروف أو تنهى عن منكر فوطن نفسك قبل الأمر أو النهي على الصبر، ثم تلا هذه الآية: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ [لقمان:17].

إن بعض الناس يكون في المكان الذي يجاهر فيه بالمنكر، كأن يدخل مكانًا فيه أغاني محرمة، ومع ذلك يجبن عن إنكار المنكر، وربما قال إذا أنكرت المنكر آذوني أو انتقدوني أو استثقلوني، وهذا لا يبرئ ذمته، ولا يعفيه من المسؤولية، فإنه ترك أمرًا واجبًا عليه، ولهذا قال : إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.

وإذا كان عاجزًا عن إنكار المنكر بلسانه فينكر المنكر بقلبه، ولكن يغادر ذلك المكان الذي فيه المنكر ويفارقه.

إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي: ما ذكر من الأمر بالصلاة والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على ما أصاب الإنسان هي من الأمور التي عزمها الله تعالى، وأوجبها على عباده.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة.

الوصية الخامسة: التواضع والنهي عن التكبر

ثم وصى لقمان ابنه فقال: وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ أي: لا تتكبر عليهم، وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك، وأصل الصعر داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رؤوسها حتى تلتف أعناقها عن رؤوسها، فيشبه بها الرجل المتكبر على الناس، والمراد النهي عن احتقار الناس عمومًا، سواء أكان ذلك بمصاعرة الخد أو بالاحتقار بالقول أو بالشتم، أو بغير ذلك، يقول النبي : بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه [6]، رواه مسلم.

إن بعض الناس يحتقر غيره ممن هو أقل منه مالًا أو نسبًا أو علمًا، وربما تبع هذا الاحتقار تكبر عليه، وهذه ليست من أخلاق المؤمنين، فإن المؤمن يتواضع لإخوانه المؤمنين، ويخفض الجناح لهم؛ كما قال في وصف المؤمنين: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54].

ثم قال: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا [لقمان:18] أي: لا تمش مختالًا متكبرًا متبخترًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور [لقمان:18] أي: لا يحب المختال المعجب بنفسه، الفخور على غيره، فهو يفخر بنعم الله ولا يشكرها، بل يتكبر بها على عباد الله، ومن كان كذلك فإن الله لا يحبه، بل يبغضه، وإذا أبغضه الله تعالى أبغضه الناس، ولهذا تجد أن المختال الفخور في المجتمع أنه إنسان بغيض إنسان غير مقبول عند الناس، بل منبوذ ينظرون إليه بشفقة، وأنه إنسان مبتلى مريض.

وختم لقمان وصاياه لابنه بقوله: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19]، فأمره بأن يقصد في مشيه، أي أن يتواضع إذا مشى، ولا يتكبر في مشيته، ولا يستعجل ولا يبطئ، بل يسلك سلوك القصد أي الوسط والعدل بين الطرفين.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره وقوله: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ: “أي امش مشيًا ليس بالبطيء المتثبط، ولا بالسريع المفرط، بل عدلًا وسطًا بين بين”.

وقال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: “إذا كان الله أمر بالسكينة والقصد في المشي والأفعال العادية التي هي من جنس الحركة فكيف بالأفعال العبادية؟”؛ وهذا يقتضي السكينة في أفعال الصلاة وقد دلت السنة على وجوب الطمأنينة، وأنها ركن من أركان الصلاة، وأن من صلى صلاة لم يطمئن فيها فليس له صلاة، وصلاته غير صحيحة وإن صلى ألف صلاة.

الوصية السادسة: خفض الصوت عند التحدث مع الآخرين

ثم قال: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:19] أي: لا تبالغ في الكلام، ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ أي: أقبح الأصوات صوت الحمير، فإن أوله زفير، وآخره شهيق، وقد كانت العرب في الجاهلية تفتخر بجهارة الصوت، فجاء الإسلام بذمه إذا لم يكن له حاجة؛ لأن خفض الصوت أوفر للمتكلم، وأحفظ للأدب، وأدمث للخلق، وأبسط لنفس السامع، وأدعى لفهمه، ويكفي في رفع الصوت من غير حاجة يكفي في ذلك ذمًا قول ربنا: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ، فأقبح الأصوات، وأمجها للطبع صوت الحمير، وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة  أن رسول الله قال: إذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانًا [7].

هذه وصايا وآداب ذكرها ربنا عن لقمان الحكيم، وصى بها ابنه، وهي وصايا لنا جميعًا، فعلينا أن نستفيد منها، وأن ننتفع بهذه الوصايا التي ذكرها ربنا في كتابه الكريم.

ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين، اللهم انصر من نصر دين الإسلام في كل مكان، اللهم اخذل من خذل دين الإسلام في كل مكان.

اللهم ارحم إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم ارحم إخواننا المسلمين المستضعفين في الشام، اللهم ارحم إخواننا المستضعفين في الغوطة، اللهم إنهم مستضعفون، فانصرهم بنصرك يا حي يا قيوم.

اللهم ارحمهم برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم انصر جميع إخواننا المسلمين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، وفي كل مكان، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، وأبرم لأمة الإسلام أمرًا رشدًا، يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، والعمل بكتابك وسنة نبيك محمد ، ووفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وقرب منه البطانة الصالحة الناصحة، التي تدله على الحق وتعينه عليه، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم أنزل لنا من بركات السماء، اللهم أخرج لنا من بركات الأرض، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، اللهم فأرسل السماء علينا مدرارًا، يا ذا الفضل العظيم، يا كريم يا منان أغث قلوبنا بالإيمان، وأغث بلادنا بالغيث النافع المبارك، واسقنا سقيا رحمة يا أرحم الراحمين، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 3360.
^2 رواه مسلم: 1978 بلفظ: لعن الله ‌مَن ‌ذبح ‌لغير ‌الله.
^3 رواه البخاري: 5971، ومسلم: 2548.
^4 بنحوه رواه مسلم: 1748.
^5 رواه البخاري: 893.
^6 رواه مسلم: 2564.
^7 رواه البخاري: 3303، ومسلم: 2729.
مواد ذات صلة