logo
الرئيسية/خطب/حرمة مال المسلم

حرمة مال المسلم

مشاهدة من الموقع

الحمد لله الذي خلق المكلفين ليعبدوه، وأدرَّ عليهم الأرزاق ليشكروه، وأوضح لهم الأدلة والبراهين ليعرفوه، أحمده تعالى وأشكره حمدًا وشكرًا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].

خطر انتهاك حرمة المسلم

عباد الله: خطب النبي الناس في حجة الوداع في أعظم مقام وأشرفه، وأكبر مجمع للناس في عهده، خطب خطبة عظيمة قرر فيها كثيرًا من قواعد الإسلام، وكان مما قال في تلك الخطبة في يوم عرفة: أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد [1]، فبين النبي  عظيم حرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، وشبهها بحرمة اليوم الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام، وهذا من محاسن هذا الدين العظيم الذي كفل للمسلم حرمته وعظمها، وحذر من انتهاكها أشد التحذير.

عباد الله: إن انتهاك حرمة المسلم بظلمه أو التعدي عليه في دمه أو ماله أو عرضه لمرتعه وخيم، وصاحبه على خطر عظيم؛ لأن هذا النوع من الظلم أو التعدي متعلق بالمخلوقين، ومن شروط صحة التوبة من هذا النوع من الظلم: التحلل من المظلوم، وطلب العفو، والمسامحة منه، بينما ظلم العبد لنفسه بارتكاب المعاصي التي هي دون الشرك فيما بينه وبين الله، فهذه تحت مشيئة الله ، إن شاء الله تعالى غفر لصاحبها، وإن شاء عذبه، أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة  أن رسول الله قال: لتؤدُّن الحقوق إلى أهلها حتى يُقاد للشاة الجلحاء أي التي لا قرن لها من الشاة القرناء [2]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله قال: من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخِذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أُخِذ من سيئات صاحبه فحمل عليه [3]، وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله قال: أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال النبي : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار [4].

عباد الله: هذه النصوص وما جاء في معناها تبين خطر انتهاك حرمة المسلم، سواء أكان ذلك في دمه أو ماله وعرضه، ولهذا ينبغي أن يكون المسلم حريصًا على تعظيم شأن حقوق المسلمين وحقوق العباد، فإن شأنها عند الله عظيم، وإن المتأمل في واقع المجتمع ليجد تساهلًا كبيرًا من بعض الناس في تعظيم حرمات أموال المسلمين، ويجد تعديًا عليها وأكلًا لها بالباطل، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ [النساء:29]، فنهى الله تعالى عن أخذ أموال الناس بغير حق شرعي يسوِّغ أخذها، وسمى الله تعالى ذلك أكلًا للمال بالباطل.

صور أكل أموال الناس بالباطل

عباد الله: وإن أكل أموال الناس بالباطل له طرق وصور متنوعة، ومن أعظم هذه الصور:

الربا بشتى أنواعه

الربا الذي هو من أعظم الموبقات، والذي هو من أعظم ما يكون من انتهاك لحرمة مال المسلم، والذي هو أكل للمال بالباطل، الربا الذي لعن النبي آكله وموكله وكاتبه وشاهديه، والذي يقول الله تعالى في وصف آكليه يوم القيامة: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275] أي: لا يقومون من قبورهم يوم البعث والنشور إلا كقيام المصروع الذي يتخبط وهو يقوم ويسقط، وذلك لتضخم بطنه بالربا، ويقول الله تعالى متوعدًا آكل الربا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۝ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278-279] أي: أن من لم يرتدع عن أكل الربا فيكون بهذا محاربًا لله ورسوله، أي فتح جبهة حرب مع الله ، ومن فتح جبهة حرب مع ربه وخالقه فليتوقع أن تأتيه المصائب من أي جهة، تأتيه المصائب إما في ماله وإما في بدنه وإما في أهله، وإما في أي شيء، وذلك بسبب شؤم الربا؛ لأن من وقع في الربا فقد فتح حربًا على ربه فليتوقع أن تأتيه المصائب والبلايا بأي طريق ومن أي جهة، ولو لم يرد في شأن الربا إلا هذه الآية لكفى بذلك قبحًا وإثمًا ومعصية، فكيف وقد وردت النصوص محذرة من هذه المعصية، ومبينة عظيم شؤمها ومحقها لمال صاحبها: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276].

أخذ الرشوة

عباد الله: ومن صور أكل أموال الناس بالباطل: أخذ الرشوة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “لعن رسول الله الراشي والمرتشي” [5]، واللعن معناه: الطرد والإبعاد عن رحمة الله ، وهذا يبين لنا عظيم خطر الرشوة، وأنها من كبائر الذنوب، وإن بعض الناس ليتساهل في أخذ الرشوة بمبررات واهية، وربما يتقاضى الرشوة أو يأخذها بحكم وظيفته وطبيعة وظيفته، فلا يسهل على الناس التعاملات إلا إذا بذلوا له الرشوة، وهذا حرام عليه، وهذا الأخذ من كبائر الذنوب، وقد ذكر الله تعالى هذه الخصلة عن اليهود، فقال سبحانه عنهم: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]، والرشوة من السحت كما قال المفسرون.

الغش في المعاملات

ومن صور أكل أموال الناس بالباطل: الغش في المعاملات؛ كالبيع والشراء، ونحوها، كأن يظهر السلعة بمظهر والواقع بخلافه، فيخفي عيب السلعة ويظهرها بمظهر السليمة، أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة : “أن رسول الله مرَّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللًا، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: يا رسول الله أصابته السماء، فقال النبي : أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس من غشنا فليس منا[6]، وقوله: من غشنا فليس منا يقتضي أن يكون الغش من كبائر الذنوب، وإن من المؤسف له أن بعض الناس قد ابتلي بالغش، بل إن بعض الناس يرى أن هذا من تمام الحرفة في التجارة والمهارة فيها أن يغش الناس وأن يخدعهم، وهذا الغش من كبائر الذنوب التي لا تكفرها الصلوات الخمس ولا الجمعة ولا رمضان، فإن هذه العبادات الجليلة إنما تكفر ما بينها إذا اجتنبت الكبائر والغش من الكبائر.

أخذ الأموال بالخصومة الباطلة، والأيمان الفاجرة

عباد الله: ومن صور أكل أموال الناس بالباطل: أخذها بالخصومة الباطلة، والأيمان الفاجرة، فعن أبي أمامة أن رسول الله قال: من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة قال رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبًا من أراك [7]، أي: وإن كان مثل عود السواك، ومع ذلك فانظروا إلى هذا الوعيد الشديد، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة.

وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة [8]، متفق عليه.

وعن ابن مسعود  أن النبي قال: من حلف على مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان قال عبدالله: ثم قرأ علينا رسول الله مصداقه من قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77] [9].

وشاهد الزور شريك في الإثم مع هذا الذي اقتطع حق أخيه بيمينه، فإن شهادة الزور من أكبر كبائر الذنوب، فعن أبي بكرة أن النبي قال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئًا فجلس، وقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت” [10]، شفقة عليه.

وشهادة الزور تشمل أن يشهد الإنسان لآخر بباطل وهو يعلم ذلك، وتشمل كذلك أن يشهد الإنسان وهو لا يعلم، فإن الشهادة بغير علم تدخل في شهادة الزور، فاتقوا الله عباد الله، وليحذر المسلم من التعدي على حقوق إخوانه المسلمين، فإن الأمر عظيم، وإن الأمر شديد، حتى وإن حكم القاضي لإنسان بحق أخيه وهو غير محق فإن هذا لا يعفيه من المسؤولية، فإن القاضي بشر يخطئ ويصيب، قد قال عليه الصلاة والسلام: إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض أي أبلغ وأفصح فمن قضي له بحق أخيه فقد قضي له بقطعة من نار فليأخذها أو ليدعها [11].

بخس الأُجراء حقوقهم، وعدم إعطائهم أجرتهم

ومن صور أكل أموال الناس بالباطل: بخس الأُجراء حقوقهم، وعدم إعطائهم أجرتهم، وخاصة العمال والخدم، ونحوهم، فإن بعض الناس يبخسهم رواتبهم وحقوقهم، أو أنه لا يعطيهم إياها إلا بعد مماطلة وبعد إلحاح من ذلك العامل أو ذلك الخادم، وهذا حرام عليه، وقد قال النبي : قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه فقد خصمته.. وذكر منهم: رجلًا استأجر أجيرًا فاستوفى منه ثم لم يعطه أجره [12].

فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على طيب المكسب، واحرصوا على أداء الحقوق إلى أهلها، وأن يجعل المسلم ذلك مبدأً له في حياته، أن يحترز من أن يتعدى على حق امرئ مسلم في دمه أو عرضه، فإن حقوق العباد مبناها على المشاحة، حتى وإن تاب الإنسان يبقى حق هذا المسلم له يوم القيامة لا يسقط إلا بأن يتحلل منه، أو أنه يبقى له يوم القيامة، والقصاص يكون حينئذ بالحسنات والسيئات، فيؤخذ من حسنات الظالم وتعطى للمظلوم، فإن لم يكن للظالم حسنات اُخذ من سيئات المظلوم فطرحت على الظالم ثم طرح في النار.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.

المماطلة في أداء الالتزامات المالية

عباد الله: ومن صور التعدي على حرمة أموال المسلمين: المماطلة في أداء الالتزامات المالية والديون، فإن من الناس من لا يكاد يؤدي ما عليه من ديون أو التزامات مالية إلا بعد مماطلة، وبعد إلحاح من الدائن أو صاحب الحق، وهذه المماطلة يأثم بها هذا المستدين إذا كان قادرًا على السداد، يقول النبي : مطل الغني ظلم [13]، ويقول: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله [14]، أخرجه البخاري في صحيحه.

ففي هذا الحديث العظيم بيان أن نية الآخذ لها أثر في إعانته أو في إتلافه، فمن أخذ أموال الناس إما بطريق القرض أو الاستدانة أو بأية صورة من الصور لكن نيته حسنة؛ أخذها وهو يريد أداءها وهو حريص على الأداء وحريص على السداد، وهذا الدين كما يُقال يأكل معه ويشرب؛ فإن الله يعينه على سداد هذه الديون، ويؤدي الله تعالى عنه، بل قال بعض أهل العلم: إنه إذا كان حريصًا جدًّا على أداء هذه الديون حتى لو مات وعليه ديون فإنه يرجى أن الله تعالى يؤدي عنه في الآخرة.

وأما من أخذ أموال الناس بأي طريق من الطرق بنية سيئة وهو يريد المماطلة فيها، وعدم أداء الحق الذي عليه إلا بالقوة الجبرية، أو بعد مماطلة وإلحاح، فإن النبي يقول: ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله [15]، وهنا قال: أتلفه الله وأطلق، وهذا يشمل جميع صور الإتلاف، فإما أن يكون الإتلاف إتلافًا لماله؛ إتلافًا حسيًَّا، أو إتلافًا معنويًا بأن تمحق البركة منه، أو أن الإتلاف ينتقل لإتلاف صحته؛ فتسلط عليه الأمراض بسبب ذلك، أو يكون الإتلاف لأمر آخر من الأمور المتعلقة بحياته، وهذا بسبب تعديه على حق أخيه المسلم.

عباد الله: وإن المسلم الذي يخاف الله ويتقيه ليحرص على أداء الحق إلى أهله، وعلى عدم التأخر عن أداء الحق إلى صاحبه ولو يومًا واحدًا، واستمعوا إلى هذه القصة العظيمة التي قصها علينا النبي لرجل ضرب أروع الأمثلة في الالتزام بسداد الدين في الموعد المحدد، هذه القصة أخرجها البخاري في صحيحه؛ عن أبي هريرة “أن رسول الله ذكر رجلًا سأل رجلًا أن يسلفه ألف دينار، فقال له: ائتني بالشهداء، قال: كفى بالله شهيدًا، قال: فأتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلًا، قال: صدقت، فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فلما حان الأجل خرج ذلك الرجل، أي المستدين، إلى البحر لكي يسدد هذا الدَّين الذي عليه، لما حان الأجل الذي قد وعده بالوفاء فيه التمس مركبًا يركبه لأجل أن يذهب لذلك الرجل الذي أسلفه فيقضيه، فلم يجد مركبًا في ذلك اليوم، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم ألقى بها في البحر وقال: اللهم إني قد جهدت في أن أجد مركبًا أبعث لذلك الذي أسلفني فلم أقدر وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، فخرج، أي ذلك الدائن، الذي كان أسلفه ينتظر صاحبه لعله أن يأتي بهذا الدين، فلما لم يأته في الموعد المقدر إذا بالخشبة التي فيها المال تطفو على البحر، فأخذها لأهله حطبًا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم إن ذلك الرجل الذي تسلف منه لم يقر له قرار؛ لأنه يرى أن هذا التصرف لا يبرئ ذمته، كيف يأتِ بخشبة وينخرها ويضع فيها ألف دينار ثم يرميها في البحر، فرأى أن هذا لا يبرئ ذمته، فجهد حتى يذهب لصاحبه، فأتاه وتجاهل أمر الخشبة وأعطاه ألف دينار أخرى، واعتذر منه، وقال: والله ما زلت جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبًا قبل هذا الوقت، فقال له صاحبه الدائن: هل كنت قد بعثت بشيء؟ فجعل يتجاهل الأمر، وقال: أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل الذي جئت فيه، قال صاحبه وقد عرف بأنه قد أرسل تلك الخشبة، قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشدًا” [16].

فانظروا إلى حال هذا الرجل وحرصه الشديد على ألا يتأخر عن صاحبه في أداء الدين ولو يومًا واحدًا، مع أنه معذور في ذلك لم يجد مركبًا ليصل إلى صاحبه، لكن قوة الإيمان التي عنده حملته؛ لأن يتصرف هذا التصرف، وأن يجعل هذا الدَّين في هذه الخشبة، ويرمي بها في البحر، ثم أيضًا رأى أن هذا لا يبرئ ذمته فبحث عن مركب حتى وجد مركبًا، فأراد أن يعطيه ألف دينار مكان الأولى، فبين له أن الله تعالى قد أدى الدين الأول، وأن الخشبة التي ألقاها في البحر قد وصلت إلى هذا الدائن.

فانظروا رحمكم الله إلى هذه القصة العجيبة، وحرص هذا الرجل على عدم التأخر في سداد القرض الذي دُفع إليه ولو يومًا واحدًا، فليجعل المسلم هذا مبدأً له في حياته، وأن يحرص على أداء الحقوق إلى أهلها، وإذا كان على الإنسان مستحقات مالية من أجرة أو غيرها فعليه أن يبادر بالسداد في وقته، ويجعل هذا من المبادئ التي يسير عليها في حياته، ويلتزم بها، فإن هذا من مقتضيات الإيمان، وإن هذا مما يفتح له أبوابًا من البركة في الرزق، فإن من اتقى الله ​​​​​​​ بارك الله تعالى له في ماله وفي رزقه؛ كما قال سبحانه: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ۝وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف:96].

ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك، يا رب العالمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين، اللهم انصر من نصر دين الإسلام في كل مكان، واخذل من خذل دين الإسلام في كل مكان، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.

اللهم هيئ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وترفع فيه أعلام السنة، وتقمع فيه البدعة، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واجعلهم رحمة لرعاياهم.

اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وقرب منه البطانة الصالحة الناصحة التي تدله على الحق وتعينه عليه، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والاكرام.

نسألك اللهم من الخير كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.

وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مسلم: 1218.
^2 رواه مسلم: 2582.
^3 رواه البخاري: 2449.
^4 رواه مسلم: 2581.
^5 رواه أبو داود: 3580، والترمذي: 1336.
^6 رواه مسلم: 102.
^7 رواه مسلم: 137.
^8 رواه البخاري: 2453، ومسلم: 1612.
^9 رواه مسلم: 138.
^10 رواه البخاري: 2654، ومسلم: 87.
^11 رواه البخاري: 6967.
^12 رواه البخاري: 2227.
^13 رواه البخاري: 2287، ومسلم: 1564.
^14 رواه البخاري: 2387.
^15 سبق تخريجه.
^16 رواه البخاري: 2291.
مواد ذات صلة
  • خطبة عيد الفطر 1443 هـ

    الحمد لله معيد الجمع والأعياد، رافع السبع الشداد عالية بغير عماد، وماد الأرض ومرسيها بالأطواد، جامع الناس ليوم لا ريب…

  • أحكام الزكاة وفضائل الصدقة

    الحمد لله الذي وعد المنفقين أجرًا عظيمًا وخلفًا، وتوعد الممسكين لأموالهم عما أوجب عليهم عطبًا وتلفًا، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد…

zh