الرئيسية/خطب/مشهد من مشاهد يوم القيامة
|categories

مشهد من مشاهد يوم القيامة

مشاهدة من الموقع

الحمد لله جامع الناس ليومٍ لا ريب فيه، إن الله لا يُخلف الميعاد.

أحمده تعالى وأشكره حمدًا وشكرًا كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأحمده وأشكره حمدًا وشكرًا كما يُحب ويرضى، وأحمده وأشكره حمدًا وشكرًا مِلْءَ السماء، ومِلْء الأرض، ومِلْء ما بينهما، ومِلْء ما شاء ربُّنا من شيءٍ بعد.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله ، فإنها وصية الله للأولين والآخرين؛ قال ​​​​​​​: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، وقال : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا۝ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، وقال ​​​​​​​: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، وقال : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5].

وقوف العبد بين يدي ربه للحساب

عباد الله، أخرج البخاري ومسلمٌ في صحيحيهما: عن عدي بن حاتم  قال: قال رسول الله : ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلمه ربه، ليس بينه وبينه تَرْجُمانٌ ولا حجابٌ يحجبه، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم من عمله، وينظر أَشْأَمَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرةٍ، فمَن لم يجد فبكلمةٍ طيبةٍ [1].

هذا الحديث العظيم حديثٌ جليل النفع، عظيم القدر، ينبغي لكل مسلمٍ أن يستحضر معناه؛ بيَّن فيه النبي أنه ما من أحدٍ من البشر إلا وسيقف بين يدي الرب يوم القيامة، فيُحاسبه على أعماله، وعلى جميع تصرفاته في الدنيا، وعلى جميع أعماله: خيرها وشرها، دقيقها وجليلها، سابقها ولاحقها، ما علمه العبد وما نَسِيَه منها، يُحاسبه بدون واسطةٍ، بل يتولَّى الرب ذلك بنفسه، فينظر العبد أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم من عمله، وينظر أَشْأَمَ منه -أي: عن شماله- فلا يرى إلا ما قدَّم، أي: أن أعماله تكون حاضرةً عن يمينه، وعن شماله، فالحسنات عن يمينه، والسيئات عن شماله، لا يُغادره في ذلك الموقف شيءٌ منها.

قال بعض أهل العلم: إنه ينظر عن يمينه وشماله كحالة الذي دَهَمَه أمرٌ عظيمٌ، فهو يتلفت يطلب النجاة، ويطلب الغوث، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه؛ وذلك أن النار في ذلك الموقف العظيم تكون حائلةً بين الناس والجنة، فلا بد من ورودها، ولا بد من عبور الصراط لكل أحدٍ، كما قال ​​​​​​​: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا۝ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:71-72].

قيل لعلي بن أبي طالب : كيف يُحاسب اللهُ الخلائق جميعًا في ساعةٍ واحدةٍ؟ قال: “كما يرزقهم في ساعةٍ واحدةٍ”.

فهو لعظمته وكبريائه وقُدرته العظيمة، كما يخلقهم ويرزقهم في ساعةٍ واحدةٍ، ويبعثهم في ساعةٍ واحدةٍ، فإنه يُحاسبهم جميعًا في ساعةٍ واحدةٍ، فتبارك مَن له العظمة والمجد والملك العظيم والجلال، وهو على كل شيءٍ قديرٌ.

وفي هذه الحال التي يُحاسبهم فيها ليس مع العبد أنصارٌ وأعوانٌ، ولا أولادٌ، ولا أموالٌ، قد جاءه فردًا كما خلقه أول مرةٍ، قد أحاطت به أعماله: خيرها وشرها، عن يمينه، وعن شماله.

قرار العبد بذنوبه يوم الحساب

جاء في الصحيحين: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : إن الله يُدْنِي المؤمن فيضع عليه كَنَفَه أي: سِتْره فيُقرره بذنوبه فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم، أي ربِّ، فيقول: أعملتَ كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ فيقول: نعم. ويقول: عملتَ كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ فيقول: نعم. حتى إذا قرَّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: إني قد سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. فيُعْطَى كتاب حسناته.
وأما الكفار والمنافقون فيُنادَى بهم على رؤوس الخلائق: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18]
 [2].

وجاء في “صحيح مسلم”: عن أنسٍ قال: كنا عند رسول الله  فضحك فقال: هل تدرون مما أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: من مُخاطبة العبد ربَّه؛ يقول: يا ربِّ، ألم تُجِرْني من الظلم؟ يقول: بلى. فيقول أي: ابن آدم فإني لا أُجِيزُ على نفسي إلا شاهدًا مني. فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا. فيُخْتَم على فِيهِ، فيُقال لأركانه أي: لجوارحه انطقي. فتنطق بأعماله، ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعْدًا لَكُنَّ وسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كنتُ أُناضل [3].

فيا أخي المسلم، تأمَّل في دلالات هذه الأحاديث، ومَثِّلْ نفسك واقفًا بين يدي ربك ، والله يُقررك بذنوبك.

قال بعضُ أهل العلم: إن الله تعالى من إكرامه للمؤمن يضع كنفه عليه ويستره حين السؤال والتقرير؛ حتى لا يفتضح، وحتى لا يُخْزَى أمام رؤوس الخلائق؛ لأنه حين السؤال والتقرير بذنوبه تتغير حاله، ويُصيبه خوفٌ شديدٌ، وهلعٌ عظيمٌ، ويتبين فيه الكرب والشدة.

فَلْيَسْتحضر المسلم هذا المعنى، وَلْيُبادِرْ للأعمال الصالحة، فإنها -والله- الكنز العظيم، وهي -والله- الكنز الحقيقي الذي يغتبط به الإنسان: حيًّا، وميتًا، هذه الأعمال الصالحة سيجدها في ذلك المقام العظيم وهو أحوج ما يكون إليها، وسيُسَرُّ بها ويغتبط، وليُقْلِعْ عن الذنوب والمعاصي؛ فإن الله تعالى سيُقرِّره بها في ذلك المقام العظيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ ، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكل مُحدثةٍ بدعةٌ، وكل بدعةٍ ضلالةٌ.

من أعظم المنجيات من النار

عباد الله، في آخر هذا الحديث العظيم يقول النبي : فاتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرةٍ، فمَن لم يجد فبكلمةٍ طيبةٍ [4]، والمقصود من ذلك: تقديم العمل الصالح الذي يكون واقيًا لصاحبه من النار، فالعمل الصالح وإن قَلَّ ينفع صاحبه في ذلك المقام، ولو بشِقِّ تمرةٍ؛ أي: بنصف تمرةٍ يتصدق بها على مسكينٍ، ولو بكلمةٍ طيبةٍ؛ فإن الكلمة الطيبة صدقةٌ.

فدلَّ هذا الحديث على أن من أعظم المُنجيات: الإحسان إلى الخلق بالمال وبالأقوال؛ أما بالمال فقد أشار  إليه بقوله: فاتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرةٍ، وأما بالأقوال فأشار إليه  بقوله: فمَن لم يجد فبكلمةٍ طيبةٍ.

فالإحسان إلى الخلق من أعظم المُنْجِيات من النار، والعبد ينبغي له ألا يحتقر من المعروف شيئًا؛ ولهذا قال : ولو بشقِّ تمرةٍ، فمَن لم يجد فبكلمةٍ طيبةٍ.

فلا يحتقر صدقةً يتصدق بها على فقيرٍ أو مسكينٍ وإن قلَّتْ، ولا يحتقر كلمةً طيبةً ربما تكون السبب في نجاته في ذلك الموقف، والكلمة الطيبة تشمل: النصيحة للخلق بتعليمهم ما يجهلون، وإرشادهم إلى مصالحهم، وتشمل الكلام المُسِرَّ للقلوب، الشارح للصدور، الذي يُقارنه البشاشة والبِشْر، وتشمل كذلك ذِكْر الله والثناء عليه.

فكل كلامٍ يُقرِّب إلى الله، ويحصل به النفع لعباد الله؛ فهو داخلٌ في الكلمة الطيبة: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف:46].

ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.

اللهم انصر الإسلام والمسلمين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الكفر والكافرين، وأذلَّ النفاق والمنافقين.

اللهم مَن أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ، اللهم فأَشْغِلْه في نفسه، اللهم اجعل كيده في نَحْره، اللهم اجعل تدبيره تدميرًا عليه، يا قوي، يا عزيز، يا حي، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم إنَّا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميع سخطك.

اللهم أَدِمْ علينا نعمة الأمن والأمان، والاستقرار والرخاء ورغد العيش، واجعلها عونًا لنا على طاعتك ومرضاتك، يا حي، يا قيوم، واجعلنا لنِعَمك وآلائك شاكرين.

اللهم أَعِنَّا على ذكرك وشكرك وطاعتك وحُسن عبادتك.

اللهم إنَّا نسألك من الخير كله: عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله: عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.

اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، والعمل بكتابك وسنة نبيك محمدٍ ، واجعلهم رحمةً لرعاياهم.

اللهم وفِّق إمامنا وولي أمرنا ونائبيه لما فيه صلاح البلاد والعباد، وقرب منهم البطانة الصالحة الناصحة التي تدلهم على الحق وتُعينهم عليه، يا حي، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم ارحم إخواننا المسلمين المُستضعفين في كل مكانٍ، اللهم ارحمهم برحمتك يا رحمن، وانصرهم بنصرك يا قوي، يا عزيز، يا حي، يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182].

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 7443 و7512، ومسلم: 1016.
^2 رواه البخاري: 2441، ومسلم: 2768.
^3 رواه مسلم: 2969.
^4 سبق تخريجه.
مواد ذات صلة