الرئيسية/خطب/إصلاح القلوب
|categories

إصلاح القلوب

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، خلق الإنسان في أحسن تقويم، وفضله على كثير ممن خلق بالإنعام والتكريم، أحمده تعالى وأشكره حمدًا وشكرًا كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالحق بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ما من خير إلا دل أمته عليه، وما من شر إلا حذرها منه، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله أيها المسلمون: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا۝وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق: 4]، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5].

مكانة القلب وأهميته

عباد الله: مضغة في جسد الإنسان إذا صَلحت صلحت جميع أعضاء الجسد، وإذا فَسدت فسدت جميع الأعضاء، هذه المضغة بمثابة الملك لبقية أعضاء الجسد؛ إنها القلب: ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب [1].

فالقلب هو محل نظر الله تعالى من العبد، والله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.

القلب هو محل معرفة الله تعالى ومحبته وخشيته وخوفه ورجائه.

القلب هو محل النية التي بها صلاح العمل: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى [2].

قال ابن القيم رحمه الله: “أشرف ما في الإنسان قلبه، فهو العالم بالله، الساعي إليه، المحبب له، وهو محل الإيمان والعرفان، وهو المخاطب المبعوث إليه الرسل، المخصوص بأشرف العطايا من الإيمان والعقل، وإنما الجوارح أتباع للقلب، يستخدمها استخدام الملوك للعبيد، والراعي للرعية، فسبحان مقلب القلوب، ومودعها ما يشاء من أسرار الغيوب، الذي يحول بين المرء وقلبه، ويعلم ما ينطوي عليه من طاعته لربه، مصرف القلوب كيف يشاء، أوحى إلى قلوب الأولياء أن أقبلي إلي فبادرت وقامت بين يدي رب العالمين، وكره انبعاث آخرين فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين”.

كانت أكثر يمين رسول الله : لا ومقلب القلوب [3]، وكان من دعائه: اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك [4]، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك [5].

أسباب مرض القلب وقسوته

عباد الله: وإن من أعظم أسباب مرض القلوب وقسوتها: الذنوب والمعاصي، فإن تأثير الذنوب والمعاصي على القلوب كتأثير السموم في الأبدان؛ بل أشد.

أرأيت رجلًا يتعاطى سُمًّا قاتلًا ماذا يكون مصيره؟ فكذلك تأثير الذنوب على القلوب لا تزال تمرض القلب شيئًا فشيئًا حتى يقسو ثم يموت، إن لم يتداركه الله تعالى برحمته.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه وهو الران الذي ذكره الله تعالى: كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] [6].

إن من عقوبات الذنوب والمعاصي: أنها تصرف القلب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه، فلا يزال مريضًا معلولًا، لا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه، وتأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان، بل الذنوب أمراض القلوب وأدواؤها، ولا دواء إلا تركها.

أمراض القلوب

عباد الله: وأمراض القلوب متنوعة؛ فمن الناس من يكون قلبه مريضًا فيما يتعلق بالشبهات، فتجد أن أدنى شبهة يسمعها تؤثر عليه، وتجعله يقلق، وربما دخله شيء من الشك والريبة، وتجد أنه سمَّاع للشُبه، قابل لها، متأثر بها، فهذا مريض القلب مرضًا متعلقًا بالشبهة.

ومن الناس من يكون قلبه مريضًا فيما يتعلق بالشهوات، ومن أبرزها: شهوة الزنا، وقد ذكر الله تعالى هذا النوع من الناس في القرآن، وذكر هذا المرض، فقال سبحانه: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا [الأحزاب:32]، وتأمل قوله: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، فبين الله سبحانه أن الذي يطمع في المرأة عندما تخضع بالقول إنما هو الذي في قلبه مرض، فهو مريض القلب، متهيئ إذا رأى امرأة يتشوف إلى أدنى محرك يحركه إليها، ولو كان مجرد لين في القول، وهذا الصنف نراه في المجتمع، ترى أناس مولعين بمعاكسة النساء، مولعين بالنظر للنساء، مع أن ذلك قد لا يكون بسبب قوة شهوة، ولكنه مرض يُبتلى به بعض الناس، يُبتلى به أصناف من الرجال، وأصناف كذلك من النساء، تجد بعض النساء تخرج إلى السوق لغير حاجة، تخرج متبرجة، متحرشة بالرجال بمن يعاكسها من الرجال، فهذا بسبب ذلك المرض الذي في القلب، مرض الشهوة الذي ذكره ربنا في هذه الآية.

ومن الناس من يكون المرض في قلبه فيما يتعلق بجمع المال، فتجد أنه ولوع بجمع المال وتحصيله من أي طريق، جموع منوع، قد سيطر المال على قلبه.

ومن الناس من تجد قلبه مريضًا باللهو واللعب، فتجد أنه معظم وقته مستغرقًا في اللعب، ومستغرقًا في اللهو، قد أخذ جُل ومعظم وقته لا يجد أنسه إلا في ذلك، فهذا عنده مرض متعلق بهذا الجانب.

وأمراض القلوب كثيرة ومتنوعة، ومن ابتلي بمرض في قلبه، أو بقسوة قلبه فعليه أن يجتهد في تعاطي الأسباب التي تشفي من مرض القلوب، والتي تلين القلوب وتزيل قسوتها، وتصقلها وتزيل الران من عليها، وإلا فإن القلب الذي ينفع صاحبه يوم القيامة هو القلب السليم من الأمراض؛ كما قال الله تعالى: يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ۝إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].

أما من كان قلبه مريضًا فإنه ينحرف عن طريق الاستقامة، ويذهب عليه العمر حتى يتفاجأ بلقاء الله وينتقل من الدنيا إلى الآخرة، وما عمل من الأعمال الصالحة كثيرًا، بل كان مستغرقًا بذلك المجال الذي فيه مرض قلبه، أو الذي قسا بسببه قلبه.

أسباب شفاء القلوب

وإن من أعظم أسباب شفاء القلوب، وتليين القلوب:

تلاوة القرآن الكريم وتدبره

تلاوة القرآن الكريم واستماعه وتدبر معانيه؛ كما قال سبحانه: إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37]، وقال: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ، وقال : اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23]، وقال : أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الحديد:16]، ففي هذه الآيات وما جاء في معناها: بيان أن القرآن العظيم أعظم شفاء للقلوب، وأعظم ما تلين به القلوب لمن أقبل على تلاوته واستماعه بتدبر وتفهم، بل إن ذلك من أعظم أسباب زيادة الإيمان؛ كما قال سبحانه: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، فمن أقبل على هذا القرآن العظيم بتدبر وتفهم وخشوع وخضوع كان حريًّا بشفاء مرض قلبه، وزوال قسوة قلبه: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ [يونس:57]، لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر:21].

فاحرص يا أخي المسلم على الإقبال على كتاب الله ​​​​​​​، تلاوة واستماعًا وتدبرًا وعملًا، حتى تحصل لك الهداية، وحتى يحيا قلبك، وحتى لا تتشبه بأهل الكتاب الذي حملوا التوراة فلم يحملوها فقست قلوبهم بسبب ذلك، فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد: فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الحديد:16].

وسل نفسك يا أخي هذا السؤال ما نصيبك من القرآن كل يوم؟ هل تقرأ القرآن كل يوم؟ هل لك ورد يومي تقرأ فيه شيئًا من كتاب الله ؟

إن من الناس من تمر عليه مدد طويلة وما قرأ فيه شيئًا من كتاب الله ، إن وجد وقت فراغ قرأ، وإن لم يجد مرت عليه مدد طويلة لم يقرأ فيه شيئًا من كتاب الله ، إن هذا من أسباب قسوة القلوب، ومن أسباب مرض القلوب.

ينبغي لك أخي المسلم ألا يمر عليك يوم إلا وقد قرأت فيه شيئًا من كتاب الله ؛ بل أن تجعل لك وردًا تحافظ عليه كل يوم، تقرأ هذا القدر من القرآن كل يوم، لا تنقص عن هذا القدر، تزيد لا بأس، تزيد أحيانًا، لكن لا تنقص عن هذا القدر، وهذا هو المأثور عن رسول الله وصحابته أنهم كان لكل منهم ورد يومي من كتاب الله يقرؤه كل يوم، بل إن النبي قال: من نام عن حزبه يعني عن ورده من القرآن فقرأه ما بين صلاة الصبح وصلاة الظهر كتب كأنما قرأه من الليل [7]، رواه مسلم.

الاعتبار والتذكر

ومن أعظم الأسباب التي تلين بها القلوب، وتشفى بها القلوب من أمراضها: الاعتبار والتذكر، تذكر الموت، وتذكر زوال الدنيا، والانتقال عنها إلى الدار الآخرة.

ومن أعظم أسباب قسوة القلوب ومرضها: الغفلة عن الموت والدار الآخرة، والتعلق الشديد بالدنيا: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ۝أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7-8].

العاقل اللبيب إذا تفكر في حقيقة هذه الدنيا وزوالها وفنائها، وتذكر الموت وما بعده من الأهوال العظام التي يشب من هولها الولدان، كأن ذلك التفكر والتذكر من أسباب زوال قسوة قلبه، ومن أسباب الإقبال والإنابة إلى ربه ​​​​​​​.

ومن أسباب صلاح القلوب ولينها وشفائها من أمراضها: الاعتبار بما جرى للأمم السابقة من الهلاك والدمار، والاعتبار بما يجريه الله على الأمم الحاضرة.

ومن أعظم ما يقسيها الغفلة عن ذلك: فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ۝أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:45-46].

أين قوم نوح؟ أين قوم عاد؟ أين قوم ثمود؟ أين أصحاب الأيكة؟ أين الفراعنة الشداد؟ أين؟ وأين؟ هذه الأمم العظيمة؟ ما الذي أهلكهم؟ وما الذي دمرهم؟ وما مصيرهم؟ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ [الدخان:29].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو التواب الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة.

أزل قسوة قلبك بالإكثار من ذكر ربك

عباد الله! جاء رجل إلى الحسن البصري رحمه الله فقال: يا أبا سعيد إني أجد قسوة في قلبي فما العلاج؟ فقال له الحسن: “أزل قسوة قلبك بالإكثار من ذكر الله تعالى”، وهذا دواء عظيم لزوال قسوة القلوب، وشفائها من أدوائها وأمراضها؛ وذلك لأن القلب إذا تعلق بالدنيا وبالأمور المادية فإنه يقسو، أما إذا أكثر الإنسان من ذكر الله فإنه يتعلق بالله، ويتعلق بالدار الآخرة، فلا تزال هذه القسوة تخف شيئا فشيئًا حتى تذهب وتزول، وأنت تجد من نفسك خاصة في أوقات مواسم الخير عندما تكثر من الطاعات تجد رقة في القلب، وتجد خشوعًا، وهذا يدل على أنك كلما أكثرت من ذكر الله كلما أدى ذلك إلى لين القلب، وإلى رقته وخشوعه، وإلى سلامة القلب من أمراضه وأدوائه: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، وقد نهى الله نبيه عن طاعة من أغفل الله قلبه عن ذكره، فقال سبحانه: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الكهف:28].

إن من كان غافلًا عن ذكر الله ​​​​​​​ فلابد أن يكون متبعًا لهواه، فيقع في طريق الهلاك والخسران: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف:205].

قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: “الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟”، وكان إذا صلى الفجر جلس يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس وترتفع، ويقول: “هذه غدوتي، ولو لم أتغد هذا الغداء، لسقطت قوتي”.

الذكر ينبه القلب من نومه، ويوقظه من سنته، والقلب إذا كان نائمًا فاتت عليه الأرباح والمتاجر، وكان الغالب عليه الخسران، فإذا استيقظ وعلم ما فاته في نومته شد المئزر، وأحيا بقية عمره، واستدرك ما فاته، ولا تحصل يقظة القلب إلا بالإكثار من ذكر الله فإن الغفلة نوم ثقيل.

فاحرص يا أخي المسلم على الإكثار من ذكر الله سبحانه، وستجد أثر هذا على رقة قلبك، وعلى زوال قسوة قلبك، وعلى إقبالك على مزيد من الطاعات، بل ستجد أثر هذا على طمأنينة القلب، وعلى أنك تجد حلاوة الإيمان، وطعم الإيمان، واستحضر دائما قول الله : أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

توطين النفس على عدم الاغترار بالدنيا

عباد الله، ومن أسباب صلاح القلوب وذهاب قسوتها وأمراضها وأدوائها: ألا يتعلق الإنسان ويستغرق بالحياة المادية، ويتعلق التعلق الشديد بالدنيا فإن هذا التعلق الشديد سبب لقسوة قلبه، ولمرض قلبه، ولكنه إذا نظر إلى الدنيا على حقيقتها، ولم يتعلق بها، ولم تغلب عليه أمور المادة، فسيجد لهذا أثرًا في رقة قلبه، وفي زوال قسوة قلبه.

ينبغي أن يفكر الإنسان وينظر في أحوال من حوله، في أحوال المرضى، وأحوال الفقراء والمبتلين، وألا يغتر بالصحة والقوة والغناء والثروة، يقول النبي : انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله [8].

ولو زار الإنسان المستشفى ورأى أحوال المرضى وما يقاسونه من الآلام، ولو نظر إلى الفقراء والأيتام وما هم فيه من الحاجة والمجاعة لعرف قدر نعمة الله عليه، وللان قلبه، ولكن حينما يصرف النظر عن ذلك وينظر إلى أهل الترف والغناء وما بأيديهم من زهرة الحياة الدنيا فإن قلبه يقسو، وإذا كانت مجالسه في أمور الدنيا ولا يتحدث إلا في أمور الدنيا، ولا يجالس إلا المترفين فإنه يقسو قلبه ويمرض، وقد أمر الله تعالى نبيه أن يجالس فقراء المسلمين والمستضعفين من المؤمنين، وأن لا يتجاوزهم إلى أصحاب الثراء والغفلة، فقال سبحانه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].

الدعاء والضراعة إلى الله تعالى

عباد الله: ومن أسباب صلاح القلوب وزوال مرضها وقسوتها: الدعاء والضراعة إلى الله ​​​​​​​، وقد كان النبي يكثر من أن يقول: اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك [9]، يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك [10]، وذكر الله تعالى من دعاء أولي الألباب أنهم يقولون: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8].

فينبغي للمسلم أن يضرع إلى الله بالدعاء بأن يرزقه قلبا سليمًا خاشعًا مخبتًا إليه، وأن يزيل عن قلبه الأمراض والأدواء، وأن يرزقه رقة القلب وخشوعه، وأن يحرص على أن يدعو بأن يثبت الله قلبه، وأن يصرف الله قلبه على طاعته، فهذه من الأدعية العظيمة التي يغفل عنها بعض الناس، هذه من الأدعية التي كان النبي يكثر منها، فاحرص على أن تقتدي بالنبي في ذلك، وأن تدعو الله كل يوم، فتقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك.

وتقول: رب لا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.

وتقول: رب ارزقني قلبًا سليمًا خاشعًا مخبتًا إليك، رب أصلح قلبي وعملي، ونحو ذلك من الأدعية النافعة المباركة.

 ألا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم الله بذلك فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا رب العالمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين، اللهم أذل النفاق والمنافقين.

اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوء اللهم فأشغله في نفسه، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميرًا عليه، يا قوي يا عزيز.

اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم هيئ لهم من أمرهم رشدًا، يا حي يا قيوم.

اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويهدى أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، والعمل بكتابك، وسنة نبيك محمد ، ووفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وقرب منه البطانة الصالحة الناصحة التي تعينه إذا ذكر، وتذكره إذا نسي، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم أصلح قلوبنا، اللهم أصلح قلوبنا، اللهم أصلح قلوبنا، اللهم ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، ويا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك.

اللهم ارزقنا قلوبًا سليمة خاشعة مخبتة إليك، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا، اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا.

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا أخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

نسألك اللهم من الخير كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ۝ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ۝ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182].

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 52، ومسلم: 1599.
^2 رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907.
^3 رواه البخاري: 6617.
^4, ^9 رواه الترمذي: 2140، وأحمد: 12107.
^5, ^10 رواه مسلم: 2654.
^6 رواه ابن ماجه: 4244، وأحمد: 7952.
^7 رواه مسلم: 747.
^8 رواه مسلم: 2963.
مواد ذات صلة