الرئيسية/خطب/وقفات مع كورونا الجديد: آداب وتوجيهات
|categories

وقفات مع كورونا الجديد: آداب وتوجيهات

مشاهدة من الموقع

الحمد لله الذي أحسن كل شيءٍ خلَقه وبدأ خلق الإنسان من طينٍ، ثم جعل نسله من سلالةٍ من ماءٍ مهينٍ، ثم سواه ونفخ فيه من روحه فتبارك الله أحسن الخالقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيد المرسلين وإمام المتقين وقائد الغُرِّ المُحَجَّلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: 

فاتقوا الله حق التقوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ۝  وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ[الطلاق: 2، 3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا[الطلاق:4]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا[الطلاق: 5].

ضعف البشرية

عباد الله:

نحمد الله تعالى ونشكره على فتح المساجد والجوامع، وإقامة الجمعة بعد الإغلاق المؤقت بسبب انتشار فيروس (كورونا) الجديد.

هذا الفيروس العجيب، مخلوقٌ صغيرٌ جدًّا لا يُرَى بالعين المجردة، ومع ذلك أرعب العالم واجتاح الأرض، وعطَّل عجلة الاقتصاد العالمي، وحجر أكثر الناس في منازلهم مُددًا ليست بالقصيرة، ومات بسببه أكثر من ثلاثمائة ألف إنسانٍ، وأصيب حتى الآن أكثر من ستة ملايين إنسانٍ، وهذا يدل على عظيم قدرة الله ​​​​​​​ وعجيب صنعه، ويدل كذلك على ضعف الإنسان، هذا الإنسان الذي صنع ما صنع في عالم التكنولوجيا، وقف عاجزًا حائرًا أمام مخلوقٍ صغيرٍ جدًّا، حجمه في الأرض كلها لا يزيد على حجم حبة الأرز.

فليعرف الإنسان حجمه في هذا الكون العظيم، وليتأدب مع ربه وخالقه، وصدق الله العظيم الذي يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ[الحج: 73].

وتأمل كيف جاء النداء بقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ[الحج: 73]، فهو تحدٍّ للبشرية جميعًا، وهذا التحدي مستمر؛ ولذلك أتى بأداة النفي لَنْ يَخْلُقُوا[الحج: 73]، ثم تحداهم الله ​​​​​​​ بأقل من ذلك: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ[الحج: 73].

وأنَّى للبشر أن يخلقوا ذبابًا وهو يحتوي على السر المعْجِز؟! سر الحياة المجهول تمامًا للبشر: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا[الإسراء: 85].

قِدَم الأوبئة المعدية

عباد الله:

الطواعين والأوبئة المعدية تقع من قديم الزمان، وقد وقعت في زمن الصحابة في عهد عمر ، فقد سار بالجيش لأرض الشام، وفي الطريق بلغه وقوع الطاعون بأرض الشام، فتشاور مع الصحابة ، ثم رأى عمرُ أن يرجع إلى المدينة ولا يَقدَم بجيش المسلمين على أرض الشام الموبوءة بالطاعون، فقال له الصحابي الجليل أبو عبيدة  : أفرارًا من قدر الله يا أمير المؤمنين؟ قال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله” [1].

وقبل مائة عامٍ أو تزيد قليلًا، وتحديدًا في سنة ألفٍ وثلاثمائةٍ وسبعةٍ وثلاثين للهجرة 1337هـ، والتي يوافقها ألفٌ وتسعمائةٍ وثمان عشرة للميلاد 1918م، وقع وباءٌ عظيمٌ، حتى سميت تلك السنة التي وقع فيها ذلك الوباء بِـ(سَنَة الرحمة)؛ تفاؤلًا بنزول رحمة الله عليهم، وقيل: لكثرة ما يقال: مات فلانٌ الله يرحمه.

والمشهور: أن ذلك الوباء هو (الإنفلونزا الإسبانية)، وقد مات بسببه ألوفٌ من البشر، وقد ذكر بعض المؤرخين أنه كان يُصَلَّى في اليوم الواحد في المسجد الواحد على ما يزيد على مائة جنازة، حتى تكسرت النعوش، وجعلوا عِوَضًا عنها أبوابًا وسُررًا تحمل الموتى، وكان ذلك الوباء ينزل على أهل البيت فيموتون كلهم أو أكثرهم.

وذكر بعض المؤرخين: أن أهل بيتٍ كان فيه اثنا عشر نفسًا؛ ما بين نساءٍ وأرامل وصغارٍ، فأصابهم ذلك الوباء، وكان صاحب البيت يقوم على حوائجهم، وماتوا جميعًا ما عدا صاحب البيت فسلم من ذلك الوباء، وكان يقول: أنا مريضٌ مثلهم، غير أني لم أجد فرصةً للنوم والمرض؛ كان يقوم على هؤلاء الأنفس، ولعل الله تعالى نجاه بسبب إحسانه إلى هؤلاء الضعفاء، فإن الصدقة تدفع البلاء عن الإنسان.

وبعد مُضِي مائة عامٍ أو تزيد قليلًا على ذلك الوباء، “ما أشبه الليلة بالبارحة!”، فها هو الوباء بـ(كورونا) الجديد يعود من جديد، وقد يسر الله تعالى للناس في هذا الزمان إمكاناتٍ يَتَّقُون بها هذا الوباء أكثر من أجدادهم، فلله تعالى الحمد والمنة!

عباد الله:

ينبغي أخذ الدروس والعبر من هذا الحدث العظيم الذي نزل بالناس، في التفكر في عظيم قدرة الله ​​​​​​​ وبديع صنعه وعجيب خلقه، وفي التفكر في ضعف الإنسان ومعرفة حجمه في هذا الكون الفسيح العظيم، وفي أنه ما نزل بلاءٌ إلا بذنبٍ، ولا رُفِع إلا بتوبةٍ، ولله تعالى الحكمة البالغة في خلقه وفي تقديره، وهو أحكم الحاكمين!

اللهم ارفع عنا وعن الناس جميعًا هذا الوباء، اللهم إنا نعوذ بك من هذا الوباء ومن سيئ الأسقام، اللهم عافنا من هذا الوباء، ومن مات فارحمه واغفر له وتقبله في الشهداء، ومن كان مريضًا فامنن عليه بالشفاء العاجل، اللهم افتح علينا بركاتٍ من السماء والأرض.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإنَّ خَيْرَ الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعةٌ.

أسباب الوقاية من وباء كورونا

عباد الله:

إن هذا الوباء ما زال حاضرًا، وهو في انحسارٍ بإذن الله تعالى، ويتأكد علينا جميعًا الالتزام بالاحترازات الوقائية، التي وَجَّهَت بها الجهات المختصة، فإن هذه أسبابٌ يُتَّقَى بها هذا الوباء بإذن الله تعالى، وقد قال النبي : فِرَّ مِنَ الْمجْذُومِ فِرَارِك مِنَ الْأَسَدِ [2]، والجُذَام: مرضٌ سريع العدوى، فأمر النبي بالفرار من المجذوم؛ اتقاءً للعدوى.

ومن ذلك: لبس الكمامة، فإنها من الأسباب التي يُتقَى بها انتقال العدوى، ويجوز لبس الكمامة في الصلاة؛ لأن تغطية الفم والأنف في الصلاة غاية ما يكون فيها في الأحوال المعتادة أنها مكروهةٌ، ولا تصل لدرجة التحريم، وتزول الكراهة بالحاجة إليها في الظروف الحالية.

ومن ذلك: التباعد بين المصلين، فإن التَّرَاصَّ في الظروف المعتادة ليس واجبًا عند جماهير الفقهاء، وحتى عند من أوجبه لا يجب في الظروف الحالية، بل يتأكد التباعد بين المصلين؛ اتقاءً لانتقال العدوى.

ومن ذلك: ترك المصافحة، والاكتفاء بإلقاء التحية مشافهةً.

ومن ذلك: أنه ينبغي أن تُصَلّى النوافل التي قبل وبعد الفريضة في البيت، وهذا مسنونٌ حتى في الظروف المعتادة؛ لقول النبي : أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ [3].

ومن ذلك: أنه ينبغي لمن يأتي للمسجد أن يأتي بسجادته، فإن هذا أدعى لخصوصية المكان الذي يصلي عليه، وفي ذلك اتقاءٌ لانتقال العدوى.

ومن ذلك: لزوم البيت وعدم الخروج منه، إلا لحاجةٍ في الأوقات المسموح بها، فإن معظم الإصابات إنما كانت بسبب المخالطة للمصابين.

الجهود المبذولة في مواجهة وباء كورونا

عباد الله:

كان لدولتنا المباركة جهودٌ كبيرةٌ في التعامل مع هذه الأزمة، وفي حماية المواطنين والمقيمين من هذا الوباء، فقد كانت الدولة لأبنائها من المواطنين والمقيمين، ولأبنائها في الخارج كانت كالأب الحنون الحريص على حماية أبنائه، فسخَّرَت كافة إمكاناتها في العناية بأبنائها وحمايتهم من هذا الوباء، فالشكر لجميع قطاعات الدولة، وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين وولي عهده، ووزارة الصحة وكافة قطاعات الدولة.

اللهم إنا نعوذ بك من سيئ الأسقام، اللهم إنا نعوذ بك من الكورونا ومن سيئ الأسقام.

اللهم أمنن علينا بالصحة والعافية، اللهم افتح علينا رحمةً من رحماتك تعافينا بها، وتشفي بها مرضانا، وترحم بها موتانا، وتجلي بها هذا الوباء عنا، ربنا آتنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين.

اللهم انصر من نصر دين الإسلام في كل مكانٍ، واخذل من خذل دين الإسلام في كل مكانٍ، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واجعلهم رحمةً لرعاياهم، ووفق إمامنا وولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى.

اللهم إنا نعوذ بك من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.

نسألك اللهم من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم.

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].

اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 5729، ومسلم: 2219.
^2 رواه أحمد: 9722.
^3 رواه البخاري: 731، ومسلم: 781.
مواد ذات صلة