جدول المحتويات
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقصة موسى عليه الصلاة والسلام قصةٌ عظيمةٌ، هي من أعظم قَصص القرآن؛ قال ابن تيمية رحمه الله: قصة موسى وما جرى له مع فرعون أعظم قَصص الأنبياء التي ذُكرت في القرآن، ثناها الله تعالى أكثر من غيرها، وبسطها وطولها أكثر، فهي من أعظم القصص؛ وذلك لأن موسى عليه الصلاة والسلام قد عالج فرعون وجنوده، وعالج بني إسرائيل أشدَّ المعالجة، وهو أعظم أنبياء بني إسرائيل، وأتباعه هم أكثر أتباع الأنبياء[1].
مولد موسى ونشأته
وقد وُلد موسى عليه الصلاة والسلام في وقتٍ اشتدَّ فيه أذى فرعون على بني إسرائيل، وكان فرعون في غاية الحذر؛ فقد أخبرته بَطارِقةُ أقباطه بأن الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما مَرَّ في مُهاجَرِه بمصر، وأراد فرعون -في وقتها- أن يتسلَّط على زوجِه سارة فنجَّاها الله منه؛ أُخبِر إبراهيم بأنه سيُولَد من ذريته غلامٌ تكون نهاية فراعنة مصر على يديه[2].
فأخذ فرعون في تقتيل مَن يُولَد ذكرًا، وبعد ذلك قال له أقباطه: الغلمان يُقتلون، والشيوخ سيموتون، والنساء لا طاقة لهن بأعمال الرجال؛ فأخذ يقتل وِلدانَ سنةٍ ويُبقي وِلدانَ سنةٍ.
ويُقدِّر الله أن يُولَد موسى في السنة التي يُقتَل فيها الغلمان؛ ابتلاءً وامتحانًا وبيانًا أنه لا يَرُدُّ القدر.
فلما ولدته أُمه خافت عليه خوفًا شديدًا، وكان بيتها على ضفة نهر النيل، فألهمها الله أن تضع تابوتًا: فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]، فوضعته في هذا التابوت وربطته بحبل؛ لكيلا تذهب به جرية الماء.
وذات يومٍ انفلت رباط التابوت، فذهب الماءُ بالتابوت الذي في وسطه موسى، ومِن قَدَرِ الله أن وقع في يد آل فرعون، فجيء به إلى امرأة فرعون، آسية بنت مزاحم، فلما رأته أحبَّته حبًّا شديدًا، وكان الله قد ألقى عليه المحبة في القلوب، كما قال سبحانه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي [طه:39]، فكل مَن رآه أحبَّه.
وشاع الخبر ووصل إلى فرعون، فطلبه ليقتله، فقالت امرأة فرعون: لا تقتلوه، قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [القصص:9]؛ فنجَّاه الله بهذا السبب من قتله.
وأمَّا أُم موسى ففزعت، وأصبح فؤادها فارغًا، إن كادت لَتُبدي به لولا أنَّ الله ربط على قلبها، فقالت لأخته: قُصِّيه وتَحسَّسي عنه.
وكانت امرأة فرعون قد عرضت عليه المراضع، فلم يقبل ثدي امرأةٍ، سبحان الله! أصبح موسى كلما أتت امرأةٌ لتُرضِعه لا يقبل ثديها: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ [القصص:12]، فجعل يتلوى من شدة الجوع والعطش؛ فأخرجوه إلى الطريق لعلَّ الله أن يُيسِّر له أحدًا؛ فحانت من أخته نظرةٌ إليه: فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [القصص:11] بشأنها، فلما أقبلت عليه وفهمت أنهم يطلبون له مُرضِعًا، قالت: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12]؟
فردَّه الله إلى أُمه؛ كي تقر عينها ولا تحزن، ثم إن أم موسى أصبحت تُرضع موسى وتأخذ أجرةً على ذلك. انظروا إلى عظيم أقدار الله سبحانه! ردَّ الله إليها ابنها موسى وحقَّق الوعد الذي وعدها إياه، فأصبح موسى يتربى في حِجر أُمه، تُرضِعه أُمه، ومع ذلك تأخذ أُمه أجرةً من فرعون؛ وهذا من العجائب!
المواجهة بين موسى وفرعون
ثم إن موسى عليه الصلاة والسلام قد بقي بعد ذلك يتربَّى في قصر فرعون، ليخرج من ذلك الجو العَكِر بعد بلوغ الأَشُدِّ بمحنةٍ ذكرها الله في سورة القصص، ولما بلغ موسى الأشُدَّ واكتملت تربيته وتهيئته لحمل الرسالة، واستجاب الله له دعوته في الوحي إلى أخيه هارون لِيَشُدَّ به عَضُدَه؛ أمره أن يذهب هو وأخوه هارون إلى فرعون لدعوة فرعون إلى توحيد الله : وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:41-44].
ولكن فرعون لم يقبل، وقد رأى الآيات البيِّنات والبرهان القاطع على نُبوة موسى، لكنه أنكر وقال مُنكِرًا ومُكابِرًا: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23]؟ فأجابه موسى: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ [الشعراء:24].
فردَّ فرعون ساخرًا ومُستهزِئًا قائلًا لمن حوله: أَلَا تَسْتَمِعُونَ [الشعراء:25]؟
فقال موسى: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء:26]؛ فبُهِت فرعون وقال: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء:27].
ثم لمَّا عجز فرعون عن مقاومة الحق وأفحمه موسى بالحُجة والبرهان؛ توعَّد موسى فقال: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29].
ثم ما زال موسى يأتي بالآيات الواضحة، وفرعون يحاول بكل جهده أن يقضي عليها بالرد والكتمان، وقال لموسى: أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى [طه:57-58]؛ يعني: مكانًا مستويًا لا يَحجب عن الرؤية، ليس فيه وادٍ ولا جبلٌ.
تحدِّي موسى للسحرة وإيمانهم بالله
فوعدهم موسى يوم الزينة، وهو يومُ عيدِهم، في رابعة النهار ضُحًى. اجتمع الناس، وأتى فرعونُ بسحرة العالم، سحرة العالم جَمَعهم فرعون، وأتوا بكل ما استطاعوا من سحرٍ وكيدٍ ومكرٍ، وموسى في الطرف الآخر وحده، قال لهم موسى واعظًا إياهم: وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى [طه:61].
هذه الكلمة صدرت من موسى عليه الصلاة والسلام عن إيمانٍ ويقينٍ، فأثَّرت في السحرة تأثيرًا كبيرًا: فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى [طه:62]؛ لكنهم بعد ذلك عزموا على إلقاء السحر، فألقوا ما عندهم من السحر العظيم، حتى إن موسى خاف: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ [طه:67-69].
ألقى عصاه فإذا هي حيةٌ عظيمةٌ، حيةٌ حقيقيةٌ وليست سحرًا: فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [الشعراء:45]، والسحرة يعرفون السحر، عرفوا أنها ليست سحرًا، وأنها حيةٌ حقيقيةٌ، وأن موسى رسولٌ من عند الله .
فلما رأى السحرة هذه الآية العظيمة: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الشعراء:46-48].
ولكنَّ فرعون توعَّدهم وقال: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ يعني: موسى الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [الشعراء:49]، وقال: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ [الأعراف:123]، وتوعَّدهم بأن يُصلِّبنهم على جذوع النخل وأن يقتلهم؛ فقالوا: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:72-73].
سبحان الله! ما هذا الإيمان العجيب الذي وَقَر في قلوب هؤلاء السحرة! أصبحوا وهم من أفجر الناس، من أفجر خلق الله ، وأَمْسَوْا وهم مؤمنون هذا الإيمان العجيب العميق! وصلبهم فرعون على جذوع النخل وعذَّبهم ونكَّل بهم ثم قتلهم، ولم يتراجعوا، بل تمسَّكوا بإيمانهم، وقالوا لفرعون: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72].
إيمانٌ عجيبٌ وَقَرَ في قلوبهم لمَّا رأوا الحقيقة، ورأوا أن ما جاء به موسى حقٌّ من عند الله !
خروج موسى من مصر.. وإغراق فرعون
وما زال فرعون ينابذ دعوة موسى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الزخرف:54]، قال الله: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف:55].
وكان من قصة إغراقهم: أن الله أوحى إلى موسى أن يسري بقومه ليلًا من مصر، فاهتمَّ فرعون لذلك اهتمامًا عظيمًا، وأرسل في جميع مدائن مصر أن يُحشر الناس للوصول إليه، فاجتمع الناس وخرج بهم في إثر موسى وقومه للقضاء عليهم؛ حتى أدركهم عند البحر: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، البحر أمامنا فإن خُضْناه غرقنا، وفرعون وقومه خلفنا وسيأخذوننا.
عند ذاك قال موسى قول الواثق بربه المُوقِن بوعده ونصره: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]. موسى لا يعلم ما الذي سيكون، لكنه على ثقة بأن الله سيهديه، وأن الله تعالى سيَدُلُّه لِما فيه النجاة.
فيا له من موقف عظيم! انظروا إلى غاية الإيمان! انظروا إلى الثقة بوعد الله ونصره!
فأوحى الله إلى موسى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ [الشعراء:63]، فلمَّا ضربه انفلق البحر، وصار هذا الماء السيَّال ثابتًا كأطواد الجبال، فدخل موسى وقومه يمشون آمنين بين جبال الماء، في طُرقٍ يابسةٍ أيبسها الله في لحظةٍ!
فلمَّا تكاملوا خارجين، تَبِعَهم فرعون بجنوده، وكان هذا من الطغيان، وإلا وهو يرى أن موسى الذي أيبس الله له البحر؛ هل سيتركه يمر على هذه اليابسة؟! لكنه الطغيان الذي يُعمِي صاحبه!
فأمر الله البحر أن يعود إلى حاله، فانطبق على فرعون وجنوده؛ حتى غرقوا عن آخرهم. فلما أدرك فرعون الغرق قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ... [يونس:90-92].
فنجَّاه الله ببدنه وأهلكه وأغرقه، والناس ينظرون، وبنو إسرائيل ينظرون إلى غرقه، إلى غرق هذا الطاغية الذي نكَّل بهم والذي كان يُقتِّل أولادهم؛ فكان هذا من نعمة الله تعالى على موسى ومن معه، وكانت نعمةً عظيمةً على المؤمنين إلى قيام الساعة.
ولهذا كان النبي يصوم عاشوراء، وأمر بصومه؛ شكرًا لنعمة الله على أن نجَّى موسى ومَن معه من فرعون وقومِه[3].
هذا، والله وليُّ التوفيق.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.