logo

فضل الصبر

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتبع سُنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن من أعظم الأخلاق الكريمة التي حثَّ عليها الإسلام: خُلق الصبر، وقد ورد في القرآن الكريم في أكثر من تسعين موضعًا؛ وما ذاك إلا لضرورته للمسلم؛ فإن الإنسان قد خُلق في كَبَدٍ كما قال سبحانه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، فالإنسان في هذه الحياة يكابد مصاعبها ومتاعبها ومشاقها ومصائبها؛ فلا بُد من الصبر، فهذه الحياة الدنيا متقلبة ومتغيرة ولا تدوم لأحدٍ ولا تثبت على حالٍ.

ولهذا؛ فعلى المسلم أن يستحضر معنى الصبر، وأن يدرِّب نفسه عليه؛ فإن النبي قال: مَن يَتصبَّر يُصبِّره الله[1]، فالذي يتكلف خُلق الصبر يصبح خُلقًا راسخًا له.

معنى الصبر

ولكن ما معنى الصبر؟ وما المقصود بالصبر؟

هذه المادة (الصاد والباء والراء) معناها في اللغة العربية: الحبس[2]؛ فعلى هذا يكون معنى الصبر: حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، وحبس الجوارح عن الأفعال المُحرَّمة؛ فهو يعني: أن يحبس نفسه وجوارحه عن الأفعال غير اللائقة، وعن التشكي والتسخط والجزع ونحو ذلك، فهذا هو الصبر المأمور به.

وقد جعله الله تعالى سببًا للفلاح، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].

وأخبر سبحانه بأنه يحب الصابرين، فقال: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ[آل عمران:146]. وتكرر هذا في القرآن في عدة مراتٍ في أن الله تعالى يحب الصابرين، وأخبر بمعيته للصابرين، فقال: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].

وأخبر جلَّ وعلا بأن ثواب الصبر أنه لا يُقدَّر بعددٍ مُعيَّنٍ، فقال: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، فالصبر ثوابه عظيمٌ، بل لا حدَّ لثوابه: يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.

أنواع الصبر

والصبر يكون على طاعة الله، ويكون عن معصية الله، ويكون على أقدار الله المؤلمة التي يصاب بها الإنسان:

  • أما الصبر على طاعة الله : فيُصبِّر المسلم نفسه على الواجبات الشرعية، ويؤديها كما أمره الله ، وربما يجد صعوبةً في أداء بعضها؛ لكن عليه أن يصبر، وأن يستحضر أن ما عند الله خيرٌ وأبقى.
    فمثلًا: كون الإنسان يستيقظ من نومه لصلاة الفجر مع الجماعة في المسجد، ويترك لذة النوم والراحة والدفء، ويذهب -خاصةً في برودة الجو- إلى المسجد ليؤدي فريضة الله ؛ فهذا يحتاج إلى صبرٍ، بل صبرٍ عظيمٍ، كما قال سبحانه: وَإِنَّهَا أي: الصلاة لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45] .
  • النوع الثاني أو القسم الثاني: الصبر عن معصية الله ؛ فإن المعاصي قد تكون تنجرف لها النفس وتهواها النفس؛ فتحتاج النفس إلى نهيٍ وإلى صبرٍ، كما قال سبحانه: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ۝ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41]. فيُصبِّر الإنسان نفسه عن الوقوع في المعاصي: المعاصي القولية، والمعاصي الفعلية، وجميع المعاصي.
  • والقسم الثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة التي يُقدِّرها على عباده، وهذه لا بُد منها، كما قال سبحانه: وَلَنَبۡلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۝ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 155-157].

فعندما تقع المصيبة للإنسان فيجب عليه أن يصبر، وينبغي أن يأتي بما ورد، ومن ذلك ما جاء في الآية أن يقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ؛ فإنه إذا قالها ينال هذا الثواب المذكور في الآية: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:157].

وأيضًا جاء في السُّنة عن النبي : أن العبد إذا أصابته مصيبة يقول: قدَّر الله وما شاء فعل، وإن أصابك شيءٌ فلا تَقُل: لو أني فعلتُ كذا لكان كذا وكذا، ولكن قُل: قدَّر الله وما شاء فعل[3].

وأيضًا جاء في حديث أم سلمةَ رضي الله عنها: ما من مسلمٍ يُصاب بمصيبةٍ فيقول: اللهم أْجُرْنِي في مصيبتي وأَخلِف لي خيرًا منها؛ إلا أَجَرَه الله في مصيبته وأخلفه خيرًا منها[4].

هذه الأمور الثلاثة وردت بها النصوص: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، و"قدَّر الله وما شاء فعل"، و"اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها"، مع الصبر؛ وذلك بحبس النفس عن الجزع وعن التشكي والتسخط والاعتراض على قضاء الله وقدره.

أحوال الناس عند المصيبة

والإنسان عندما تقع له المصيبة لا يخلو الأمر من أحوالٍ:

  • الحال الأولى: حال الجزع والتسخط، وذلك بأن يجزع بقلبه وأن يتسخط بلسانه، كأن يعترض على قضاء الله وقدره؛ فبعض الناس يقول: لماذا أُصابُ بهذه المصيبة؟! ما الذي فعلتُ حتى أُصاب بهذه المصيبة؟! لماذا أُصاب من بين سائر الناس؟! ونحو ذلك من العبارات التي فيها اعتراض على القضاء والقدر والتسخط والتشكي. أو يأتي بأفعالٍ مُحرَّمةٍ كشقِّ الجيوب ولطم الخدود ونتف الشعر ونحو ذلك؛ فهذا العمل مُحرَّمٌ، بل من كبائر الذنوب، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ليس منا مَن لطم الخدود، وشقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية[5].
  • الحال الثانية: الصبر، وذلك بأن يحبس نفسه عن الجزع، ويحبس لسانه عن التسخط، ويحبس جوارحه عن الأفعال المُحرَّمة، مع أنه قد لا يكون راضيًا بالمصيبة. وهذا حكمه الوجوب؛ فيجب على الإنسان أن يصبر.
  • والحال الثالثة: الرضا، وهي مرتبة فوق الصبر، وذلك بأن يرضى بما قدَّره الله تعالى وقضاه عليه من هذه المصيبة، ويعلم أنها بقضاء الله وقدره، فيُسلِّم ويستسلم لأمر الله . وهذه المرتبة -مرتبة الرضا بالمصيبة- مرتبةٌ عليةٌ لا ينالها إلا قلةٌ من البشر، وهم أولياء الله ؛ ولهذا فحكمها أنها مستحبةٌ وليست واجبةً في أرجح أقوال أهل العلم؛ لأن أكثر الناس لا يستطيعون الوصول لهذه المرتبة.
  • وهناك مرتبة أخرى فوق مرتبة الرضا، وهي مرتبة الشكر، فهي تتضمن الرضا وزيادة: فهو يرضى بالمصيبة، ويحمد الله ويشكره على ما قضى وقدَّر، ويرى أن الدنيا لا تستحق أن يتسخط وأن يتشكى، وأن ما عند الله خيرٌ وأبقى، فتجده يأتي بما ورد عند وقوع المصيبة ويحمد الله تعالى ويشكره. وإذا قلنا: إن الرضا مستحبٌّ، فالشكر مستحبٌّ من باب أولى.

إذن؛ أحوال الإنسان عندما تقع له المصيبة:

  • إما التسخط والتشكي بالقول أو الفعل، وهذا مُحرَّمٌ.
  • وإما الصبر، وهذا واجبٌ.
  • وإما الرضا، وهذا مستحبٌّ.
  • وإما الشكر، وهو مستحبٌّ كذلك.

^1 رواه البخاري: 1469، ومسلم: 1053.
^2 مقاييس اللغة لابن فارس: (3/ 329).
^3 رواه مسلم: 2664.
^4 رواه مسلم: 918.
^5 رواه البخاري: 1294، ومسلم: 103.
مواد ذات صلة
zh