الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتبع سُنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن القرآن العظيم هو كلام ربنا سبحانه، تكلَّم به ربُّنا حقيقةً، وأنزله على نبيِّه محمدٍ بواسطة جبريلَ ، وقد جعله الله تعالى الآيةَ لنبيِّه محمدٍ ، فقد اقتضت حكمة الله أنه ما مِن نبيٍّ إلا يُعطيه الله من الآيات ما على مثله يُؤمِن البشر، فكانت -مثلًا- آية نبي الله موسى العصا، وكانت آية نبي الله صالحٍ الناقة، وكل نبيٍّ أعطاه الله تعالى آيةً، وكانت آية نبيِّنا عيسى أنه يُبْرِئ الأكمهَ والأبرصَ ويُحْيِي الموتى بإذن الله.
أما آية نبيِّنا محمدٍ ، فقد جعلها الله تعالى آيةً تبقى إلى قيام الساعة، فتراها جميع الأمة جيلًا بعد جيلٍ، وقرنًا بعد قرنٍ، وهي: هذا القرآن العظيم الذي تكفَّل الله بحِفْظِه، وحَفِظَه جلَّ وعلا فلم يتغيَّر منه حرفٌ واحدٌ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
من أوصاف القرآن
هذا القرآن العظيم وصفه الله بعدة أوصافٍ، فوصفه جلَّ وعلا بالعظمة، قال: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87]، وصف الله القرآن بأنه عظيم، ووصفه بالإحكام: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]، وذكر هَيْمَنتَه على الكتب السابقة، فقال: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة:48]، ووصفه بأنه عليٌّ حكيمٌ، فقال: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف:4]، وإلى غير ذلك من الأوصاف العظيمة التي وصف الله تعالى بها هذا القرآن العظيم.
من أبرز خصائصه التعبد بتلاوته
ومن أبرز خصائصه: أنه يُتعبَّد بمُجرَّد تلاوته، وهذه الخَصِيصة لا توجد في غيره، فبمُجرَّد تلاوته يُؤجَر المسلم ويُثاب على ذلك، سواءٌ قرأه بفهمٍ أو بغير فهمٍ، إنْ قرأه بفهمٍ فهذا هو الأكمل والأفضل، وهو أعظم أجرًا وثوابًا، وهو ما يُسمَّى بـ"التدبر"، لكن حتى لو قرأه من غير تدبُّرٍ ولا فهمٍ، فهو مأجورٌ على مُجرَّد التلاوة، ولهذا فإن تلاوة القرآن العظيم عملٌ صالحٌ من أجَلِّ وأفضل الأعمال.
وقد أثنى الله تعالى على الذين يتلون كتابه، فقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29،30]، فذكر أول أوصافهم: أنهم يتلون كتاب الله إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا، فانظر كيف أن الله تعالى جعل من أول صفاتهم: أنهم يتلون كتاب الله.
وقال سبحانه: وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس:61]، فقوله: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ؛ أي: في شأنٍ من الشؤون، ويدخل في ذلك تلاوة القرآن، لكن الله خَصَّ تلاوة القرآن بالذكر؛ لعظيم شرفها، فقال: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ، وهذا يدل على عظمة تلاوة القرآن؛ لأن الله تعالى خصَّها بالذكر.
ويقول النبي : مَن قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنةٌ، والحسنة بعَشْرِ أمثالها. لا أقول: الم حرفٌ، ولكن ألفٌ حرفٌ، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرفٌ [1]؛ ولهذا ينبغي للمسلم أن يكون له وِرْدٌ من القرآن كل يومٍ، يجعل له قَدْرًا مُخصَّصًا لا يَنقُص عنه، وقد يزيد عليه لكن لا يَنقُص عنه، كل يومٍ، وهو ما يُسمَّى بـ"الوِرْدِ"، ويُسمَّى بـ"الحِزْب"، ليس الحِزْبَ بالمعنى الاصطلاحي عند أهل التجويد: الذي هو أربعةُ أثمانٍ، ولكن المقصود قَدْرٌ مُعيَّنٌ، وإذا قُدِّر أنه فاته لأيِّ سببٍ قضاه، كما قال عليه الصلاة والسلام: مَن نام عن حِزْبِه، أو عن شيءٍ منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر؛ كُتِبَ له كأنما قرأه من الليل [2] رواه مسلم.
وقد كان النبي له وِرْدٌ من القرآن، وكان السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم لكل واحدٍ منهم وِرْدٌ قرآنيٌّ يقرؤه كل يومٍ؛ ولهذا ينبغي للمسلم أن يحرص على ذلك. وعندما ننظر إلى واقع الناس نجد من الناس مَن هو مُوفَّقٌ وله وِرْدٌ قرآنيٌّ، وبعض الناس يختم في كل شهرٍ مرةً، وبعضهم في كل شهرٍ مرتين، وبعضهم في كل أسبوعٍ مرةً، وهناك من يختم في كل ثلاثةِ أيامٍ مرةً، وهناك من يختم في أقل من ذلك، وفضل الله يؤتيه من يشاء.
لكن هناك من الناس مَن هو هاجرٌ للقرآن، لا يكاد يقرأ القرآن، بعيدٌ عن تلاوة القرآن، مُنشغِلٌ في دنياه وفي أموره الخاصة، وبعيدٌ عن تلاوة القرآن، وهذا يُعتبَر نوعًا من هجر القرآن. وهناك أناسٌ جعلوا تلاوة القرآن على الهامش؛ إن أتى رمضان قرأ شيئًا من القرآن، وإن أتى للمسجد مُبكِّرًا قرأ، وربما تمضي عليه أيامٌ كثيرةٌ، وربما شهرٌ أو أكثر، لم يقرأ فيه شيئًا من كتاب الله ، وهذا يُعتبَر تقصيرًا كبيرًا؛ فتلاوة القرآن ينبغي أن تكون في جدول المسلم اليومي، وأن يجعلها من الأمور الأساسية في حياته.
الارتباط بالقرآن الكريم من أعظم أسباب الثبات، بل من أعظم أسباب زيادة الإيمان، كما قال ربنا سبحانه: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، فإذا أردت الثبات، وأردت زيادة الإيمان، وأردت الطمأنينة؛ ارتبِطْ بكتاب الله سبحانه تلاوةً واستماعًا.
فعلى المسلم أن يُعظِّم شأن القرآن الكريم، وأن يجعل له وِرْدًا من القرآن يحافظ عليه كل يومٍ لا يَنقُص عنه، وأن يَحتسِب هذا عملًا صالحًا يَتقرَّب به إلى ربه .
هل يُغني الاستماع للقرآن عن التلاوة؟
المقدِّم: بارك الله فيكم، هنا فضيلة الشيخ: هل يكفي الاستماع لكتاب الله عن التلاوة؟
الشيخ: الاستماع عملٌ صالحٌ، وهو من أسباب زيادة الإيمان، كما قال الله تعالى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، لكن هذا لا يُغني عن التلاوة، فينبغي أن يجعل الأساس هو التلاوة، التلاوة كل يومٍ، إن تيسَّر أن تكون بتدبُّر فهذا هو المطلوب، وإن لم يتيسَّر فإنه يقرأ ولو من غير تدبُّر؛ لأن بعض الناس أيضًا يأتيه الشيطان يقول: لا تقرأ القرآن إلا بتدبُّر.
والإنسان أحيانًا يَعرِضُ له ما يَعرِضُ من مرضٍ، أو من هَمٍّ، أو قلقٍ، أو مشاغلَ، أو تكدُّر مزاجٍ، أو انشغالٍ، أو غير ذلك مما يَعرِض للإنسان، فلا يتيسَّر ولا يتهيَّأ له التدبُّر؛ فلا يترك تلاوة القرآن لأجل ذلك، وإنما يقرأ القرآن على كل حالٍ، إن تيسَّر التدبُّر فهذا هو الأكمل، إن لم يتيسَّر فيقرأ على كل حالٍ.