جدول المحتويات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
قصة أصحاب الغار كما في "الصحيحين"
فقد جاء في "الصحيحين"، عن أبي هريرةَ ، أن النبي قال: انطلقَ ثلاثةُ رَهْطٍ ممَّن كان قبلكم، حتى أَوَوُا المَبِيتَ إلى غارٍ فدخلوه، فانحدرَتْ صخرةٌ من الجبل فَسَدَّتْ عليهم الغارَ، فقالوا: إنه لا يُنْجِيكم من هذه الصخرة إلا أن تدْعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رَجُلٌ منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنتُ لا أَغْبِقُ قبلَهما أهلًا ولا مالًا -يعني: لا أُقدِّم عليهما في شراب الغَبُوق، وهو: اللبن أو حليب الناقة- فنأى بي في طلب شيءٍ يومًا، فلَمْ أُرِحْ عليهما حتى ناما، فحَلَبْتُ لهما غَبُوقَهما فوجدتُهما نائمَيْن، وكرهتُ أن أَغْبِقَ قبلهما أهلًا أو مالًا، فلبِثتُ والقَدَح على يديَّ أنتظر استيقاظهما حتى بَرَقَ الفَجْرُ، فاستيقظا فشَرِبا غَبُوقَهما، اللهم إنْ كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِك، ففَرِّجْ عنَّا ما نحن فيه من هذه الصخرة؛ فانفرجَتْ شيئًا لا يستطيعون الخروج. وقال الآخَرُ: اللهم كانت لي بنتُ عمٍّ كانت أَحَبَّ الناس إليَّ، فأَرَدْتُها عن نَفْسِها، فامتنعَتْ مني، حتى أَلَمَّتْ بها سَنَةٌ من السنين -أي: شِدةٌ وحاجةٌ- فجاءتني، فأعطيتُها عشرين ومِائةَ دينارٍ على أنْ تُخَلِّيَ بيني وبين نفسِها، ففعلَتْ، حتى إذا قَدَرْتُ عليها قَالَتْ: لا أُحِلُّ لك أن تَفُضَّ الخَاتَمَ إلا بحقِّه، فتحرَّجْتُ من الوقوع عليها، فانصرفْتُ عنها وهي أَحَبُّ الناس إليَّ وتركْتُ الذهب الذي أعطيتُها، اللهم إنْ كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِك، فافْرُجْ عنا ما نحن فيه؛ فانفرجَتِ الصخرةُ، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. وقال الثالثُ: اللهم إني استأجرْتُ أُجَراءَ، فأعطيتُهم أجرَهم، غير رَجُلٍ واحدٍ تَرَكَ الذي له وذَهَبَ، فثَمَّرْتُ أجرَه -يعني: نمَّيتُه له- حتى كَثُرَتْ منه الأموال، فجاءني بعد حينٍ، فقال: يا عبد الله، أَدِّ إليَّ أجري، فقلتُ له: كل ما ترى من أجرِك، مِن الإبل والبقر والغَنَم والرقيق، فقال: يا عبدَ الله، لا تَستهزِئْ بي، فقلتُ: إني لا أَستهزِئُ بك، فأخذه كُلَّه فَاسْتاقَه، فلَمْ يَترك منه شيئًا، اللهم فإنْ كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِك، فافْرُجْ عنا ما نحن فيه؛ فانفرجَتِ الصخرةُ، فخرجوا يمشون [1].
دروسٌ وعِبَرٌ من القصة
هذه القصة -أيها الإخوة- قصَّها علينا النبي من أخبار الأمم السابقة؛ لأجل أن نَعتبِر بها، وأن نأخذ الدروس، ومن أبرز هذه الدروس:
أولًا: فضيلة بِرِّ الوالدين، وأنه من أسباب تفريج الكروب، فانظرْ إلى هذا الرجل: كيف أنه كان كل يومٍ يأتي باللبن لوالديه، ولا يُقدِّم عليهما أحدًا، وذات يوم لمَّا أتى وقد ناما، بقي واقفًا على رأسيهما حتى طلع الفجر، وهذا ضرب مثلًا عظيمًا في بِرِّه بوالديه، فكان أن استجاب الله له، فنجَّاه بصالح عمله، فانفرجت الصخرة قليلًا.
وأما الآخر: فضرب مثلًا عظيمًا في العفة عن الزنا بعد القدرة والتمكُّن منه، فإن هذا الرجل قد تعلَّق بهذه المرأة، فلمَّا تمكَّن منها ذكَّرته بالله، قالت: اتقِ الله، ولا تفُضَّ الخاتم إلا بحقه، فلما ذكَّرته بالله خاف الله ، وترك هذه المرأة، وترك الذهب الذي أعطاها، فضرب مثلًا عظيمًا في العفة؛ ولذلك استجاب الله له، فانفرجت الصخرة قليلًا، غير أنهم لا يستطيعون الخروج.
أما الثالث: فضرب مثلًا عظيمًا في الأمانة، فإنه كان بإمكانه أن يقول لهذا الأجير: خُذ أُجرتك؛ لكنه لعظيم أمانته وحرصه وصدقه وإخلاصه، أخذ أجر هذا الأجير ونمَّاه وثمَّره، فلما أتى قال: لك هذا الأجر ولك ثمرته، ولك هذا الوادي كله من الإبل والبقر والغنم والرقيق، حتى إن هذا الأجير لم يُصدِّق، فقال: لا تستهزئ بي، قال: والله، لا أستهزئ بك. وكان ينبغي لهذا الأجير -على الأقل- أن يُعطيه شيئًا، لكنه أخذه كله ولم يُعطِه شيئًا، وسكت هذا الرجل، فتوسَّل إلى الله تعالى بهذا العمل الصالح، وهو أمانته العظيمة، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون.
وهذا يدل -أيها الإخوة- على فضل هذه الأمور الثلاثة: بِرِّ الوالدين، والعفة عن الزنا، والأمانة، وأنها من أسباب تفريج الكربات.
ويدل كذلك على فضل الإخلاص لله ؛ ولهذا فإن كل واحدٍ منهم يقول: اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك، فافرُجْ عنا ما نحن فيه، فتوسل هؤلاء الثلاثة بالإخلاص لله في هذه الأعمال الصالحة التي عملوها، وهذا يدل على عظيم منزلة الإخلاص، وأنه من أسباب كشف الكُربات ومن أسباب تفريجها.
ولهذا كان من السبعة الذين يُظِلُّهم الله تعالى تحت ظِلِّه يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّه: رجلٌ دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمالٍ، فقال: إني أخاف الله [2]، كما حصل لهذا الرجل؛ حيث تمكَّن من هذه المرأة، فقال: إني أخاف الله.
وأيضًا في الرجل الأول: الذي ضرب المثل العظيم في بِرِّه بوالديه ابتغاء وجه الله، وكذلك في الرجل الثالث: الذي ضرب المثل العظيم في الأمانة، وقام بتثمير وتنمية أجر هذا العامل الذي ترك أجره؛ كل ذلك ابتغاء وجه الله .
ومن فوائد هذه القصة أيضًا: مشروعية التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة، فإن هذا من أنواع التوسل المشروع؛ فمثلًا: إذا وقعتَ في كُربة، فانظرْ إلى عملٍ صالحٍ أخلصت فيه لله، وتوسَّل إلى الله تعالى بهذا العمل، وقل كما قال هؤلاء الثلاثة: "اللهم إنه حصل كذا وكذا، وفعلتُ كذا وكذا، اللهم إن كان ذلك ابتغاء وجهك الكريم، فافرُجْ عني ما أنا فيه"، فهذا يدل على مشروعية التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة[3].
ويدل أيضًا على أنه ينبغي أن يكون للمسلم أعمالٌ صالحةٌ أخلَص فيها لله تعالى، لا يعلم بها أحدٌ من البشر، كما قال بعض السلف الصالح: "ينبغي أن يكون للإنسان خبيئةُ عملٍ صالحٍ"[4]؛ لا تعلم بها زوجته، ولا أولاده، ولا أيُّ أحدٍ من الناس، فبعض الناس لا يكاد يعمل عملًا إلا ويَطَّلِع عليه الآخرون، أو يُحَدِّث به الآخرين.
اجعل لك -يا أخي- أعمالًا صالحةً تُخفيها، لا يعلم بها إلا الله، فإنك تحتاج إلى أجرها وثوابها يومًا من الأيام، وربما تحتاج إليها في الدنيا قبل الآخرة، كما حصل لهؤلاء النفر الثلاثة.
والإخلاص -أيها الإخوة- ما إن يقترن بعملٍ إلا ويرفع صاحبه درجاتٍ، وربما حتى لو كان العمل الذي اقترن به الإخلاص يسيرًا؛ ولهذا في حديث السبعة الذين يُظِلُّهم الله تعالى تحت ظِلِّه يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّه، ذكر منهم: رجلًا تَصدَّقَ بصدقةٍ، فأخفاها حتى لا تعلم شِمالُه ما تُنفِق يمينُه [5].
تَصدَّقَ بصدقةٍ، ربما هذه الصدقة قليلةٌ، أو مبلغٌ يسيرٌ، لكن اقترن بها إخلاصٌ عظيمٌ فأخفاها، لا يريد من هذا الفقير جزاءً ولا شكورًا؛ بحيث لو قُدِّر أن اليد الشِّمال تُبْصِر، ما استطاعت أن ترى اليدَ اليمينَ من شدة الإخفاء.
فالعبرة بكيفية العمل وحُسْنِه، وليس بكثرة العمل، فاحرص -يا أخي المسلم- على الإخلاص لله ، وأن تكون لك أعمالٌ صالحةٌ لا يَطَّلِع عليها إلا الله . فبعض الناس يعمل أعمالًا صالحةً، لكن يأتيه الشيطان فيتحدث بهذه الأعمال، فينقلها من ديوان السر إلى ديوان العلانية؛ فيَقِلُّ أجرُها، وربما إذا اقترن بها الرياء أو السُّمعة بَطَلَ أجرُها.
وبعض الناس قد يعمل الأعمال الصالحة يُخلِص فيها لله ، لكن يأتيه الشيطان فيَمْتَنُّ بها؛ كأن يتصدَّق بصدقةٍ، فيبدأ يَمْتَنُّ على هذا الفقير بهذه الصدقة وهذا المعروف، يَمْتَنُّ عليه بطريقٍ مباشرٍ أو غيرِ مباشرٍ؛ فيُبْطِلُ هذا المَنُّ أجرَ هذه الصدقة تمامًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [البقرة:264]؛ ولهذا لا يكفي أن الإنسان يعمل الأعمال ويُخلِص فيها لله فحسب؛ بل لا بُدَّ أن يَتْبَع ذلك -أيضًا- استمرارٌ على هذا الإخلاص.
ولهذا لما ذكر النبيُّ : مَن أحقُّ أن يُغبَط، قال: لا حَسَدَ -يعني: لا غِبطةَ- إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله مالًا، فسَلَّطَه على هَلَكَتِه في الحق [6]، فانظر إلى هذا التعبير: هَلَكَتِه، كأن هذا المال أهلكه، انقطعت صِلَتُه به، لم يتحدث به، ولم يتكلم عنه، ولم يَمْتَنَّ به، كأنه هَلَكَ، انقطعت صِلَتُه به، وهذا يدل على عظيم إخلاصه وصدقه مع الله .
فهذه القصة -أيها الإخوة- ضربها لنا النبي مثلًا؛ لأجل أن نَعتبِر، هي من قَصص الأمم السابقة، لكنه عليه الصلاة والسلام يَقُصُّ علينا مِن أخبار مَن سبق؛ لأجل أن نأخذ العِبَر والدروس من هذه القَصص، فأعظم درسٍ نأخذه من هذه القصة: هو فضل الإخلاص، وعظيم أثره، وعاقبته الحميدة في الدنيا والآخرة.
أسأل الله تعالى أن يرزقني وإياكم الإخلاص لله ، وأن يُوفِّقنا لما يُحب ويرضى من الأقوال والأعمال، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.