جدول المحتويات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه واتبع سُنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
الأمور التي تُكتب للإنسان
فيقول الله تبارك وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس:12]، إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ، فبيَّن الله أنه يَكتُب للإنسان أمرين:
- الأمر الأول: ما قدَّمت يداه.
- والأمر الثاني: آثاره التي تكون بعد مماته.
فأما الأمر الأول: وهو ما قدَّمت يداه؛ أي: ما عَمِلَ من أعمالٍ صالحةٍ، كما قال : يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [النبأ:40]، فينظر الإنسان ما قدَّمت يداه من أعمالٍ صالحةٍ، أو أعمالٍ سيئةٍ، ويُحاسَب على ذلك، فالله تعالى يَكتُب للإنسان ما قَدَّمَ؛ فإنْ قَدَّمَ خيرًا جازاه الله تعالى بالخير وبالأجر العظيم والثواب الجزيل، وإنْ قَدَّمَ سُوءًا فلا يلومنَّ إلا نفسه.
الآثار التي تُكتب للإنسان بعد الموت
ما قَدَّمَ الإنسان في مجال الخير، من صلواتٍ وصدقاتٍ وزكواتٍ وصيامٍ وغير ذلك، فهذه تُكتَب له يوم القيامة؛ ولكنْ هناك شيءٌ آخر يُكتَب للإنسان أيضًا، وهو: الآثار وَآثَارَهُمْ [يس:12]، فإن كانت الآثار آثارًا سيئةً؛ فإنه يجري عليه وزرها وذنبها بعد مماته، نسأل الله السلامة والعافية. يكون قد مات، لكن تُكتَب عليه ذنوبٌ وسيئاتٌ ما دامت هذه الآثار السيئة موجودةً، كمن يُخلِّف مثلًا أشرطة أغانٍ مصحوبةٍ بالمعازف؛ فكل من يستمع إليها فإنه يأثم، ويلحق الإثم هذا الذي قد خَلَّفَ هذه الأشرطة على سبيل المثال، ولو كان بعد مماته، فهذه الآثار تأتي له بسيئاتٍ تُكتَب عليه بعد مماته.
وفي المقابل: هناك مَنْ مَنَّ الله تعالى عليهم وخَلَّفوا آثارًا حسنةً، فهذه الآثار الحسنة تُدِرُّ على الإنسان بعد مماته، فهو في عداد الأموات، لكنَّ أجره وثوابه يجريان، وهذا من فضل الله، وفضل الله يؤتيه من يشاء؛ فما هي أبرز الآثار التي يجري ثوابها ونفعها للإنسان بعد مماته؟
بيَّنها النبي في قوله: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثةٍ: إلا من صدقةٍ جاريةٍ، أو عِلمٍ يُنتفَع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له [1].
الصدقة الجارية
الأمر الأول: الصدقة الجارية، ما هي الصدقة الجارية؟
الصدقة الجارية: هي الوقف، والصدقة يجري للإنسان نفعُها وثوابُها عمومًا في حياته وبعد مماته، ولكنها أعظم ما تكون أجرًا إذا كانت جاريةً؛ أي: إذا كانت وَقْفًا، بحيث يُحبَس الأصل وتُسَبَّل المنفعة في وجوه البر والخير.
ولذلك فإن عمر بن الخطاب لمَّا أصاب مالًا بخيبرَ، هو أَنْفَسُ مالٍ أصابه في حياته، يقول: أتيتُ النبي أستشيره فيه؛ قلت: يا رسول الله، إني أصبتُ مالًا هو أَنْفَسُ مالٍ في حياتي، فما تأمرني؟ فقال النبي : إن شئتَ حَبَسْتَ أصلَها وتصدَّقت بها؛ أي: وَقَفْتَها وسَبَّلْتَها، فوَقَفَها عمر [2].
قال أهل العلم: والمُستشار مُؤتمَنٌ، فلو كان هناك شيءٌ أفضل من الوقف لأشار به النبي على عُمرَ ؛ [3] فدلَّ هذا على أن الوقف في وجوه البِرِّ من أفضل ما تُبذَل فيه الأموال، بل هو أفضل ما تُبذَل فيه الأموال؛ ولهذا يقول جابر : "لم يكن أحدٌ من أصحاب النبي ذو مَقدرةٍ إلا وَقَف"[4].
وقد حرص المسلمون على مَرِّ العصور الماضية على الوقف، وانتشرت الأوقاف انتشارًا واسعًا؛ بل إن الحضارة الإسلامية فيما مضى كانت تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الأوقاف، وكان دور الدولة الإسلامية في القرون السابقة: هو حفظ الأمن الداخلي والخارجي، وحماية الثغور، والتقاضي بين الناس فقط؛ أما بقية الخدمات فكانت تعتمد على الأوقاف.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: مع كثرة أوقاف المسلمين في القرون الماضية وفي الوقت الحاضر، أين هي الأوقاف؟ أين ذهبت هذه الأوقاف؟
كثيرٌ من هذه الأوقاف قد ضاع، وقد عدا عليه من عدا وأخذ هذه الأوقاف، ضاع كثيرٌ من الأوقاف! وربما يكون من أبرز أسباب ضياعها عدم إحسان النِّظَارة.
فينبغي لمن أراد أن يُوقِفَ أن يُحْسِن ترتيب نِظَارة الوقف، وأن يستشير أولًا أهل العلم في وَقْفه وفي عبارة الوقف؛ اقتداءً بعُمرَ الذي استشار النبي ، فإنه ربما يُشير عليه أهل العلم بشيءٍ أنفع مما يريد الوقف عليه.
وعليه أن يُرتِّب أمر النِّظَارة، فيقول: الناظِر بعد وفاته فلانٌ، ومن بعده فلانٌ، ومن بعده فلانٌ، وهكذا. والأحسن أن يجعل أُجرةً لهذا الناظِر حتى يتشجع على العناية بالوقف وعلى حِفظه، فيطول أمد هذا الوقف، وكلما انتفع بهذا الوقف جرى ثوابُه لصاحبه.
وهناك الآن أوقافٌ لها مئات السنين تُدِرُّ على أصحابها حسناتٍ وهم في قبورهم، وهذا من التوفيق الذي يُوفِّق الله تعالى له بعض الناس، أناسٌ ماتوا من مئات السنين، ومع ذلك لا زالت هذه الأوقاف تُدِرُّ عليهم حسناتٍ وأجورًا عظيمةً، والمُوفَّق من وفَّقه الله.
علمٌ يُنتفَع به
الأمر الثاني: قال: أو عِلمٍ يُنتفَع به، فالعالِم الذي يُخلِّف كُتبًا يُنتفَع بها؛ يجري له أجرُها وثوابُها بعد مماته، أو يُخَلِّف طلبةً وتلاميذَ. ومثل ذلك أيضًا: مَنْ أعان على نشر العِلم، بطباعةٍ أو دعمٍ أو نحو ذلك، فهؤلاء أيضًا يجري لهم ثواب هذه الأعمال بعد مماتهم.
الولد الصالح
الأمر الثالث: قال: أو ولدٍ صالحٍ يدعو له، فدلَّ هذا على أن الدعاء للميت ينفعه، والله تعالى قد أمر بالدعاء للوالدين، فقال: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24]، وهذا يشمل الدعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما، فالدعاء لهما من أعظم البِرِّ.
ولماذا وصف الولد بالصالح؟
وصفه بالصالح:
- أولًا: لأن الولد الصالح هو الذي يهتم بالدعاء لوالديه، بخلاف غير الصالح؛ فإنه سُرْعان ما ينسى والديه.
- والأمر الثاني: أن دعاء الولد الصالح أَرْجَى للقبول والإجابة، فعلينا جميعًا أن ندعوَ لوالدينا أحياءً وأمواتًا، فإن هذا من أعظم البِرِّ بهما.
اترك أثرًا قبل الرحيل
هذه -أيها الإخوة- هي الأعمال التي يجري ثوابُها ونفعُها للإنسان بعد مماته. واطرح -يا أخي- على نفسك هذا السؤال: إذا مِتُّ، فما هي الآثار التي خَلَّفتُها؟ ما هي الآثار الحسنة التي خَلَّفتُها؟ وما هي الأعمال التي يجري لي ثوابُها بعد مماتي؟
اطرح على نفسك هذا السؤال، واحرص على أن تكون لك أعمالٌ حسنةٌ وآثارٌ يجري نفعها لك بعد مماتك؛ حتى تُدِرَّ عليك حسناتٍ وأنت في قبرك، فتغتبط بهذه الآثار.
ونجد -أيها الإخوة- في الواقع أثرياءَ يموتون ولا يُخلِّفون آثارًا؛ لا صدقاتٍ، ولا أوقافًا، ولا أيَّ شيءٍ، وربما ينساهم وَرَثتُهم، فلا يجعلون لهم شيئًا من هذا، وهذا من قلة التوفيق؛ ولهذا لا يعتمد الإنسان على ما سيفعله له أولاده أو أهله بعد مماته، بل ما دام حيًّا يحرص على أن يجعل له آثارًا حسنةً يجري له أجرُها وثوابُها بعد مماته، بأن يجعل له صدقةً جاريةً، ويجعل له ما ينفعه بعد مماته من الآثار الحسنة. فينبغي -أيها الإخوة- أن نحرص على هذا؛ على أن نُوجِد آثارًا حسنةً تبقى لنا بعد مماتنا.
وينبغي المبادرة لذلك؛ فإن بعض الناس يرغب في هذه الأمور، ويرغب في أن تكون له آثارٌ حسنةٌ، وأن يجعل له صدقةً جاريةً، لكنه يُسَوِّف ويُسَوِّف، ويظن أن العمر سيطول ويمتد به، فإذا به قد بَغَتَه الموت فجأةً، وحينئذٍ ندم حين لا ينفع الندم.
ولهذا قال النبي : ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يُريد أن يُوصي فيه، يبيت ليلتين، إلا ووصيته مكتوبةٌ عنده [5]، قال ابن عمر رضي الله عنهما: "ما تركت كتابة وصيتي منذ سمعتُ هذا من رسول الله "[6].
فلْيَحْرِص المسلم -إِذَنْ- على أن يُبادِر إذا كان يريد أن يُوقِفَ وقفًا، أو يُوصي وصيةً، أو يجعل له آثارًا حسنةً تبقى له بعد مماته، أن يُبادِر بذلك، وألا يُسوِّف، وألا يتأخَّر في هذا؛ فإنه ربما لو تأخَّر بَغَتَهُ الموتُ، ولم يستطع حينئذٍ أن يجعل له آثارًا حسنةً تبقى له بعد مماته، والمُوفَّق من وفَّقه الله .
ونجد -أيها الإخوة- الفرق بين اثنين: رَجلٍ ثريٍّ لكنه لم يجعل له آثارًا حسنةً، ورَجلٍ ليس بثريٍّ وعنده أموالٌ ليست كثيرةً، لكن الله وفَّقه لكي يجعل له آثارًا حسنةً، فهذا الثريُّ إذا مات انقطعت أعماله كلها، وهذه الثروة كلها ذهبت، وذاك الإنسان غير الثري ولكنه وُفِّقَ لجعل وَقْفٍ وصدقةٍ جاريةٍ، نجد أن ثواب هذه الصدقة الجارية وهذا الوقف يُدِرُّ عليه حسناتٍ وهو في قبره، وهذا من التوفيق الذي يُوفِّق الله تعالى له بعض الناس.
أسأل الله تعالى أن يستعملني وإياكم في طاعته، وأن يُوفِّقنا لما يُحبُّ ويرضى من الأقوال والأعمال، وأن يُعيننا على ذِكره وشُكره وطاعته وحُسن عبادته، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.