الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فنقف وقفاتٍ مع أعظم آيةٍ في القرآن العظيم؛ فما أعظم آيةٍ في كتاب الله ؟
توحيد الله في آية الكرسي
أعظم آيةٍ في القرآن الكريم: هي آية الكرسيِّ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ... [البقرة:255]، كما أخبر بذلك النبي .
هذه الآية العظيمة تضمَّنت الثناء على الله وتمجيده وتعظيمه، ابتدأها ربنا بقوله: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، ابتدأها بوحدانيته: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، والتوحيد هو الذي لأجله أُرسِلت الرُّسل وأُنزلِت الكُتب، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].
وقد كانت الأمم السابقة لا تُنكِر وجود الله ، بل تُقِرُّ بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المُدبِّر لهذا الكون، ولكن كان عندها انحرافٌ في العقيدة وخللٌ في التوحيد؛ فاتخذوا أصنامًا زعموا أنها أصنامُ قومٍ صالحين، وقالوا: نريد أن تُقرِّبنا إلى الله زُلْفَى؛ فأرسل الله تعالى الرُّسل وأنزل الكُتب لأجل تحقيق التوحيد، وإخلاص الدِّين لله ، ونَبْذ عبادة الشرك واتخاذ الأولياء من دون الله .
وإلا فالبشر مفطورون على معرفة الله ، فإن الإنسان لم يَخلُق نفسه؛ لأنه لو خَلَقَ نفسه لاختار وجهًا غير هذا الوجه، وعينين غير هاتين العينين، وأنفًا غير هذا الأنف؛ فهو لم يَخلُق نفسه، ولا يُعقَل أنه خُلِقَ من غير شيءٍ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35].
إذن؛ لا بُدَّ أن يكون هناك خالقٌ مُدبِّرٌ لهذا الكون، خَلَقَ الإنسان وخَلَقَ كل شيءٍ؛ أين هو هذا الخالق؟
يلتفت الإنسان يمينًا وشمالًا، فيجد بَشَرًا مثله، ويجد جماداتٍ وحيواناتٍ ونباتاتٍ؛ فكيف يهب العقلَ مَن لا عقلَ له؟! لا بُدَّ أن يكون هناك إلهٌ عظيمٌ مُدبِّرٌ لهذا الكون فوق هذه المخلوقات كلها، ولا بُدَّ أن يُخبِر عن نفسه فيقول: أنا الخالق. فهل هناك أحدٌ غير الله تعالى أخبر وقال: أنا الذي خلقتكم، وأنا الذي خلقت السموات والأرض؟ أبدًا، لم يَدَّعِ خَلْقَ السماوات والأرض أحدٌ غير الله ، الله تعالى هو الذي خَلَقَ السماوات والأرض، لكن غير الله تعالى لم يجرؤ أحدٌ على ادِّعاء الخلق؛ لأنه لو ادَّعى الخلق لقيل له: اخلُق لنا؛ فتَعيَّن -إِذَنْ- أن الله هو الخالق.
وهو أيضًا الذي لا إله إلا هو؛ لأنه لو كان هناك إلهٌ مع الله، فأين هو؟ وهو يرى أن الله يقول: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، إن كان لا يعلم بذلك فهو لا يستحقُّ أن يكون إلهًا، وإن كان يعلم وهو عاجزٌ فلا يستحقُّ أن يكون إلهًا كذلك؛ فتَعيَّن أن لا إله إلا الله.
انظر إلى هذا الدليل العقلي الفطري البسيط، والأدلة على وحدانية الله تعالى عظيمةٌ وكثيرةٌ.
وفي كُلِّ شيءٍ له آيةٌ | تدلُّ على أنه واحدُ |
صفات الكمال في آية الكرسي
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، الْحَيُّ الْقَيُّومُ قيل: إنه اسمُ الله الأعظم، الذي إذا سُئِلَ به أجاب، وإذا دُعِيَ به أعطى؛ فإن الْحَيُّ: يتضمن الحياة الكاملة التي لم تُسبَق بعدمٍ ولا يلحقها فناءٌ، والْقَيُّومُ معناه: القائم بنفسه، فاستغنى عن غيره جلَّ وعلا، والقائم على كل شيءٍ، فكل شيءٍ مُفتقِرٌ إليه جلَّ وعلا، كل شيءٍ مُفتقِرٌ إلى الله ، والله غنيٌّ عن غيره، وهو القائم بنفسه والقائم عليه غيرُه، فهو القيُّوم.
لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [البقرة:255]؛ لكمال قدرته وعلمه، وإحاطته بخلقه، وأنه لا يغفل عنهم ولو لحظةً؛ فلا تأخذه سِنَةٌ ولا نومٌ. والسِّنَةُ: هي النُّعاس، والنومُ: النوم المعروف، والنوم إنما يعتري بني آدم؛ لنقصهم، وإلا فإن الله مُنَزَّهٌ عن النقص، فهو لا تأخذه سِنَةٌ ولا نومٌ؛ لكمال قيُّوميَّته جلَّ وعلا.
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [البقرة:255]، كل شيءٍ مِلْكٌ لله سبحانه، وكل الخلق عبيدٌ لله مقهورون مَرْبُوبُون، لا يستطيع أحدٌ من دون الله تعالى أن يملك نفعًا أو ضَرًّا أو حياةً أو موتًا أو نشورًا، الأمور كلها بيد الله ، فالمُلْكُ مُلْكُه، والحُكْمُ حُكْمُه جلَّ وعلا، وإنما أَمْرُه إذا أراد شيئًا أن يقول له: كُن، فيكون.
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]؛ لكمال عظمته لا يجرؤ أحدٌ على الشفاعة، إلا إذا أَذِنَ له، ولا يأذن الله تعالى بالشفاعة إلا لمن رَضِيَ عنه.
فالشفاعة -إِذَنْ- يُشترَط لها شرطان:
- إِذْنُ الله للشافع.
- ورضا الله عن المشفوع.
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [البقرة:255]، عِلْمُ الله سبحانه مُحيطٌ بكل شيءٍ، فهو يعلم ما بين أيديهم من الأمور المُستقبَلة، وما خلفهم من الأمور الماضية، فلا يحجزه زمانٌ ولا مكانٌ جلَّ وعلا؛ لكمال عظمته وقُدرته وسَعة عِلمه .
وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255]، لا يستطيع غير الله أن يُحيط بشيءٍ من علم الله إلا بما شاء جلَّ وعلا؛ ولذلك لمَّا ذهب موسى إلى الخضر عليهما السلام وجلس عند البحر، أتى عُصفورٌ فنَقَرَ في البحر نَقْرةً، فقال الخضر لموسى عليهما السلام: "يا موسى، ما علمي وعلمك بالنسبة لعلم الله إلا كنقرةِ هذا العصفور في البحر [1]، فالله تعالى أحاط بكل شيءٍ علمًا جلَّ وعلا، ولا أحد يستطيع أن يُحيط علمًا بشيءٍ من علم الله إلا بما شاء.
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [البقرة:255]، والكرسيُّ: هو موضع قدمَيِ الربِّ ، كما قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما. فوُسع السماوات والأرض -على عظمتها واتساعها- بالنسبة للكرسيِّ كحبةِ رملٍ في صحراءَ شاسعةٍ، والكرسيُّ بالنسبة للعرش كحبةِ رملٍ في صحراءَ شاسعةٍ، سبحان الله العظيم!
أخرج أبو داودَ، بسندٍ جيدٍ، أن النبي قال: أُذِن لي أن أُحدِّث عن مَلَكٍ من ملائكة الله من حَمَلة العرش، إن ما بين شَحْمةِ أُذُنِه إلى عاتِقِه مسيرة سبعمائة عامٍ [2]. فإذا كانت هذه عَظَمةُ مخلوقٍ؛ فكيف بعَظَمةِ الخالق؟! ولذلك هذه الأرض التي نعيش عليها ما هي إلا كوكبٌ صغيرٌ جدًّا في ملكوت الله سبحانه.
السماوات والأرض كلها -على اتساعها وعظمتها- بالنسبة للكرسيِّ تُعتَبر شيئًا صغيرًا، كأنها حبة رملٍ في صحراءَ، والكرسيُّ -على عظمته واتساعه- بالنسبة للعرش كحبةِ رملٍ في صحراءَ؛ فلله تعالى من العظمة شيءٌ عظيمٌ لا يخطر بالبال.
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا [البقرة:255]؛ أي: لا يُثْقِله حفظُهما، فإن هذه المخلوقات العظيمة تحتاج إلى حفظٍ، وتحتاج إلى تنظيمٍ لسَيْرها وحركتها، ونحن نرى الدقة المتناهية في حركة هذا الكون وفي سَيْر الكواكب؛ فهل رأيتم يومًا من الأيام أن الشمس تأخَّر وقت شروقها أو تأخَّر وقت غروبها؟ أو حصل خللٌ في الكواكب أو في القمر أو...؟ أبدًا، صُنع الله الذي أتقن كل شيءٍ جلَّ وعلا.
وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255]، فهو سبحانه له العلو بجميع أنواعه: علو الذات، وعلو القَدْر، وعلو القهر، وهو العظيم الذي لا أعظم منه جلَّ وعلا.
آية الكرسي حرزٌ من الشيطان
هذه الآية -أيها الإخوة- جاء في "الصحيح"، عن أبي هريرة ، أن النبي وكَّله بحفظ أموال الصدقة، فوجد من هو على صورة رَجُلٍ يسرق منها، فأراد أن يُمسِك به، فادَّعى فقرًا وحاجةً وعيالًا، فتركه، فقال له النبي : يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟، قال: إنه ادَّعى فقرًا وحاجةً وعيالًا، فتركتُه، قال: أما إنه قد كَذَبَك وسيعود، فجعل أبو هريرة يترقب عودته؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أخبره بأنه سيعود، وبالفعل عاد الليلة الثانية، فأراد أن يُمسك به قال: فادَّعى فقرًا وحاجةً وعيالًا، فتركه، فقال له النبي : ما فعل أسيرك البارحة؟، قال: يا رسول الله، إنه ادَّعى فقرًا وحاجةً وعيالًا، فتركتُه، قال: أما إنه قد كَذَبَك وسيعود، فلمَّا كان في المرة الثالثة أمسك به أبو هريرة ، فادَّعى فقرًا وحاجةً وعيالًا، فقال: لا، هذه آخر ثلاث مراتٍ أنك تزعم لا تعود، ثم تعود، لأرفعنَّك إلى رسول الله ، فقال هذا: دعني أُعلِّمك كلماتٍ ينفعك الله بها -كان الصحابة عندهم حرصٌ عظيمٌ على الخير، وكانت محبة العلم أعظم من محبة المال بالنسبة لهم، وذاك يعرف هذا الشيء- فقال: ما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ... [البقرة:255]، فإنك لن يزال عليك من الله حافظٌ، ولا يقربك شيطانٌ حتى تُصبح؛ فخلَّيتُ سبيله. فذهب أبو هريرة للنبي فأخبره، فقال: أما إنه قد صَدَقَك وهو كذوبٌ، أتعلمُ من تُخاطِب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة؟ قال: لا، قال: ذاك شيطانٌ [3].
سبحان الله! وأقرَّه النبي عليه الصلاة والسلام على هذه الكلمات، وهذا يدلُّ على قَبول الحكمة ممن أتى بها ولو كان شيطانًا، فإن الحقَّ ضالَّةُ المؤمن.
فآية الكرسي إذا قرأها الإنسان قبل النوم تحفظ صاحبها حتى يُصبح، وأيضًا تُشرَع قراءتها دُبُر كل صلاةٍ، بعد كل صلاةٍ، وقد قال النبي : مَن قرأ آية الكرسيِّ في دُبُرِ كل صلاةٍ مكتوبةٍ، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت [4].
أسأل الله تعالى أن يستعملنا جميعًا في طاعته، وأن يُوفِّقنا لما يحب ويرضى من الأقوال والأعمال، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.