logo

قصة وعبرة

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

قصة الأبرص والأقرع والأعمى

أما بعد:

فقد جاء في "الصحيحين"، عن أبي هريرة ، أن النبي قال: إن ثلاثةً من بني إسرائيل: أبرصَ، وأقرعَ، وأعمى، أراد الله أن يبتليَهم، فأرسل إليهم مَلَكًا، فأتى الأبرصَ، فقال: أيُّ شيءٍ أحب إليك؟ قال: لونٌ حسنٌ، وجِلدٌ حسنٌ، ويُذهب عني الذي قد قَذَرَني الناس، فمسح عليه، وأُعطِي لونًا حسنًا وجِلدًا حسنًا، قال: فأيُّ المال أحب إليك؟ قال: الإبل، فأُعطِي ناقة عُشَراء. ثم أتى الأقرعَ فقال: أيُّ شيءٍ أحب إليك؟ قال: شَعرٌ حسنٌ، ويُذهب عني الذي قد قَذَرَني الناس، فمسح عليه، وأُعطي شَعرًا حسنًا، قال: أيُّ المال أحب إليك؟ قال: البقر، فأُعطي بقرةً حاملًا. ثم إنه أتى الأعمى، فقال: أيُّ شيءٍ أحب إليك؟ قال: أن يرُدَّ الله إليَّ بصري فأُبصِر به الناس، فمسح عليه، فرَدَّ الله عليه بصرَه، قال: أيُّ المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأُعطي شاةً حاملًا، فأُنْتِجَ هذان وولَّد هذا، فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم. ثم إنه أتى الأبرصَ في صورته وهيئته فقال: رجلٌ مسكينٌ تقطعت بي الحبال في السفر، فلا بلاغ لي إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن وهذا المال، بعيرًا أتبلَّغُ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرةٌ، فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يَقْذَرُك الناس، فقيرًا فأعطاك الله؟ قال: إنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابرٍ، قال: إن كنت كاذبًا، فصيَّرك الله إلى ما كنتَ. ثم ذهب إلى الأقرع في صورته وهيئته، قال: إني قد انقطعت بي الحبال في السفر، فلا بلاغ لي إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك هذا الشَّعر الحسن وأعطاك هذه الأموال بقرةً أتبلَّغُ بها في سفري، قال: الحقوق كثيرةٌ -يعني: المتطلبات والنفقات كثيرةٌ، ما أستطيع أعطيك شيئًا- قال: كأني أعرفك، ألم تكن أقرعَ يَقْذَرُك الناس، فقيرًا فأعطاك الله؟ قال: إنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابرٍ، قال: إن كنت كاذبًا فصيَّرك الله إلى ما كنتَ. ثم إنه أتى الأعمى في صورته وهيئته، قال: إني قد انقطعت بي الحبال في السفر، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رَدَّ عليك بصرَك، شاةً أتبلَّغُ بها في سفري، قال: قد كنتُ أعمى فرَدَّ الله عليَّ بصري، وكنت فقيرًا فأغناني الله، فخُذْ ما شئتَ، فوالله لا أَجْهَدُك اليوم بشيءٍ أخذتَه لله، قال: أَمْسِك عليك مالك، فإنما ابتُليتم، فقد رضي الله عنك وسَخِطَ على صاحبيك [1].

فتنة الغنى

هذه القصة -أيها الإخوة- قصَّها علينا رسول الله ؛ لأجل أن نَعتبر بها وأن نستفيد منها. انظروا إلى هؤلاء الثلاثة: ابتُلوا أولًا بالفقر، وابتُلوا بهذه العاهات؛ أحدهم بأنه كان أبرصَ، والآخر أقرعَ، والثالث أعمى، وكانوا في هذا الابتلاء قد نجحوا، نجحوا في هذا الابتلاء، وصبروا؛ لكن لمَّا ابتُلوا بفتنة الغنى ما نجح إلا الأعمى فقط، أما الأقرع والأبرص فلم ينجحا في فتنة الغنى، مع أنهما صبرا في فتنة الفقر، لكن لما أتت فتنة الغنى لم يصبرا.

وهذا يدل على أن الصبر على فتنة الغنى أشدُّ من الصبر على فتنة الفقر؛ لأن النفس البشرية بطبيعتها تطغى إلا من شاء الله: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6 ،7]؛ ولهذا رُوِيَ عن عبدالرحمن بن عوفٍ قال: "ابتُلينا على عهد رسول الله بالضراء فصبرنا، ثم ابتُلينا بالسراء فلم نصبر". قال هذا على سبيل التواضع، وإلا هم قد صبروا ، وهم خير القرون وأفضل القرون.

ففتنة الغنى -أيها الإخوة- خطرها عظيمٌ، فالإنسان إذا أنعم الله تعالى عليه بالنعم، فعليه أن يحمد الله تعالى وأن يشكره عليها، وأن يتذكَّر ما كان عليه من قبلُ، يتذكَّر ما كان عليه من قبلُ: من الفقر، ومن الشدة، ومن غير ذلك مما كان عليه. الناس في هذه البلاد كانوا من قبلُ في حالةٍ شديدةٍ من البؤس ومن الفقر، ومن قلة الأمن أيضًا، فأنعم الله تعالى عليهم بهذه النعم العظيمة، فأصبحنا في هذا البلد في بلدٍ آمِنٍ مُستقرٍّ يأتيه رزقه رَغَدًا من كل مكانٍ، فينبغي أن نستحضر نعم الله تعالى علينا، وأن نشكره على هذه النعم ونحمده عليها.

فوائد من القصة

أيها الإخوة، ومن فوائد هذه القصة: بيان فضل الصدقة، وأن الصدقة شأنها عظيمٌ، وتدفع البلاء عن الإنسان، وهي سببٌ أيضًا لاستقرار النعم بل لزيادتها؛ لأنها نوعٌ من الشكر، ونوعٌ من الإحسان، والله يحب المحسنين.

احرص -يا أخي المسلم- على البذل والإنفاق في سبيل الله ما  استطعت إلى ذلك سبيلًا. كان أحد السلف الصالح لا يَمُرُّ عليه يومٌ إلا تَصدَّق فيه لله بصدقةٍ، وذات يومٍ لم يجد ما يَتصدَّق به، فذهب يبحث في بيته لم يجد إلا بصلًا، فأخذه يريد أن يَتصدَّق به، فلقيه أحد الناس قال: رحمك الله، لم يُكلِّفك الله بهذا! قال: لا، إني أردت ألا يَمُرَّ عليَّ يومٌ إلا تَصدَّقت فيه لله بصدقةٍ، إنه بلغني عن رسول الله  أنه قال: كل امرئٍ في ظِلِّ صَدَقتِه حتى يُفصَل بين الناس، فأردت ألا يَمُرَّ عليَّ يومٌ إلا تَصدَّقت فيه لله بصدقةٍ [2].

فاحرص -يا أخي المسلم- على البذل والإنفاق، وعلى الصدقة في سبيل الله ​​​​​​​؛ فإن أجرها عظيمٌ وثوابها جزيلٌ، والجزاء من جنس العمل. إذا أحسنت إلى هذا الفقير؛ أحسن الله إليك، ودفع عنك من الشرور والبلايا أمورًا من حيث لا تحتسب.

أيضًا من فوائد هذه القصة: أنه ينبغي الإحسان للفقراء والمساكين، والتلطُّف بهم وعدم نهرهم؛ فإن كنت تستطيع مساعدة هذا الفقير فساعده، إن كنت لا تستطيع دُلَّه على مَن يُساعده، وإن كنتَ لا تستطيع لا هذا ولا ذاك فقُلْ له قولًا معروفًا، تَلطَّفْ معه في العبارة. وأما نهر الفقير ونهر السائل والنظر إليه بنظرة احتقارٍ وازدراءٍ؛ فهذه ليست من أخلاق المؤمنين، والله تعالى يقول: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [الضحى:10]، فلا يجوز نهر السائل، ولا يجوز نهر الفقير وازدراء الفقراء والمساكين.

ذكروا في ترجمة الإمام أحمد رحمه الله: أنه لم يكن الفقراء والمساكين في مجلسٍ أعزَّ منهم في مجلس الإمام أحمد[3].

فينبغي الرحمة بالفقراء والمساكين، يبقى أن هذا هو أخوك المسلم، قد ابتُلي بهذا الفقر وبهذه المسكنة، فانظروا في هذه القصة: كيف أن هذا الأبرص والأقرع تعاملا مع هذا المَلَك الذي ظهر على صورة فقيرٍ بازدراءٍ، وتعاملا معه باحتقارٍ، ولم يُعطياه شيئًا، بينما هذا الأعمى تعامل معه بلُطفٍ وقال: خُذ ما شئتَ، فوالله لا أَجْهَدُك اليوم بشيءٍ أخذتَه لله [4]، فانظر: ماذا كانت العاقبة؟ رَضِيَ الله تعالى عن هذا الأعمى، وسَخِطَ على صاحبيه.

وهكذا ينبغي -أيها الإخوة- التلطُّف مع الفقراء والمساكين والإحسان إليهم وعدم احتقارهم. بعض الناس غير مُوفَّقٍ، تجد أنه يبخل ويأمر الناس بالبخل، يعني: لا يكتفي هو بالبخل؛ بل يأمر الناس بالبخل وعدم الصدقة على الفقراء والمساكين، وربما شكَّكهم في هؤلاء الفقراء وأنهم محتالون وأنهم كذا. نعم، المحتال الكذاب هذا لا يُعطَى، بل يُرفَع أمره للجهات المختصة، لكن الكلام في هذا الفقير المستحق، إذا كنت لن تُعطيه فلا تُثبِّط من هِمم الآخرين، دع الآخرين يدفعون ويبذلون وينفقون في سبيل الله ، وليس لهم إلا الظاهر، وهم مأجورون على كل حالٍ.

فينبغي إذن -أيها الإخوة- الحرص على هذا المعنى؛ على اللُّطْف بالفقير والمسكين، وأيضًا على أننا عندما نُعطيه أن نُعطيَه بإكرامٍ واحترامٍ وعدم مِنَّةٍ وأذًى.

وفَّق الله الجميع لما يحب ويرضى، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمد.

^1 رواه البخاري: 3464، ومسلم: 2964.
^2 رواه أحمد: 17333.
^3 مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي: (ص 298).
^4 سبق تخريجه.
مواد ذات صلة
  • وقفات مع قصة موسى عليه السلام

    الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد:...

  • فضل الصبر

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتبع...

zh