logo
الرئيسية/كلمات قصيرة/وقفات مع وداع عام واستقبال عام جديد

وقفات مع وداع عام واستقبال عام جديد

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

عام مضى .. وقفة محاسبة

فقد ودَّعنا قبل يومين عامًا هجريًّا، هو عام (1444) للهجرة، مضى هذا العام من أعمارنا، نقص به العمر، واقترب به الأجل. وكل يومٍ يمضي من حياة الإنسان فإنه يُقرِّبه من الآخرة، ويُبعده عن الدنيا، يُقرِّبه من نقطة التوقف للقاء الله سبحانه. فإن الإنسان في هذه الحياة يكدح ويكدح، ثم لا بُدَّ من أن يقف هذا الكدح للقاء الله ، كما قال ربنا سبحانه: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق:6].

وهذه الأيام والليالي مراحلُ نقطعها إلى الدار الآخرة، كما قال الحسن البصري: "يا ابن آدم، إنما أنت أيامٌ، كلما ذهب يومٌ ذهب بعضُك[1]؛ "يا ابن آدم، الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما"[2].

وكان عمر إذا غربت شمسُ يومٍ ضَرَبَ قدمَيْه بالدِّرَّة، وقال: "يا نفسُ، هذا يومٌ غربت شمسُه اقترب به أجلي"[3]، وكان يُحاسب نفسه على ذلك. ونُقِل نحو هذا عن ابن مسعودٍ[4] وعن الصحابة والسلف الصالح: أنهم كانوا يُعْنَوْن بجانب محاسبة النفس، خاصةً مع تجدُّد المواسم وتغيُّر الأحوال، فكانوا يُحاسِبون أنفسهم عند غروب شمس كل يومٍ، وكذلك أيضًا عند تجدُّد المواسم.

فانسلاخ عامٍ من حياة الإنسان ينبغي أن يقف الإنسان معه وقفةً صادقةً مع نفسه، وأن يُحاسب نفسه، وينظر ماذا قدَّم لغدٍ، كما قال ربنا سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]. وانظر كيف أن الله وصف يوم القيامة بالغد، يعني: الغد إشارةً إلى قُربه الشديد، وهذا يدل على أن الساعة قريبةٌ من الإنسان جدًّا، كما قال سبحانه: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1]، واقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1].

ومَن مات فقد قامت قيامته، والإنسان لا يدري عن الأجل الذي كُتِب له؛ فقد يُصبح ولم يخطر بباله الموت ولو بنسبة (1%)، ويُمسي في عداد الأموات، كم مِن إنسانٍ خرج من بيته صحيحًا معافًى لا يشكو من مرضٍ ولا من علةٍ، ثم بعد ذلك إذا به يُصاب في حادث سيارةٍ، أو تأتيه سكتةٌ قلبيةٌ، أو نحو ذلك؛ ففي لحظاتٍ ينتقل من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، ويُصبح في عداد الأموات! والسعيد من وُعِظَ بغيره، والشقي من اتَّعَظَ به غيرُه.

فينبغي -أيها الإخوة- أن نعتبر بسرعة مرور هذا العام، على سرعة تصرُّم العمر، وأن ينطلق الإنسان من الأمنيات والتمنِّي والتسويف إلى العمل والتطبيق، فإن بعض الناس يعيش في بحر الأمنيات، يتمنى ويتمنى ويتمنى أنه سيعمل صالحًا، وأنه في المستقبل سيفعل كذا، ويمضي العمر وهو ما فعل شيئًا، يتصرَّم العمر وهو لم يفعل شيئًا، حتى يبغته الموت وهو على تلك الحال!

التخطيط للاستفادة من الوقت

ولهذا -أيها الإخوة- مع بداية هذا العام الهجري الجديد (1445) للهجرة، ينبغي أن يُشارِط المسلم نَفْسَه، هذه يُسمِّيها السلف "المُشارَطة"، وتُسمَّى بلغة العصر "التخطيط"؛ يُخطِّط لوقته بحيث يستفيد وينتفع بوقته فيما ينفعه بعد مماته، يحافظ أولًا على الفرائض، ويستكثر من النوافل، ويجتنب الموبقات وكبائر الذنوب والمعاصي عمومًا، لكن الكبائر والموبقات هذه هي أشدُّ ما تكون، وكما قال سبحانه: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31].

وينبغي أيضًا أن يجعل له أعمالًا صالحةً، بعد المحافظة على الفرائض؛ يجعل له أعمالًا صالحةً من نوافلَ يداوم ويحافظ عليها، فإن أحبَّ العمل إلى الله أدومه وإن قلَّ، فلو جعلتَ لك نوافلَ تُداوم عليها كل يومٍ؛ فإنك تستفيد بهذا فوائدَ عظيمةً:

  • الفائدة الأولى: أن هذا العمل الذي تُداوم عليه هو أحبُّ العمل إلى الله ، فكون الإنسان يعمل عملًا قليلًا يستمر عليه؛ أحسن من أن يعمل عملًا كثيرًا ثم ينقطع.
  • الفائدة الثانية: أن هذا العمل القليل مع الاستمرار عليه يكون كثيرًا، فالقليل مع القليل يكون كثيرًا. وأضرب لهذا مثالًا: لو أنك كل يومٍ تُصلِّي ركعتَي الضحى؛ فمعنى ذلك: أنك مع نهاية العام تكون قد صلَّيتَ أكثر من سبعمائة ركعةٍ، عندما ترى هذا الرقم تقول: كيف أُصلِّي سبعمائة ركعةٍ؟! إذا حافظت، فقط صلَّيتَ ركعتَي الضحى، لا تأخذ منك دقيقةً أو دقيقتين في اليوم؛ تكون مع نهاية العام قد صلَّيتَ أكثر من سبعمائة ركعةٍ، وهكذا بالنسبة لبقية الأعمال الصالحة، فالقليل مع القليل يكون كثيرًا.
  • الفائدة الثالثة -وهذه ربما يغفل عنها كثيرٌ من الناس-: أن المداوم على العمل الصالح إذا عَرَضَ له عارِضٌ، من مرضٍ أو سفرٍ أو غير ذلك؛ يُكتب له الأجر كاملًا، كأنه عَمِلَ ذلك العمل، يقول النبي : إذا مَرِضَ العبد أو سافر؛ كُتِبَ له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا [5].

فمثلًا: هذا إنسانٌ يحافظ على قيام الليل، لكن في ليلةٍ من الليالي مَرِضَ، أو أنه سافرَ، أو مَرِضَ مثلًا أحدُ أفراد عائلته وانشغل به، يُكتب له الأجر كاملًا، يُكتب له أجر قيام الليل كاملًا، وهكذا بالنسبة لبقية الأعمال الصالحة. وأما من لم يكن محافظًا ومداومًا على العمل الصالح؛ فإنه لو عَرَضَ له عارِضٌ لا يُكتب له الأجر، إنما هذا يختص بمن كان مداومًا ومستمرًّا على عملٍ صالحٍ ثم عَرَضَ له عارِضٌ فأعاقه عن ذلك العمل؛ فيُكتب له الأجر كاملًا. إذا مَرِض العبد أو سافر؛ كُتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا [6]؛ ولذلك لما أتت جائحة "كورونا"، قيل للمحافظين على أعمالٍ صالحةٍ: أجوركم تامةٌ، ويجري لكم ثوابُها كما لو عملتموها، من الأشياء التي لم يستطيعوا أن يعملوها؛ مثل: صلاة الجماعة في المسجد، ونحو ذلك.

لكن هذا خاصٌّ بمن داوَمَ على تلك الأعمال الصالحة، فالمداومة على العمل الصالح -إذن- يستفيد المسلم منها هذه الفوائد العظيمة؛ ولذلك ينبغي لك -أخي المسلم- ونحن في ابتداء عامٍ هجريٍّ جديدٍ: أن تجتنب الكبائر، وأن تحافظ على الفرائض، وأن تحرص على أن تكون لك نوافلُ، لكن تستمر وتحافظ عليها، وبذلك تُحصِّل أعمالًا صالحةً كثيرةً مع هذه المداومة وهذا الاستمرار.

^1 الزهد لأحمد بن حنبل: (ص 225).
^2 يُنظر: ربيع الأبرار ونصوص الأخيار لجار الله الزمخشري: (3/ 461).
^3 يُنظر: إحياء علوم الدين: (4/ 404).
^4 يُنظر: مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار لعبدالعزيز السلمان: (3/ 29).
^5 رواه البخاري: 2996.
^6 سبق تخريجه.
مواد ذات صلة
  • وقفات مع قصة موسى عليه السلام

    الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد:...

  • فضل الصبر

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتبع...

zh