الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتبع سُنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
تعريف الإحسان
فقول الله تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] تكرَّرَ في القرآن الكريم في عدة مواضعَ. وأيُّ إنسانٍ يطمح إلى محبة الله، فإن محبة الله هي الشرف العظيم الذي لا أعظم منه، فإذا كان الرب العظيم -الخالق لهذا الكون- يُحب هذا المخلوق الضعيف المسكين؛ فإن هذه المنزلة الرفيعة -أن الله يحب الإنسان- تُعَدُّ من المنازل العُليا التي يستشرف لها أيُّ عاقلٍ، وهذه الآية تدل على أن مِن أسباب نيل محبة الله سبحانه: الإحسان، وأن يَكثُر الإحسانُ من الإنسان حتى يُوصَف بالمُحسِن، فإذا كان مُحسِنًا فإن الله يُحبه؛ فما الإحسان؟
الإحسان يكون في عبادة الله، ويكون في التعامل مع الخلق. أما الإحسان في عبادة الله تعالى: فلا نجد تعريفًا أحسن من تعريف النبي له، لمَّا سأله جبريل في الحديث الطويل، وقد تمثَّل جبريل بصورة رجلٍ شديدِ بياضِ الثياب، شديدِ سوادِ الشَّعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحدٌ من الصحابة ، وسأل النبيَّ عدةَ أسئلةٍ: سأله عن الإسلام، وعن الإيمان، وعن الإحسان، وعن الساعة وعن أشراطها؛ فكان من أسئلته أنه سأل: ما الإحسان؟ فقال النبي : الإحسان أن تعبدَ اللهَ كأنك تراه؛ فإنْ لم تكُن تراه، فإنه يراك [1].
هذه هي مرتبة الإحسان في العبودية: أن يعبدَ المسلمُ ربَّه وكأنه يرى الله سبحانه، كأنه يرى الله تعالى أمامه، يستحضر عظمة الله ، وأن الله تعالى أمامَه مُطَّلِعٌ عليه، لا تخفى عليه منه خافيةٌ، فيحرص على الإحسان في أداء العبادة والطاعة، والخشوع في الصلاة وغيرها من العبادات، ويكُف عن المعاصي؛ لأنه يعبد الله كأنه يرى الله .
قال : فإنْ لم تكُن تراه، فإنه يراك، يعني: إن لم تَصِل إلى هذه المرتبة: مرتبة الطلب والرجاء، فتنتقل إلى مرتبة الخوف والهرب؛ فكأن الله يراك، فتستحضر أن الله مُطَّلِعٌ عليك، ولا تقع في المعاصي، وتحرص على إتقان العبادة وإحسانها؛ فهذه هي مرتبة الإحسان في عبادة الله ، وهي من أفضل منازل العبودية.
قصة تدل على فضل الإحسان
وأما الإحسان إلى الخلق: فيكون بإسداء المعروف بما يستطيع الإنسان مع جميع الناس، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، لكنه يتأكد في حق الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام ونحوهم، فيتأكد الإحسان إلى هؤلاء، فإن الإحسان إليهم فيه أجرٌ عظيمٌ وثوابٌ جزيلٌ.
وأكتفي بذِكر قصةٍ وَقَعَتْ في عهد النبي تُبيِّن لنا عظيم منزلة الإحسان؛ إذ جاء في "صحيح مسلمٍ"، عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: جاءتني امرأةٌ مسكينةٌ تستطعمني ومعها ابنتان، فأعطيتُها ثلاث تمراتٍ، فأعطت كل واحدةٍ من ابنتيها تمرةً، ورفعتْ التمرة الثالثة لتأكلها فاستطعمتْها ابنتاها، فأخذتْ هذه التمرة وشقَّتها بين ابنتيها نصفين، وأعطت كل واحدةٍ من ابنتيها نصفَ تمرةٍ، ولم تأكل شيئًا، فأعجبني شأنها، فذكرتُ ذلك للنبي فقال عليه الصلاة والسلام: إنَّ الله قد أوجبَ لها بها الجنة [2]. سبحان الله! أوجب الله لها بها الجنة؛ لأجل تمرةٍ شقَّتها بين ابنتيها نصفين، وأعطت كل واحدةٍ من ابنتيها نصف تمرةٍ!
فهذا يدل على عظيم فضل الإحسان وعظيم منزلته، وعظيم فضل مساعدة الفقراء والمساكين والإحسان إليهم؛ فهذه المرأة أحسنت إلى ابنتيها بتمرةٍ، تمرةٍ واحدةٍ، ومع ذلك أوجب الله لها بها الجنة!
وهذا يدل على أن الإنسان لا يدري عن محالِّ محابِّ الله ومرضاته، فقد تعمل عملًا صالحًا تراه يسيرًا، لكنه يقع عند الله تعالى عظيمًا؛ وإلا فهل كان يخطر ببالِ هذه المرأة أنها بهذا الفعل اليسير -تأخذ تمرةً وتَقْسِمها بين ابنتيها- يوجب الله لها به الجنة؟!
وهذا يدل أيضًا على أن المسلم ينبغي أن يحرص على الطاعات، ولا يستقلَّ منها شيئًا، فلا تدري: رُبَّ عملٍ يسيرٍ تستقلُّه؛ يقع عند الله تعالى موقعًا عظيمًا. فإذا كانت هذه المرأة لمَّا أحسنت إلى ابنتيها، أوجب الله لها به الجنة؛ فكيف بالإحسان إلى غيرهم من الفقراء والأرامل والمساكين واليتامى؟!
الصدقة نوعٌ من الإحسان
فينبغي أن يحرص المسلم على الإحسان إليهم بكل ما يستطيع، وأن يكون باذلًا مِعطاءً حريصًا على الصدقة مُكثِرًا منها، فإن الصدقة لها شأنٌ عظيمٌ. فالصدقة نوعٌ من الإحسان، ولها فضلٌ عظيمٌ وثوابٌ جزيلٌ.
والصدقة نفقتها مخلوفةٌ، كما قال سبحانه: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، فهذا خبرٌ من الله بأن ما يُنفقه المسلم في سبيله يُخْلِفه الله تعالى، وأتى بهذه الجملة الاسمية التي فيها مزيدٌ من التأكيدات: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ جلَّ وعلا، فلا بُدَّ أن يقع الخُلْفُ قطعًا، لا بُدَّ أن الله يُخْلِف على المُتصدِّق قطعًا؛ لأن الله قال: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ، يُخْلِف هذه الصدقة على المُتصدِّق. وقد يكون هذا الإخلاف على المتصدق بزيادة ماله، وقد يكون بالبركة، وقد يكون بدفع البلاء عنه، وقد يكون بأمورٍ كثيرةٍ لا تخطر بالبال.
وهذا يدل على فضل الصدقة، وكما ذكر الإمام ابن القيم -رحمه الله- يقول: "إن أثر الصدقة في دفع البلاء أمرٌ قد جرَّبه جميع الناس، المؤمن والكافر، والبَرُّ والفاجر، يرون أثره عليهم"، أي: يرون الأثر العظيم للصدقة في دفع البلاء.
وهكذا أيضًا الإحسان لكل ما يستطيع الإنسانُ الإحسانَ إليه، حتى الإحسان للحيوان، فالإحسان للحيوان مأمورٌ به شرعًا؛ فقد جاء في "صحيح مسلمٍ"، من حديث أبي هريرة ، أن النبي قال: مَن قَتَل وَزَغًا في أول ضربةٍ كُتِبتْ له مئة حسنةٍ، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك [3].
والوَزَغُ: هو الذي يُسمَّى "البُرْص"، أو "الظَّاطور"، ويُسمَّى "الوَزَغ". مَن قتله في المرة الأولى كانت له مئة حسنةٍ؛ لأنه أحسن في قِتْلَته فلم يُعذِّبه، فإن قَتَلَه في المرة الثانية كان دون ذلك؛ لأنه أقل إحسانًا، وفي الثالثة دون ذلك؛ لأنه أقل إحسانًا. فإذا كان هذا يُكتَب له الأجر والثواب عند الإحسان في قِتْلةِ هذا الوزغ؛ فكيف بغيره؟! ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: إن الله كتب الإحسان على كل شيءٍ، فإذا قَتَلْتُم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذَبَحْتُم فأحسنوا الذِّبْحة، وليُحِدَّ أحدُكم شَفْرَتَه، وليُرِحْ ذبيحتَه [4].
فهذا الوصف -وصف المُحسِن- ينبغي أن يحرص عليه المسلم، وأن يحرص على أن تكون نَفْسُه باذلةً مِعطاءةً، يحرص كل يومٍ على أن يتصدَّق بما تجود به نَفْسُه، كلما وجد سبيل الصدقة تَصدَّق، ولو بمبلغٍ يسيرٍ.
وكما قال عليه الصلاة والسلام: ما من يومٍ يُصبح العباد فيه، إلا وينزل مَلَكانِ من السماء، يقول أحدُهما: اللهم أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقول الآخر: اللهم أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا [5]، فمن هذا الحديث استحبَّ بعض أهل العلم أن يتصدق المسلم كل يومٍ بصدقةٍ، ولو بريالٍ، ولو بمبلغٍ يسيرٍ؛ حتى يدخل في دعوة المَلَك بالخَلَف: اللهم أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وحتى أيضًا يَتَّصِفَ بصفة الإحسان، فينبغي أن يكون المسلم لديه هذا النَّفَس؛ نَفَسُ البذل والعطاء والإحسان، خاصةً للمحتاجين والفقراء والمساكين، فإذا أكثر من هذا البذل والعطاء اتَّصَفَ بوصف الإحسان، والله يُحب المحسنين؛ فيكون هذا سببًا لنيل محبة الله .