جدول المحتويات
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتبع سُنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
التسبيح من أجل العبادات
فالتسبيح عبادةٌ عظيمةٌ من أجَلِّ وأعظم العبادات، بل جاء في "صحيح مسلمٍ"، من حديث أبي ذَرٍّ ، أن النبي قال: أَحبُّ الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده [1]، وفي الحديث الآخر، يقول عليه الصلاة والسلام: أَحبُّ الكلام إلى الله أربعٌ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر [2]، رواه مسلم.
وهذا يدل على أن التسبيح من أَحبِّ الكلام إلى الله ؛ وذلك لاشتماله على التعظيم لله سبحانه، والتنزيه لله ؛ ولهذا اختار الله هذا الذِّكر لجميع مخلوقاته، فقال سبحانه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]. فجميع المخلوقات تُسبِّح بحمد الله ؛ فالجبال والأنهار والأشجار والأحجار وكل شيءٍ يُسبِّح بحمده جلَّ وعلا، وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ؛ أي: ولكن البشر لا يفقهون هذا التسبيح ولا يعقلونه، وإلا فإنَّ كل شيءٍ يُسبِّح بحمد الله ، بل إن الله ذَكَرَ عن الطير أنها تُسبِّح بحمده، فقال: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ [الأنبياء:79]، وقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور:41]، فسبحان الله! حتى الطير في السماء تُسبِّح بحمد الله ! فاختار الله تعالى لهذه المخلوقات هذا الذِّكر العظيم، وهو التسبيح، لم يقل: {وإن من شيءٍ إلا يَحْمَدُ اللهَ أو يُكبِّر}؛ إنما قال: يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وهذا دليلٌ على فضل التسبيح، وعلى محبة الله لهذا الذِّكر.
التسبيح سبب لتكفير الخطايا
ثم إن التسبيح من أسباب تكفير الخطايا، فيقول عليه الصلاة والسلام، في الحديث المتفق على صحته: مَن قال سبحان الله وبحمده في يومٍ مائة مرةٍ؛ حُطَّت عنه خطاياه، وإن كانت مثل زَبَدِ البحر [3]، وأيضًا قال: مَن قال حين يُصبح وحين يُمسي: سبحان الله وبحمده؛ حُطَّت عنه خطاياه [4]، وهذا يدل على أن التسبيح من أسباب تكفير السيئات، وقال: من قالها حين يُصبح وحين يُمسي، غُفِرَت له خطاياه [5].
التسبيح سببٌ لحصول الأجر والثواب
والتسبيح أيضًا سببٌ لحصول الأجر والثواب، فإن مَن يُسبِّح الله تعالى يذكر الله ، والذِّكر قد وَرَدَ في فضائله أحاديثُ كثيرةٌ، بل إن فقراء الصحابة لما اشتكوا للنبي فقالوا: يا رسول الله، ذَهَبَ أهلُ الدُّثُورِ من الأموال بالدرجات العُلا والنعيم المقيم: يُصَلُّون كما نُصَلِّي، ويَصُومون كما نَصُوم، ولهم فَضْلٌ مِن أموالٍ يَحُجُّون بها ويَعتمِرون، ويُجاهدون ويتصدَّقون؛ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ألَا أُحَدِّثُكم إِنْ أَخَذْتُم أَدْرَكتُم مَن سَبَقَكم، ولم يُدركْكم أحدٌ بعدَكم، وكنتم خيرَ مَن أنتم بين ظَهْرَانَيْه، إلا مَن عَمِلَ مِثْلَه؟، فقالوا: نعم، قال: تُسبِّحون وتَحْمَدون وتُكبِّرون خلفَ كل صلاةٍ ثلاثًا وثلاثين، فعلم بذلك أغنياء الصحابة، ففعلوا مثلما فعلوا، فذهب الفقراء للنبي يشتكون، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ذلك فضلُ اللهِ يُؤتيه من يشاء [6].
فهذا الذِّكر، وهو التسبيح دُبُر كل صلاةٍ مع التحميد والتكبير ثلاثًا وثلاثين، بيَّنَ عليه الصلاة والسلام أن مَن فعله لم يكن أحدٌ يأتي بمثل ما أتى به، وأَرشد النبي إلى ذلك فقراء الصحابة، وفعل الأغنياء مثلهم، فلما اشتكى الفقراء، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وهذا يدل على فضل هذه العبادة وفضل التسبيح.
وجاء في "صحيح مسلمٍ"، عن سعد بن أبي وقَّاصٍ ، أن النبي قال يومًا لأصحابه: أَيَعْجَزُ أحدُكم أن يَكسِب في اليوم ألفَ حسنةٍ؟ قالوا: يا رسول الله، وكيف يكسب ألف حسنةٍ؟ قال: يُسبِّح مائةَ تسبيحةٍ، فيُكتَبُ له ألفُ حسنةٍ، أو يُحَطُّ عنه ألفُ سيئةٍ [7]، سبحان الله! يعني مائة تسبيحةٍ: كم تأخذ من الجهد ومن الوقت؟! يكسب بها ألف حسنةٍ، وهذا يدل على أن المسألةَ مسألةُ توفيقٍ من الله ، كم تستغرق منك من الوقت ومن الجهد عندما تقول: "سبحان الله"، وتُكرِّرها مائةَ مرةٍ، وتكسب بها ألفَ حسنةٍ، أو يُحَطُّ عنك بها ألفُ سيئةٍ؟! هذا يدل على فضل هذه العبادة.
ثم إن التسبيح هو من جنس الذِّكر، وهو الذي يستطيع أن يأتيَ به الإنسان على أيِّ حال وفي أيِّ زمان، فتستطيع أن تأتيَ بهذا الذِّكر وأنت قائمٌ، أو وأنت قاعدٌ، أو وأنت مضطجعٌ، أو وأنت في السيارة، أو وأنت على السرير، أو في أيِّ مكانٍ، تقول: "سبحان الله"، وإن قلت: "وبحمده"؛ كان أكملَ وأفضلَ: "سبحان الله وبحمده".
ويقول عليه الصلاة والسلام: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم [8].
الذكر المضاعف
فالمشروع للمسلم أن يُكثِر من هذه العبادة: عبادة التسبيح، وقد جاء في "صحيح مسلمٍ"، من حديث جويريةَ رضي الله عنها أم المؤمنين: أن النبي مَرَّ عليها ذات يومٍ، بعدما صلَّى صلاة الغداةِ، وهي تُسبِّح، ثم رجع بعدما أضحى، وهي تُسبِّح، فقال لها: ما زلتِ على الحال التي فارقتُكِ عليها؟، قالت: نعم، قال: أما قد قلتُ بعدَكِ أربعَ كلماتٍ ثلاثَ مراتٍ، لو وُزِنَتْ بما قلتِ لوزنتهنَّ: سبحان الله وبحمده عددَ خلقِه، سبحان الله وبحمده زنةَ عرشِه، سبحان الله وبحمده رضا نَفْسِه، سبحان الله وبحمده مدادَ كلماتِه [9]، وهذا يُسمِّيه العلماء: الذِّكر المُضاعَف[10].
فالنبي عليه الصلاة والسلام بيَّنَ في هذا الحديث: أن هذا الذِّكر المضاعف يَعْدِل ما لو جلسَ الإنسانُ يُسبِّح الله تعالى من الصبح إلى أن يُضحِي، يعني: قُرابةَ ساعتين إلى ثلاثِ ساعاتٍ؛ ولهذا ينبغي أن يحرص المسلم على هذا الذِّكر المضاعَف، يقول: "سبحان الله وبحمده عددَ خلقِه، سبحان الله وبحمده زنةَ عرشِه، سبحان الله وبحمده رضا نَفْسِه، سبحان الله وبحمده مدادَ كلماتِه"، يُكرِّرها ثلاثَ مراتٍ أو أكثر.
فهذه عباداتٌ ميسورةٌ للإنسان، يأتي بها في أيِّ وقتٍ وفي أيِّ حينٍ، ولا تُكلِّف الإنسان شيئًا كثيرًا، ويكسب بها أجورًا عظيمةً.
^1 | رواه مسلم: 2731. |
---|---|
^2 | رواه مسلم: 2137. |
^3 | رواه البخاري: 6405، ومسلم: 2691. |
^4 | رواه مسلم: 2692، بلفظ: مَن قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرةٍ؛ لم يأتِ أحدٌ يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا أحدٌ قال مثل ما قال، أو زاد عليه. |
^5 | رواه أحمد: 15623، بلفظ: مَن قعد في مصلاه حين يصلي الصبح حتى يسبح الضحى، لا يقول إلا خيرًا؛ غُفرت له خطاياه، وإن كانت أكثر من زَبَدِ البحر. |
^6 | رواه البخاري: 843، ومسلم: 595. |
^7 | رواه مسلم: 2698. |
^8 | رواه البخاري: 6682، ومسلم: 2694. |
^9 | رواه مسلم: 2726. |
^10 | ينظر: الوابل الصيب لابن القيم: (ص 144). |