جدول المحتويات
- باب اليمين في الدعاوى
- تغليظ اليمين
- كتاب الإقرار
- تعريف الإقرار
- بيان من يصح إقراره
- حكم إقرار المكره بغير ما أكره عليه
- حكم إقرار المريض لوارثٍ أو غيره
- تكذيب المُقَرِّ له المُقِرَّ
- حكم الإقرار لمن لا يَملك
- حكم الإقرار بالزوجية
- ما يحصل به الإقرار وما يُغيِّره
- تعليق الإقرار بالشرط
- إذا وصل الإقرارَ بما لا يصلح أن يكون له ثمنٌ
- حكم الاستثناء في الإقرار
- حكم من تصرف في شيءٍ ثم أقر به لغيره
- حكم إقرار أحد الوارثين بالدين على مورثه
- باب الإقرار بالمُجمَل
- تحديد المجمل المحدد بشيءٍ محتملٍ
- الإقرار المأخوذ من كلام غيره
- ختام كتاب "دليل الطالب"
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علما نافعًا ينفعنا، ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.
نكمل ما توقفنا عنده في التعليق على "السلسبيل في شرح الدليل"، وهذا الدرس هو الدرس الأخير في التعليق على "السلسبيل في شرح الدليل"، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
باب اليمين في الدعاوى
قال المصنف رحمه الله:
عَقَد المصنف هذا الباب؛ لأجل أن يُبين أحكام اليمين في الدعاوى، وما تجب فيه اليمين، وصفتها.
وسبق في "كتاب: الأيمان" الكلام عن أحكام اليمين عمومًا، لكن مقصود المصنف هنا: اليمين في الدعاوى.
واليمين هي توكيد الحكم بذِكرِ مُعظَّمٍ على وجهٍ مخصوصٍ؛ والغرض منها في الدعوى: قطع الخصومة، لكنها لا تَقطع وتُسقِط الحق؛ فيمكن أن تُسمَع البينة بعد أداء اليمين، فهي للفصل في الخصومة وليس لبراءة الذمة.
ويترتَّب على ذلك: أن المُدَّعَى عليه لو أنكر وحلف على ذلك، وحكم القاضي بعدم مطالبته، ثم إن المدعي وجد بينةً فأقامها؛ فإنَّ القاضي يحكم بمُوجَب هذه البيِّنة، ولا تكون يمين المدعى عليه مسقطةً للحق؛ ولهذا قال عمر في كتابه الذي كتبه لأبي موسى : "ولا يمنعنك قضاءٌ قضيتَ فيه اليوم فراجعتَ فيه نفسك، وهُديت إلى رشدك؛ أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديمٌ لا يُبطله شيءٌ، والرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل".
البينة على المدعي، واليمين على من أنكر
قال المصنف:
هذا مرويٌّ عن النبي ، لكنه بهذا اللفظ في سنده مقالٌ، وأصله في "الصحيحين"؛ حيث جاء في "الصحيحين" من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبي قال: اليمين على المدعى عليه [1].
وأجمع العلماء على هذا المعنى، نَقَل الإجماع ابن المنذر، قال: "وأجمعوا على أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه".
الأيمان التي لا يحلف فيها المُنكِر
ثم انتقل المؤلف رحمه الله لبيان نوع الدعاوى التي تكون فيها اليمين والتي لا تكون، وبدأ بالدعاوى التي لا تكون فيها اليمين، فقال:
مراد المصنف: أن ما كان من حقوق الله لا يُطالب فيها المُنكِر باليمين؛ كالحدود والتعزيرات وأمور العبادة، وكإخراج الزكوات والصدقات والكفارات والنذور ونحو ذلك، وهذا بإجماع العلماء؛ لأنه بالنسبة للحدود: الحدود مبناها على الستر، وتُدرأ بالشبهات، وبالنسبة لأمور العبادة؛ كإخراج الزكوات ونحوها: فالمسلم مُؤتمَنٌ على نفسه في عباداته؛ فلا حاجة لاستحلافه، فلو ادُّعِيَ على شخصٍ بأنه لا يصلي، فأنكر وقال: إني أصلي؛ فلا يُطلب منه اليمين على أنه يصلي.
وقول المصنف رحمه الله: "ولو قذفًا"، إشارةٌ للخلاف، هذا المصطلح عند الحنابلة يشيرون به إلى الخلاف، فمِن الفقهاء من قال: إنه يُستحلف في القذف؛ لكونه حق آدميٍّ، ومنهم من قال: إنه لا يُستحلف، والمؤلف جرى على أنه لا يُستحلف، مع أن الحنابلة -في المشهور من المذهب- يرون أن حد القذف حقٌّ لآدميٍّ وليس حقًّا لله ؛ ولذلك مقتضى المذهب عند الحنابلة: أنه يُستحلف في القذف، وهو روايةٌ في المذهب، وهو القول الراجح.
فلو ادُّعِي على إنسانٍ بأنه قد قَذَف آخر بالزنا فأنكر، ولم يكن عند المدعي بينةٌ؛ فيُستحلف المدعى عليه بأنه لم يقذفه، وهذا هو الذي عليه العمل في المحاكم.
قال:
أي أنه لا يمين على شاهدٍ أنكر شهادته؛ وذلك لأنه لا يُقضى في ذلك بالنكول؛ فلا حاجة لإيجاب اليمين عليه، ما الفائدة أننا نُحلِّف هذا الشاهد على إنكار الشهادة؟
وهكذا القاضي لو أنكر حكمَه، ويُستثنى من ذلك: ما إذا ارتاب القاضي في شهادة الشهود؛ فله أن يحلفهم على القول الراجح، وسبق أن تكلمنا عن هذه المسألة، وذكرنا كلام الإمام ابن القيم في استحلاف الشهود، وإن كان المشهور من المذهب أنه لا يُستحلف الشهود مطلقًا، لكن القول الراجح الذي اختاره ابن القيم وجمعٌ من المحققين من أهل العلم: أن القاضي إذا شك في شهادة الشهود؛ فله أن يستحلفهم.
الأيمان التي يَحلف فيها المُنكِر
ثم انتقل المؤلف للكلام عن الأيمان التي يُحلَّف فيها المُنكِر، فقال:
هذا هو الضابط: أنه يُحلَّف المنكر في كل حق آدميٍّ يُقصد منه المال؛ لأن حقوق الآدميين مبناها على المشاحة، فما يُقصد منه المال؛ كالديون والجنايات والإتلافات ونحوها، إذا لم يجد المدعي البينةَ؛ فإن المدعى عليه المُنكِرَ يَحلف، ويدل لذلك قول النبي : لو يُعطى الناس بدعواهم؛ لادعى ناسٌ دماء رجالٍ وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه [2].
هذه مسألةٌ خلافيةٌ: هل يُقضى بالنكول أو لا يقضى؟ سبق أن تكلمنا عنها في درسٍ سابقٍ بالتفصيل، ورجَّحنا أنه يُقضى بالنكول، وهو المذهب عند الحنابلة.
فإذا امتنع المنكر عن اليمين؛ فإنه يُقضى عليه بالحق، والنبي صح عنه أنه قضى بالنكول [3]، وأيضًا صح عن بعض الصحابة ؛ كعثمان أنه قضى بالنكول.
صفة اليمين على نفي فعل نفسه وعلى الدعوى على غيره
قال:
يعني: على الجزم، وليس على نفي العلم، فإذا حلف الإنسان على نفي فِعل نفسه، أو نفي دَينٍ عليه؛ فلا بد أن تكون اليمين قاطعةً، وأن يحلف على البت، فلا يقيدها بالظن أو بالعلم.
مثال ذلك: أقيمت دعوى على رجلٍ بدَينٍ مقداره كذا، فيقول في جوابه إذا أنكر: والله إن هذا الرجل لا يطلبني هذا الدين، ولا يقول: لا أعلم، ولا أظن أنه يطلبني؛ فهذا معنى قول المصنف: "حلف على البت".
لكن قال:
يعني: إذا كانت الدعوى ليست عليه، وإنما على غيره؛ كأن تكون على مورثه أو رقيقه أو مولِّيه؛ فإنه يحلف بنفي العلم، فيقول: والله إني لا أعلم بأن فلانًا يطلب فلانًا كذا، يحلف على نفي العلم أو الظن.
يعني: لو أن المدعي أتى بشاهدٍ وطُلب منه اليمين -باعتبار أنه تُقبل الشهادة مع اليمين- فإنه لا بد أن يحلف المدعي على البت والقطع، وليس على الظن ونفي العلم.
يعني: هؤلاء أقاموا دعوى على رجلٍ، فلا بد أن يحلف لكل واحدٍ منهم يمينًا؛ لأن لكل واحدٍ منهم حقًّا غير حق الآخر، إلا إذا رضوا بأن يحلف مرةً واحدةً فلا بأس؛ لأنهم رضوا بإسقاط حقهم.
تغليظ اليمين
ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن تغليظ اليمين، قال:
وللحاكم تغليظ اليمين فيما له خطرٌ.
"وللحاكم": أي للقاضي، "تغليظ اليمين"، ويكون التغليظ بأربعة أمورٍ: بالصيغة وبالزمان وبالمكان وبالهيئة، وسيأتي الكلام عن هذا بالتفصيل.
"فيما له خطرٌ": يعني فيما له قيمةٌ وشأنٌ كبيرٌ؛ فلا تُغلَّظ اليمين في الأشياء الحقيرة أو الصغيرة.
ومثَّل المؤلف لما تُغلَّظ فيه اليمين، قال:
يعني: تغلظ اليمين في الجناية التي لا توجب القصاص لكنها توجب الدية.
يعني: تُغلَّظ اليمين في العتق، وتغلظ كذلك في المال الكثير الذي يبلغ نصابًا فأكثر، فلو ادعى شخصٌ على آخر دَينًا مثلًا بعشَرة ملايين، ووُجدت القرائن الدالة على صدق المدعي، لكنه عجز عن إقامة البينة، وأنكر المدعى عليه؛ فينبغي للقاضي أن يُغلِّظ اليمين على المدعى عليه، لكن لو ادعى عليه مثلًا دَينًا بخمسمئة ريالٍ، وأنكر المدعى عليه، والمدعي لم يجد بينةً، وطلب القاضي من المدعى عليه الحلف؛ فلا تُغلَّظ اليمين.
كيفية تغليظ اليمين
ثم بيَّن المؤلف كيفية تغليظ اليمين:
التغليظ في الصيغة
فقال:
هذه الصيغة التي ذكرها المصنف رحمه الله لا دليل عليها، فما الدليل على أن تغليظ اليمين يكون بهذه الصيغة؟ فهذا تفقُّهٌ من بعض الفقهاء، لكن لا دليل عليه، وأيضًا هناك بعض الكلمات التي فيها إشكالٌ؛ فقوله: "الطالب الغالب"، "الطالب الغالب" هذه ليست من أسماء الله ، هي دارجةٌ عند بعض العامة، لكنها ليست من أسماء الله سبحانه.
"الضار النافع"، هذه أيضًا ليست من أسماء الله تعالى، لكن الله تعالى يُوصف بأنه ضارٌّ نافعٌ جل وعلا: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [الأنعام:17]، وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102]، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107]، يوصف الله تعالى بذلك، لكن هذا أيضًا ليس من أسماء الله تعالى.
فهذه الصيغة التي ذكرها المصنف فيها إشكالاتٌ، ولا دليل عليها؛ ولهذا فالأقرب -والله أعلم- أنه لا يَحلف بهذا، وإنما يحلف بصيغة: والله الذي لا إله إلا هو، أو بأي صيغةٍ من الصيغ، المهم أن يكون فيها قَسَم: "والله"، ويكون مصحوبًا بتغليظٍ بصيغةٍ لا يكون فيها إشكالاتٌ، أما الصيغة التي ذكرها المؤلف ففيها إشكالاتٌ.
لأن هذه عبارةٌ تُناسب اليهودي، واليهودي يُؤمِن بموسى وبالتوراة، لكن كثيرًا من اليهود لا يؤمنون بمحمدٍ عليه الصلاة والسلام؛ فيأتي بصيغةٍ تناسبهم.
ونحو ذلك من العبارات التي تناسب النصراني.
التغليظ في المكان
أما التغليظ في المكان فقيل: إنه يكون في مكة ما بين الركن والباب، وفي المدينة في الروضة، وفي بقية البلاد عند منبر الجامع، وهذا هو مذهب المالكية والشافعية، واستدلوا لذلك بقول الله : تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ [المائدة:106]، وهذا إنما كان في حق أهل الكتاب في الوصية في السفر، وهي قضيةٌ خُولف فيها القياس، فقالوا: هذا التغليظ يدل على أنه لا بد من التغليظ أيضًا في المكان، وهذا الكلام الذي ذكروه ليس عليه دليلٌ، والآية ليست ظاهرة الدلالة على التغليظ في المكان، إنما ذُكر فيها الزمان: مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ [المائدة:106]، لكن لم يُذكر المكان، وإن كان لا شك أن اليمين في المسجد الحرام وفي مسجد النبي عليه الصلاة والسلام ليست كغيرها، لكن هذا ليس عليه دليلٌ.
وأيضًا لو أردنا أن نطبق هذا عمليًّا؛ فنأتي بهؤلاء المتخاصمين ما بين الركن والباب، يعني عند الملتزم، فهذا فيه صعوبةٌ من الناحية العملية، الآن إذا كان المعتمرون والحجاج لا يستطيعون الوصول لهذا المكان إلا بصعوبةٍ، وحتى غيرهم أيضًا لا يستطيعون الوصول إلى هذا المكان إلا بصعوبةٍ؛ فكيف نأتي بالخصوم ومعهم القاضي، ومعهم أيضًا الفريق الذي يعمل مع القاضي، وننقل جزءًا من المحكمة لهذا المكان لأجل التحليف؟! هذا فيه صعوبةٌ.
ومِثل ذلك أيضًا: الروضة في المسجد النبوي، لو أردنا أن نطبق هذا عمليًّا؛ ففيه صعوبةٌ كبيرةٌ، بل يكاد يكون هذا متعذرًا في الوقت الحاضر، والعبرة بالدليل، وليس هناك دليلٌ يدل على التغليظ في المكان؛ وعلى هذا: فالأقرب -والله أعلم- عدم التغليظ في المكان؛ لأنه لم يَرِد، وإنما يكون التغليظ في مجلس القاضي؛ يعني الآن في المحاكم، وإذا كان القاضي -مثلًا التقاضي عن بُعدٍ- يُمكن أن القاضي يطلب حضور الخصمين إلى مجلسه ليكون هذا أبلغ، عندما يُحلِّفه فيكون هذا أبلغ، لكن القول بأنه يذهب عند منبر المسجد، أو يذهب بين الركن والباب، أو يذهب للروضة، هذا يحتاج إلى دليلٍ، وليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل لهذا.
التغليظ في الزمان
أما التغليظ في الزمان: فهذا جاء منصوصًا عليه في قول الله : تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ [المائدة:106]، والمقصود بها: صلاة العصر عند جمهور المفسرين، وهذا في الوقت الحاضر أيضًا قد يتعذر؛ بسبب عمل المحاكم الآن، المحاكم يعملون إلى ما قبل العصر، لكن يمكن للقاضي أن يطلب من الخصمين أن تكون الجلسة بعد العصر، وأن يكون الحلف بعد صلاة العصر؛ لأجل التغليظ.
التغليظ في الهيئة
وأما التغليظ في الهيئة: فيَطلب القاضي مِن الذي يحلف أن يكون قائمًا لا جالسًا؛ لأن هذا أبلغ؛ ولذلك -كما ذكرت- ينبغي أن يكون الحلف المصحوب بالتغليظ حضوريًّا عند القاضي في مجلس القاضي، ولا يكون عن بُعدٍ.
قال:
يعني لو أن مَن طُلب منه الحلف أبى التغليظ، يقول: أنا مستعدٌّ لأن أحلف، لكن لا أحلف بهذه الصيغة، يقول المؤلف: "لم يكن ناكلًا"، لا يعتبر هذا نكولًا، وحُكي الإجماع على ذلك، وإن كان في المسألة خلافٌ، وابن تيمية رحمه الله قال: "متى قلنا: التغليظ مستحبٌّ -إذا رآه الحاكم مصلحةً- فينبغي أنه إذا امتنع منه الخصم؛ صار ناكلًا"، ابن تيمية يرى أنه يكون ناكلًا.
والخلاف في هذه المسألة خلافٌ قويٌّ، والأقرب -والله أعلم- أنه إذا قَبل الحلف من غير تغليظٍ؛ لا يُعد ناكلًا؛ لأنه ربما يرى أن التغليظ غير مناسبٍ بالنسبة له، وأن هذه القضية لا تستحق التغليظ، أو لغير ذلك من الأسباب، فكيف يُحكم عليه بالنكول وهو موافقٌ على الحلف؟! لم يرفض أصل الحلف، إنما رفض التغليظ فقط.
قال:
يعني: أن الأمر واسعٌ؛ فالمرجع في التغليظ من عدمه إلى اجتهاد القاضي.
كتاب الإقرار
ثم قال المصنف رحمه الله:
تعريف الإقرار
ختم المصنف كتابه "دليل الطالب" بهذا الكتاب (الإقرار)؛ أسوةً بفقهاء الحنابلة الذين يختمون مصنفاتهم الفقهية بهذا الكتاب؛ تفاؤلًا بأن يُختم للمصنف بالإقرار بالتوحيد؛ لقول النبي : ما من عبدٍ قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك؛ إلا دخل الجنة [4]، متفقٌ عليه، وبعض الفقهاء يَختم بـ"كتاب العتق"؛ تفاؤلًا بأن يعتقه الله من النار.
الإقرار هو سيد الأدلة كما يقال، والإقرار: هو الاعتراف بالحق، مأخوذٌ من المَقَرِّ وهو المكان، كأنَّ المُقِر يجعل الحق في موضعه، والإقرار إخبارٌ عما في نفس الأمر وليس إنشاءً، وعند الفقهاء قاعدة: "لا عذر لمن أقر"؛ لأنه لا يمكن للإنسان العاقل الرشيد أن يُقر على نفسه إلا بما حصل منه.
بيان من يصح إقراره
قال المصنف رحمه الله:
لا يصح الإقرار إلا من المكلف، وهو البالغ العاقل، وأيضًا أن يكون مختارًا لا مكرهًا، حتى لو كان هازلًا، فإنه مُؤاخَذٌ بإقراره، سواءٌ كان ذلك بلفظٍ أو بكتابةٌ؛ لأن الكتابة كالجواب.
أما الإشارة فلا تُعتبر إقرارًا؛ لأنها قد تكون غير واضحةٍ، إلا من الأخرس، بشرط: أن تكون إشارته مُفهِمةً؛ لكون إشارة الأخرس تقوم مقام النطق.
قال:
لأن ما أُذن لهما فيه قد زال عنهما الحجر فيه؛ فيصح إقرارهما.
حكم إقرار المكره بغير ما أكره عليه
لأنه غير مكرهٍ على الإقرار بالدينار والإقرار لعمرٍو، والقاعدة الفقهية تقول: "لا عذر لمن أقر".
قال:
الإقرار كما ذكرنا أنه ليس بإنشاءِ تمليكٍ، وإنما هو إخبارٌ عما في نفس الأمر؛ ولذلك لا بأس أن يُضيف المِلك لنفسه، يقول: "كتابي هذا لزيد"؛ فهذا لا ينافي الإقرار.
حكم إقرار المريض لوارثٍ أو غيره
الفقهاء يفرقون بين إقرار المريض مرضَ الموت لوارثٍ أو لغير وارثٍ؛ فإن كان لغير وارثٍ؛ فالإقرار صحيحٌ، أما إن كان لوارثٍ؛ فالإقرار غير صحيحٍ.
فالإقرار لغير وارثٍ: يكون صحيحًا؛ لأنه غير متهمٍ في حقه، وقد نُقل الإجماع على ذلك، نقله ابن المنذر وغيره.
وأما بالنسبة للوارث: قال المصنف:
يعني هذا أيضًا تابعٌ للمسألة السابقة؛ لأنه غير متهمٍ بهذا الإقرار.
يعني: فلا يُقبل إقراره؛ لأنه متهمٌ بإرادته المنفعة لهذا الوارث.
فإن وُجد بينةٌ؛ فإقراره مقبولٌ ومعتبرٌ، أما إذا لم يوجد بينةٌ؛ فلا يعتمد على هذا الإقرار للوارث.
الوقت المعتبر للإقرار لكونه وارثًا أو ليس بوارث على التفصيل السابق وقت الإقرار وليس وقت الوفاة، وقت الإقرار؛ لأنه قولٌ تُعتبر فيه التهمة؛ فاعتبرت حال وجوده دون غيرها.
قال: بخلاف الوصية، الوصيةُ المعتبرُ فيها: الموت، كما سبق بيان ذلك مفصلًا في "كتاب الوصية".
تكذيب المُقَرِّ له المُقِرَّ
قال:
أي: لو أقر لإنسانٍ بشيءٍ فكذَّب المُقَرُّ له المُقِرَّ؛ بطل الإقرار؛ لكونه أقرَّ لمن لم يصدقه.
لأنه مالٌ بيده يدَّعيه لغيره، أشبه اللُّقَطة.
حكم الإقرار لمن لا يَملك
ثم قال المصنف رحمه الله:
والإقرار لقِنِّ غيرِه إقرارٌ لسيده.
لأن القِن -وهو الرقيق- مِلكٌ لسيده؛ فالإقرار له إقرارٌ لسيده في الحقيقة.
إذا كان الإقرار لمسجدٍ؛ فيصح، أو كان الإقرار لمقبرةٍ؛ يصح، أو لطريقٍ؛ فيصح، حتى لو أطلق، يعني: لم يعين سببًا كغلةِ وقفٍ مثلًا؛ وذلك لأنه إقرارٌ ممن يصح إقراره؛ فيلزمه.
لو أقر بمالٍ لدارٍ، أو أقر بمالٍ لبهيمةٍ؛ فلا يصح إقراره، إلا إذا عيَّن السبب؛ لأن البهيمة لا تَملك بذاتها، وإنما تُملَّك لغيرها.
"إلا إن عيَّن السبب"؛ كالإقرار مثلًا بقيمة استئجار البهيمة أو بقيمة أجرة الدار ونحو ذلك.
قال:
يعني يصح الإقرار للحمل، يُقر لهذا الحمل بمالٍ، حتى وإن لم يَعْزُه لسببٍ؛ لأنه يجوز أن يُملَّك؛ فصح الإقرار بدون سببٍ، ثم ننظر؛ إن وُلد هذا الحملُ حيًّا؛ فله ما أقر به، وإن وُلد ميتًا، أو تبيَّن أنه لم يكن ثَمَّ حملٌ؛ بطل الإقرار؛ لأنه إقرارٌ لمن لا يصلح أن يملك.
قال:
يعني: إذا وَلدت المرأة مولودًا فأكثر؛ فيتقاسمان المال المُقَر به بالسوية، حتى لو كان ذكرًا وأنثى، فيُقسم بينهما بالسوية.
حكم الإقرار بالزوجية
أقر رجٌل أو أقرت امرأةٌ بزوجية الآخر، قال هذا الرجل: هذه المرأة زوجتي، أو المرأة قالت: هذا زوجي، فسكت؛ يصح الإقرار والإرث؛ لأنه إذا صح الإقرار؛ ثبتت الزوجية، فكان التوارث.
وهكذا لو أقر أحدهما بزوجية الآخر فجحده ثم صدقه؛ صح الإقرار وورثه، ولا يضر الجحد قبل الإقرار.
يعني: لا إن بقي الجاحد على تكذيبه حتى مات المُقِر؛ فإنه لا يرثه في هذه الحال.
ما يحصل به الإقرار وما يُغيِّره
ثم قال المصنف رحمه الله:
وذكر المؤلف تفصيلاتٍ كثيرةً نادرة الوقوع، وهي في الحقيقة ترجع لمسألةٍ واحدةٍ، وهي أن المعتبر في تلك الألفاظ: ما اعتُبر في عرف الناس في مخاطباتهم وفي كلامهم وفي أعرافهم، فهذه العبارات لا نتقيد بها، إنما يُرجع لعرف الناس في المجتمع، ماذا يريدون بهذا اللفظ؟ ولذلك نذكر كلام المؤلف بشيءٍ من الاختصار، يعني مجرد توضيحٍ لعباراته فقط؛ لأن هذا تفصيلٌ لمسائل نادرةٍ، ولأن هذه التفصيلات كلها لا دليل عليها، وهذه الألفاظ التي ذكرها ترجع لما ذكرناه؛ من أن المرجع في ذلك لعرف الناس في مخاطباتهم.
ما يعد من الألفاظ إقرارًا وما لا يعد
قال:
هذه الألفاظ تدل على تصديق المدعي على دعواه.
يعني: لا يلزم من هذه الإقرار؛ لأن هذه الألفاظ كالوعد، وتحتمل معاني أخرى، والأقرب -والله أعلم- أن هذه الألفاظ كلها المرجع فيها إلى العرف: فما اعتُبر في عرف الناس في مخاطباتهم إقرارًا؛ فهو إقرارٌ، وما لا فلا.
بعض العامة لا يفرق بين هذه الألفاظ، كيف نحاسبه عليها؟ ننظر إلى ماذا يقصد بهذا اللفظ في عرف هذا المتكلم.
يعني الجواب على الاستفهام بـ"نعم" يدل على النفي، أما الإجابة بـ"بلى" فتدل على الإثبات، فلو قلت: ألستَ قلتَ كذا؟ فقال: نعم، يعني كأنك نفيت، فإذا أردت أن تُثبت تقول: بلى، ولكن العامة لا يفرقون بينها؛ ولهذا أُورِدَ هذا الإشكال على المصنف، فاستَثنى العامي، قال: "إلا من عاميٍّ".
والأقرب: أن المرجع في ذلك إلى مقاصد الناس في مخاطباتهم وأعرافهم، سواءٌ كان المتكلم عاميًّا أو كان غير عاميٍّ، حتى غير العامي ربما أنهم يغفلون عن هذه المعاني، فالمرجع في ذلك إلى عرف الناس في مخاطباتهم.
يعني هذه العبارات عند المصنف أنها كلها تفيد الإقرار، وذكرنا أن الراجح: أن المرجع في ذلك إلى عرف الناس في مخاطباتهم ومقاصدهم.
تعليق الإقرار بالشرط
يقولون: تعليق الإقرار بشرطٍ، لا يصح معه الإقرار؛ لأن الإقرار إخبارٌ عن واقعةٍ حصلت في الماضي، فلا يصح أن يعلق بشرطٍ في المستقبل، سواءٌ قَدَّم الشرط أو أخره.
لأنه بدأ بالإقرار؛ فيُعمل به.
لأنه لا يُعلم تفسيره إلا منه، واللفظ محتمِلٌ.
لأن هذا يكون وعدًا بالتصديق وليس تصديقًا.
إذا وصل الإقرارَ بما لا يصلح أن يكون له ثمنٌ
ثم قال المصنف رحمه الله:
هذا أيضًا كالفصل السابق، يعني مسائل نادرة الوقوع؛ ولذلك سنقتصر على توضيح عبارة المصنف.
لأنه أقر بثمن الخمر، وقدَّره بألفٍ، وثمن الخمر فاسدٌ؛ فلا يجب عليه شيءٌ.
لصحة الإقرار.
طيب، هل العامة يُفرقون بين كلمة: "علي من ثمن خمرٍ ألفٌ"، أو "ألفٌ مِن ثمن خمرٍ"؟ لا يفرق، أكثر الناس لا يفرق؛ ولذلك فالصواب في هذه المسائل: أنه يُرجع في ذلك إلى معرفة مقاصد المُقِرِّين وعُرفهم فيُعمل به.
حكم الاستثناء في الإقرار
استثناء النصف فأقل يقولون: إنه يصح؛ لأنه معهودٌ في لغة العرب؛ كما قال الله تعالى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت:14].
وقوله: "فيلزمه عشَرةٌ في: له عليَّ عشَرةٌ إلا ستةً"؛ لأنه لا يصح استثناء أكثر من النصف عند الحنابلة.
وسبق أن تكلمنا عن هذه المسألة بالتفصيل في "كتاب الطلاق"، وذكرنا أن القول الراجح المختار عند كثيرٍ من المحققين من أهل العلم: صحة استثناء أكثر من النصف.
لأنه يصح استثناء النصف.
قال:
هذه مسألةٌ أيضًا تكلمنا عنها بالتفصيل: هل يُشترط اتصال المستثنى من المستثنى منه؟ سبق أن رجحنا القول بعدم الاشتراط، وأن النبي لما خطب قال: إن الله حرَّم مكة؛ لا يُختلى خَلَاها، ولا يُعضَد شجرها..، ثم تكلم بكلامٍ، فقال العباس: إلا الإذْخِر؟ فقال: إلا الإذخر [5]، فلم يتصل المستثنى بالمستثنى منه، وهذا دليلٌ على عدم اشتراط المستثنى بالمستثنى منه، ما لم يَطُل الزمن عُرفًا.
لأنه مُتَّحِدُ الجنس والنوع؛ فيلزم تسعةُ عبيدٍ.
وله هذه الدار إلا هذا البيت، قُبل ولو كان أكثرها، لا إن قال: إلا ثلثيها، ونحوه، وله الدار ثلثاها، أو عاريةً، أو هبةً؛ عُمل بالثاني.
وهذه المسائل التي ذكرها المصنف مبنيةٌ على عدم صحة استثناء أكثر من النصف، والراجح: أنه يصح استثناء أكثر من النصف؛ وعلى ذلك: فلا يُسلَّم بالكلام الذي ذكره المصنف رحمه الله.
حكم من تصرف في شيءٍ ثم أقر به لغيره
قال رحمه الله:
ومَن باع أو وهب أو أعتق عبدًا ثم أقر به لغيره؛ لم يُقبل.
يعني: لم يُقبل قوله على المشتري، ولا على الموهوب له، ولا على العبد الذي أعتقه، لماذا؟ لأنه إقرارٌ على غيره، والإنسان لا يصح إقراره على غيره، إنما يُقِر على نفسه فقط.
قال:
لأنه فوَّته عليه بتصرفه هذا.
لأنه أقر له به، ولم يُقبل رجوعه عنه؛ لأنه حق آدميٍّ، والقاعدة الفقهية تقول: "لا عذر لمن أقر".
قال:
لأنه أقر له بالمِلك.
حكم إقرار أحد الوارثين بالدين على مورثه
هذا رجلٌ خلَّف تركةً قدرها مئتان، وادعى إنسانٌ بأن له مئة دينارٍ على ميتٍ، وكان للميت وارثان، فصَدَّق أحدُ الوارثين المُدَّعِيَ وأنكر الآخرُ؛ فالذي صَدَّق وأقر يُلزَم بنصف الدين المدعى به.
يعني: إلا أن يكون المُقِر بالدَّين عدلًا ويشهد لرب الدين بالمئة ويَحلف معه رب الدَّين؛ فيأخذ المئة؛ لأنه حينئذٍ يُقضى له بالشاهد واليمين، والمئة الباقية تكون بين الابنين.
باب الإقرار بالمُجمَل
قال:
"المُجمَل": هو ما كان مُحتمِلًا لأمرين فأكثر على السواء.
يعني: يُطلب منه تفسيره؛ لإبهامه ما يَلزمه إيضاحه، فلا يُحكم بالمجهول.
رفض أن يُفسِّره: "له عليَّ شيءٌ"، طيب ما هو هذا الشيء؟ رفض، قال:
إذا رفض التفسير يُحبس حتى يُفسِّر، والغالب أن الإنسان السوي لا يمكن أن يُقِر بأمرٍ مُجمَلٍ ثم يُفسِّر التفسير، لكن إذا فسَّره؛ قُبل تفسيره بأقل ما يُسمى مالًا.
لاحتمال أنه يقصد به شيئًا غير مُتموَّلٍ، أو احتمال أنه لم يكن صادقًا، أو أنه له غرضٌ معينٌ.
يعني هذه العبارات: "عظيمٌ" و"خطيرٌ" و"كثيرٌ" و"جليلٌ" و"نفيسٌ"، هذه تحتمل عدة احتمالاتٍ؛ ولذلك يُقبَل تفسيره بأقل مُتموَّلٍ؛ لأنه ما من مالٍ إلا وهو عظيمٌ بالنظر إلى ما هو دونه، فيُقبل تفسيره بأقل متمولٍ، وكذلك: "خطيرٌ" و"كثيرٌ" و"جليلٌ" و"نفيسٌ"؛ يُقبل تفسيره بأقل ما يسمى مالًا.
لكن لو قال: "له عليَّ مالٌ عظيمٌ"، مازحًا؛ لم يُقبل قوله؛ لأنه لا عذر لمن أقر.
لأن أقل الجمع ثلاثةٌ.
لأن "له عليَّ كذا وكذا درهمٌ"، تقديره بالرفع: "شيءٌ هو درهمٌ"، أما إذا كان بالنصب: "له عليَّ كذا وكذا درهمًا"، يعني صار تمييزًا؛ فيلزمه درهمٌ واحدٌ في الحالتين.
لأنه في الجر يكون بتقدير مضافٍ محذوفٍ؛ كأنه قال: له عليَّ بعض درهمٍ، وكذا لو قال: له عليَّ درهمٍ، وسكت ولم يُعيِّن المقدار؛ لزمه بعض درهمٍ، ويحتمل أن يكون المقصود: له عليَّ بعض درهمٍ.
وهذه التفصيلات لا داعي لها، والصواب: أن المرجع في ذلك إلى عرف المتكلمين في مخاطباتهم كما سبق.
فإذا أتى بهذه العبارات؛ يكون المبهم في جميع الصور من جنس المُعيَّن الذي ذُكر معه؛ لأن العرب تكتفي بتفسير إحدى الجملتين عن الأخرى؛ ولذلك قال الله تعالى في مدة أصحاب الكهف: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف:25]، أي: تسع سنين، فاكتفى بذكرها في الأول.
تحديد المجمل المحدد بشيءٍ محتملٍ
قال:
إذا قال: له عليَّ ما بين درهمٍ وعشرةٍ؛ لزمه ثمانيةٌ.
لأن ما بين درهمٍ وعشرةٍ: ثمانيةٌ.
لأنه جعل العشرة هنا غايةً، وهي غير داخلةٍ، والصواب: أن المرجع في ذلك كله إلى عرف المتكلمين في مخاطباتهم.
لأن قوله: "وبعده"، ألفاظٌ تجري مجرى العطف، وهكذا قوله: "درهمٌ ودرهمٌ ودرهمٌ"، فيلزمه في هذه الأحوال ثلاثة دراهم.
يعني: دون واو العطف؛ يلزمه أيضًا ثلاثة دراهم.
لأنه يحتمل اللفظ، يحتمل التأكيد.
يعني: يلزمه الدرهم والدينار؛ وذلك لأن الإضراب بقوله: "بل"، رجوعٌ عما أقر به لآدميٍّ؛ فلا يصح، فيكون قد أقر بالدرهم والدينار.
لأنه هو المُقَرُّ به.
يعني يلزمه الدرهم والدينار، كأنه قال: "له درهمٌ ودينارٌ، أو درهمٌ مع دينارٍ.
لإقراره بالدرهم، أما العشرة فهي غير صريحةٍ؛ فلا يلزمه إلا درهمٌ، إلا إذا كان هناك عرفٌ؛ فيعمل به.
ولهذا قال المصنف:
قول المصنف: "ما لم يخالفه عرف"، هذا يشمل الصور السابقة؛ ولذلك يُغني عن هذه التفصيلات التي ذكرها المؤلف هذه الجملة القصيرة من المصنف: "ما لم يخالفه عرف؛ فيلزمه مقتضاه".
يعني: ما لم يُرِد الحساب؛ فيلزمه عشرةٌ؛ لأن هذا هو مقتضى الحساب.
لو قال: ".. درهمٌ مع عشرةٍ"، يقصد الجميع، فيكون قد أقر على نفسه؛ فيلزمه أحد عشر.
لأنه أقر بالأول دون الثاني، يعني: أقر مثلًا بالتمر، وليس بالجراب أو بالسيف، وليس بالقراب أو بالثوب، وليس بالمناديل، وهذه أشياء متغايرةٌ، فإقراره بالأول لا يتناول الثاني.
لأن الفص جزءٌ من الخاتم، وإقراره بهما جميعًا.
لأن الأصل لا يَتْبع الفرع، بخلاف ما لو أقر بالأرض؛ فإنه يشمل الغرس والأشجار والبناء.
لأنه غير مالكٍ للأرض، وإنما للشجرة فقط.
لأنه إقرارٌ مجملٌ؛ فلا بد من تعيين أحدهما.
الإقرار المأخوذ من كلام غيره
ثم قال المصنف رحمه الله:
يعني خاتمة هذا الباب.
إذا اتفقا على عقدٍ وادعى أحدهما فساده
يعني: اتفق اثنان على عقدٍ من العقود؛ كالبيع، فادعى أحدهما فساد ذلك العقد؛ كأن ادعى وليُّ الصغير أو المجنون بأن العقد وقع من غير مكلفٍ، وادعى الآخر صحته؛ فالقول قول مدعي الصحة بيمينه؛ وذلك لأن الأصل في العقود الصحة ما لم يُقم المدعي البينة، فإن أقام البينة؛ فالقول قوله، أما إذا لم يُقم البينة؛ فالقول قول مدعي الصحة؛ لأن الأصل صحة العقود.
ادعى شخصان شيئًا بيد غيرهما، لكنهما فيه شركاء بالسوية، فأقر هذا الشخص الذي بيده هذه العين لأحدهما بالنصف؛ فالعين أو الشيء المُقَر به يكون بينهما نصفين بالسوية؛ لاعترافهما أنه لهما على سبيل الشيوع.
يعني لو كذبوه بأنه لقطةٌ؛ لأن أمره بالصدقة يدل على تَعَدِّيه فيه على وجهٍ يلزمه الصدقة بجميعه ويقتضي أنه لم يملكه، فيكون إقرارًا لغير وارثٍ؛ فيجب امتثاله كإقراره في الصحة.
ومن الفقهاء من قال: يلزمهم الصدقة بالثلث؛ لأنها جميع ماله، فالأمر بالصدقة بها وصيةٌ بجميع المال، والأقرب هو الأول.
الإقرار بالشهادتين قبل البلوغ أو قبل الموت
يعني مَن أقر بالشهادتين؛ حُكم بإسلامه وإن كان مميِّزًا أو كان قبيل وفاته؛ ولذلك النبي في قصة أسامة بن زيدٍ رضي الله عنهما لمَّا لحق أسامةُ رجلًا من الكفار في قتالٍ فلاذ بشجرةٍ، فلما رَفع عليه أسامة السيف؛ قال هذا الرجل: لا إله إلا الله، فقتله أسامة، فدعا النبي أسامة وعاتبه: أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟!، قال: إنما قالها -يا رسول الله- متعوذًا -يعني خائفًا من السيف- فقال عليه الصلاة والسلام: هلا شققت عن قلبه؛ حتى تعلم أقالها كذلك أم لا؟! كيف بـ"لا إله إلا الله" إذا جاءت تُحاجُّك عند الله يوم القيامة؟!، حتى إن أسامة تأثر تأثرًا بليغًا وقال: حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذٍ [6].
فالعبرة بالظاهر، لو قال قبيل موته، أو حتى في زمن صحته، أو في أي حالٍ من أحواله: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ يُحكم بإسلامه، يحكم بالظاهر، ولا يقال: إنه قالها خائفًا، وإنه قالها متعوذًا، وإنه قالها كذا، فيُحكم بالظاهر، ليس لنا إلا الظاهر؛ ولهذا عاتب النبي أسامة : أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟! [7].
والمؤلف ختم كتابه بهذه الجملة؛ رجاء أن يختم له بالشهادة.
ختام كتاب "دليل الطالب"
ثم ختم المؤلف كتابه "دليل الطالب" بهذا الدعاء العظيم:
يعني: أقر بالشهادة.
يعني: المؤلَّف.
وصلى الله وسلم على أشرف العالم، وسيد بني آدم، وعلى سائر إخوانه من النبيين والمرسلين، وآل كلٍّ وصَحْبه أجمعين، وعلى أهل طاعتك أجمعين، من أهل السماوات والأرضين.
الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، فله الحمد حتى يرضى، وله الحمد على كل حالٍ، والحمد لله وحده، اللهم آمين.
ثم قال:
فكان هذا في الجامع الأزهر، يعني انتهى من تأليفه الشيخ مَرْعي الكرمي صاحب "دليل الطالب" في الجامع الأزهر سنة (1019هـ).
وجامع الأزهر بناه العُبيديون، أو من يُسَمُّون أنفسهم بـ"الفاطميين"، ولمَّا احتلوا مصر؛ بنوه لنشر الفِرَق الباطنية، ولكن الله قيَّض صلاح الدين الأيوبي، هذا القائد العظيم، فاجتث التشيع والرفض من مصر، وهذه المعتقدات المنحرفة اجتثها من مصر، ولم يعد بعد ذلك لهم أثرٌ، وتحول هذا الجامع (جامع الأزهر) إلى مقرٍّ لنشر السُّنة والعلم والفقه، وكان يُدرَّس فيه فقه المذاهب الأربعة، وقد مضى عليه الآن أكثر من ألف سنةٍ وهو منارة علمٍ وهدًى، ونفع الله تعالى به نفعًا عظيمًا، وكان المصنف الشيخ مرعي الكرمي من علماء الأزهر في ذلك الزمان.
قال:
هذا الدعاءُ دعاءٌ طيبٌ، لكن آخره: "بمحمدٍ عليه الصلاة والسلام"، هذه فيها إشكالٌ؛ لأن قوله: "بمحمد عليه الصلاة والسلام"، ظاهره التوسل بجاه النبي ، وهو غير جائزٍ، وقد قسَّم العلماء التوسل بالنبي عليه الصلاة والسلام إلى ثلاثة أقسامٍ:
- القسم الأول: التوسل بالإيمان به واتباعه، وهذا مشروعٌ في حياته وبعد مماته.
- القسم الثاني: التوسل بدعائه؛ بأن يطلب من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يدعو له؛ كما في حديث الأعمى [8]، فهذا جائزٌ في حياته، ولا يجوز بعد مماته؛ لأنه قد مات فكيف يدعو؟!
- والقسم الثالث: وهو الظاهر من عبارة المصنف، التوسل بجاه النبي ومنزلته عند الله؛ فهذا لا يجوز لا في حياته ولا بعد مماته؛ ولهذا لم يُنقل عن صحابيٍّ واحدٍ، ولا عن تابعيٍّ، ولا عن أحدٍ من تابعي التابعين أنه فَعَل ذلك؛ وعلى هذا: فإن التوسل بجاه النبي غير مشروعٍ، وهذا اجتهادٌ من المصنف عفا الله عنا وعنه.
قال:
وكان الفراغ مِن رَقْم حَرْفِه على يد الفقير لربِّه الغني، العبد الصغير، المعترف بالذنب والتقصير، راجي عفوَ ربِّه القدير؛ إنه بالإجابة جديرٌ، الفقير: أبو السرور العبادي.
يعني هذا الناسخ.
لاحِظ هنا أن المؤلف فرَغ من تأليفه سنة (1019هـ)، والناسخ فرغ مِن نسخه سنة (1023هـ)، يعني بعد التأليف بأربع سنواتٍ.
آمين، آمين، آمين.
اللهم آمين.
وكان الفراغ من تأليف كتابي هذا "السلسبيل في شرح الدليل" يوم الخميس الرابع والعشرين من ربيع الأول، سنة (1441هـ)، بعدما أمضيت فيه عشر سنواتٍ تدريسًا وتصنيفًا، يعني أُلقي الدرس في حدود خمس سنواتٍ، ثم أُعيدت كتابته على شكل مصنَّفٍ خمسَ سنواتٍ أخرى، مع مراجعته، فأخذ مني عشر سنواتٍ تقريبًا.
فأسأل الله تعالى أن يتقبَّله، وأن يجعله من العلم النافع، وأن يجعل فيه البركة، وأن يكتب له القبول.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.