logo
الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(96) كتاب الشهادات- من قوله: "ومتى وجد الشرط بأن بلغ الصغير.."

(96) كتاب الشهادات- من قوله: "ومتى وجد الشرط بأن بلغ الصغير.."

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومَن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

أما بعد، فنستكمل التعليق على "السلسبيل في شرح الدليل".

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا. ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.

شروط مَن تُقبل شهادته

ما زلنا في "كتاب الشهادات"، ووصلنا إلى "باب شروط مَن تُقبل شهادته".

‌‌حُكم التحمل قبل حصول شرط الشهادة والأداء بعده

قال المصنف رحمه الله تعالى:

فصل:
ومتى وُجد الشرط: بأن بلغ الصغير، وعقل المجنون، وأسلم الكافر، وتاب الفاسق؛ قُبلت شهادته بمجرد ذلك.

يعني: إذا زال المانع الذي يمنع من قبول الشهادة كالصغر مثلًا فبلغ الصغير، أو المجنون فعقل المجنون، أو الكفر فأسلم الكافر، أو الفسق فتاب الفاسق؛ فإنها تُقبل الشهادة في هذه الحال، لأن الشهادة إنما رُدَّت لهذا المانع، وقد زال.

وقال بعض العلماء: إنه في الفاسق خاصةً لا تُقبل شهادته حتى يقترن بالتوبة إصلاح العمل، وذلك بأن تظهر قرائن وعلامات تدل على توبته وصلاحه، لا تكون التوبة دعوى بمجرد اللسان فقط، وإنما لا بُدَّ من قرائن؛ كأن مثلًا يُحافظ على الصلوات الخمس مع الجماعة في المسجد، ويشهد له جماعةُ المسجد بذلك، وتحسن أحواله، ونحو ذلك. وهذا هو الأقرب -والله أعلم-؛ لأن دعوى التوبة والصلاح كلٌّ يَدَّعيها، لكن العبرة بالعمل، فإذا الفاسق ادعى التوبة فلا بُدَّ من قرائن تدل على إصلاح العمل وعلى أنه قد تاب بالفعل من الفسق؛ وهذا هو القول الراجح.

وسبق في توبة القاذف في "باب القذف" أنه يُشترط لتوبته حتى تُقبل شهادته: أن يُكذِّب نفسه في المواضع التي قذف فيها غيره؛ فإن الله قال عن القاذف: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ۝ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:4-5]، وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أبدًا [النور:4].

فالقاذف الذي يقذف غيره ولم يأتِ بأربعة شهود يشهدون لمَن قذف به غيره؛ أَمَر الله بمعاقبته بعقوبتين:

  • العقوبة الأولى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، يُجلد ثمانين جلدة.
  • والعقوبة الثانية: عقوبة أدبية، وهي رَدُّ شهادتِه: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4].

ثم استثنى الله قال: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:5]، يعني: يمكن أن تُقبل شهادته إذا تاب وأصلح وليس تاب فقط، بل تاب وأصلح.

ما معنى "وأصلح"؟ يعني: يُكذِّب نفسه في المواضع التي قذف فيها غيره.

فإذَن؛ إذا كانت التوبةُ توبةَ قاذف فيُشترط لقبول شهادته أن يقترن مع التوبةِ الإصلاحُ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا [النور:5]، وذلك بأن يُكذِّب نفسه في المواضع التي قذف فيها غيره.

‌‌حُكم شهادة العبد وأصحاب الحِرَف الدنيئة

قال:

ولا تُشترَط الحرية؛ فتُقبل شهادة العبد والأمَة في كلِّ ما تُقبل فيه شهادة الحر والحرة.

لعموم الأدلة.

يعني: الرقيق تُقبل شهادته، إنسان عاقل بالغ وربما يكون أيضًا مِن أعقل الناس لكنه رقيق؛ فتُقبل شهادته كما تُقبل شهادة الحر؛ والله قال: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [البقرة:282]، وهذا يدخل فيه الأحرار والعبيد.

ولا يُشترط كون الصناعة غير دنيئة.

يعني: لا يُشترط في الشهادة أن تكون الصناعة غير دنيئة، فتُقبل شهادة مَن كانت صناعتُه دنيئةً كالزَّبَّال والحَجَّام والحَدَّاد ونحو ذلك إذا كانت توفَّرت فيه شروطُ قبولِ الشهادة؛ لأن الصناعة ليست شرطًا في اعتبار الشهادة من عدمها.

وأيضًا تُقبل شهادة ولد الزنا؛ وذلك لعموم الأدلة. وولدُ الزنا إنسانٌ قد ابتُلي، ابتُلي بأنه خُلق من ماءِ زانِيَيْن، فما ذنبُه حتى لا تُقبل شهادته؟ نقول: تُقبل شهادته، وربما يكون ولد الزنا مِن أصلح الناس ومِن أعقلهم وأتقاهم، ولا يؤاخذ بجريرة غيره، لا يؤاخذ بجريرة والديه: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164].

والقول بعدم قبول شهادته قول ضعيف مخالف للنصوص، والصواب أن شهادة ولد الزنا أنها تُقبل كغيره من الناس.

‌‌حُكم شهادة الأعمى

ولا كونه بصيرًا؛ فتُقبل شهادة الأعمى بما سمعه حيث تيقَّن الصوت، وبما رآه قبل عماه.

البصر ليس شرطًا في الشهادة؛ فتُقبل شهادة الأعمى بما سمع وبما رآه قبل العَمَى، وهذا قد رُويت فيه آثارٌ عن بعض الصحابة، كعلي وابن عباس؛ فالأعمى تُقبل شهادته كالبصير، تُقبل شهادته على ما سمع وعلى ما رأى قبل أن يُكَفَّ بصرُه.

باب موانع الشهادة

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك إلى موانع الشهادة.

قال:

باب: موانع الشهادة.

‌‌الأول: الملك أو البعضية أو الزوجية

قال:

وهي ستة؛ أحدها: كون الشاهد أو بعضه مِلكًا لمَن شهد له.

كأن يكون الشاهد رقيقًا عند السيد يريد أن يَشهد لسيده؛ لا تُقبل لأن الرقيق مِلك للسيد، ونفقة الرقيق على السيد.

وكذا لو كان زوجًا له.

لا تُقبل شهادة أحد الزوجين للآخر؛ وذلك للتهمة لأنه متهم بأنه يَحِيف في شهادته، وكلٌّ منهما يستفيد من مال الآخر ويتبسط فيه.

ولو في الماضي.

يعني: حتى ولو بعد الطلاق؛ لأنه ربما يراجع هذه المرأة بعد الشهادة فيكون متهمًا في شهادته.

وقال بعض العلماء: إن شهادة أحد الزوجين للآخر بعد الطلاق تُقبل إذا لم يكن ثَمَّ تُهَمة. فإذا كان مثلًا الشاهد معروفًا بصلاحه وعدالته، وكان بعد الطلاق شهد الرجل على المرأة أو المرأة على الرجل، فما المانع مِن قبولها؟! ما المانع إذا لم يكن ثَمَّ قرائن؟!

أو كان مِن فروعه وإن سَفَلوا، مِن ولد البنين والبنات، أو من أصوله وإن عَلَوْا.

يعني: لا تُقبل شهادة الفروع للأصول ولا الأصول للفروع؛ وذلك لأن كلًّا منهم متهم في حق الآخر. وهذا قد رُويت فيه آثار عن بعض الصحابة.

ومما يدل لذلك القصة المشهورة، قصة علي لمَّا تَوَجَّه إلى حرب معاوية وفَقَد دِرعًا، فلما انتهت الحرب ورجع للكوفة وجد الدرع عند يهودي يبيعها في السوق؛ قال عليٌّ: هذه دِرْعي لم أَبِعْ ولم أَهَبْ. قال اليهودي: دِرْعي، وفي يدي. فقال عليٌّ: إذَن؛ نذهب للقاضي. وكان القاضي شُرَيحًا.

فكلٌّ ادَّعَى أنَّ الدِّرْعَ دِرْعُه، فقال شُرَيحٌ لعليٍّ: ما البينة؟ قال: قَنْبَر وابني الحسن. فقال شريح: قَنْبَر تُقبل شهادته، لكن الحسن هو ابنك، ولا تجوز شهادة الابن لأبيه. فقال عليٌّ : رجلٌ مِن أهل الجنة [يقصد أن الحسن مِن أهل الجنة] كيف لا تُجيز شهادته؟! وقد سمعتُ النبي يقول: الحسن والحسين سيِّدَا شباب أهل الجنة[1].

فلم يقبل شُرَيحٌ شهادةَ الحسن، فقضى بالدرع لليهودي باعتبار أنها في يده، ولم يأتِ عليٌّ بالبينة الموصلة والمثبتة لكون الدرعِ درعَه؛ لأنه لم يأتِ إلا بشاهد واحد، فقضى بالدرع لليهودي.

هنا اليهودي انبهر من الموقف، وتأثر تأثُّرًا كبيرًا، قال: هذا أمير المؤمنين، اختلفتُ معه على الدرع، ويحاكمني عند قاضيه، وقاضيه يقضي عليه؛ لأن أمير المؤمنين لم يجد البينة التي تُثبت أن الدرع درعه، أشهد أن هذا هو الحق، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله!

ثم قال لشُرَيح: الدرع درعُه، كُنتَ [يعني لعلي؛ يخاطب عليًّا] كنتَ راكبًا على جملك الأورق، وأنت مُتَوجِّهٌ إلى صِفِّينَ، فوقعت منك ليلًا فأخذتُها.

فأسلم، فلما أسلم التحق بجيشِ عليٍّ وأصبح يقاتل معه حتى قُتِل بالنَّهْروان، وجاء في بعض الروايات: أن اليهودي لما أقرَّ لعلي بأن الدرع درعُه؛ قال علي: وهبتُها لك. لأنه لما رأى أنه أقر وأسلم؛ فمِن باب التشجيع له قال: وهبتُ لك هذه الدرع.

الشاهد من هذه القصة: أن شريحًا لم يقبل شهادة الحسن لأبيه، وهذا يدل على أن هذا الحُكمَ -عدم قبول شهادة الابن لأبيه- مستقرٌّ عند الصحابة والتابعين.

قال:

وتُقبَل لباقي أقاربه، كأخيه.

يعني: تُقبل الشهادة لباقي أقاربه، كأخيه وعمه وخاله وسائر القرابة؛ لعموم الأدلة، وقد حكى ابنُ المنذر الإجماعَ على ذلك.

ولا يصح القياسُ على الفروع والأصول في عدم قبول الشهادة؛ وذلك لأن بين الفروع والأصول بَعْضيَّةً وقرابةً قوية، بخلاف سائر الأقارب كالإخوة والأعمام والأخوال ونحوهم.

قال:

وكلُّ مَن لا تُقبل له؛ فإنها تُقبَل عليه.

يعني: ممن ذكرنا ممن لا تُقبل شهادته له، كأحد الزوجين للآخر، والفروع للأصول، والأصول للفروع ونحو ذلك؛ تقبل شهادته عليه، كأن يشهد الابنُ على أبيه أو الأبُ على ابنه مثلًا، أو الزوجُ على زوجته أو الزوجة على زوجها؛ فتُقبل، وذلك لانتفاء التهمة، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135].

‌‌الثاني: كونه يجرُّ بها نفعًا لنفسه

الثاني:
من موانع الشهادة.
كونه يَجُرُّ بها نفعًا لنفسه؛ فلا تُقبل شهادته لرقيقه ومُكاتِبِه.

إذا كانت الشهادة يَجُرُّ الشاهدُ بها نفعًا لنفسه؛ لا تُقبل شهادته.

ومَثَّل المصنفُ لذلك بشهادة السيد لرقيقه؛ لأنه ينتفع بذلك، لأن شهادة الرقيق ترجع بالنفع لسيده، وهكذا شهادة المكاتب لسيده لا تُقبل، والمكاتب عبدٌ ما بقي درهمٌ.

ولا لمُورِّثه بجُرْح قبل اندماله.

يعني: لا تُقبل شهادة الإنسان لمورِّثه بجُرْح قبل أن يندمل ذلك الجُرْح؛ لماذا؟ لأنه قد يَسْري الجُرْح في بدنه فيموت فتجب الدية للشاهد بشهادته، فكأنما شهد لنفسه؛ فهذه الشهادة فيها جلبُ منفعةٍ للشاهد.

ولا لشريكه فيما هو شريكٌ فيه.

لأنها تجرُّ نفعًا له، وهذا باتفاق العلماء.

ولا لمستأجِره فيما استأجره فيه.

يعني: كأن يشهد الأجير لمُؤجِّره فيما استأجره فيه؛ لأن هذه الشهادة سيَجُر بها المستأجِرُ نفعًا لنفسه.

والضابط فيما سبق هو أنَّ كلَّ شهادةٍ يَجُرُّ بها الشاهدُ نفعًا لنفسه أنها مردودةٌ وغير مقبولة.

‌‌الثالث: أن يدفع بها ضررًا عن نفسه

الثالث:
من موانع الشهادة.
أن يدفع بها ضررًا عن نفسه؛ فلا تُقبل شهادة العاقلة بجَرْحِ شهودِ قَتْلِ الخطأ.

نحن قلنا: مِن موانع الشهادة؛ أن يَجُرَّ بها نفعًا لنفسه. وأيضًا أن يدفع بها ضررًا عن نفسه.

ومِن أمثلة ذلك ما مثَّل به المصنف: أنها لا تُقبل شهادة العاقلة بجَرْحِ شهودِ قتلِ الخطأ، وهكذا أيضًا شِبْهُ العَمْد؛ لأنهم مُتَّهمون، فإذا العاقلةُ جَرَحَت الشهود -شهود القتل- فهم يُريدون أن يدفعوا الضرر عنهم، يريدون أن يدفعوا الدِّيَة عنهم؛ لأن هؤلاء الشهود سوف يُثبتون الدية، فإذا جَرَح العاقلةُ هؤلاء الشهودَ وطعنوا فيهم أرادوا بذلك دَفْع الضرر عنهم بجرح هؤلاء الشهود؛ فلا تُقبل شهادتهم.

ولا شهادةُ الغرماء بجَرْح شهودِ دَينٍ على مُفلِس.

يعني: إذا أراد الغرماء أن يجرحوا شهودًا يُثبتون دَيْنًا على مُفلِس؛ لا تُقبل شهادتهم؛ لماذا؟ لأن هؤلاء الغرماء متهمون بهذه الشهادة لأجل دفع الضرر عنهم وتوفير المال لهم.

ولا شهادةُ الضامن لمَن ضمنه بقضاء الحق أو الإبراء منه.

كذلك الضامن إذا ضمن إنسانًا؛ لا تُقبل شهادته لمَن ضمنه، لأنه متهم بقصد دفع الضمان عن نفسه.

قال:

وكلُّ مَن لا تُقبل شهادته له؛ لا تُقبل شهادته بجَرْح شاهدٍ عليه.
وذلك للتهمة.
وضابط ما سبق أن كلَّ شهادةٍ يَجُرُّ الشاهدُ بها نفعًا لنفسه أو يدفع بها ضررًا عن نفسه؛ لا تُقبل هذه الشهادة.

‌‌الرابع: العداوة لغير الله

الرابع:
من موانع الشهادة.
العداوة لغير الله.

وإنما قيَّد المصنفُ "العداوة لغير الله"؛ لأن العداوة إذا كانت لله فهي غير مؤثرة في الشهادة، لأن هذا هو المطلوب من المسلم؛ أن يوالي في الله ويعادي في الله، والحُب في الله والبُغض في الله مِن أوثق عُرَى الإيمان؛ والله تعالى يقول: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28].

فالعداوة الدينية هذه غير مؤثرة في قبول الشهادة، لكن إذا كانت العداوة دنيوية -يعني لغير الله - فهذه تُؤثِّر في قبول الشهادة.

ولكن نحتاج إلى معرفة ضابط العداوة التي تمنع الشهادة؛ لأنه ربما أنَّ بعضَ الناس إذا شَهِد عليه شاهدٌ اتَّهَمه بأنه عدوٌّ؛ وهنا لا بُدَّ مِن وضع ضابط للعداوة التي تُرَد بها الشهادة.

المؤلف ذكر ضابطًا جيدًا للعداوة التي تُرد بها الشهادة.

قال:

كفرحه بمساءته، أو غَمِّه لفرحه وطَلَبِه له الشَّرَّ.

هذا هو الضابط؛ كلُّ مَن يفرح بمساءتك -يعني: بمصيبة عليك أو بلاء-، أو يغتم لفرحك إذا حصل لك مناسبة سعيدة وفرحٌ مِن رزقٍ أو صحة أو عافية أو نحو ذلك؛ فيغتم ويطلب لك الشر؛ هذا عدو.

كيف يُعرف هذا؟ يُعرف هذا بالقرائن، وهذا أمرٌ ظاهر للناس، هناك بعض الناس تجد أنه يفرح لمساءتك، ويشمت بك، ويغتمُّ لفرحك، ويُحب ويطلب لك الشر؛ هذا يُعتبر عدوًّا، هذا لو شهد فيمكن أن يُطعن في شهادته؛ لأنه عدوٌّ.

قال:

فلا تُقبل شهادته على عدوه.

وقد ورد في هذا حديث عبدالله بن عمرو: أن النبي قال: لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غِمْر على أخيه[2]؛ ذي غِمْر يعني: ذي عداوةٍ وحقدٍ على أخيه. هذا الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه وأحمد، وهو حديث حسن. لكن لا بُدَّ من إثبات العداوة الحقيقية وليست العداوة المتوهَّمة؛ يعني لا بُدَّ من أن تكون هناك قرائن تدل على أن هذا الذي شهد أنه عدو لمَن شهد عليه.

إلا في عقد النكاح.

يعني: في عقد النكاح تُقبل شهادة العدو على عدوه؛ لأن القصد من الشهادة في النكاح هو الإعلان -إعلان النكاح وإظهاره-، ولا تهمة هنا بشهادة العدو؛ لأن شهادة العدو يتحقق بها المقصود وهو الإعلان والإشهار.

‌‌الخامس: العصبية

الخامس:
من موانع الشهادة.
العصبية؛ فلا شهادة لمَن عُرف بها، كتعصُّب جماعة على جماعة، وإن لم تبلغ رتبة العداوة.

إذا كان الإنسان متعصبًا ضد شخص أو جماعة؛ فلا تُقبَل شهادته، وهكذا لو كان جماعة ضد جماعة لا تُقبل الشهادة في هذه الحال؛ لحصول التهمة.

كيف تُعرف العصبية؟ تُعرف بالقرائن والأدلة.

‌‌السادس: الشهادة المُعَادَة بعد أن رُدَّت لتهمة

السادس:
من موانع الشهادة.
أن تُرَد شهادته لفسقه، ثم يتوب ويعيدها.

يعني: إعادة الشهادة بعد رَدِّها.

السادس: إعادة الشهادة بعد رَدِّها، كأن تُرَد لفسقه، فإن الفاسق تُرَد شهادته، فإذا تاب ثم شهد يقولون: تُرَد شهادته؛ لأنه ربما تاب لكي تُقبل شهادته؛ لكونه يُعيَّر برَدِّ شهادته، فربما قصد بالشهادة إزالة العار عن نفسه.

مثال آخر:

أو يشهد لمُورِّثه بجُرْح قبل بُرْئه، ثم يبرأ ويُعيدها.

لا تُقبل شهادته للتهمة؛ لأنه إذا شهد لمُورِّثه بجُرْح كما سبق قلنا: إنه لا تُقبل شهادته إذا كان قبل البُرْء، لكن لو أنه برئ فأعاد شهادته؛ لم تُقبل للتهمة.

أو تُرد لدفع ضررٍ أو جلبِ نفعٍ، أو عداوةٍ، أو مِلكٍ، أو زوجيةٍ، ثم يزول ذلك وتُعاد؛ فلا تُقبل في الجميع.

يعني: ردُّ الشهادة في هذه المواضع محلُّ تهمة؛ فلا تُقبل الشهادة، لا تقبل الشهادة إذا رُدَّت في هذه المواضع.

لكن تُقبَل في مواضع أخرى أشار إليها المصنف.

قال:

بخلاف ما لو شهد وهو كافر أو غير مكلف أو أخرس ثم زال ذلك وأعادوها.

إذا كان رَدُّ الشهادة لمانعٍ، ثم زال ذلك المانع وصار أهلًا لأداء الشهادة، وانتفت التهمة؛ فتُقبل الشهادة.

ومثَّل المؤلف لهذا بأمثلة: شَهِد كافرٌ قبل إسلامه، ثم أسلم، وشهد بعد إسلامه؛ تُقبل شهادته. أو شهد وهو غير مكلف، شهد إنسان وهو غير مكلف؛ رُدت شهادتُه، ثم بعد تكليفه أعاد الشهادة؛ تُقبل. أو شهد وهو أخرس ولم تُقبل شهادته ثم شفاه الله وأصبح ناطقًا وشهد بعد نطقه؛ فتُقبل شهادته لزوال المانع وانتفاء التهمة.

باب: أقسام المشهود به

ثم قال المصنف رحمه الله:

باب: أقسام المشهود به.

عَقَد المصنف هذا الباب لبيان أنَّ عدد الشهود يختلف باختلاف المشهود به.

قال:

وهو ستة.

الأول: الزنا

يعني: المشهود به ستة.

أحدها: الزنا؛ فلا بُدَّ من أربعة رجال يشهدون به.

وهذا بالإجماع، وقد ذكره الله تعالى في قوله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4].

وأنهم رأوا ذَكَره في فَرْجِها.

يعني: لا بُدَّ أن تكون الشهادة على الزنا شهادة صريحة لا تحتمل التأويل؛ فإن بعضَ العامة ربما يُسمِّي مقدمات الوطء وطأً، فبعض العامة يعتبر المباشرة زنا مثلًا، أو المقدمات يعتبرها زنا؛ فلا بُدَّ أن الشاهد على الزنا يُصرِّح بأنه -كما جاء في الحديث-: كالمِيل في المُكْحُلة، وكالرِّشَاءِ في البئر[3]، وأنه أدخل ذاك في فَرْجها، لا بُدَّ مِن أن يُصرِّح بذلك؛ لأجل أن تكون الشهادةُ شهادةً صريحةً بعيدة عن التأويل.

أو يشهدون أنه أقرَّ أربعًا.

هذا بناءً على المذهب عند الحنابلة، وهو أنه يُشترط في الإقرار على الزنا أن يكون أربعَ مراتٍ، وسبق أن ذكرنا أن القول الراجح في الإقرار على الزنا أنه يكفي الإقرارُ مرةً واحدةً، فلو وُجد شهودٌ يشهدون على هذا الإنسانِ أنه أقرَّ على نفسه بالزنا؛ فهنا تُقبل شهادتهم.

الثاني: ادعاء الفقر ممن عُرف بالغنى ليأخذ من الزكاة

الثاني: إذا ادَّعى مَن عُرف بغِنًى أنه فقير ليأخذ من الزكاة؛ فلا بد من ثلاثة رجال.

ادعى مَن عُرف بغناه بأنه قد تغيرت أحواله واضطربت أموره وأصبح فقيرًا، وطلب من الزكاة؛ فهنا لا بُدَّ من ثلاثة شهود؛ ويدل لذلك حديث قَبِيصة : أن النبي قال: لا تحل المسألة إلا لأحدِ ثلاثة وذكر منهم: رجلًا أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة مِن ذوي الحِجَا مِن قومه: لقد أصابت فلانًا فاقةٌ[4]لكن إذا ادَّعى الفقرَ مَن لم يُعرف بغِنًى، وطلب من الزكاة أو من الصدقة: هل يُعطى؟ الجواب: نعم، يُعطى ما لم يُعرف بالغنى، فإذا لم يُعرف بالغنى جاز إعطاؤه؛ أخذًا بظاهر الحال. وقد جاء للنبي رجلان جَلْدان يسألانِه، فصعَّد النظرَ فيهما ثم قال: إن شئتما أعطيتكما، ولا حَظَّ فيها لغنيٍّ ولا لقويٍّ مكتسب[5].

هل يُطالَب الفقير بالبينة المثبِتة لفقره إذا سأل الزكاة؟ الجواب: لا يُطالب، بل يؤخذ بظاهر الحال؛ وذلك لأن مطالبته بالبينة قد تؤدِّي إلى حرمانه من الزكاة وهو مستحق لها؛ فإن كثيرًا من الفقراء لا يستطيعون أن يأتوا بالبينة المثبِتة لفقرهم.

لكن أيضًا إذا لم يطالبه بالبينة سيترتب على ذلك أنه ربما أخذ الزكاةَ مَن لا يستحقها؛ وهنا مفسدتان تعارضتا:

  • المفسدة الأولى: حرمان المستحق لكونه لم يجد البينة.
  • والمفسدة الثانية: إعطاء الزكاة مَن لا يستحقها.

ومفسدة حرمان الفقير المستحق أشد من مفسدة إعطاء الزكاة مَن لا يستحقها؛ وهذا المعنى أشار إليه أبو العباس بن تيمية رحمه الله. ولذلك؛ إذا سأل الزكاة مَن لم يُعرف بغِنًى فإنه يُعطى من الزكاة، لكن ينبغي أن يُوعَظ بما وَعَظ به النبي الرجلين الجَلْدين الشابين اللذين سألاه؛ فقال: إن شئتما أعطيتكما، ولا حَظَّ فيها لغنيٍّ ولا لقويٍّ مكتسب[6].

ينبغي أن يُوعَظ هذا الذي لم يُعرف بغِنًى وسأل الزكاة ويُشَك في أمره، أن يقال: هذه الزكاة، ولا حظَّ فيها لغنيٍّ ولا لقويٍّ مكتسب، ويُعطَى من الزكاة أخذًا بظاهر الحال.

لو أعطى إنسانٌ الزكاةَ لمَن اعتقد أنه فقيرٌ ثم تبين بعد ذلك أنه غنيٌّ، فهل تبرأ ذمته؟ الجواب: نعم، تبرأ ذمته؛ لأنه أَخَذ بظاهر الحال واتقى الله ما استطاع، وأعطى الزكاة مَن يعتقد استحقاقه للزكاة.

والفقر كما قال الفقهاء: أمرٌ خفي، قد يدَّعيه مَن لم يكن فقيرًا؛ فيُكتفَى في معرفته بالظاهر.

الثالث: القود والإعسار وما لا يقصد به المال

الثالث:
من أقسام المشهود به.
القَوَدُ والإعسار، وما يُوجِب الحدَّ والتعزير؛ فلا بُدَّ من رجلين.

القَوَد وما يوجب الحدَّ والتعزير لا بُدَّ فيه من رجلين، ولا يُقبل فيه شهادة النساء.

أما الإعسار فاختُلف في عدد الشهود الذين يَثبت بهم الإعسار؛ على قولين:

  • القول الأول: أن الإعسار يثبت بشهادة شاهدين؛ وهذا قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عند الحنابلة، قياسًا على الحقوق والأموال.
  • القول الثاني: أن الإعسار لا يثبت إلا بشهادة ثلاثة شهود؛ وهذا هو المذهب عند الحنابلة ومن المُفْرَدَات، وقد اختار هذا القولَ الإمامُ ابن القيم رحمه الله، ويدل له حديث قَبِيصة السابق؛ وفيه أن النبي قال: حتى يقول ثلاثة من ذوي الحِجَا من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقةٌ[7].

والقول الراجح هو القول الثاني؛ وهو أنه لا تثبت دعوى الإعسار إلا بشهادة ثلاثة شهود فأكثر.

قال:

ومثله: النكاح، والرجعة، والخلع، والطلاق، والنسب، والولاء، والتوكيل في غير المال.

يعني: مثله في أنه لا تثبت هذه الأمور إلا بشهادة رجلين؛ لقول الله تعالى في الرجعة: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2]، ويلحق بالرجعة ما ذكره المؤلف من النكاح والخلع والطلاق والنسب والولاء والتوكيل في غير المال؛ لأن هذه كلها ليست مالًا ولا يُقصد بها المال؛ فلا بُدَّ فيها من شهادة رجلين.

الرابع: المال وما يقصد به المال

الرابع:
من أقسام المشهود به.
المال وما يُقصد به المال.

ومثَّل المؤلف لهذا القسم بأمثلة.

قال:

كالقرض والرهن والوديعة والعتق والتدبير والوقف والبيع وجناية الخطأ؛ فيَكفي فيه رجلان أو رجلٌ وامرأتان.

لقول الله : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282].

قال:

أو رجلٌ ويمين.

وهذا بناء على القول الراجح، وهو ثبوت الحق بشاهد ويمين، وقد جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله قضى بشاهد ويمين[8] أخرجه مسلم في صحيحه.

قال:

لا امرأتان ويمين.

يعني: لا تُقبل شهادة امرأتين ويمين، وكذلك لا تُقبل شهادة أربع نسوة؛ لأن النساءَ لا تُقبل شهادتهنَّ في الأموالِ منفرداتٍ، وإنما لا بُدَّ أن يكون معهنَّ رجل -كرجل وامرأتين-؛ وهذا مذهب الشافعية والحنابلة. وعلَّلوا لذلك بنقصان شهادتهن؛ ولهذا جُعلت شهادة المرأتين تعادل شهادة الرجل.

القول الثاني: أنه يُقبل شهادة امرأتين مع اليمين؛ وهذا هو مذهب المالكية، وهو القول الراجح؛ لأن الله أقام المرأتين مقام الرجل، والنبي يقول: شهادة امرأتين تعادل شهادة رجل[9].

فالقول الراجح هو أنه تُقبل شهادة امرأتين مع اليمين.

وقال ابن القيم عن هذا القول: إنه ظاهر القرآن والسنة، وليس في القرآن ولا في السنة ولا في الإجماع ما يمنع من ذلك، بل القياس الصحيح يقتضيه.

قال:

ولو كان لجماعةٍ حقٌّ بشاهدٍ فأقاموه؛ فمَن حلف أخذ نصيبه ولا يشاركه مَن لم يحلف.

هؤلاء جماعة لهم حق ومعهم شاهد واحد، فقيل لهم: احلفوا حتى تكون شهادة ويمين ويثبت لكم الحق، بعضهم حلف وبعضهم لم يحلف، الذي حلف يثبت الحق له فقط في نصيبه، والذي لم يحلف لا يثبت له شيء. هذا معنى كلام المؤلف: "فمَن حلف أخذ نصيبه ولا يشاركه مَن لم يحلف".

الخامس: داء دابة وموضحة ونحوهما

الخامس: داءُ دابةٍ ومُوضِحَةٌ ونحوُهما؛ فيُقبل قول طبيبٍ وبَيْطار واحدٍ لعدم غيره في معرفته.

الطبيب: هو الذي يعالج الإنسان. والبَيْطار: هو الذي يعالج الحيوان.

فيُقبل قول طبيب واحد ثقة إذا لم يوجد غيره في إثبات الأمراض، وهكذا قوله: "بَيْطار واحد" بالنسبة للدواب، هذا إذا لم يوجد غيره؛ أما إذا وُجد غيره فلا بُدَّ من اثنين على الأقل.

وهنا لاحِظ قول المؤلف: إنه إذا لم يوجد غير هذا الطبيب. وهذا يدل على أنه في زمن المؤلف كان الأطباء قليلين، فربما أنهم لا يجدون في البلد إلا طبيبًا واحدًا.

لكن في وقتنا الحاضر كَثُر الأطباء؛ ولذلك لا بُدَّ من طبيبين فأكثر، لا يُكتفَى بشهادة طبيب واحد. لكن المؤلف يتكلم عما هو موجود في زمنه، فقد كان وجود الأطباء في ذلك الوقت قليلًا.

قال:

وإن اختلف اثنان؛ قُدِّم قول المُثْبِت.

يعني: إذا اختلف طبيبان في إثبات المرض أو في نفيه؛ فيُقدَّم قول المُثبِت على النافي؛ لأن المُثبِت عنده زيادة علم.

السادس: ما لا يطلع عليه الرجال غالبًا

السادس:
من أقسام المشهود به.
ما لا يطلع عليه الرجال غالبًا، كعيوب النساء تحت الثياب، والرضاع، والبكارة، والثيوبة، والحيض، وكذا جراحةٌ وغيرها في حَمَّامٍ وعُرْسٍ ونحوِهما مما لا يحضره الرجال؛ فيكفي فيه امرأةٌ عدلٌ.

يعني هذه الأمور التي ذكرها المصنف يكفي فيها قول امرأة واحدة؛ لأنه مما لا يطلع عليه الرجال غالبًا، والموفق ابن قدامة قال: لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في قبول شهادة النساء المنفردات في الجملة. يعني: مثل عيوب النساء تحت الثياب، هذه لا يَعلم بها إلا النساء. الرضاع، البكارة، الثيوبة، الحيض، حصل جراحة بين النساء في حمام أو في عرس أو نحو ذلك.

ويدل لذلك ما جاء في "صحيح البخاري" عن عقبة بن الحارث: أنه تزوج ابنةً لأبي إهاب بن عزيز، فجاءته امرأة فقالت: إني قد أرضعتكما. فقال عقبة: ما أعلم أنكِ أرضعتِني ولا أخبَرْتِني بذلك. قالت: بلى. فركب إلى رسول الله في المدينة فسأله، فقال عليه الصلاة والسلام: كيف وقد قيل؟، ففارقها عقبة ونكحَت زوجًا غيره[10]؛ فدل ذلك على قبول قول المرأة في الرضاع إذا كانت ثقة، ويلحق بها الأمور الخاصة بالنساء التي لا يطلع عليها غيرهنَّ، كالبكارة والثيوبة والحيض ونحو ذلك.

قال:

والأحوط اثنتان.

الأحوط لا شك أنه اثنتان فأكثر، لكن يكفي قبول قول امرأة واحدة إذا كانت ثقة.

هنا نلاحظ أن في بعض المسائل تُقبل شهادة امرأة واحدة، وفي مسائل أخرى شهادة المرأتين تعادل شهادة رجل؛ وهذا يدل على أن كون شهادة امرأتين تعادل شهادة رجل ليس لأجل أن المرأة أضعف عقلًا من الرجل، لأنه لو كان كذلك ما قُبلت شهادة امرأة واحدة في الرضاع وفي العيوب التي لا يطلع عليها إلا النساء ونحو ذلك، فلو كان المقصود ضعف عقل المرأة ما قُبلت شهادة امرأة واحدة في هذه المسائل.

والذي يظهر أن السبب -والله أعلم- في كون شهادة امرأتين تعادل شهادة رجل في الأموال: هي أن الإنسان إنما يضبط الأشياء التي يهتم بها، الأشياء التي لا يهتم بها يضعف ضبطه لها، والنساء لا يضبطنَ الأمور المتعلقة بالأموال والتجارة والصفقات ونحو ذلك؛ لأن هذا ليس موضع اهتمام النساء.

فالمرأة اهتمامها في البيت وما يتعلق بأمور المنزل والتربية ونحو ذلك، لكنْ صفقاتٌ تجارية وأموالٌ وبيع وشراء؛ المرأة بعيدةُ الاهتمام بهذه الأمور، فيضعف ضبطها لأجل ذلك؛ ولهذا كانت شهادة امرأتين تعادل شهادة رجل.

ولهذا؛ عندما نتأمل الآية الكريمة: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282]، ثم قال الله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [البقرة:282]، يعني: لأجل كون شهادة امرأتين، يعني أن شهادة امرأتين تعادل شهادة رجل؛ لأجل ضعف الضبط عند المرأة في هذا المجال، أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا [البقرة:282] يعني: تنسى فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [البقرة:282]؛ لأن هذا ليس موضع اهتمام للمرأة. وهذا يجده الإنسان في الواقع، الشيء الذي لا يهتم به يضعف ضبطه له، والشيء الذي يهتم به يضبطه أكثر؛ فهذا هو الأقرب -والله أعلم- في تفسير ذلك.

لأنه قد يعترض بعض الناس يقول: نجد من النساء مَن هُنَّ أكثر ذكاءً وحفظًا وذاكرةً من كثيرٍ من الرجال، فكيف نقول بأن المرأة أضعف حفظًا أو أضعف عقلًا من الرجال؟! يعني: بعض النساء عقولهنَّ تَرْجح على عقول كثيرٍ من الرجال؛ انظر مثلًا إلى عقل أم المؤمنين عائشة أو خديجة، فبعض أمهات المؤمنين أو بعض الصحابيات عقولهنَّ راجحة وتَرْجح على كثير من الرجال.

فليست المسألة إذَن مسألة ضعف عقل أو ضعف حفظ، وإنما المسألةُ مسألةُ ضعف ضبط لأجل ضعف الاهتمام، فالأموال والصفقات التجارية هذه ليست مجال النساء؛ ولذلك يضعف ضبطهنَّ لها. لكن الأشياء التي تخص النساء مثل الرضاع والثيوبة والبكارة وعيوب النساء ونحو ذلك، يكفي فيها ليس شهادة امرأتين بل امرأة واحدة إذا كانت ثقة.

حُكم الشهادة الناقصة عن الكمال

قال المصنف رحمه الله:

فصل:
فلو شهد بقتل العمد رجلٌ وامرأتان؛ لم يثبت شيء.

يعني: القصاص والحدود لا تثبت إلا بشهادة الرجال؛ لأن النساءَ لا مدخل لهنَّ فيها؛ ولهذا لو شهد بقتل العمد أو الحَدِّ نساءٌ أو رجلٌ وامرأتان لم يثبت لا القصاص ولا الدية؛ وذلك لأن قتل العمد يوجب القصاص، والمال يُعتبر بدلًا عنه، فإذا لم يثبت الأصل لم يثبت البدل.

وإن شهدوا بسرقةٍ؛ ثبت المال دون القطع.

يعني: لو شهد رجلٌ وامرأتان بسرقةٍ فلا يثبت القطع على السارق بهذه الشهادة، لكن يثبت المال المسروق منه؛ لأن شهادةَ رجلٍ وامرأتين تُقبل في المال ولا تُقبل في الحدود ولا في القصاص.

ومَن حلف بالطلاق أنه ما سرق أو ما غصب ونحوه، فثبت فعله برجلٍ وامرأتين أو رجلٍ ويمين؛ ثبت المال.

لأن شهادة رجلٍ وامرأتين أو رجلٍ ويمين يثبت به المال وما في معناه.

وأما الطلاق؛ فقال عنه المصنف:

ولم تَطْلُق.

لأن الطلاق لا يثبت إلا بشهادة رجلين، فلا يثبت بشهادة رجل ويمين ولا بشهادة النساء.

هنا مسألة: إذا ارتاب القاضي في شهادة الشهود؛ فهل له أن يُحلِّفهم؟

الأصل أن الشهود لا يحلفون؛ لقول الله : وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ [البقرة:282]. وذهب بعض العلماء إلى أن القاضي إذا شك في شهادة الشهود جاز أن يحلِّفهم، وهذا القول ذهب إليه ابن وَضَّاح، وقال عنه ابن القيم: هذا القول ليس ببعيد من قواعد الشرع، لا سيما مع احتمال التهمة، وقد شرع الله سبحانه تحليف الشاهِدَين إذا كانا من غير أهل الملة على الوصية في السفر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [المائدة:106]، ثم قال الله : تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ [المائدة:106]. هنا في هذه الآية أمر الله تعالى بتحليف الشاهدين، ويكون ذلك بعد صلاة العصر، من باب تغليظ الشهادة، فإذا جاز تحليف الشاهدين من غير أهل الملة على الوصية في السفر؛ جاز ذلك إذا ارتاب القاضي في شهادة الشهود. وقد رُوي هذا عن شُرَيح: أنه كان يُحلِّف الشهود، فقيل له: إنك أحدثت في القضاء. قال: رأيتُ الناس أحدثوا فأحدثتُ.

وهذا هو القول الراجح: أن القاضي إذا ارتاب في شهادة الشهود جاز له أن يُحلِّفهم، فإذا مثلًا غلب على ظن القاضي كذب الشهود فأراد أن يُحلِّفهم، وأن هذا التحليف قد يردعهم عن الشهادة؛ فهذا مما يُسوَّغ، كما أنه يسوَّغ للقاضي أن يُفرِّق الشهود إذا ارتاب فيهم، فكذلك أيضًا له أن يحلِّفهم إذا ارتاب فيهم.

باب: الشهادة على الشهادة وصفة أدائها

ثم قال المصنف رحمه الله:

باب: الشهادة على الشهادة وصفة أدائها.

ما معنى الشهادة على الشهادة؟

قال المصنف:

الشهادة على الشهادة أن يقول: "اشهد يا فلان على شهادتي: أني أشهد أن فلان بن فلان، أشهدني على نفسه، أو شهدت عليه، أو أقر عندي بكذا".

يعني: شاهِدُ الأصل يطلب من شاهد الفرع أن يشهد على شهادته: "اشهد يا فلان بأن فلانًا أشهدني على كذا" فهو يشهد على شهادته، "أو أنه أقر عندي بكذا"؛ فهذه تُسمى شهادة على شهادة، لأن الشهود قد يعتريهم ما يعتري البشر من الموت والمرض ونحو ذلك.

فهذا مثلًا إنسان عنده حق وعليه شهادة شاهدين، لكنَّ هذين الشاهدين كبيران في السن أو مريضان ويُخشى أن تأتيهما المنية؛ فهنا الشاهد يشهد على شهادته احتياطًا، فهذه الشهادة مقبولة وتصح، لكن بضوابط.

قال المصنف:

ويصح أن يَشهد على شهادة الرجلين: رجل وامرأتان، ورجل وامرأتان على مثلهم.

فيصح أن يشهد رجل وامرأتان على شهادة رجل وامرأتين.

وامرأةٌ على امرأةٍ فيما تُقبل فيه المرأة.

لأن الفرعَ بدلٌ عن الأصل، فشهادة الفرع تحكي شهادة الأصل.

قلنا أنها تُقبل الشهادة على الشهادة بضوابط وشروط؛ ما هي هذه الشروط؟

شروط الشهادة على الشهادة

قال المصنف:

وشروطها أربعة:
أحدها: أن تكون في حقوق الآدميين.
فلا تُقبل في الجنايات والحدود ونحوها؛ لأن الشهادة على الشهادة مهما كان لا تخلو من شبهة، والحدود تُدرَأ بالشبهات، يعني الشهادة على شهادةٍ أضعف من شهادة الأصل، والحدود تُدرَأ بالشبهات.

لكن فيما عدا الحدود والقصاص تُقبل الشهادة على الشهادة.

الثاني: تعذُّر شهود الأصل بموتٍ أو مرضٍ أو غَيْبةٍ مسافةَ قصرٍ ويدوم تعذُّرهم إلى صدور الحُكم.

يعني: لا يُؤتى بشهادة الفرع إلا عند تعذُّر إحضار شهود الأصل؛ إما بسبب الموت، أو بسبب المرض، أو بسبب السفر، أو بسبب الغَيبة مسافةَ قصرٍ ويتعذر إحضارهم؛ فهنا يُلجأ إلى شهادة الفرع. فإذَن؛ لا يُصار لشهادة الفرع عند عدم الحاجة إليهم.

قال:

فمتى أمكن شهادة الأصل؛ وُقِّف الحُكم على سماعها.

يعني: لا تُقبل شهادة الفرع مع إمكانية شهادة الأصل، فإذا قُدِر على الأصل لم يُقبل للفرع، أَشْبَه التيمم مع وجود الماء، فإنه إذا حضر الماء بطل التيمم.

الثالث: دوام عدالة الأصل والفرع إلى صدور الحُكم، فمتى حدث مِن أحدهم قَبْله ما يمنعه؛ وُقِّف.

يعني: أن تدوم عدالة شاهدي الأصل وعدالة شاهدي الفرع إلى صدور الحُكم؛ فلو طرأ فسقٌ على شهادة شهود الأصل أو الفرع فإنها لا تُقبل الشهادة في هذه الحال.

الرابع: ثبوت عدالة الجميع.

يعني: لا بُدَّ من عدالة شهود الأصل وشهود الفرع؛ لأن الحُكم ينبني على الشهادتين جميعًا.

حُكم تعديل شاهد الفرع للأصل أو لرفيقه

قال:

ويصح من الفرع أن يُعدِّل الأصل.

لا مانع يمنع من أن يقوم شهود الفرع بتعديل شهود الأصل؛ قال الموفق بن قدامة: "من غير خلاف نعلمه؛ لأن شهادتهم تُقبل في الحق، فمن باب أَولى أنها تُقبل في التعديل".

لا تعديلُ شاهدٍ لرفيقه.

يعني: لا يصح أن يعدِّل الشاهدُ رفيقَه؛ لأن هذا يؤدي إلى انحصار الشهادة في شاهدٍ واحد، ولأن هذا مظنة تهمة.

وإن قال شهود الأصل بعد الحكم بشهادة الفرع: "ما أشهدناهم بشيء"؛ لم يضمن الفريقان شيئًا.

يعني: لو صدر الحُكم بناءً على شهادة الفرع، ثم قال شهود الأصل: "ما أشهدنا أصلًا هؤلاء بشيء"؛ لا يضمن واحد منهم شيئًا؛ لماذا؟ لأن شهود الفرع لم يثبت كذبهم ولم يثبت أيضًا رجوع شهود الأصل؛ لأن الرجوع إنما يكون بعد الشهادة، وهم إنما أنكروا أصل الشهادة.

ما تقبل به الشهادة من الألفاظ وما لا تقبل به

ثم قال المصنف رحمه الله:

فصل: ولا تُقبل الشهادة إلا بـ"أشهد"، أو "شهدت"، فلا يكفي "أنا شاهد"، أو "لا أعلم"، أو "أُحِقّ"، أو "أشهد بما وضعت به خطي".

يعني: يُشترط في الشهادة على الشهادة أن تكون بلفظ "أشهد" أو "شهدت"، ولا تصح بغير ذلك من الألفاظ.

لا تصح بالألفاظ التي ذكرها المصنف، كأن يقول: "لا أعلم" أو "أنا شاهد" أو "أنا أُحِقّ" أو "أشهد بما وضعت به خطي"؛ يقول المصنف أنها لا تُقبل بهذه الألفاظ.

والقول الثاني في المسألة: أن كلَّ لفظ يؤدي معنى الشهادة فإنه يُقبل. وهذا هو القول الراجح؛ لأنه لا دليل يدل على انحصار الشهادة في هذه الألفاظ، ما الدليل الذي يدل على أنها لا تُقبل الشهادة على الشهادة إلا بلفظ "أشهد" أو "شهدت"؟ لا دليل؛ فكل لفظ يؤدي المعنى فإنه يُقبل.

قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: لا يُعرف عن صحابي ولا تابعي اشتراطُ لفظ الشهادة.

يعني: هذا الشرط -لا تُقبل الشهادة على الشهادة إلا بلفظ "أشهد"- غير معروف عن الصحابة والتابعين؛ وعلى هذا تُقبل الشهادة بكل لفظ يؤدي معناها، ولا تنحصر في ألفاظ معينة.

قال المصنف:

لكن لو قال مَن تقدَّمه غيرُه بالشهادة: "بذلك أشهد" أو "كذلك"؛ صح.

لمَّا قرَّر المصنف أن الشهادة لا تُقبل إلا بلفظ "أشهد" أو "شهدت"؛ استدرَك قال: لو أن مَن تقدَّم غيرَه بالشهادة شَهِدَ ثم قال هذا الرجل: "بذلك أشهد" أو "كذلك" فتُقبل شهادته، يعني الشاهد الأصل قال: "أشهد بكذا وكذا وكذا"، ثم شاهد الفرع قال: "بذلك أشهد"، فإنها تُقبل.

وسبق أن القول الراجح أن الشهادة تُقبَل بأي لفظ يؤدي معناها.

رجوع الشهود عن الشهادة

وإذا رجع شهود المال أو العتق بعد حُكم الحاكم؛ لم يُنقَض، ويَضمنون.

لو رجع الشهود بعد حُكم الحاكم فإنه لا يُنقض الحُكم، لكن هؤلاء الشهود يَضمنون ما ترتب على ذلك الحُكم؛ فإن قالوا: تعمَّدنا شهادة الزور؛ فقد شهدوا على أنفسهم بالفسق، فيضمنون، وإن قالوا: أخطأنا؛ أيضًا يضمنون، ولا يلزم نقض الحُكم.

فعلى ذلك نقول: إنه إذا رجع شهود المال أو العتق بعد حُكم الحاكم فحُكمه لا يُنقض، وإنما الشهود هم الذين يضمنون ما ترتَّب على هذا الحُكم.

تعزير شاهد الزور

وإذا علم الحاكم بشاهدِ زورٍ بإقراره، أو تبين كذبه يقينًا؛ عزَّره.

إذا علم القاضي أن الشهادة كانت شهادةَ زور؛ فينبغي للقاضي أن يؤدب وأن يعزر الشاهد بعقوبة مناسبة، وإنما قلنا بعقوبة مناسبة يعني أنها لا تنحصر في سجنٍ أو جلدٍ أو نحو ذلك، بل كل ما كان فيه عقوبة للمُعزَّر ورَدْع لغيره فإن القاضي يفعله.

ولا يليق أن القاضي يعلم شهادة الزور بإقرار الشاهد أو بقرائن تدل على كذب الشاهد ويسكت القاضي ولا يتخذ موقفًا، بل لا بُدَّ من تعزير هذا الشاهد.

ولو تاب بما يراه.

يعني: يعزِّره الحاكمُ حتى لو تاب بما يراه من العقوبة المناسبة.

ما لم يخالف نصًّا.

يعني لا يعزِّره تعزيرًا يخالف النصوص، كحلق اللحية، وإنما بعقوبة مناسبة.

وهذا تكلمنا عنه في "باب التعزير"، وهو أن التعزير ليس فيه عقوبة محددة، بل تكون بما فيه إصلاح المُعزَّر وردع غيره.

وطِيفَ به في المواضع التي يُشتهر فيها فيقال: إنا وجدناه شاهد زور فاجتنِبوه.

يعني: هذه عقوبة التشهير، فعقوبة التشهير عقوبة تعزيرية، لا بأس أن يلجأ إليها القاضي إذا كان فيها مصلحة، ومن ذلك شهادة الزور؛ لأن شهادة الزور خطيرة، فإذا ثبتت شهادة الزور عند القاضي ينبغي أن يعزِّره وأن يشهِّر به.

والتشهير الذي أشار إليه المصنف أنه يُطاف به في المواضع التي يُشتهر فيها، يطاف به مثلًا على سيارة أو نحو ذلك، ويقال: إن هذا شاهد زور. أو أنه في الوقت الحاضر يُشهَّر به عبر المواقع ونحو ذلك، يقال: إن هذا شاهد زور، ونحو ذلك؛ لأن هذا أبلغ في الردع. وهذا عمومًا في جميع العقوبات التعزيرية، ليست خاصة بشهادة الزور، الأمور التعزيرية التي يَعظُم ضررها. فلو رأى القاضي أن يُعاقِب المُعزَّر بالتشهير؛ فهذا مما يُسوَّغ، فالعقوبة بالتشهير عقوبة سائغة؛ لأنها عقوبة مؤلمة، يعني بعض الناس التشهير عنده أشد ألمًا من الجَلْد وأشد ألمًا من السجن، فيمكن أن يلجأ القاضي إلى العقوبة بالتشهير في المواضع المناسبة لذلك.

ونكتفي بهذا القدر، ونقف عند "باب اليمين في الدعاوى".

وإن شاء الله الدرس القادم سيكون آخر درس في التعليق على "السلسبيل في شرح الدليل".

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

^1 رواه أحمد: 10999، والترمذي: 3768، وابن ماجه: 118.
^2 رواه أحمد: 6899، وأبو داود: 3601، والترمذي: 2298، وابن ماجه: 2366.
^3 رواه أبو داود: 4428.
^4 رواه مسلم: 1044.
^5 رواه أحمد: 17972، وأبو داود: 1633، والنسائي: 2598.
^6, ^7 سبق تخريجه.
^8 رواه مسلم: 1712.
^9 رواه مسلم: 79.
^10 رواه البخاري: 2640.
zh