logo
الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(95) باب الدعاوى والبينات- من قوله: "لا تصح الدعوى إلا من جائز التصرف.."

(95) باب الدعاوى والبينات- من قوله: "لا تصح الدعوى إلا من جائز التصرف.."

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علما نافعًا ينفعنا، ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.

نواصل التعليق على "السلسبيل في شرح الدليل"، وكنا قد وصلنا إلى "باب الدعاوى والبينات".

باب الدعاوى والبينات

قال المصنف رحمه الله:

باب الدعاوى والبينات

تعريف الدعاوى والبينات لغةً واصطلاحًا

"الدعاوى": جمع دعوى، وهي في اللغة: الطلب، وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [يس:57]، يعني: ما يطلبون، ادعى شيئًا: يعني طلبه، هذا المعنى اللغوي له.

أما اصطلاحًا: فهو إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شيءٍ في يد أو ذمة غيره.

إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاقَ شيءٍ: يعني يقول: أنا أستحق هذا الشيء، وهذا الشيء: إما أن يكون في يد غيره أو في ذمته فيدعيه.

وقال: "باب الدعاوى والبينات".

"البينات": جمع بينةٍ، وهي العلامة الواضحة، وهي عند الجمهور تنحصر في شهادة الشهود، وبعض العلماء قال: إنها لا تنحصر في شهادة الشهود، وإنما هي اسمٌ لكل ما أبان الحق وأظهره، وهذا رأي ابن القيم وجمعٍ من المحققين من أهل العلم، قال ابن القيم رحمه الله: "البينة اسمٌ لكل ما يُبيِّن الحق ويظهره، ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد؛ لم يوفِّ مسماها حقه، ولم تأت البينة قط في القرآن مرادًا بها الشاهدان، إنما أتت مرادًا بها الحجة والدليل والبرهان".

وهذا الذي ذكره ابن القيم هو الأقرب والله أعلم: أن البينة: كل ما يبين الحق ويظهر الحق، وأنها لا تنحصر في شهادة الشهود.

وعلى ذلك: كل ما أبان الحق يدخل في البينة، ومن ذلك: القرائن، فإن القرائن إذا اجتمعت؛ ربما تكون أقوى من شهادة الشهود، بل إن بعض القرائن -قرينة واحدة- تكون أقوى من شهادة الشاهدين، ومثلًا صك العقار الصادر من محكمةٍ يعني هذا حتى لو لم يُكتب عليه شهادة شهودٍ، هذا قرينته، هذا الصك أقوى من شهادة شاهدين على أن هذا العقار ملكٌ لفلان بن فلانٍ.

فإذنْ لا تنحصر البينة في شهادة الشهود، هذا هو الراجح في هذه المسألة.

ممن تسمع الدعاوى؟

قال:
لا تصح الدعوى إلا من جائز التصرف.

وجائز التصرف -مَرَّ معنا هذا المصطلح كثيرًا- وهو الحر المكلف الرشيد، وهذا باتفاق أهل العلم.

أحوال العين المدعاة، وحكم كل حالٍ

وإذا تداعيا عينًا؛ لم تخلُ من أربعة أحوالٍ:

انتقل المؤلف للكلام عن أحكام المتداعِيَين عندما يدعيان عينًا:

 أحدها: ألا تكون بيد أحدٍ

الحال الأولى:

قال:

أحدها: ألا تكون بيد أحدٍ، ولا ثم ظاهِرٌ ولا بينةٌ، فيتحالفان ويتناصفانها.

تكون البينات متكافئةً: إما أن تكون البينات متعارضةً، أو لا تكون بينةً أصلًا، لا تكون بينةً.

البينات إذا تعارضت؛ تساقطت، لكن إذا لم يكن بينةٌ ولا ثمَّ ظاهِرٌ وليست بيد أحدهما؛ فليس أحدهما بأولى من الآخر، فما الحكم؟ اثنان ادعيا عينًا، وهذه العين ليست بيد أحدهما، وليس مع أحدٍ منهما بينةٌ، وليس ثم ظاهرٌ؛ فالحكم أنهما يقتسمان هذه العين بينهما نصفين، يتناصفان هذه العين ويحلفان، ويدل لذلك حديث أبي موسى قال: "إن رجلين اختصما إلى النبي في دابةٍ ليس لواحدٍ منهما بينةٌ، فقضى بينهما نصفين" [1]، أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد.

وهذه قاعدةٌ مفيدةٌ لطالب العلم: أن الأشياء التي تشتبه ولا يوجد فيها قرائن ولا مرجحٌ: أنها تكون على النصف.

فذكر ابن تيمية في الأموال المختلطة: إذا اختلطت، ولم يكن التمييز -تمييز الحلال من الحرام فيها- فيكون على النصف، هنا أيضًا عندما تتعارض دعوى المدعي مع المدعى عليه، وليس هناك بينةٌ ولا ظاهِرٌ، وليست العين بيد أحدهما؛ فيتناصفانها مع اليمين لكل واحدٍ منهما.

وإن وُجد ظاهرٌ لأحدهما؛ عُمل به.

إن وجد ظاهرٌ؛ فيُعمل بالظاهر حتى لو لم توجد البينة؛ كأن يتخاصم الزوجان في متاع المنزل ولا بينة، فما يصلح للرجل يكون للرجل، وما يصلح للمرأة يكون للمرأة. فمثلًا: الثوب للرجل، الشماغ للرجل، الملابس الرجالية للرجل، الملابس النسائية وأدوات الزينة للمرأة.

الحال الثانية: أن تكون بيد أحدهما

الثاني: أن تكون بيد أحدهما، فهي له بيمينه، فإن لم يحلف؛ قُضي عليه بالنكول ولو أقام بينةً.

إذا كانت العين بيد أحدهما؛ فهذا مرجِّحٌ، إذا لم يكن ثمة بينةٌ فتكون العين له؛ كأن يدعي إنسانٌ على آخر أن السيارة له، والسيارة بيد المدعى عليه، فالعين إذنْ لمن؟ للمدعى عليه -لمن هي بيده إذا لم يكن ثم بينةٌ- بيمينه؛ لأن الظاهر من اليد التملك، لكن قلنا: "بيمينه"، فإن أبى أن يحلف وامتنع عن الحلف؛ فيُحكم عليه بالنكول، والصحيح: أنه يُقضى بالنكول، وهو الذي دلت له السُّنة، لكن لو أقام البينة بعدما حُكم عليه بالنكول: إنسانٌ قيل له: احلف، العينُ بيده، قيل له: سنُعطيك العين، لكن احلف"، فرفض، وقُضي عليه بالنكول، ثم أتى ببينةٍ تدل على أن العين له، هل يُقبل قوله؟

القول الأول: أنه لا تُقبل منه البينة بعد الحكم عليه بالنكول، وهذا هو القول الذي قرره المؤلف، وهو المذهب عند الحنابلة، وقولٌ عند المالكية والشافعية.

والقول الثاني: أنه تُقبل البينة بعد الحكم عليه بالنكول، وهذا مذهب الحنفية والمالكية، وقولٌ عند الشافعية، وهذا هو الأقرب والله أعلم؛ لأنه ما دام أحضر البينة؛ فيجب الأخذ بها حتى لو كان قد قُضي عليه بالنكول، حتى لو كان قد حُكم لغيره، فإنه كما قال عمر في كتابه الذي كتبه لأبي موسى : "فإن الحق قديمٌ لا يبطله شيءٌ"، متى ما استبان الحق؛ وجب الرجوع إليه، فالحق قديمٌ لا يبطله شيءٌ؛ فإذا أقام البينة بعدما حُكم عليه؛ يُنظر للبينة، وينقض الحكم الأول، كما رُوي عن عمر : "تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي".

هذا لو كان القضاء منفصلًا، يعني قضى وانتهى في قضيةٍ معينةٍ، ثم أتى بعد مدةٍ وقضيةٍ أخرى واختلف الاجتهاد فقال: تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي.

لكن المسألة التي بين أيدينا: قضيةٌ واحدةٌ، قضى القاضي بالنكول، ثم الذي قُضي عليه أو الذي حُكم عليه أتى ببينةٍ؛ فالواجب النظر في البينة، فإذا استبان للقاضي أن الحق معه، وأن البينة موصلةٌ؛ فيحكم له وينقض الحكم السابق.

الحال الثالثة: أن تكون بيديهما؛ كشيءٍ كلٌّ ممسكٌ لبعضه

الثالث: أن تكون بيديهما؛ كشيءٍ كلٌّ ممسكٌ لبعضه، فيتحالفان ويتناصفانه.

يعني: تنازعا في شيءٍ واحدٍ وهما ممسكان به، هذا ممسك به، وهذا ممسك به؛ كمثل جوالٍ، طبعًا بدون شريحةٍ، لو كان بشريحةٍ سيتبين مَن صاحب الجوال، هذا يقول: لي، وهذا يقول: لي، أو وعاءٍ مثلًا فيه ذهبٌ، فإن كان هناك بينةٌ؛ فالقول قول صاحب البينة، لكن إن لم يكن هناك بينةٌ؛ فيقتسمانه بالنصف ويتحالفان.

فإن قَوِيَت يد أحدهما؛ كحيوانٍ، واحدٌ سائقه، وآخر راكبه، أو قميصٍ، واحدٌ آخذٌ بكمه، والآخر لابسه؛ فللثاني بيمينه.

إذا قويت يد أحدهما؛ يُحكم لمن في يده أقوى، ومثل المؤلف لهذا بمثالين:

المثال الأول: حيوانٌ أحدهما السائق، والآخر الراكب، الراكب أقوى من السائق؛ فيحكم بهذا الحيوان للراكب إن لم يكن ثم بينةٌ.

أو تنازعا في قميصٍ، أحدهما يمسك بكم القميص، والآخر لابسٌ للقميص؛ فالذي هو لابسٌ للقميص أقوى من الذي يمسك بالكم، فيحكم للَّابس؛ لأنه أقوى إذا لم يكن ثم بينةٌ.

لو تداعيا سيارةً، أحدهما يقودها، والآخر راكبٌ لها؛ فهي لقائد السيارة؛ لأنه أقوى من الراكب.

قال:
وإن تنازع صانعان في آلةِ دكانهما؛ فآلة كلِّ صنعةٍ لصانعها.

تنازع صانعان في آلة الدكان، ولم يكن ثمة بينةٌ؛ فآلة كل صنعةٍ لصانعها، يعني مثلًا: نجارٌ وحدادٌ، آلة النجارة تكون للنجار، وآلة الحدادة تكون للحداد.

وأراد المؤلف أن يؤكد على أن هذا لا بد أن يكون إذا لم يكن ثمَّ بينةٌ، قال:

ومتى كان لأحدهما بينةٌ؛ فالعين له.
قال:
فإن كان لكل منهما بينةٌ، وتساوتا من كل وجهٍ، وتعارضتا وتساقطتا؛ فيتحالفان ويتناصفان ما بأيديهما، ويقترعان فيما عداه: فمَن خرجت له القرعة؛ فهو له بيمينه.

المدعيان كلٌّ أتى منهما ببينةٍ، وتساوت البينتان، هذا أتى بشاهدين وقد زُكِّيَا، وذاك أتى بشاهدين وقد زكيا؛ فهنا تتعارض البينتان وتتساقطان، ويحلف كل منهما بأن الحق له، ويتناصفان هذا الشيء المُدَّعَى به، ويقترعان فيما عداه، يعني فيما عدا الشيء الذي ليس بأيديهما، يقترعان عليه، فمَن خرجت له القرعة؛ فهو له بيمينه، ورُوي في ذلك آثارٌ عن بعض الصحابة والتابعين؛ رُوي عن عليٍّ وعن سعيد بن المسيب.

بينة الداخل والخارج

قال:

وإن كانت العين بيد أحدهما؛ فهو داخلٌ والآخر خارجٌ، وبينة الخارج مقدمةٌ على بينة الداخل.

المؤلف يقول: إن العين إذا كانت بيد أحدهما؛ فهذا يسميه الفقهاء: "الداخل"، وإذا كانت ليست بيده؛ فهو "الخارج".

"وبينة الخارج مقدمةٌ على الداخل"، وهذا هو المذهب عند الحنابلة: أن الخارج مقدمٌ هنا على الداخل، واستدلوا بحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: لو يُعطى الناس بدعواهم؛ لادعى ناسٌ دماء رجالٍ وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه [2].

ومعنى ذلك: أن العين بيد أحدهما، هذا هو "الداخل"، والذي ليس بيده العين هو "الخارج"، فتكون العين (بينة الخارج) مُقدَّمةً على بينة الداخل، لماذا؟ لأن العين بيد أحدهما، يعني كأن وجود العين بيد أحدهما كأنه هو المدعي، والآخر مدعًى عليه، فيكون منكِرًا، فتكون له العين بيمينه.

وذهب الجمهور إلى أن العين تكون للداخل بيمينه، يعني للذي بيده العين، هذا قول جمهور الحنفية والمالكية والشافعية، وروايةٌ عند الحنابلة، واختارها الشيخ ابن عثيمين، وهو القول الراجح؛ لأن البينتين لما تعارضتا؛ تساقطتا، فليست بينة أحدهما بأولى من بينة الآخر، وتبقى اليمين على من أنكر، وهو "الداخل"؛ فتكون العين له بيمينه.

أما حديث: لو يُعطى الناس بدعواهم..، فمحمولٌ على ما إذا كان للمدعي بينةٌ وليس للمدعى عليه بينةٌ.

قال:

لكن لو أقام الخارجُ بينةً أنها مِلكه، والداخلُ بينةً أنه اشتراها منه؛ قُدِّمت بينته هنا؛ لما معها من زيادة العلم.

استدرك المؤلف قال: إذا ادعى الداخل أنه اشتراها منه؛ فتُقدَّم بينة الداخل؛ لِمَا معها من زيادة العلم؛ لأنها شهدت بأمرٍ حادثٍ على مِلكٍ خفيٍّ -أنه اشتراها من فلانٍ- وأقام الآخر البينة.

أو أقام أحدهما بينةً أنه اشتراها من فلانٍ، وأقام الآخر بينةً كذلك؛ عُمل بأسبقهما تاريخًا.

إذا تعارضت البينتان، وكانت إحداهما أسبق تاريخًا من الأخرى؛ فيُرجح جانب البينة الأسبق تاريخًا؛ لأن المتأخر الظاهرُ أن بينته غير صحيحةٍ.

الحال الرابعة: أن تكون بيد ثالثٍ

الرابع: أن تكون بيدِ ثالثٍ، فإن ادعاها لنفسه؛ حَلَف لكل واحدٍ يمينًا وأخذها.

أن تكون العين بيد شخصٍ ثالثٍ، ثم هذا الثالث دخل في الدعوى وقال: العين ليست لك ولا لفلانٍ، العين لي، وليس هناك بينةٌ، فنقول: يحلف هذا الثالث يمينين: يمينًا للأول، ويمينًا للثاني، ويأخذ هذه العين بيمينه؛ لأن العين لما كانت بيده؛ هذا قوَّى جانبه.

فإن نكل؛ أخذاها منه مع بدلها، واقترعا عليها.

طيب، هذا الثالث لما أتاه هذان الرجلان وادعيا هذه العين التي بيده؛ قال: العين ليست لك ولا لفلانٍ، العين لي، قال له القاضي: احلف أنها لك؟ قال: لا أحلف، رفض، يقول المؤلف: تؤخذ منه، لا يُحكم بهذه العين له، وتكون لهذين الاثنين يقترعان عليها مع بدلها، فمَن خرجت له القرعة؛ فهي له.

وقوله: "مع بدلها"، يعني: مثلها إن كانت مثليةً، وقيمتها إن كانت متقومةً؛ لأن تركه لليمين -يقولون- أشبه ما لو أتلفها، فطولب بالعين مع البدل.

وإن أقر بها لهما؛ اقتسماها، وحَلَف لكل واحدٍ يمينًا.

يعني: أقر الثالث بالعين لهما جميعًا، فيقتسمان هذه العين نصفين، على القاعدة التي ذكرنا، ويحلف المُقِر لكل واحدٍ منهما يمينًا.

وحلف كل واحدٍ لصاحبه على النصف المحكوم له به.

يعني أيضًا كل واحدٍ منهما يحلف على النصف أنه له.

وإن قال:

يعني: قال الثالث.

هي لأحدهما، وأَجْهَلُه.

يعني: أجهل من هي له.

فصدقاه؛ لم يحلف.

لأنه لما صدقاه؛ لا حاجة للحلف، وإن لم يصدقاه؛ قال:

وإلا حلف يمينًا واحدةً.
لأن صاحب الحق غير معينٍ.
ويُقرَع بينهما، فمن قرع؛ حلف وأخذها.

لأن صاحب اليد أقر بها لأحدهما، وليس لواحدٍ منهما بعينه؛ فيصبح المُقَر له هو صاحب اليد دون غيره، وبالقرعة يتبين المقر له المستحق للعين، ويحلف ويأخذها؛ وبهذا يتبين أنه عند عدم وجود البينة وعدم وجود المُرجِّح مِن ظاهرٍ، أو من كون العين بيد أحدهما؛ فيُلجأ للتنصيف مع اليمين، يقال للمدعِيَين: لكل منكما النصف، مع اليمين، فإن لم يمكن التنصيف؛ فيلجأ للقرعة.

كتاب الشهادات

قال المصنف رحمه الله:

كتاب الشهادات

تعريف الشهادات

"الشهادات": جمع شهادةٍ، مشتقةٌ من المشاهدة؛ لأن الشاهد يخبر غيره عما شاهده، ويقولون: إن الشهادة هي الإخبار عما علمه بلفظ: "أشهد"، أو "شهدتُ"، أو ما كان في المعنى.

والشهادة هي أبرز البيِّنات؛ لأنها تُبيِّن ما الْتبس، وتكشف الحق في الشيء المُختلَف فيه.

حكم تحمل الشهادة وأدائها

قال:

تحمُّل الشهادة في حقوق الآدميين فرض كفايةٍ، وأداؤها فرض عينٍ.

عندنا تحمل الشهادة، كونه يشهد: يا فلان، اشهد معي على كذا، هذا من فروض الكفاية، لكن إذا شهد؛ يجب عليه أن يؤديها، يؤدي الشهادة، وهذا فرض عينٍ.

فإذنْ تحمُّل الشهادة من فروض الكفاية؛ حتى تُحفظ الحقوق، إذا قام بها من يكفي؛ سقط الإثم عن الآخرين أو عن الباقين، لكن إذا لم يقم به من يكفي؛ كأن قال: "لا، لن أشهد"؛ أثم الجميع، وتُصبح فرض عينٍ في حقِّ مَن علم بها؛ لقول الله : وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [البقرة:282]، يعني: تُصبح فرض عينٍ في حق من دُعي للشهادة.

أما أداء الشهادة، قال: "أداؤها فرض عينٍ"، يعني: من تحمَّل الشهادة؛ وجب عليه أن يؤديها متى دُعي لذلك؛ لقول الله : وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283]، وهذا وعيدٌ شديدٌ في حق كاتم الشهادة بمسخ قلبه؛ وإنما خص الله تعالى القلب بالذكر؛ لأنه موضع العلم بالشهادة.

ومتى تحملها؛ وجبت كتابتها.

يعني: إذا شهد الإنسان؛ يقول المؤلف: إنه يجب عليه أن يَكتب شهادته حتى لا ينسى، ولكن القول بالوجوب محل نظرٍ، ولو أن المؤلف قال: يستحب؛ لكان أولى، خاصةً في حق من كان ضعيف الحفظ، أو ضعيف الذاكرة، لكن من كان واثقًا من نفسه، ويعرف مِن نفسه أنه لن ينسى؛ فلا يجب عليه، ولكن الأولى أن يكتبها؛ لأنه حتى ولو كان واثقًا في ذاكرته وواثقًا في نفسه؛ فيبقى بشرًا، فربما ينسى، خاصةً مع تطاول الزمن؛ ولذلك ينبغي له أن يكتب ما شهد عليه.

حكم أخذ الأجرة على الشهادة

ويحرم أخذ أجرةٍ وجُعْلٍ عليها.

الشهادة من الأمور التي تُبذل مجانًا؛ فلا يجوز أن يؤخذ عليها أجرةٌ ولا جعالةٌ.

لكن إن عجز عن المشي أو تأذى به؛ فله أخذ أجرة مركوبٍ.

يعني: الأشياء الزائدة عن أداء الشهادة يجوز أن يؤخذ عليها أجرٌ؛ كأن يأخذ أجرة وسيلة المواصلات؛ مثلًا: دعوى في الرياض، والشاهد في مكة، مع أنه الآن في الوقت الحاضر أصبح يمكن أداء الشهادة عبر وسائل التقنية الحديثة، لكن ربما أحيانًا القاضي يستدعي الشاهد للحضور، فإذا احتاج وسيلة مواصلاتٍ؛ جاز أن يُعطَى أجرة المواصلات، أو كان في مدينةٍ كبيرةٍ وأراد أن ينتقل بسيارة أجرةٍ من الجنوب للشمال أو العكس؛ فلا بأس أن يُعطى أجرة النقل ونحو ذلك.

حكم كتمان الشهادة

ويحرم كتم الشهادة.

وهذا بالإجماع؛ لقول الله : وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283].

ولا ضمان.

يعني: لا يجب الضمان على من كتم الشهادة إذا تعذر إثبات الحق بدونه؛ لأنه لا تلازم بين التحريم والتأثيم والضمان.

حكم الإشهاد على العقود، وبيان ما يشهد به

ويجب الإشهاد في عقد النكاح خاصةً.

يعني: انتقل المؤلف لحكم الإشهاد، فالمؤلف يقول: إن الإشهاد ليس واجبًا وإنما هو مستحبٌّ، إلا في عقد النكاح فيجب؛ وذلك لأن من شروط صحة عقد النكاح إعلان النكاح، والحد الأدنى لإعلانه شهادة شاهدين.

ويُسن في كل عقدٍ سواه.

يعني: يسن الإشهاد في غير عقد النكاح، يسن الإشهاد على عقد البيع والإجارة وسائر العقود، والله تعالى يقول: وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [البقرة:282]، لكن حَمَل العلماء الأمر على الاستحباب؛ لأن السُّنة دلت على عدم الوجوب؛ فالنبي باع واشترى ولم يُشهد في عدة وقائع، ولو قيل بوجوب الإشهاد في كل شيءٍ؛ للَحِق الناس حرجٌ عظيمٌ؛ لأن من ذهب مثلًا لمحل تمويناتٍ واشترى له حاجاتٍ؛ لا بد أن يُشهد شاهدين على أنه اشترى، وهذا فيه حرجٌ عظيمٌ وعنتٌ.

فالإشهاد مستحبٌّ، والإشهاد في الغالب يكون في الأشياء الكبيرة، أما الأشياء اليسيرة -هذه الأمور التي يشتريها الإنسان من السوق ونحوها- هذه لا تحتاج إلى إشهادٍ، لكن لو اشترى مثلًا بيتًا أو نحوه، عقارًا أو أرضًا؛ هنا يستحب الإشهاد ولا يجب.

الإشهاد في الطلاق والرجعة أيضًا مستحبٌّ وليس واجبًا، وذهب ابن تيمية أيضًا إلى عدم وجوب الإشهاد حتى في النكاح، قال: إن الواجب هو الإعلان، فإذا حصل الإعلان؛ كفى ولو لم يكن إشهادٌ، وجمهور الفقهاء على وجوب الإشهاد في النكاح.

يحرم أن يَشهد إلا بما يعلمه برؤيةٍ أو سماعٍ

قال:
ويحرم أن يَشهد إلا بما يعلمه برؤيةٍ أو سماعٍ.

أي: الشاهد لا يجوز أن يَشهد إلا بما كان متأكدًا منه، متحققًا إما برؤيةٍ؛ بأن يرى هذا الشيء -يرى أن فلانًا فعل كذا- أو سماعٍ، والسماع على ضربين:

  1.  سماعٍ مشهودٍ عليه؛ كإقرار بمالٍ أو إقرار بطلاقٍ أو نحو ذلك.
  2.  أو سماعٍ بالاستفاضة؛ كأن يشتهر المشهود له بين الناس ويتسامعون به؛ فتجوز الشهادة بذلك.

حكم الشهادة بالاستفاضة

والشهادة بالاستفاضة في النسب والولادة مشروعةٌ بالإجماع، أما ما عداهما فمحل خلافٍ، والراجح: أنه تجوز الشهادة بالاستفاضة؛ كأن يشهد بأن فلان ابن فلانٍ، هذا العقار بيده منذ أن ظهر إلى الدنيا، وفلانًا بيده هذا العقار يسكن فيه ويبني ويهدم ونحو ذلك، فتجوز الشهادة بالاستفاضة.

ولذلك المؤلف أشار إلى هذه المسألة، قال:

ومن رأى شيئًا بيد إنسانٍ يتصرف فيه مدةً طويلةً كتصرف الملاك؛ من نقضٍ وبناءٍ وإجارةٍ وإعارةٍ؛ فله أن يَشهد له بالمِلك.

رأى شخصًا يتصرف في عقارٍ تصرُّف المُلَّاك؛ يَسكن ويهدم ويبني ويُؤجِّر ويُعِير ونحو ذلك، فيقول المؤلف: له أن يَشهد بأن هذا مِلكه؛ لأن تصرفه على هذا الوجه مدةً طويلةً بلا منازعٍ دليلٌ على صحة المِلك؛ فيجري هذا مجرى الاستفاضة.

لكن قال:

والورع أن يشهد باليد والتصرف.

يعني: الورع: ألا يقول: إنه ملك فلانٍ؛ لأنه لا يدري ربما يكون وضع يده عليه، وما أكثر الذين يضعون أيديهم على غير أملاكهم؛ ولذلك فالورع أن يقول: إني رأيته يتصرف في هذا العقار، ولا يقول: إنه ملكه؛ ولهذا قال المصنف: "والورع أن يَشهد باليد والتصرف"، فيشهد بأن يده عليه، وأنه كان يتصرف فيه بكذا وكذا، ولا يقول: أشهد بأنه مِلكه؛ لأنه يحتمل أنه ليس مِلكًا له، إنما وضع يده عليه، وأصبح يتصرف فيه تصرف المُلاك؛ فالورع ذلك.

ولو قيل بالوجوب؛ لكان متجهًا، لو قيل بأن الواجب ألا يَشهد بأنه مِلكه، وإنما يَشهد باليد والتصرفِ؛ لكان هذا القول متجهًا، خاصةً في وقتنا الحاضر؛ فإن بعض الناس يضع يده على عقارٍ ليس له، عقارٍ صاحبُه يكون غافلًا؛ إما غائبًا أو صغيرًا أو منشغلًا، فيأتي بعض الناس ويضع يده على هذا العقار، ويتصرف فيه تصرف الملاك، ثم إذا أتى صاحب العقار وأراد أن يأخذ عقاره؛ قال: هذا العقار لي، فإذا أتى الشاهد وشهد بأنه مِلكه؛ فهنا الشهادة فيها إشكالٌ؛ ولذلك فالأحسن ألا يَشهد بأنه ملكه، وإنما يشهد على اليد والتصرف فيقول: العقار بيده ويتصرف فيه بكذا وكذا، لو قيل بوجوب ذلك؛ لكان هذا متجهًا.

صور من الشهادة تختلف أحكامها

قال:
فصلٌ
وإن شهدا أنه طلَّق مِن نسائه واحدةً ونسي عينَها؛ لم تُقبل.

لأنه لا بد من التعيين، وشهادتهما شهادةٌ على غير معينٍ؛ فلا يُعمل بها من غير تعيينٍ.

ولو شهد أحدهما أنه أقرَّ له بألفٍ، والآخر أنه أقر له بألفين؛ كَمُلت بألفٍ.

يعني كملت الشهادة بألفٍ؛ لأن الشاهد الأول شهد بأنه أقر بألفٍ والثاني بألفين؛ معنى ذلك: حصل شهادةٌ على ألفٍ فتَكمُل بألفٍ.

وله أنه يَحلف على الألف الآخر مع شاهده ويستحقه.

الألف الثانية يوجد شاهدٌ؛ لأنه شاهِدٌ بألفين، فيوجد شاهدٌ على الألف الثانية، وله أن يَحلف فيُقضَى له بشاهدٍ ويمينٍ، والقضاء بالشاهد واليمين قد وردت به السنة.

وإن شهدا أن عليه ألفًا، وقال أحدهما: قضاه بعضه؛ بطلت شهادته.

شهد الشاهدان أن على إنسانٍ ألفًا لآخر، وقال أحد الشاهدين: "قضاه بعضه"، تبطل شهادته؛ للتناقض؛ لأنه إذا شهد بأن الألف جميعَه عليه، ثم شهد بأنه قد قضى بعضه؛ معنى ذلك: أنه لم يكن الألف جميعه عليه، فيكون كلامه متناقضًا، وكلام الشاهد إذا تناقض؛ يُبطل شهادته.

وإن شهدا أنه أقرضه ألفًا، ثم قال أحدهما: قضاه نصفه؛ صحت شهادتهما.

يقول: لأنه رجع عن الشهادة بالخمسمئة، وأقر بغلط نفسه.

ولا تناقض في العبارة، لكن كثيرًا من العوام لا يُفرقون بين هذه الألفاظ، لا يفرقون بين دلالة هذه الألفاظ في اللغة العربية؛ ولذلك يُعمل بما اشتَهر بين الناس، وما قضى به العرف في كلامهم ولغتهم، ولا يؤخذ بمدلول الكلام في اللغة العربية، كثيرٌ من الناس لا يعرف مدلول الكلام في اللغة العربية، إنما ينظر لمدلول الكلام في عرف هذا الشاهد والمجتمع الذي يعيش فيه، وهذا يختلف باختلاف الأزمان والأماكن.

ولا يحل لمن أخبره عدلٌ باقتضاء الحق؛ أن يشهد به.

يعني: مَن تحمل شهادة دينٍ، وأخبره إنسانٌ عدلٌ ثقةٌ بأن المَدين قد قضى الدين للدائن؛ فلا يجوز أن يذهب ويَشهد بثبوت الدين على المدين؛ لأن الشهادة في هذه الحال تفضي إلى أكل المال بالباطل.

ولو شهد اثنان في جمعٍ من الناس على واحدٍ منهم أنه طلق أو أعتق، أو شهدا على خطيبٍ أنه قال أو فعل على المنبر في الخطبة شيئًا، ولم يشهد به أحدٌ غيرهما؛ قُبلت شهادتهما.

المؤلف أورد هذه العبارة ليرد على بعض الفقهاء الذين يقولون: إن الشيء إذا وقع أمام ملأٍ من الناس؛ لا تكفيه شهادة شاهدين، بل لا بد من استفاضةٍ، والمؤلف يقول: لا، تُقبل شهادة شاهدين حتى لو كان هذا الشيء وقع في ملأٍ من الناس، كإنسان طلق أو أعتق أو نحو ذلك أمام الناس، أو شهدا على خطيب أنه قال كذا أو فعل كذا؛ تُقبل شهادتهما، ولا يشترط الاستفاضة في هذا.

شروط من تقبل شهادته

قال المصنف رحمه الله:

الأول: البلوغ

باب شروط من تقبل شهادته
وهي ستةٌ:
أحدها: البلوغ، فلا شهادة لصغيرٍ ولو اتصف بالعدالة.

وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم؛ لقول الله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [البقرة:282]، والصبي لا يُعتبر من الرجال، لكن استثنى بعض الفقهاء من هذا شهادة الصبيان في الجِراح قبل الافتراق، وهذا المذهب عند المالكية، وروايةٌ عند الحنابلة، وقد رُوي ذلك عن ابن الزبير وعليٍّ، وقال به إبراهيم النخعي، وهو الأقرب، لكن يُقيَّد ذلك بالجراح وقبل الافتراق، يعني في الأموال ونحوها لا تُقبل شهادة الصبيان، لكن في الجراح تُقبل، وأيضًا قبل الافتراق؛ حتى لا يُلقَّنوا؛ لأنه بعد الافتراق ربما يُلقَّن هذا الصبي، وكما قال ابن القيم: "لا يسع الناس إلا هذا"؛ حصل جراحٌ بين صِبيانٍ، وشهد بعضهم على بعضٍ قبل الافتراق، فالظاهر صدق هؤلاء الشهود، الظاهر صدقهم، وقيَّدنا ذلك بأن يكون "قبل الافتراق"؛ لأنه بعد الافتراق مَظِنةٌ للتلقين.

الثاني: العقل

الثاني: العقل، فلا شهادة لمعتوهٍ ومجنونٍ.

وهذا بالإجماع، أن هؤلاء لا يُقبل قولهم على أنفسهم؛ فعلى غيرهم من باب أولى.

الثالث: النطق

الثالث: النطق، فلا شهادة لأخرس، إلا إذا أداها بخطه.

يعني: الأخرس لا تُقبل شهادته، إلا إذا كتب الشهادة بخطه، وعُرف خطه، ولكن هذا محل نظرٍ؛ لأن هذا الأخرس ربما ابتُلي بهذا العيب (الخَرَس)، لكنه رجلٌ من أصلح الناس، ومن أتقاهم، ومن أضبطهم، ومن أذكاهم، فلماذا لا تُقبل شهادته؟! ولهذا فالقول الراجح: هو قبول شهادة الأخرس إذا فُهمت إشارته؛ لأن إشارة الأخرس تقوم مقام النطق في كثيرٍ من الأحكام، هذا هو الراجح في هذه المسألة.

الرابع: الحفظ

الرابع: الحفظ، فلا شهادة لمغفلٍ ومعروفٍ بكثرة غلطٍ وسهوٍ.

"المغفل": يعني الذي يكثر منه الذهول والخطأ والغلط والنسيان، حتى أصبح سمةً غالبةً عليه، وأصبح فلانٌ معروفًا بالغفلة؛ هذا لا تقبل شهادته، لكن من كان قليل الخطأ والسهو فهذا تُقبل منه؛ لأن هذا يعتري الناس كلهم، كل بني آدم خطاءٌ [3]، وأيضًا من عُرف بكثرة الوهم هذا لا تُقبل شهادته، بعض الناس يُعرف بكثرة الوهم وضعف الضبط، كثير الأوهام، فهذا لا تُقبل شهادته.

الخامس: الإسلام

الخامس: الإسلام، فلا شهادة لكافرٍ ولو على مثله.

لقول الله : وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2]، والكافر غير عدلٍ؛ ولقوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282]، والكافر غير مرضيٍّ، لكن شهادة بعضهم لبعضٍ أجازها بعض الفقهاء، وهو مذهب الحنفية، وروايةٌ عند الحنابلة، واختاره ابن تيمية في شهادة الكفار بعضِهم على بعضٍ.

وأيضًا تُقبل شهادة أهل الكتاب في الوصية في السفر إذا لم يكن عندهم غيرهم، ولكن يُستحلف مع شهادته، يُستحلف هذا الشاهد بعد صلاة العصر؛ لقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ -يعني: من المسلمين- أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ -يعني: من غير المسلمين، والجمهور على أنه لا بد أن يكون من أهل الكتاب- إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ -يعني: مسافرين- فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ، لاحِظ أن الله سمى الموت مصيبةً؛ لأنه يقطع الإنسان عن العمل للدار الآخرة، فسماه الله تعالى مصيبةً، تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ -يعني: مِن بعد صلاة العصر كما قال المفسرون- فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ [المائدة:106].

السادس: العدالة

السادس: العدالة.

لا بد أن يكون الشاهد عدلًا: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [البقرة:282]، وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2].

ما يعتبر للعدالة في الشهادة

ما هي العدالة؟ قال المصنف:

  1. ويعتبر لها شيئان:
    1- الصلاح في الدِّين، وهو أداء الفرائض برواتبها، واجتناب المحارم.
    2- والثاني: استعمال المروءة؛ بفعل ما يُجمِّله ويزينه، وترك ما يدنسه ويَشينه.

إذنْ العدالة لها أمران:

  1. الصلاح في الدين.
  2. واستعمال المروءة.

الأول: الصلاح في الدين

"الصلاح في الدين": فسره المؤلف بأداء الفرائض برواتبها، واجتناب المحرم، يعني: من أدى الواجبات وترك المحرمات؛ فهذا عدلٌ، لكن قول المصنف: "برواتبها"، يُفهم منه: أنه إذا لم يأتِ بالرواتب؛ فليس بعدل، وهذا مأخوذٌ من كلام الإمام أحمد: "من ترك الوتر؛ فهو رجل سوءٍ لا ينبغي أن تُقبل له شهادةٌ"، وهذه المقولة من الإمام أحمد قيل: إنها لا تثبت، وقد نُقل عنه كلامٌ غير هذا: نُقل عنه -كما ذكر الموفق- أنه قال: "الوتر ليس بمنزلة الفرض"، فلو أن رجلًا صلى الفريضة وحدها؛ جاز له.

والجواب الثاني: أن الإمام أحمد قال ذلك من باب التأكيد على صلاة الوتر والحث على أدائها؛ فلا يؤخذ الكلام على إطلاقه؛ ولذلك فالأقرب والله أعلم أن ترك الوتر وترك السنن الرواتب لا يقدح في العدالة؛ لأنه ليس بترك أمرٍ واجبٍ.

قال:

بألا يأتي كبيرةً.

يعني: انتقل المؤلف لتفسير اجتناب المحارم، ما معنى اجتناب المحارم؟ يعني: اجتناب المعاصي، ما المقصود؟ قال: "بألا يأتي كبيرةً"؛ لأن من أتى بكبيرةٍ؛ أصبح فاسقًا، ولم تُقبل شهادته.

وضابط الكبيرة: كل معصيةٍ فيها حدٌّ في الدنيا، أو وعيدٌ في الآخرة؛ مِن لعنةٍ أو غضبٍ أو سخطٍ أو نارٍ أو نفي إيمانٍ أو نفي دخول الجنة، ونحو ذلك.

وذهب بعض العلماء إلى أن العدالة تكون بما دل عليه قول الله : مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282]، كل مَرْضيٍّ عند الناس يطمئنون لشهادته؛ تُقبل شهادته، وهذا اختاره الإمام ابن تيمية رحمه الله، قال: "والعدل في كل زمانٍ ومكانٍ وطائفةٍ بحسَبها، فيكون الشاهد في كل قومٍ مَن كان ذا عدلٍ فيهم، وإن كان لو كان في غيرهم؛ لكان عدله على وجهٍ آخر"، يعني قال: إنه لو اعتُبر في شهود كل طائفةٍ ألا يشهد عليهم إلا من كان قائمًا بأداء الواجبات وترك المحرمات -كما كان الصحابة - لبطلت الشهادات كلها أو غالبها، يعني: لو اشترطنا هذا الشرط الذي ذكره الفقهاء؛ سنبطل كثيرًا من الشهادات، مَن ذا الذي يأتي بالواجبات ويجتنب المحرمات؟! قليلٌ في الناس، هذا هو الأقرب والله أعلم.

فإذنْ تكون العدالة هي: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282]، ممن ارتضى الناس أن يكون شاهدًا، يعني: ارتضى معظم الناس في المجتمع يرتضون شهادته؛ وعلى هذا مثلًا: من يحلق لحيته، هل تُقبل شهادته؟ على الضابط الذي ذكره المؤلف: لا تُقبل، لكن الصواب: أنه إذا كان ثقةً وصادقًا وعُرف بالصدق، وما جُرِّب عليه الكذب؛ تُقبل شهادته؛ لأن هذا يرضاه الناس عادةً في الشهادة، وهذا هو الذي عليه العمل في المحاكم.

إذنْ كل مَرْضيٍّ عند الناس، يطمئنون لقوله وشهادته، فهو مقبولٌ.

والشيخ عبدالرحمن السعدي علَّق على هذا، قال: هذا أحسن الحدود، ولا يسع الناسَ العملُ بغيره، خاصةً في وقتنا الحاضر.

وأيضًا الشيخ محمد بن عثيمين، أيضًا نُقل عنه كلامٌ، قال: لو طبَّقنا ما ذكره الفقهاء رحمهم الله فيمن اعتَبر العدالة على مجتمع المسلمين اليوم؛ لم نجد أحدًا إلا نادرًا، وحينئذٍ تضيع الحقوق؛ ولهذا فيكون الضابط: هو قول الله : مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282].

قال:

ولا يُدمن على صغيرةٍ.

لأن الصغيرة مع الإصرار تتحول إلى كبيرةٍ، وهذا مرويٌّ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، لكن هذا القول -أن الإصرار على الصغيرة يحولها إلى كبيرةٍ- لا دليل عليه؛ لأن هذا يقتضي فسق المُصِرِّ على صغيرةٍ، ولو أخذنا بهذا لأفضى إلى تفسيق أكثر الناس، اليوم أكثر الناس عندهم صغائر يُصرون عليها، فهذا يحتاج إلى دليلٍ واضحٍ، دليلٍ من القرآن أو السنة، ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ.

ولهذا قال بعض أهل العلم: إن الإصرار على الصغيرة ليس في منزلة ارتكاب الكبيرة، وانتصر لهذا القول الشوكاني، وهو الأقرب والله أعلم.

الثاني: استعمال المروءة

الثاني: استعمال المروءة بفعل ما يجمِّله ويَزينه، وترك ما يدنِّسه ويَشينه.

يعني: لا بد مع الصلاح في الدين أن يكون لدى الشاهد مروءةٌ، فلا يفعل أمرًا يخالف المروءة، ووضَّح المؤلف المقصود قال: "فعل ما يجمله ويَزينه، وترك ما يدنسه ويَشينه".

ثم ضرب المؤلف أمثلةً لما هو في زمنه، وربما بعضها يصلح لزمننا، وبعضها لا يصلح، قال:

فلا شهادة لِمُتَمَسْخِرٍ.

"المتمسخر" يعني: الذي نسميه في وقتنا الحاضر بـ(العَيَّار)، الذي يغلب عليه الهزل والسخرية ويأتي بما يُضحك الناس.

ورَقَّاصٍ.

يعني: كثير الرقص في الحفلات والمناسبات، هذا يقول: لا تُقبل شهادته، أو الطَّبَّال الذي مهنته ضرب الطبل ونحوه.

ومُشَعْبِذٍ.

يعني: صاحب الشعبذة، وهي الخفة في حركة اليدين بالسحر ونحوه.

ولاعبٍ بشِطْرَنجٍ ونحوه.
كنَرْدٍ؛ يعني هذه ربما تكون في زمن المؤلف، لكن في وقتنا الحاضر اللعب الآن بالألعاب لا يخالف المروءة، يعني لعب كرة القدم، أو حتى هذه الألعاب التي هي مباحةٌ في الأصل لا يخالف المروءة.
ولا لمن يمد رجليه بحضرة الناس.

هذا يظهر أنه في زمن المؤلف أنه يخالف المروءة، وفي وقتنا الحاضر لا يخالف المروءة، خاصةً إذا كان الإنسان يشعر بالتعب، أو تؤلمه ركبتاه أو رِجلاه، فمَدُّهما لا يُعتبر في عرف الناس اليوم مخالفًا للمروءة؛ إنسانٌ أتى مثلًا للمسجد الجامع مُبكِّرًا، وآلمته قدماه أو ركبتاه ومدهما أمامه، هل هذا يخالف المروءة؟ هذا في وقتنا الحاضر لا يخالف المروءة.

أو يكشف من بدنه ما جرت العادة بتغطيته.

يعني هذا يختلف باختلاف البلدان، إذا كان مثلًا في بلدٍ الناسُ يغطون رءوسهم بالشماغ أو بالغترة ثم هو يمشي حاسر الرأس؛ يقول: لا تُقبل شهادته؛ لأن فعله ينافي المروءة، أو يلبس سراويل قصيرةً ويمشي بها في الطرقات، هذه ربما في وقتٍ سابقٍ، يعني قبل أكثر من عشرين سنةً.

صحيحٌ إذا مشى الإنسانُ بدون أن يغطي رأسه في مجتمعنا يُعتبر هذا مخالفًا للمروءة، لكن في وقتنا الحاضر أصبح كثيرٌ من الشباب يمشون الآن وهم حاسرو الرءوس أيضًا، في بعض البلدان الناس لا تغطي رءوسها؛ فلا يعتبر هذا مخالفًا للمروءة، إذا مشى بسراويل قصيرةٍ، إذا كانت تكشف الفخذين أو جزءًا من الفخذين؛ فهذا ربما نقول: إنه يخالف المروءة.

ولا لمن يحكي المضحكات.

يعني: معروفٌ بكثرة النكت، يطرح النكت كثيرًا، ويغلب عليه حتى يعرف بذلك، يقول: لا تُقبل شهادته.

ولا لمن يأكل بالسوق.

يعني: يأكل بالسوق بمرأى من الناس، أو يأكل في المطعم؛ كان هذا قديمًا الناس يعتبرونه عندنا في مجتمعنا مخالفًا للمروءة، الآن شاع وانتشر وأصبح الأكل في المطاعم الآن معتادًا ولا ينافي المروءة.

ويُغتفر اليسير؛ كاللقمة والتفاحة.
وقلنا في وقتنا الحاضر: إن هذا لا يخالف المروءة إذا كان الأكل في المطعم، هذا يرجع للعرف، مخالفة المروءة ترجع للعرف، ما عده الناس عرفًا مخالفًا للمروءة؛ تُرَد معه شهادة الشاهد، وما لا فلا.

وهذه الأمثلة بعضها يصلح لزمننا، وبعضها لا يصلح، هذه الأمثلة التي ذكرها المؤلف بعضها يصلح، وبعضها لا يصلح.

ونقف عند قول المصنف:

ومتى وُجِد الشرط.

نكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

^1 رواه أبو داود: 3616، والنسائي: 5424، وأحمد: 19603.
^2 رواه البخاري: 4552، ومسلم: 1711.
^3 رواه الترمذي: 2499، وابن ماجه: 4251، وأحمد: 13049.
zh