logo
الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(86) باب حد القذف- من قوله: "من قذف غيره بالزنا حُدَّ للقذف.."

(86) باب حد القذف- من قوله: "من قذف غيره بالزنا حُدَّ للقذف.."

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فأسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك علمًا نافعًا ينفعنا، ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.

حد القذف

نستكمل التعليق على "السلسبيل في شرح الدليل"، وكنا قد وصلنا إلى "باب حد القذف".

شأن الكلمة في الإسلام

وقبل أن ندخل في هذا الباب؛ أود الإشارة إلى عظيم شأن الكلمة في الإسلام، وعظيم مسؤولية الإنسان عند إطلاق الكلمة.

الكلمة ليست مجرد كلامٍ يتكلم به الإنسان من غير محاسبةٍ، الإنسان محاسَبٌ على كل ما يتكلم به، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].

الكلمة لها شأنها في الإسلام، الإنسان يدخل الإسلام بكلمةٍ؛ بكلمة التوحيد، وقد يخرج منه بكلمةٍ؛ بكلمة الكفر، يدخل عقد الزوجية، وتصبح هذه المرأة الأجنبية زوجةً له بكلمةٍ؛ كلمة الإيجاب والقبول؛ يقول الولي: زوَّجتك، ويقول الزوج: قَبِلت، وقد يخرج منه بكلمةٍ؛ بكلمة الطلاق، إذا ظاهر الزوج من زوجته قال لزوجته: أنتِ عليَّ كظهر أمي، هذا موجبٌ للكفارة المغلَّظة، وهي عتق رقبةٍ، فمن لم يجد؛ فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع؛ فإطعام ستين مسكينًا، كل ذلك بسبب كلمة الظِّهار.

كذلك أيضًا هنا في القذف؛ إذا قذف الإنسان غيره؛ يُجلَد ثمانين جلدةً، وتُرَد شهادته، لا تُقبَل شهادته أبدًا، إلا أن يتوب.

فالكلمة لها شأنٌ عظيمٌ في الإسلام، والشريعة الإسلامية شددت في شأن الأعراض كثيرًا، ورتبت هذه العقوبة الغليظة، وهي جلد ثمانين جلدةً، ورد شهادته، شهادة القاذف. وأيضًا القاذف لمن كان بريئًا مستحقٌّ للَّعنة في الدنيا والآخرة؛ كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:23]، نسأل الله العافية! وهذا يدل على تشديد الشريعة في شأن الأعراض، لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الذي يقذف غيره يستحق اللعنة في الدنيا والآخرة، يعني يُطرَد من رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة، والإنسان إذا طُرد من رحمة الله في الدنيا والآخرة؛ فكيف يرجو الفلاح، وكيف يرجو التوفيق؟!

معنى القذف لغةً واصطلاحًا

نعود للقذف:

القذف معناه في اللغة: رَمْيُ الشيء بقوةٍ.

وأما اصطلاحًا: فهو الرمي بالزنا أو باللواط.

هل حد القذف حقٌّ لله أم للآدمي؟

وهل هو حقٌّ لله، أم حقٌّ لآدمي؟ قولان للفقهاء:

  • فالجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة على أنه حقٌّ لآدميٍّ.
  • والحنفية على أنه حقٌّ لله .

أما الجمهور فقالوا: إن سبب وجود الحد: القذف، والقذف جنايةٌ على عرض آدميٍّ؛ فكان حقًّا لآدميٍّ، كما لو جنى على بدنه، فلا فرق بين الجناية على البدن والجناية على العرض.

وأما الحنفية فقالوا: إن القذف حقٌّ لله؛ لأن الله هو الذي أمر بجلد القاذف ورد شهادته، ولأن استيفاء حق القذف موكولٌ إلى الإمام أو نائبه، ولو كان حقًّا لآدميٍّ؛ لأُوكل استيفاءه لذلك الآدمي.

والراجح -والله أعلم- هو قول الجمهور: وهو أن حد القذف حقٌّ لآدميٍّ، وليس حقًّا لله ؛ لقوة دليله، وأما قول الحنفية بأن الله أمر بجلد القاذف ورد شهادته؛ فهذا لا يقتضي أن يكون حقًّا لله؛ لأن الشريعة رتبت عقوباتٍ شديدةً على انتهاك حقوق العباد، وأما ما علَّلوا به من كون استيفائه موكولًا للإمام؛ فلا يلزم من ذلك أن يكون حقًّا لله؛ لأن المقذوف متهمٌ في حق القاذف، فلو أوكل الاستيفاء إلى المقذوف؛ لربما زاد في العقوبة رغبةً في التشفي.

وتظهر ثمرة الخلاف في مسألتين:

  • المسألة الأولى: أنه يترتب على قول الجمهور سقوط حد القذف بعفو المقذوف، متى ما عفا؛ سقط حد القذف.
    أما على قول الحنفية فلا يسقط.
  • والمسألة الثانية: أن حد القذف عند الجمهور لا يُقام إلا بطلبٍ من المقذوف؛ لأنه حقٌّ لآدميٍّ.
    أما عند الحنفية فيُقام الحد ولو لم يكن ذلك بطلبٍ من المقذوف.

من قذف غيره بالزنا حُدَّ للقذف

قال رحمه الله:

من قذف غيره بالزنا؛ حُدَّ للقذف.

"من قذف غيره بالزنا": المؤلف اقتصر على الزنا ولم يذكر اللواط؛ بناءً على تعريف الحنابلة للزنا، وقد سبق في درسٍ سابقٍ أن ذكرنا أن الحنابلة يُدخلون اللواط في تعريف الزنا وفي معنى الزنا، وذكرنا أن الراجح أنه لا يدخل، وأن عقوبة اللواط مختلفةٌ عن عقوبة الزنا، ولكن مع ذلك -مع قولنا: إنه لا يدخل اللواط في تعريف الزنا- إلا أن القذف باللواط يأخذ حكم القذف بالزنا؛ لأن المعنى الذي لأجله يُحَدُّ من قذف غيره بالزنا موجودٌ في القذف باللواط، وربما يكون أشد؛ لأن اللواط أقبح وأشنع من الزنا؛ ولذلك عاقب الله عليه أُمةً من الأمم عن بكرة أبيها، عاقبهم الله تعالى بأن جعل عاليَها سافلها وأمطر عليهم حجارةً من سجيلٍ منضودٍ، مسوَّمةً عند ربك؛ يعني مكتوب على كل حجرٍ: إن هذا الحجر يُرمَى به فلان بن فلانٍ؛ وهذا يدل على شدة العقوبة.

فاللواط أعظم في الشناعة من الزنا؛ ولذلك من قذف غيره باللواط فإنه يستحق هذه العقوبة.

عقوبة القاذف الحسية والمعنوية

ما هي العقوبة؟

فسَّرها المؤلف بقوله:

حُدَّ للقذف ثمانين إن كان حرًّا، وأربعين إن كان رقيقًا.

لقول الله : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]، فحَدُّ القذف إذنْ منصوصٌ عليه في القرآن: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً.

وقوله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ، المقصود بالإحصان هنا: العفة، الإحصان في باب القذف المقصود به: العفة، فيكون معنى قوله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ، يعني العفيفات، وهذا يشمل قذف النساء وقذف الرجال، لكن الآية جاءت بقذف النساء؛ لأن قذف النساء أشد.

وقد يُطلَق الإحصان على معانٍ أخرى غير العفة؛ قد يطلق على الحُرية؛ كما في قول الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ، يعني: الحرائر، إلى قوله: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ [النساء:25]، يعني: فإن أتت الأَمَة بفاحشةٍ؛ فعليها نصف ما على الحُرة من العقوبة.

وقد يُطلَق الإحصان على الزواج؛ كما في قول الله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:24]، يعني: المتزوجات.

فإذنْ الإحصان يُطلَق على عدة معانٍ، والذي يحدد المعنى هو السياق، فالإحصان في باب القذف يُراد به: العفة؛ وعلى ذلك: فمعنى قوله : وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ، يعني: يرمون العفيفات.

والمؤلف يقول: "ثمانين إن كان حُرًّا"، يعني: يُجلَد ثمانين جلدةً إن كان حرًّا، أما إن كان عبدًا؛ فأربعين؛ لقول الله : فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ، يعني: إن أتين (الإماءُ)، وهذا يشمل العبيد أيضًا، فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ، يعني: نصف ما على الحرائر مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25]، يعني: من العقوبة.

فعقوبة الرقيق نصف عقوبة الحر، فإذا كان الحر يُجلد ثمانين جلدةً على القذف؛ فالرقيق يُجلد أربعين جلدةً.

وهذه هي العقوبة الأُولى للقاذف: أن يُجلد ثمانين جلدةً.

وهناك عقوبةٌ أخرى غير الجلد، وهي عقوبةٌ أدبيةٌ: هي رد الشهادة؛ كما قال سبحانه: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4]، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [النور:5]، فلا تُقبَل شهادته إلا إذا تاب؛ وذلك لأنه آذى الناس بلسانه، فناسب أن تُعطَّل هذه الآلة التي استُخدمت في تلك الأذية، إلا إذا تاب وأصلح، لا بد من الإصلاح، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا [النور:5].

والإصلاح -كما يقول أهل العلم- أن القاذف يذهب للأماكن التي قَذَف فيها غيره ويُكذِّب نفسه، لا بد من أن يُكذب نفسه، وإلا لم تتم توبته، إذا أراد أن تُقبَل توبته، وأن تُقبَل شهادته؛ فلا بد من أن يتوب، ومن تمام التوبة: أن يُكذب نفسه في الأماكن التي قَذف فيها غيره.

شروط إقامة حد القذف

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك لشروط إقامة حد القذف، قال:

وإنما يجب بشروطٍ تسعةٍ.

يعني هذه الشروط، هذه هي طريقة الشيخ مرعي صاحب "الدليل"؛ أنه يجمع الشروط في مكانٍ واحدٍ.

الشروط التسعة؛ أربعة منها في القاذف، والباقي في المقذوف.

شروط القاذف

قال:

أربعةٌ منها في القاذف: وهو أن يكون بالغًا، عاقلًا، مختارًا، ليس بوالدٍ للمقذوف وإن علا كَقَوَدٍ.

أن يكون القاذف "بالغًا": فغير البالغ لا يُحَد؛ لأنه مرفوعٌ عنه القلم.

وأيضًا "عاقلًا": فالمجنون لا يُحد؛ ولذلك لو قذف غيرُ البالغ أو قذف المجنونُ؛ فإنه لا يُحد، والناس لا يعبؤون بكلام المجنون ولا بكلام أيضًا غير البالغ، الناس لا تُلقي له بالًا، ولا يلحق المقذوف التعيير بذلك؛ يعني: إنسان قذفه طفلٌ، لا يلحقه العار، أو قذفه مجنون، لا يلحقه العار.

أيضًا قال: "مختارًا"، فالمُكرَه لا يُحَد حد القذف.

"ليس بوالدٍ للمقذوف": هذا الشرط الرابع، أنه يُشترط أن القاذف "ليس بوالدٍ للمقذوف وإن علا"، أما إذا كان القاذف والدًا للمقذوف؛ فلا يُحد، سواءٌ أكان أبًا أو جدًّا أو أمًّا، كالقصاص، والعلاقة بين الوالد وولده علاقةٌ خاصةٌ؛ ولذلك الأب له أن يأخذ من مال ولده ما شاء، بشرط ألا يضره، وألا يأخذ من مال ولده ويعطيه ولدًا آخر، وأيضًا لو قَتَل والدٌ ولدَه؛ فإنه لا يُقاد به قِصاصًا؛ فمن باب أولى أنه لا يُحد بقذفه.

ذُكر هنا في "السلسبيل" مسألةٌ: وهي قذف الغضبان، هل يوجب الحد؟ لو قذف إنسانٌ آخر حال الغضب الشديد، فهل ذلك يوجب الحد؟

في هذه المسألة قولان للفقهاء:

  • القول الأول: أنه يُحد حد القذف، حتى وإن كان القاذف غضبان، وهذا هو مذهب الحنفية والحنابلة، والظاهر من مذهب الشافعية؛ لأنه نَطَق بقذف هذا الإنسان فيُحد.
  • القول الثاني: أنه لا يُحد حد القذف، ولكن يُعزَّر بعقوبةٍ مناسبةٍ، وهذا مذهبٌ ذهب إليه بعض الفقهاء، وهو قولٌ عند المالكية، واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: لا طلاق ولا عتاق في إغلاقٍ [1]، ومن معاني الإغلاق: الغضب، قالوا: فإذا كان الطلاق لا يقع، طلاق الغضبان غضبًا شديدًا لا يقع، وهكذا عتاقه لا يقع؛ فمن باب أولى أن قذفه غير معتبرٍ.

ثم إن المقذوف إذا قذفه إنسانٌ حال الغضب الشديد لا يلحقه العار، كما لو قذفه غير الغضبان، وهذا القول قولٌ له وجاهته، وقد قوَّاه ابن القيم رحمه الله تعالى وقال: هذا قولٌ قويٌّ جدًّا، ولعله الأقرب -والله أعلم- في هذه المسألة؛ لأن الإنسان حال الغضب لا يتحكم -أقصد الغضب الشديد- لا يتحكم في تصرفاته ولا في أقواله؛ ولذلك لا يقع طلاقه، فمن باب أولى أنه أيضًا لا يُحد حد القذف؛ لأنه كالمكرَه، لكن ليس معنى ذلك أنه يُترك، وإنما يُعزَّر بعقوبةٍ مناسبةٍ.

أيضًا هناك مسألة القذف على وجه الغيرة؛ إذا قذف الإنسان غيره حال الغيرة الشديدة، كما لو قذفت مثلًا المرأة ضَرَّتها؛ ففيها الخلاف السابق، والأقرب -والله أعلم- أن القاذف لا يُحد، هذا اختيار ابن تيمية رحمه الله؛ للحديث السابق: لا طلاق ولا عتاق في إغلاقٍ، ولأن الناس لا تأبه بمثل هذا الكلام الواقع على سبيل الغيرة، ولا يلحق المقذوف العار من امرأةٍ قذفت جارتها على سبيل الغيرة، لا يلحق الجارة العار؛ ولذلك فالأقرب -والله أعلم- أن القذف على سبيل الغيرة لا يُحد معه القاذف، لكن يُعزَّر بعقوبةٍ مناسبةٍ.

إذنْ هذه أربعة شروطٍ في القاذف.

شروط المقذوف

وهناك خمسة شروطٍ في المقذوف، قال المصنف:

وخمسةٌ في المقذوف: وهو: كونه حُرًّا، مسلمًا، عاقلًا، عفيفًا عن الزنا، يوطأ ويطأ مثلُه.

أن يكون "حرًّا": فقذف غير الحر لا يوجب الحد، وإنما فيه التعزير.

"مسلمًا": فقذف غير المسلم لا يوجب الحد، وإنما يكون فيه تعزير بعقوبةٍ مناسبةٍ.

"عفيفًا عن الزنا": إذا كان المقذوف ليس عفيفًا؛ فإنه لا يُحد حد القذف؛ لأن الله تعالى شرط ذلك بقوله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ [النور:4]، يعني: العفيفات؛ فإن مفهوم الآية: أن مَن يرمي غير المحصن؛ لا يُحد حد القذف، ولكن هذا يوجب التعزير بعقوبةٍ مناسبةٍ.

قال: "يوطأ ويطأ مثلُه"، وعند الحنابلة: أن من بلغ عشر سنين، هو الذي يكون عنده قدرةٌ على الوطء بالنسبة للذكر، والأنثى إذا بلغت تسع سنين؛ تتحمل الوطء، فيُحددونه بهذه السن.

حكم من قذف غير البالغ

قال:

لكن لا يُحد قاذفُ غيرِ البالغ حتى يبلغ؛ لأن الحق في حد القذف للآدمي؛ فلا يُقام بلا طلبه.

يعني: من قَذف غير بالغٍ؛ قذف مثلًا صبيًّا عمره إحدى عشرة سنةً، يقول المؤلف: إنه يُنتظر حتى يبلغ هذا الصبي، فإذا بلغ؛ إن شاء طالَب بحقه، وإن شاء عفا.

والقول الثاني في المسألة: أن بلوغ المقذوف شرطٌ لوجوب الحد على القاذف، وهذا قول الجمهور: الحنفية والمالكية والشافعية، وروايةٌ عند الحنابلة.

وهذا هو الأقرب والله أعلم، أن المقذوف إذا كان غير بالغٍ؛ فإنه لا يُحد القاذف؛ لأن غير البالغ لا يلحقه العار.

حكم من قذف غير المحصن

قال:

ومن قَذَف غير محصنٍ عُزِّر.

هذه تكلمنا عنها قبل قليلٍ، وقلنا من قذف غير مُحصَنٍ -يعني غير عفيفٍ- فلا يُحد حد القذف، ولكنه يُعزَّر بعقوبةٍ مناسبةٍ؛ كفًّا للأذى عن أعراض الناس.

كيفية ثبوت حد القذف

قال:

ويثبت الحد هنا وفي الشرب والتعزير بأحد أمرين: إما بإقراره مرةً، أو شهادة عدلين.

يَثبُت حد القذف بأحد أمرين: إما بإقرار القاذف، والإقرار سيد الأدلة؛ لأن العاقل لا يُقِر على نفسه إلا بما كان صحيحًا.

والأمر الثاني: شهادة عدلين فأكثر، فإذا شهد اثنان على شخصٍ بأنه قد قذف فلانًا؛ فإنه يُحد حد القذف.

الأمور التي يسقط بها حد القذف

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك لمُسقِطات حد القذف، قال:

ويَسقُط حد القذف بأربعةٍ:
1- بعفو المقذوف.

وهذا مبنيٌّ على أن حد القذف حقٌّ لآدميٍّ، كما هو قول الجمهور، فإذا عفا المقذوف؛ سقط الحد عن القاذف.

 2- أو بتصديقه.

يعني: إقرار المقذوف بما قذفه به القاذف.

3- أو بإقامته البيِّنة.

لو أنه قذف شخصًا، ثم أتى معه بثلاثة شهودٍ؛ سقط عنه حد القذف؛ لأنه أتى بالبيِّنة.

4- أو باللعان.

وهذا خاصٌّ بين الزوجين؛ إذا قذف الرجل زوجته بالزنا؛ فيقال له: إما أن تلاعن، وإما أن تُحَد حد القذف، فإن لاعن؛ سقط عنه حد القذف.

أقسام القذف

قال:

والقذف: حرامٌ، وواجبٌ، ومباحٌ.

هنا انتقل المؤلف للكلام عن حكم القذف، قال: تارةً قد يكون حرامًا، وتارةً قد يكون واجبًا، وتارةً قد يكون مباحًا، ثم فصَّل بعد ذلك.

الأصل: تحريم قذف الإنسان لغيره، القذف حرامٌ، هذا هو الأصل، وأعراض الناس مبنيةٌ على المُشاحَّة، وهكذا أيضًا دماؤهم وأموالهم، والنبي قال في خطبته في يوم عرفة في أعظم مجمعٍ: أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ؛ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا [2].

والمسلم ينبغي أن يحرص على عفة اللسان، وأن يبتعد عن القذف، وعن السباب، وعن الكلام الفاحش، فالمؤمن ليس بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا البذيء [3].

قال صالح ابن الإمام أحمد: "قلت لأبي: إن قومًا يقولون: إنهم يحبون يزيد، قال: يا بني، وهل يحب يزيد مَن يؤمن بالله واليوم الآخر؟! قلت: يا أبت، فلماذا لا تلعنه؟ قال: يا بني، متى رأيت أباك يلعن أحدًا؟!"، هذه أخلاق أهل الصلاح والأئمة، فإذا لم يحب الإنسان أحدًا؛ لا يسبه ولا يقذفه؛ بل يُعرِض عنه.

فإذنْ القذف بالزنا أو بعمل قوم لوطٍ من كبائر الذنوب، وفاعله مستحقٌّ للَّعنة في الدنيا والآخرة، وهكذا القذف ببدعةٍ أو بكفرٍ، عندما يقال: فلانٌ مبتدعٌ أو فلانٌ كافرٌ.

وهكذا أيضًا: القذف بوصفٍ يكرهه الإنسان وهو بريءٌ منه، يدخل في هذا، ويستحق القاذف اللعنة في الدنيا والآخرة، إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [النور:23].

إذنْ القذف الأصل فيه أنه محرمٌ، لكن متى يجب؟

وجوب القذف وإباحته

قال:

ويجب على من يرى زوجته تزني، ثم تلد ولدًا يَقوَى في ظنه أنه من الزنا؛ لشبهه به.

فإذا حملت امرأته من الزنا؛ فيجب عليه أن يقذفها؛ لأنه يجب عليه اللعان، واللعان لا بد أن يسبقه قذفٌ، ولكن لا بد من أن يغلب على ظنه أنها حملت من الزنا، وفي وقتنا الحاضر أصبح هذا ميسورًا، عن طريق ما يُسمى بـ"البصمة الوراثية" أو "الحمض النووي"، فإذا تأكد أن هذا الولد ليس منه؛ فيجب عليه اللعان، لكن لو تأكد أن هذا الولد منه؛ لم يجب عليه اللعان.

فإن لم تتب؛ وجب عليه أن يطلقها، أما إن تابت وأظهرت الندم، ورأى أن المصلحة في إمساكها؛ فله أن يمسكها.

قال:

ويباح إذا رآها تزني، ولم تلد ما يَلزمه نفيه، وفراقها أولى.

يعني: إن زنت، لكن لم تحمل من الزنا؛ فيباح له أن يقذفها ثم يلاعنها، والأولى ألا يلاعن؛ ولهذا قال المؤلف: "وفراقها أولى"، الأَولى ألا يلاعن، ما دام أنها لم تحمل من الزنا؛ لأن ذلك أستر، ولأن قذفها يُفضي إلى حلف أحدهما كاذبًا إذا تلاعنا، ولأن هذا يؤثِّر على الأسرة، يؤثِّر على أسرته كلها، قد يكون له بناتٌ فلا يتقدم أحدٌ لخطبتهن؛ بسبب هذا الموقف؛ لأن هذا يكون عارًا على الجميع، يعني على الأسرة كلها؛ فهذه أعراضٌ؛ ولذلك الأحسن هو الستر في هذه الحال، وفراقها أَولى، ولكنه ليس واجبًا إذا تابت.

وقد جاء في حديث ابن عباسٍ أن رجلًا أتى النبي فقال: يا رسول الله، إن امرأتي لا تَرُد يد لامسٍ، قال: طلِّقها، قال: لا أصبر عنها، أو قال: إني أحبها، قال: أمسكها [4]، أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد، والحديث من العلماء من ضعَّفه، ومنهم من صححه، لكن على تقدير صحته فلا بد أن يُفهم الفهم الصحيح، كما ذكر ابن تيمية وابن حجرٍ وبعض أهل العلم؛ من أن المقصود بقوله: "لا تَرُد يد لامسٍ"، أنها لا تقع في الزنا، لكنها متساهلةٌ مع الرجال الأجانب؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: فأمسكها، وهذا يعني -كما ذكر ابن تيمية- أن بعض النساء يكون عندها توسعٌ وتبرجٌ؛ لو وضع رجلٌ أجنبي يده عليها؛ لم تمانع، لكنها لا تُمكِّنه من وطئها، لا تقع في الزنا؛ فهذا لا يوجب فراقها، وإنما يُباح له أن يُمسكها، وخاصةً إذا كان له مصلحةٌ من وجود أولادٍ ونحو ذلك؛ ولهذا قال  في البداية: طلِّقها، لمَّا قال: "إني أحبها"؛ قال: أمسكها.

صريح القذف وكنايته

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن صريح القذف وكنايته.

وصريح القذف: هو ما لا يَحتمل سوى معنى القذف، أما الكناية: ما يَحتمل القذف وغيره، وهذا مما يختلف باختلاف الأزمان والأماكن.

ألفاظ القذف الصريحة

قال:

وصريح القذف: يا منيوكة، يا منيوك، يا زانٍ، يا عاهر، يا لوطيُّ، ولست ولد فلانٍ؛ فقذفٌ لأُمه.

"يا منيوكة"، و"يا منيوك": هذه صريحةٌ في الزنا قديمًا وحديثًا، "يا زانٍ" كذلك، هذا صريحٌ، "يا عاهر"، هذه يقول المؤلف: إنها صريحةٌ في الزنا، لكن ربما أنها في زمن المؤلف، أما في وقتنا الحاضر فيحتمل أن يُراد بذلك الزنا، ويحتمل أن يراد بالعاهر طويل اللسان؛ ولهذا فالأقرب أن هذا اللفظ من ألفاظ الكناية، وبعض الناس يقصد بالعاهر طويل اللسان، ولا يقصد به الزاني، كما ذكرنا أن ألفاظ القذف تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فربما أنه في زمن المؤلف وفي بيئته يقصدون بالعاهر الزاني، لكن في مجتمعاتنا يحتمل أن يُراد بذلك: الزاني، ويحتمل أن يُراد بذلك: طويل اللسان.

وقوله: "يا لوطي"، يا لوطي أيضًا لفظٌ صريحٌ في القذف.

وأيضًا: "لست ولد فلانٍ"؛ لأن قوله: لست ولد فلانٍ، يعني هناك اتهام لأُمه بالزنا؛ فيكون قذفًا لأمه.

ألفاظ القذف المكنية

وكنايته:

يعني كناية القذف.

زنت يداك أو رجلاك أو يدك أو رجلك أو بدنك.

لأن هذه ربما يقصد بها القذف الصريح، وربما يقصد بها غير ذلك؛ كما جاء في الحديث: كُتِب على ابن آدم حظه من الزنا، مدركٌ ذلك لا محالة؛ فزنا العينين: النظر، وزنا اللسان: النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدِّق ذلك أو يكذِّبه [5]، فإذا فُسِّر ذلك بغير الزنا؛ قُبِل منه.

أيضًا من ألفاظ الكناية في القذف، قال المؤلف:

ويا مخنَّث، ويا قحبة.

المؤلف يرى أن هذه من ألفاظ الكناية في القذف، نعم يرى أنها من ألفاظ الكناية؛ يا مخنث، ويا قحبة، أنها من ألفاظ الكناية، وهذا ربما يكون صحيحًا في زمن المؤلف وبيئته، أما في مجتمعاتنا في الوقت الحاضر فهذه من صريح القذف؛ قوله: يا مخنث، هذا صريحٌ في القذف، أو يا قحبة، هذا صريحٌ في القذف، وليس كنايةً.

ويا فاجرة، يا خبيثة.

هذه كنايةٌ، يحتمل أنه لا يقصد الزنا، الخبث ربما يُراد به سوء الأخلاق، بعض الناس إذا رأى سيئ الخلق عنده مكرٌ وخديعةٌ؛ يُعبِّر عنه بـ"خبيث"، وهكذا أيضًا لو رأى عنده جرأةً على المعاصي؛ يُعبِّر عنه بـ"الفاجر"، لا يلزم إذنْ أن يكون المقصود الزنا، فهذه تكون من ألفاظ الكناية.

أو يقول لزوجة شخصٍ: فضحتِ زوجكِ وغطَّيتِ رأسه.

هذه من ألفاظ الكناية؛ لأنه يحتمل أن يكون مقصود القائل يعني: فضحتِ زوجكِ بطول لسانكِ، وكثرة شكواك، وسوء أخلاقك. "وغطَّيتِ رأسه" يعني: حياءً من الناس؛ بسبب أنكِ سيئة الخلق، ونحو ذلك، فليس بالضرورة أن يكون مقصوده القذف بالزنا، فيكون هذا من ألفاظ الكناية.

وجعلتِ له قرونًا.

يحتمل أن يريد بذلك الزنا، ويحتمل أن المقصود: أنه مُنقادٌ لكِ كالثور الذي له قرونٌ، فيكون هذا من ألفاظ الكناية.

وعلَّقتِ عليه أولادًا من غيره.

هذا إذا كانت قد تزوجت بزوجٍ سابقٍ؛ فيحتمل أن يكون المقصود: علَّقتِ عليه أولادًا من زوجكِ السابق، فيُقبل تفسيره بذلك؛ لكن إذا لم يكن لها زوجٌ سابقٌ؛ فالذي يظهر أن هذا من الصريح.

وأفسدتِ فراشه.

يحتمل أفسدتِ فراشه بالزنا، أو أفسدتِ فراشه بسوء العشرة، فيُعتبر هذا من ألفاظ الكناية.

أيضًا من ألفاظ الكناية: أن يُقال فلانٌ ابن حرامٍ، أو ابن الحرام؛ لأنها قد يُراد بها ابن الزاني، وقد يُراد بها الإنسان الذكي الماهر في صنعته، بعض الناس يُعبِّر عن الذكي الماهر في الصنعة بأنه ابن حرامٍ؛ فإذا فَسَّر ذلك بهذا؛ فيُقبَل منه، ولا يُحَد حد القذف.

إذا أراد بألفاظ الكناية حقيقة الزنا

قال:

فإذا أراد بهذه الألفاظ حقيقة الزنا؛ حُدَّ، وإلا عُزِّر.

يعني يُسأل: ما مرادك بكذا؟ فإن أراد الزنا؛ فإنه يُحَد حد القذف، وإن أراد معنًى آخر يحتمله اللفظ؛ فيُعزَّر ولا يُحَد حد القذف.

إذا كان اللفظ محتملًا، وادعى المقذوف أنها من الألفاظ الصريحة، والقاذف قال: إنها ليست صريحةً؛ بأن كان هناك عُرفٌ، والعُرف واضحٌ؛ فيُعمل به، أما إن لم يكن هناك عُرفٌ، أو كان العُرف مضطربًا؛ فالقاذف يحلف بأنه ما أراد الزنا، ولا يُحَد حد القذف.

حكم من قذف أهل بلدة أو جماعة

قال:

ومن قذف أهل بلدةٍ أو جماعةً لا يُتصور الزنا منهم عادةً؛ عُزِّر ولا حَد.

كأن يقول إنسانٌ: أهل البلد الفلاني كلهم زناةٌ، أو أهل الجنسية الفلانية كلهم زناةٌ أو لوطيون، فأقام بعضهم الدعوى عليه؛ فيقول المؤلف: إنه لا يُحَد حد القذف؛ وذلك لأنه مقطوعٌ بكذبه، ولا يلحقهم العار، لا يُعقل أن أهل بلدةٍ كاملةٍ كلهم زناةٌ وكلهم لوطيةٌ، فلا يلحقهم العار بذلك، فلا يُحَد حد القذف، لكن يُعزَّر بعقوبةٍ مناسبةٍ.

وإن كان يُتصور الزنا منهم عادةً.

كأن يقذف أهل قريةٍ صغيرةٍ محصورين، ويُتصور منهم الزنا عادةً؛ فيُحَد حد القذف.

وقَذَف كلَّ واحدٍ بكلمةٍ؛ فلكل واحدٍ حدٌّ.

يعني لو قذف أهل هذه القرية الصغيرة، يقول: يا فلان، يا زانٍ، والثاني: يا زانٍ؛ فلكل واحدٍ حدُّ قذفٍ.

وإن كان إجمالًا؛ فحدٌّ واحدٌ.

إذا قال لأهل هذه القرية الصغيرة: كلكم زناةٌ، فيكفي حدٌّ واحدٌ.

لو قذف شخصٌ آخرَ أو آخرين بأكثر من كلمةٍ في مجالس متعددةٍ؛ إن كان المقذوف واحدًا؛ فيُقام حدٌّ واحدٌ، أما إن كان المقذوف أكثر من شخصٍ؛ فيتعدد حد القذف.

حكم من قذف ميتًا

أيضًا من المسائل التي يذكرها الفقهاء هنا: من قذف ميتًا؛ يُقام حد القذف بمطالبة وارثٍ محصنٍ، يعني: وارثٍ عفيفٍ، فالنظر هنا إلى الوارث، وليس إلى الميت، إذا كان الوارث عفيفًا، وطالَب بحد القذف؛ فيُحَد القاذف، حتى ولو كان الميت غير عفيفٍ؛ لأن هذا فيه حمايةٌ لهذا الحي، حمايةٌ لعِرض الحي؛ كأن يكون إنسانٌ معروفًا بالفجور ثم مات، فأتى بعض الناس وقال لابنه العفيف: يا ابن الزاني؛ فيُحَد القاذف حدَّ القذف.

لو وصف إنسانٌ غيره بالحيوان، قال: يا كلب، أو يا حمار، أو نحو ذلك؛ فعند الجمهور أنه يُعزَّر بعقوبةٍ مناسبةٍ، ولا يُحَد حد القذف؛ لأن هذا يدخل في السب.

وذهب الحنفية إلى أنه لا يُعاقَب ولا يُعزَّر؛ لأنه لا يلحق المقذوف عارٌ في الحقيقة، فكل أحدٍ يعرف أن هذا ليس كلبًا، وأن هذا ليس حمارًا؛ بل العار يلحق القاذف، والشين والعار يلحق القاذف وليس المقذوف.

والأقرب هو قول الجمهور؛ لأن تشبيه الإنسان بالحيوان فيه نوع إساءةٍ، والشريعة جاءت بحفظ الأعراض، فيُعزَّر بعقوبةٍ مناسبةٍ.

بهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن حد القذف.

باب حد المُسكِر

وننتقل بعد ذلك إلى باب حد المُسكِر، قال المصنِّف رحمه الله:

باب حد المسكر.

هل عقوبة شرب المسكر حدٌّ أو تعزيرٌ؟

وتبويب المؤلف بهذا يدل على أن المصنف يرى أن عقوبة السكر حدٌّ مقدرٌ شرعًا، وأنها تدخل في جملة الحدود، وهذه المسألة للفقهاء فيها قولان:

  • القول الأول: أن عقوبة المُسكِر حدٌّ وليست تعزيرًا، وعلى هذا المذاهب الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، واستدلوا بأن عمر  قدَّرها بثمانين، ووافقه على ذلك بقية الصحابة .
  • والقول الثاني: أن عقوبة شُرب المُسكِر تعزيرٌ وليست حدًّا، لكنها من التعزير الذي ينبغي ألا يَنقُص عن أربعين جلدةً، واستدلوا أولًا بأن عمر لما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وكثر شرب المُسكِر؛ استشار الصحابة في زيادة عقوبة شرب المُسكِر، فقال عبدالرحمن: أرى أن تجعلها كأخفِّ الحدود؛ يعني حد القذف، ثمانين، فجعلها عمر ثمانين، ووافقه على ذلك بقية الصحابة .
    فلو كانت عقوبة شرب المُسكِر حدًّا؛ لما ساغ لعمر ولا لغير عمر أن يزيد في العقوبة؛ كون عمر يجمع الصحابة ويستشيرهم في زيادة العقوبة، هذا يدل على أنه قد استقر عند الصحابة أن عقوبة شُرب المُسكِر ليست من قبيل الحدود، وأنها عقوبةٌ تعزيريةٌ، ومما يدل لهذا: أن عبدالرحمن نفسه قال: أرى أن تجعلها كأخفِّ الحدود، أن تجعل عقوبة شرب المُسكِر كأخف الحدود، لو كان أصلًا حدًّا؛ ما قال: تجعل عقوبة هذا الحد كأخفِّ الحدود؛ لأن المعنى لا يستقيم، والحدود لا تجوز الزيادة عليها ولا النقصان منها، هي منصوصٌ عليها، فلو كانت عقوبة شرب المسكر حدًّا؛ لما أقدم الصحابة على زيادة عقوبتها.
    أيضًا استدل أصحاب هذا القول بحديث أبي هريرة قال: أُتي النبي برجلٍ قد شرب، فأمر بضربه، قال أبو هريرة: فمِنَّا الضارب بيده، ومِنَّا الضارب بنعله، ومِنَّا الضارب بثوبه [6]، والحديث في الصحيح، فلو كانت عقوبة شرب المسكر حدًّا؛ لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بأن يُضرب بهذه الطريقة؛ لأن هذه الطريقة لا سبيل إلى تحديدها بدقةٍ؛ شخصٌ يَضرب بثوبه، وشخصٌ يضرب بنعله، وشخصٌ يضرب بيده، هذا يدل على أن عقوبة شرب المسكر تعزيريةٌ وليست حدًّا
    أيضًا يدل لذلك حديث أنسٍ : "أُتِيَ النبي برَجُلٍ قد شرب الخمر، فجلده بجريدتين نحو أربعين" [7]، فقوله: "نحو أربعين"، يدل على أن عقوبة شرب المسكر عقوبةٌ تعزيريةٌ؛ إذ لو كانت حَدِّيَّةً؛ لكانت محدَّدةً ولم يقل: "نحو أربعين".
    وأيضًا استدلوا بحديث عبدالله بن عمرو: من شرب الخمر فاجلدوه، ومن شرب في الثانية فاجلدوه، ثم إن شرب في الثالثة فاجلدوه، ثم إن شرب في الرابعة فاقتلوه [8]، أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد، والحديث مُختلَفٌ في ثبوته، وعلى تقدير ثبوته يُقال: إن هذا دليلٌ على أن عقوبة شرب المسكر تتدرَّج حتى تصل إلى القتل، ولو كان حدًّا؛ لكان محدودًا، ولم يتدرَّج ولم تتغير العقوبة.

وكما ترون قوة أدلة القول الثاني؛ وعلى هذا: فالأقرب -والله أعلم- هو القول الثاني: وهو أن عقوبة شرب المسكر عقوبةٌ تعزيريةٌ، وليست من باب الحد، وهذا هو ظاهر كلام ابن القيم، وأيضًا رجحه الشيخ محمد بن عثيمين، رحمة الله تعالى على الجميع.

والحقيقة القول الثاني لا يرد عليه أي إشكالٍ، لكن قول الجمهور ترد عليه إشكالاتٌ، ترد عليه كيف عمر والصحابة يغيِّرون من الحد ويزيدون عقوبة شرب المسكر، من أربعين إلى ثمانين، مع أن الحدود لا تجوز الزيادة عليها ولا النقصان منها، هذا الإشكال إشكالٌ كبيرٌ على قول الجمهور؛ وعلى هذا: فالأقرب -والله أعلم- هو القول الثاني: وهو أن عقوبة شرب المسكر من باب التعزير وليست من باب الحد.

كل مسكرٍ خمرٌ

قوله:

من شرب مسكرًا مائعًا، أو استَعَطَ به، أو احتَقَنَ، أو أكل عجينًا ملتوتًا به ولو لم يُسكِر؛ حُدَّ ثمانين.

يعني: إذا شرب المسكر بأية طريقةٍ؛ يُحَد ثمانين، فلو شربه "مائعًا" مباشرةً؛ يُحَد، أو "استَعَطَ به" يعني: تناوله عن طريق الأنف؛ كذلك، أو "احتقن به" يعني: جُعل عن طريق حُقنةٍ عن طريق الدبر، أو "أكل عجينًا ملتوتًا به" يعني: معجونًا بالمُسكِر؛ فيُحَد ثمانين، "ولو لم يُسكِر"؛ لأن ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ [9].

وهذا يقودنا لمسألةٍ: وهي الخمر، هل تختص بعصير العنب، أو يشمل كل مُسكِرٍ؟

أولًا هذه المسألة فيها خلافٌ بين الجمهور والحنفية، ونريد تحرير محل الخلاف أولًا.

أولًا: من شرب مُسكِرًا فسكر؛ فإنه يُحَد عند جميع العلماء؛ عند الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، ما دام أنه وصل إلى درجة الإسكار؛ فيُحَد، سواءٌ أكان من عصير عنبٍ أو من غيره.

ثانيًا: من شرب مُسكِرًا مصنوعًا من عصير العنب؛ فيُقام عليه الحد عند الجميع، سواءٌ سكر أو لم يسكر، يعني حتى لو كانت النسبة يسيرةً، ما دام أنه من عصير العنب.

ثالثًا: من شرب المُسكِر من غير العنب، ولم يصل إلى حد الإسكار؛ فعند الحنفية أنه لا يُحَد، وعند الجمهور أنه يحد، وهذا هو الذي فيه الخلاف بين الجمهور والحنفية؛ الحنفية يقولون: إن الخمر لا يكون إلا من العنب، ولا يكون من غيره؛ لأن هذا هو الذي يتناوله هذا اللفظ عند العرب، وأما الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة فقالوا: إن الخمر: كل ما أسكر، سواءٌ أكان من العنب أو من غيره؛ قالوا: لأن هذا هو الذي يتناوله لفظ الخمر في لغة العرب، وأما قول الحنفية: إن الخمر في لغة العرب لا تتناول إلا عصير العنب، فهذا غير مُسلَّمٍ؛ فإن الخمر في لغة العرب تكون من العنب ومن غيره، ومما يدل لذلك: أنه لما نزل تحريم الخمر؛ فَهِم الصحابة  اجتناب كل مُسكِرٍ، ولم يفرِّقوا بين ما يُتخذ من العنب ومن غيره.

وأيضًا استدلوا بحديث: كل مُسكِرٍ خمرٌ، وكل مُسكِرٍ حرامٌ [10]، وأيضًا قول عمر : "إنه نزل تحريم الخمر وهي يومئذٍ خمسةٌ: التمر، والعنب، والعسل، والحنطة، والشعير"، ثم قال، وهذا موضع الشاهد: "والخمر ما خامر العقل" [11].

فهذا عمر  يتكلم بلغةٍ عربيةٍ، بلسانٍ عربيٍّ فصيحٍ، ويُعرِّف الخمر بأنها: ما خامر العقل، ولم يجعل ذلك مختصًّا بعصير العنب؛ بل ذكر خمسة أشياء: العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، فالصحابة  هم أهل اللسان العربي، يتكلمون بلغة العرب، وفهموا أن الخمر لا تختص بعصير العنب.

وعلى هذا: فالقول الراجح هو قول الجمهور: وهو أن الخمر تشمل كل ما أسكر، سواءٌ أكان من عصير العنب أو من غيره.

وقول الحنفية في هذه المسألة الحقيقةَ قولٌ ضعيفٌ، القول بأنها تختص بعصير العنب قولٌ ضعيفٌ.

حد من شرب مسكرًا

قال:

ثمانين إن كان حرًّا، وأربعين إن كان رقيقًا.

هذا بناءً على قول الجمهور، وهو أن عقوبة شرب المُسكِر عقوبةٌ حدِّيَّةٌ، فيقولون: يُجلد ثمانين جلدةً إن كان حرًّا؛ أخذًا بما رآه عمر وما وافقه عليه بقية الصحابة .

وأما الرقيق: فعلى النصف من الحر.

شروط إقامة حد الخمر

بشرط: كونه مسلمًا.

انتقل المؤلف للكلام عن شروط من يُقام عليه حد المُسكِر:

الشرط الأول: "كونه مسلمًا"، أما غير المسلم فلا يقام عليه الحد، إلا إذا كان يعتقد تحريمه في دينه، أما إذا كان لا يعتقد تحريمه؛ مثل النصارى؛ فلا يقام عليه الحد، لكن يُطلب منه ألا يجاهر بذلك.

مكلفًا.

هذا هو الشرط الثاني، وهذا شرطٌ في جميع الحدود.

مختارًا.

هذا الشرط الثالث، وهو شرطٌ أيضًا في جميع الحدود.

عالمًا أن كثيره يُسكِر.

لا بُّد من العلم بذلك، فلو شرب عصيرًا يظنه خمرًا فسَكِر؛ فإنه لا يُحَد.

حكم شرب شراب الشعير الذي يُسمى (البيرة)

هنا مسألةٌ ذُكرت في "السلسبيل": ما حكم شرب شراب الشعير الذي يُسمى (البيرة)؟

نقول: إن كانت بـ(كُحُول)؛ فهذا مُحرَّمٌ؛ لأن هذا يأخذ حكم الخمر، أما إذا كانت بدون (كحول) -كما هو الموجود عندنا في المملكة العربية السعودية- فلا بأس بذلك، لكن قد يوجد نسبٌ يسيرةٌ مستهلكةٌ أقل من (1%)، هذه معفوٌّ عنها، هذه لا تخلو منها كثيرٌ من المعلبات والأدوية، لا تخلو من نسبٍ يسيرةٍ جدًّا من (الكحول)، هي نسبٌ مستهلكةٌ لا تضر، بل حُكي الإجماع على العفو عنها، فهي كيسير النجاسة في الماء الكثير.

وعلى هذا: يمكن تقسيم المائع الذي به نسبةٌ من (الكحول) إلى ثلاثة أقسامٍ:

  1. مائعٌ به نسبة (كحول) كثيرةٌ تُسكِر، فهذا محرَّمٌ بالإجماع
  2. والثاني: مائعٌ به نسبة (كحول) قليلةٌ لا تُسكِر، لكن كثيرها يُسكِر، فهذا أيضًا محرَّمٌ عند الجمهور؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ما أسكر كثيره؛ فقليله حرامٌ [12]، ومحرَّمٌ عند الحنفية في عصير العنب خاصةً كما سبق.
  3. والقسم الثالث: مائعٌ به نسبة (كحول) يسيرةٌ جدًّا ومستهلكةٌ؛ بحيث لو أكثر من شرب هذا المائع؛ لم يسكر، وهذا -كما ذكرنا- لا بأس بشربه؛ كالموجود في العصائر المعلبة، وكذلك في بعض الألبان، وفي شراب الشعير الخالي من (الكحول)، ونحو ذلك.

حكم من تشبَّه بشراب الخمر في مجلسه وآنيته

قال:

ومن تشبَّه بشُرَّاب الخمر في مجلسه وآنيته؛ حَرُم وعُزِّر.

من تشبَّه بشُرَّاب الخمر يُعزَّر تعزيرًا بعقوبةٍ مناسبةٍ، سواءٌ أكان في مجالسهم أو آنيتهم، وهكذا لو حضر مجلسًا فيه شرب الخمر، فإنه يأثم بذلك؛ والنبي قال: لعن الله الخمر وشاربها وساقيها، وبائعها ومبتاعها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه [13]، يعني: لعَنَ كل من أعان على شرب الخمر، كل من أعان، وكذلك من حضر هذا المنكر ولم يُنكِر؛ فإنه شريكٌ لمرتكب المنكر، والله تعالى يقول: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140]، فمن جلس في مجلسٍ فيه منكرٌ ولم ينكر؛ فإنه يكون مثل مرتكب المنكر في الإثم، إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ، وإن عجز عن الإنكار؛ فإنه يقوم من ذلك المجلس، فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [النساء:140]، أما أنه يجلس في ذلك المجلس ولا ينكر؛ فيَصدُق عليه قول الله تعالى: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ.

هل يَحرُم العصير إذا أتى عليه ثلاثة أيامٍ ولم يُطبَخ؟

قال:

ويَحرُم العصير إذا أتى عليه ثلاثة أيامٍ ولم يُطبَخ.

يعني: العصير من المواد التي تتخمر؛ كالعنب والتمر مثلًا، إذا أتى عليه ثلاثة أيامٍ ولم يُطبَخ؛ فإنه يَحرُم، أما إذا طُبخ قبل غليانه حتى ذهب ثلثاه؛ فيجوز شربه حتى بعد مُضي ثلاثة أيامٍ.

والجمهور يرون أن العصير مباحٌ ما لم يصل إلى درجة الغليان، ما لم يصل إلى الغليان، واستدلوا بحديث: نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاءٍ، فاشربوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مُسكِرًا [14].

أما الحنابلة فتحديدهم بثلاثة أيامٍ، استدلوا بحديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: "كان النبي ينتبذ له في أول الليل فيشربه إذا أصبح يومه ذلك، والليلة التي تجيء، والغد والليلة الأخرى، والغد إلى العصر، فإن بقي شيءٌ؛ سقاه الخادم، أو أمر به فصُب" [15]، رواه مسلمٌ، قالوا: ففيه دليل على التحديد بثلاثة أيامٍ، لكن الحقيقة أن هذا الحديث ليس صريحًا في ذلك؛ لأنه لو كان يُسكِر؛ لما سقاه النبي خادمه؛ فدل هذا على أن ترك النبي عليه الصلاة والسلام لشربه من باب الورع والاحتياط.

وعلى هذا؛ فالقول الراجح أن العبرة بالإسكار، فإذا أَسكَر حُرِّم شربه، وإلا فلا، ولا يقيَّد ذلك بثلاثة أيامٍ، ولا يقيَّد ذلك بالغليان، إنما العبرة بالإسكار، فإذا كان مُسكِرًا؛ يَحرُم، وإلا فلا، ولكن العادة أنه إذا أصبح يقذف بالزَّبَد؛ فقد وصل إلى حد الإسكار، وفي وقتنا الحاضر أصبح عصير العنب والتمر يوضع في الثلاجة ويبقى مدةً طويلةً، فهذا لا بأس به؛ لأن الغليان الذي يحصل إذا كان خارج الثلاجة بسبب البكتيريا، والتخمر ناتجٌ عن الحرارة والرطوبة، أما العصير الذي يوضع في الثلاجة فلا يحصل له تخمُّرٌ، لكن الكلام إذا وضع خارج الثلاجة ثلاثة أيامٍ، وأصبح يقذف بالزَّبد وتخمَّر؛ فهنا يَحرُم شربه، والعبرة في ذلك بالإسكار، يعني نربط ذلك بعلة الإسكار، ما كان مسكِرًا؛ فإنه يَحرُم، وما لا؛ فلا.

عقوبة تعاطي المخدرات

عقوبة تعاطي المخدرات: المخدرات يُعاقَب عليها عقوبةً تعزيريةً؛ قياسًا على شرب المُسكِرات.

طريقة ثبوت الحد على شارب المُسكِر

كيف يَثبت حد شرب المسكر؟ أشار المؤلف في باب القذف إلى طريقة ثبوت الحد على شارب المسكر بقوله:

ويثبُت الحد هنا وفي الشرب والتعزير بأحد أمرين: إما بإقراره، أو بشهادة عدلين.

أن يَثبت حد شرب المسكر: إما بإقراره واعترافٍ من شارب المسكر، وإما بشهادة شاهدين.

حكم إقامة الحد على من ظهرت منه رائحة الخمر أو تقيأها

لكن هل يَثبت بغير ذلك؟ هل يَثبت حد شرب المسكر بغير ذلك؛ مثل الرائحة والتقيؤ وغير ذلك من القرائن، ومثله أيضًا في وقتنا الحاضر: تحليل الدم؟ للفقهاء قولان في ذلك:

  • القول الأول: أنه لا يثبت حد شرب المسكر بالقرائن، هذا مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة؛ قالوا: لأنها ليست دليلًا قطعيًّا على الشرب، يحتمل أنه تمضمض وعلقت رائحتها بيده وتقيأ لأجل ذلك، ويحتمل أنه ظن أن هذا عصيرٌ، فتبيَّن أنه خمرٌ، والحدود تُدرأ بالشبهات.
  • القول الثاني: أن حد شرب المسكر يَثبت بالقرائن؛ كالقيء والرائحة وتحليل الدم، ما لم يكن ثمة شبهةٌ، وهذا هو مذهب المالكية، وروايةٌ عند الحنابلة، واختاره ابن تيمية، وهو القول الراجح، وهذا هو المأثور عن الصحابة ، ففي "صحيح مسلمٍ" في قصة الوليد بن عُقبة، وهو أخو عثمان من أمه، لمَّا صلَّى بالناس صلاة الفجر وهو سكران؛ صلَّى بهم ركعتين، ثم التفت إليهم وقال: هل أزيدكم؟ قالوا: وما تزيدنا زادك الله؟! ثم أخذوا حصباء ورموه، واشتكوه إلى عثمان، فدعاه عثمان ، وشهد عليه رجلٌ بأنه رآه شرب الخمر، وشهد الآخر -وهذا موضع الشاهد- بأنه رآه يتقيأ، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها، فأمر عليًّا أن يجلده، فأمر عليٌّ ابنَه الحسن بأن يجلده، فقال الحسن: يا أبتِ، ولِّ حارَّها من تولَّى قارَّها! هذا مَثَلٌ عند العرب، يريد: اجعل عثمان وبني أمية هم الذين يجلدون الوليد بن عقبة، لماذا نحن الذين نجلده؟! لأنهم ما داموا يتنعمون بما هم فيه من أمور الخلافة؛ فولِّ حارَّها من تولَّى قارَّها، فوجد عليه عليٌّ، ثم أَمَرَ عليٌّ عبدالله بن جعفرٍ بأن يجلده، فجلد أربعين، ثم قال: أمسك، جلد النبيُّ أربعين، وجلد أبو بكرٍ أربعين، وجلد عمر ثمانين، والأول أحبُّ إليَّ [16].
    الشاهد: أن عثمان اعتبر التقيؤ قرينةً، اعتبر هذه القرينة، وحكم بجلد الوليد بن عقبة بناءً على ذلك؛ فهذا يدل على أن الصحابة  يعتبرون هذه القرائن.
    أيضًا جاء في قصة ابن مسعودٍ ، قال علقمة: كنا بحِمْص، فقرأ عبدالله بن مسعودٍ بسورة يوسف، فقال رجلٌ: ما هكذا أُنزلت، قال ابن مسعودٍ: قرأتها على رسول الله ، قال: أحسنت، يعني ابن مسعودٍ شك فيه؛ كيف يقول: ما هكذا أنزلت، ثم يقول: أحسنت؟! فشمَّه ابن مسعودٍ فوجد منه رائحة الخمر، فقال: أتجمع بين أن تُكذِّب بكتاب الله وتشرب الخمر؟! ثم قام وجَلَده الحد.
    فهذا يدل على أن هذا مأثور عن الصحابة ؛ لأن ابن مسعودٍ اعتمد على الرائحة، اعتمد هنا على الرائحة، وعثمان اعتمد على التقيؤ؛ فهذا يدل على أن المأثور عن الصحابة  أنهم يعتبرون القرائن في ثبوت الحد.

أيضًا يُقاس على ذلك: تحليل الدم، تحليل الدم الآن من القرائن القوية، إذا كان الصحابة اعتمدوا على الرائحة وعلى التقيؤ؛ فتحليل الدم من باب أولى.

بهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن مسائل وأحكام هذا الباب: "باب حد المسكر"، ونقف عند كتاب التعزير، ونؤجل الكلام عنه للدرس القادم.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

^1 أخرجه ابن ماجه: 2046.
^2 أخرجه البخاري: 1739.
^3 رواه  الترمذي: 1977، وأحمد: 3839، وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
^4 رواه أبو داود: 2049، والنسائي: 3465.
^5 أخرجه البخاري: 6243، ومسلم: 2657.
^6 أخرجه البخاري: 6777.
^7 أخرجه مسلم: 1706.
^8 رواه أحمد:7003، والطبراني: 14539، والحاكم: 8358 ، من حديث عبدالله بن عمرو، ورواه أبو داود: 4484، والحاكم: 8351، من حديث أبي هريرة، ورواه الترمذي: 1444، وأحمد: 16847، من حديث معاوية، ورواه أبو داود: 4485، من حديث قبيصة بن ذؤيب رضي الله عنهم.
^9 رواه أبو داود: 3681، والترمذي: 1865، وابن ماجه: 3393، وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
^10 رواه مسلم: 2003.
^11 أخرجه البخاري: 5588، ومسلم 3032.
^12 سبق تخريجه.
^13 أخرجه أبو داود: 3674، وابن ماجه: 3380، وأحمد: 4787.
^14 أخرجه مسلم: 977.
^15 رواه مسلم: 2004.
^16 رواه مسلم: 1707.
zh