عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
في هذا الدرس معنا ثلاث مسائل من النوازل، ولا زلنا في النوازل في العبادات:
- المسألة الأولى: الإخبار بوقت الكسوف والخسوف، ونشره في وسائل الإعلام، وأثر ذلك على الأحكام الشرعية.
- المسألة الثانية: حكم استثمار أموال الزكاة.
- المسألة الثالثة: حكم إخراج الشعير في زكاة الفطر في الوقت الحاضر.
المسألة الأولى: الإخبار بوقت الكسوف والخسوف
ونبدأ أولًا بالمسألة الأولى: وهي الإخبار بوقت الكسوف والخسوف، ونشره في وسائل الإعلام، وأثر ذلك في الأحكام الشرعية، وقبل أن ندخل في هذه المسألة نعرف الكسوف والخسوف.
تعريف الكسوف والخسوف
الكسوف يعرفه كثير من الفقهاء بذهاب ضوء الشمس أو بعضه بسبب غير معتاد، ولكن التعريف الدقيق: انحجاب ضوء الشمس أو بعضه بسبب غير معتاد؛ لأن ضوء الشمس في الحقيقة لا يذهب، وإنما ينحجب فقط.
والخسوف: ذهاب ضوء القمر أو بعضه بسبب غير معتاد، والتعريف الدقيق كما قلنا في الكسوف: انحجاب ضوء القمر أو بعضه بسبب غير معتاد.
سبب الكسوف والخسوف
والكسوف والخسوف لهما سببان: سبب شرعي، وسبب كوني.
أما السبب الكوني: فبالنسبة لكسوف الشمس سبب ذلك حيلولة القمر بين الشمس والأرض، ومعلوم أن القمر أصغر بكثير من الشمس، وكذلك أصغر من الأرض؛ ولهذا فإن الكسوف الكلي للشمس لا يمكن أن يعم الكرة الأرضية لا يمكن، وإنما يقع في جزء منها نظرًا لأن حجم القمر أصغر من الأرض وأصغر من الشمس.
وأما سبب خسوف القمر فهو حيلولة الأرض بين الشمس والقمر، فيحدث خسوف القمر، ومعلوم أن الأرض أكبر من القمر، ولذلك فإنه يحصل الخسوف الكلي لجميع القمر، وقد يحصل خسوفًا جزئيًّا له، هذا هو السبب الكوني المعروف.
وأما السبب الشرعي: فقد بينه النبي في الحديث المخرج في الصحيحين في قوله عليه الصلاة والسلام: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد، ولا لحياته، وإنما هما آيتان يخوف الله بهما عباده [1]؛ فالسبب الشرعي إذن هو التخويف للعباد.
فإذن: الكسوف والخسوف بمثابة الإنذار للعباد بوقوع العقوبة من الله ، ولهذا أمر النبي بعد حصول الكسوف أو الخسوف بالدعاء في الصلاة، والاستغفار، والتوبة، والصدقة، والعتق.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قوله: يخوف الله بهما عباده: “هذا بيان من النبي أنهما يعني: الكسوف والخسوف سبب لنزول عذاب بالناس، فإن الله إنما يخوف عباده بما يخافونه إذا عصوه، التخويف إنما يكون بما يخافه الناس، وإنما يخاف الناس مما يضرهم، فلولا إمكان حصول الضرر بالناس عند الخسوف ما كان ذلك تخويفًا”.
انتبه لهذه الفائدة.. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قوله عليه الصلاة والسلام: يخوف الله بهما عباده، يقول: “هذا بيان من النبي أنهما سبب لنزول عذاب بالناس، فإن الله يخوف عباده بما يخافونه إذا عصوه وعصوا رسله، وإنما يخاف الناس مما يضرهم، فلولا إمكان حصول الضرر بالناس عند الخسوف ما كان ذلك تخويفًا، قال تعالى: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:59]، وأمر النبي بما يزيل الخوف أمر بالصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق، حتى يكشف ما بالناس، وصلى بالمسلمين في الكسوف صلاة طويلة..” إلى آخر ما قال.
وهذا يدل على أن الكسوف والخسوف يقترن الغالب بما يخاف الناس منه مما يضرهم، وهذا يعني نراه واقعًا أن الكسوف والخسوف يقترن بحدث في الأرض من زلازل أو براكين أو غيرها، ولله تعالى الحكمة البالغة في هذا.
الإخبار بوقت الكسوف والخسوف
وأما الإخبار بوقت الكسوف والخسوف، فوجه اعتبار هذه المسألة من النوازل: هو التقدم في علم الفلك، حيث أصبح معرفة وقت الكسوف والخسوف يكاد يصل إلى درجة القطع، وكذلك أيضًا: وجود وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، فما حكم الإخبار بوقت وقوع الكسوف والخسوف، ونشر ذلك في وسائل الإعلام؟
نقول: إن معرفة الكسوف والخسوف ليست من علم الغيب، إذ لو كانت من علم الغيب لما استطاع البشر معرفة وقت الكسوف والخسوف، بل هو من العلم الحسي المدرك، وقد كان الناس من قديم الزمان يعرفون وقت الكسوف والخسوف.
وذكر أن الفراعنة قبل أكثر من أربعة آلاف سنة يعرفون وقت الكسوف والخسوف بدقة، وكان في المسلمين من يعرف وقت الكسوف والخسوف، ولكن لما ارتبط في قرون مضت، ارتبط علم الفلك بعلم التنجيم، فأصبح الذين لهم عناية ومعرفة بعلم الفلك يعرفون بالتنجيم وقف كثير من الفقهاء موقفًا من هؤلاء، وإلا لو أن علم الفلك سلم من علم التنجيم فهو علم عظيم، ولذلك لما انفصل علم الفلك في الوقت الحاضر عن علم التنجيم أصبح علمًا له أثره الكبير في حياة الناس، وأصبح يدرّس في الجامعات، وفيه تخصصات دقيقة، لكن في أزمنة مضت وقرون خلت كان هناك ارتباط بين علم الفلك والتنجيم.
فنقول: إذن معرفة الكسوف والخسوف كانت معروفة من قديم الزمان، وقد ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وذكر أن الناس كانوا في زمنه يعرفون.. كان هناك أناس يعرفون وقت الكسوف والخسوف.
وكان مما قال رحمه الله، قال: الشمس لا تكسف إلا وقت استسراره، وللشمس والقمر ليال معتادة من عرفها عرف الكسوف والخسوف، كما أن من علم كم مضى من الشهر يعلم أن الهلال يطلع في الليلة الفلانية أو التي قبلها.
قال: أما العلم بالعادة في الكسوف والخسوف، فإنما يعرفه من يعرف حساب جريانهما، وليس خبر الحاسب بذلك من باب علم الغيب، ولا من باب ما يخبر به من الأحكام التي يكون كذبه أعظم من صدقه، فإن ذلك قول بلا علم، وبناء على غير أصل صحيح”.
كأنه بهذا يرد على بعض الفقهاء الذين قالوا ذلك، قالوا: إن خبر الحاسب كذبه أكثر من صدقه، فقال شيخ الإسلام: إن هذا ليس بصحيح، وليس خبر الحاسب كذبه أعظم من الصدق، بل هو قول بلا علم، وبناء على غير أصل صحيح.
قال: “أما ما يعلم بالحساب فهو مثل العلم بأوقات الفصول؛ كأول الربيع وفي الصيف والخريف والشتاء..” إلى آخر ما ذكر، ثم قال: “إن أهل الحساب إذا تواطئوا على وقت للكسوف والخسوف فلا يكادون يخطئون”.
جعل الله تعالى للكسوف والخسوف في هذا سنة كونية، وقد ذكروا أن الكسوف والخسوف يتكرر نفسه كل ثمان عشرة سنة وأحد عشر يومًا وسبع ساعات، ولذلك يمكن أن يحسب الكسوف والخسوف لعشرات بل لمئات السنين، مئات سنين قادمة، ومئات سنين ماضية؛ لأنه يتكرر كل ثماني عشرة سنة وأحد عشر يومًا وسبع ساعات وثلاث وأربعين دقيقة، فمن السهل معرفة وقت الكسوف بهذه الطريقة.
ولهذا فإنه في الوقت الحاضر أصبحت معرفة وقت الكسوف والخسوف تكاد تصل إلى درجة القطع؛ لأنه بهذه العملية يمكن حساب الكسوف والخسوف لعشرات بل مئات السنين القادمة، ويمكن حسابه بالدقائق بالدقيقة، بل حتى بالثانية؛ لأنه بهذه العملية الحسابية يسهل جدًا معرفة وقت الكسوف والخسوف.
وقد تقدم علم الفلك في الوقت الحاضر تقدمًا كبيرًا، وكان أصله عند المسلمين الأوائل، فعلم الفلك أصوله أخذت من المسلمين، فإنهم تقدموا في ذلك في وقت ازدهار الحضارة الإسلامية.
ولهذا تجد أن بعض النجوم لا زالت إلى الآن بأسمائها باللغة العربية، وإن كانت تنطق وتكتب باللغة الإنجليزية مثل: الدبران مثلًا لا زال بهذا الاسم إلى الآن، وأذكر ولا بأس أن أستطرد وأذكر هنا يعني أمرًا يبين لك أن أصل هذا التقدم في علم الفلك إنما كان من المسلمين وقت ازدهار حضارتهم.
المذنب المسمى بمذنب هالي اكتشف عام ألف وستمائة واثنين وثمانين ميلادي، ونجد أن الشاعر أبا تمام قد ذكره في قصيدته في فتح عمورية، لما قالت امرأة: وا معتصماه، فسير المعتصم جيشًا لنصرة هذه المرأة، وأخبره المنجمون في ذلك الوقت بأن كوكبًا من جهة الغرب سوف يخرج، وربما انهزم لأجل ذلك، ولكنه لم يلتفت لقولهم، وسار بجيشه وانتصر.
وقال أبو تمام قصيدة مشهورة:
السيف أصدق أنباء من الكتب | في حده الحد بين الجد واللعب |
بيض الصفائح لا سود الصحائف | في متونهن جلاء الشك والريب |
إلى قوله:
وخوفوا الناس من دهياء مظلمة | إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب |
الكوكب الغربي ذو الذنب هو مذنب هالي نفسه، وأبو تمام توفي سنة مائتين وثمانية وعشرين للهجرة، يعني: إذا أردنا أن نحولها بالميلادي: ثمانمائة وثلاثة وأربعين، بينما اكتشف مذنب هالي عام ألف وستمائة واثنين وثمانين، أي أن أبا تمام ذكره قبل أن يكتشف عند الغرب بثمانمائة وخمس وأربعين سنة، هذا فقط يعني أقدم ما ذكر لنا، مع أنه يحتمل أنه عرف عند المسلمين قبل ذلك.
ولهذا ذكر ابن الأثير في تاريخه، وصف هذا المذنب، وبين.. كم بقي، وأنه إذا جاء كان في جهة الغرب، ذكر ابن الأثير أنه ظهر في سنة مائتين واثنين وعشرين للهجرة.
المقصود أن المسلمين الأوائل كانوا يعرفونه قبل اكتشافه عام ثمانمائة وخمس وأربعين للميلاد، ومع ذلك لما اكتشفوه بعد أكثر من ثمانمائة سنة سموه باسم الذي اكتشفه وهو هالي، مع أن المسلمين كانوا يعرفونه قبل أكثر من ثمانمائة سنة؛ ولكن كما ذكرت الذي عرفه.
فهؤلاء كانوا يخلطون التنجيم بعلم الفلك، ولذلك خوفوا المعتصم بظهور هذا المذنب، لكنه لم يلتفت لقولهم؛ لأنه ليس له أثر؛ ظهور مذنب في انتصار على العدو في المعركة، فكان هناك خلط بين التنجيم وبين الفلك، لكنهم عرفوا متى سيطلع هذا المذنب الذي قيل إنه يتكرر طلوعه كل ست وسبعين سنة.
فهذا يبين لك يعني أن المسلمين الأوائل كانوا يعرفون.. كان عندهم تقدم في علم الفلك، وكانوا يعرفون وقت الكسوف والخسوف.
هذه الآن المعرفة الدقيقة لوقت الكسوف والخسوف التي قلنا: إنها قد تصل إلى درجة القطع، نحن قلنا: إنها ليست من علم الغيب، ولكن هل نقول: إن إخبار الناس بوقت الكسوف والخسوف إنه مشروع؟
هل إخبار الناس بوقت الكسوف والخسوف مشروع؟
قال بعض أهل العلم: إنه غير مشروع؛ لأننا إذا تأملنا الحكمة التي من أجلها حصلت هذه الآيات العظيمة: وهي تخويف العباد، فكونه ينشر ويتناقله الناس بواسطة وسائل الاتصال المختلفة، هذا يخفف من وقع هذه الآية على قلوب الناس، فلا تحصل الحكمة التي من أجلها شرع الكسوف: وهي تخويف العباد، ورجوعهم إلى الله .
وإذا علم الناس بوقت ابتداء وانتهاء الكسوف قبل وقوعه، فإنه يخف وقع هذه الآية في نفوسهم، قالوا: فالأولى ألا ينشر وقت الكسوف والخسوف قبل وقوعه.
والذي يظهر -والله أعلم- أن الأوْلى عدم إخبار الناس بوقت الكسوف والخسوف لما ذُكر، إلا إذا كان وقت وقوعه وقت غفلة، ويغلب على الظن أن أكثر الناس لن ينتبهوا، ولن يصلوا صلاة الكسوف أو الخسوف، فالذي يظهر -والله أعلم- أن الأولى إخبارهم في هذه الحال؛ لأجل أن يستعدوا للصلاة.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ذكر.. قال: “إذا غلب على ظن الإنسان صدق المخبر بذلك، أو غلب على ظنه فنرى أن يصلى الكسوف والخسوف -يعني: صلاة الكسوف والخسوف- عند ذلك، واستعد ذلك الوقت لرؤية ذلكم كان هذا حثًّا من باب المسارعة إلى طاعة الله تعالى وعبادته”.
فاعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن الإنسان إذا غلب على ظنه صدق المخبر بالكسوف والخسوف، واستعد لذلك أن هذا من باب المسارعة للطاعات.
هكذا نقول إذن، إذا كان هذا في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فكيف بزمننا هذا الذي تقدم فيه علم الفلك، والذي نستطيع أن نقول: إن المخبر قد يصل إلى درجة القطع في إخباره بوقت الكسوف والخسوف؟ فربما يقطع السامع بصدق خبر هذا المخبر، وحينئذ فلا بأس بالاستعداد للكسوف والخسوف وإخبار الناس بذلك.
كما حصل قبل ثلاثة أشهر كسوف جزئي للشمس، والكثير من الناس لم يصلوا صلاة الكسوف بسبب أنهم لم يعلموا؛ لأنهم كانوا في وقت غفلة لم يتنبه له كثير من الناس، فإخبار الناس قبل ذلك حتى يستعدوا ويتهيؤوا للصلاة لا بأس به، بل هو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هو من قبيل المسارعة للطاعات.
أما إذا لم يكن وقت غفلة، ويغلب على الظن أن أكثر الناس سوف ينتبهون ويصلون، فالأولى عدم إخبارهم لأجل أن يكون لتلك الآية وقع في نفوسهم، هذا التفصيل هو الذي يظهر في هذه المسألة، والله تعالى أعلم.
من المسائل المتفرعة عن هذه المسألة
إذا غم الكسوف أو الخسوف بسحاب
إذا أخبر أهل الفلك بوقت وقوع الكسوف والخسوف، ثم إنه غم كسوف الشمس بسحاب، أو خسوف القمر غم بسحاب، فلم نستطع رؤية الشمس كاسفة، ولا القمر خاسفًا؟
فإنه في هذه الحال لا تشرع صلاة الكسوف والخسوف، لا تشرع لأن النبي علق الأمر بالصلاة على رؤيته، قال: فإذا رأيتم ذلك فصلوا، ومفهوم هذا الحديث: أننا إذا لم نر الكسوف والخسوف فإنه لا تشرع الصلاة، حتى ولو غلب على الظن صدق المخبر، فإذن إنما تشرع الصلاة إذا رئيت الشمس كاسفة، أو رئي القمر خاسفًا.
الخسوف الكاذب
أيضًا من المسائل المتفرعة عن هذه المسألة: أن هناك خسوف عند الفلكيين، وليس خسوفًا بالمعنى الشرعي، وهو ما يسميه الفلكيون الخسوف الكاذب، أو الخسوف شبه الظل، يسميه بعضهم الخسوف الكاذب، وبعضهم الخسوف شبه الظل.
فهذا الخسوف يسمونه خسوفًا، لكنه من يرى القمر يجد أنه لا يختفي ضوؤه، يبقى ضوء القمر لا يختفي، فلا يؤثر هذا الخسوف على ضوء القمر، ولكنه يسمونه خسوفًا بمصطلحهم، وهذا الخسوف خسوف شبه الظل، أو الخسوف الكاذب لا تشرع الصلاة عنده؛ لأن النبي قال: إذا رأيتم ذلك فصلوا، ونحن لم نر القمر خاسفًا، ولهذا فإنه لا تشرع الصلاة عنده.
وأذكر أنه قبل نحو عشر سنوات أعلن في بعض الصحف عن خسوف شبه ظل، أو خسوف كاذب، وقام بعض أئمة المساجد، وصلوا بالناس صلاة الخسوف، مع أنه لم يختف ضوء القمر، وأصدر سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله بيانًا في هذا أنكر فيه على من صلى، وبين أن الصلاة إنما تشرع عند رؤية القمر خاسفًا، أو الشمس كاسفة.
فينبغي إذن عدم التعجل في إقامة صلاة الخسوف، حتى يُرى القمر خاسفًا؛ لأنه أحيانًا يكون مقصود المخبر من الفلكيين يكون مقصوده الخسوف الكاذب الذي هو شبه الظل، وهذا لا تشرع الصلاة عنده؛ لأنه لا يذهب ضوء القمر ولا بعضه، ولهذا فإنه لا تشرع الصلاة عنده، وإن سماه الفلكيون.. وإن سموه خسوفًا، هذا ما يتعلق بهذه المسألة.
المسألة الثانية: استثمار أموال الزكاة
ننتقل إلى المسألة الثانية: وهي استثمار أموال الزكاة:
الزكاة مصرفها بينه الله في قوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60]، هذه هي مصارف الزكاة، ولم يكن استثمار أموال الزكاة معروفًا على مدار أربعة عشر قرنًا، بل كانت تدفع لهؤلاء الأصناف الثمانية، أو لبعضهم.
ولكن في الوقت الحاضر مع وجود الجمعيات الخيرية، والمراكز الإسلامية طرحت فكرة استثمار أموال الزكاة، فيقول القائمون على تلك المراكز والمؤسسات والهيئات، يقولون: نحن نجمع من الناس أموالًا كبيرة من الزكاة، ربما تكون بالألوف، بل ربما بالملايين، فلماذا لا تستثمر أموال الزكاة هذه، وتوضع في مشاريع خيرية يكون ريعها للفقراء والمساكين؟
قالوا: بدل ما نعطي هذا الفقير أو المسكين هذا المال فيصرفه مباشرة، فنحن نستثمر له أموال الزكاة، ونعطيه من ريعها، فطرحت بعض الجمعيات الخيرية، وبعض المؤسسات والمراكز الإسلامية هذه الفكرة، وهذا وجه اعتبارها نازلة، وأنها لم تكن معروفة من قبل على مدار أربعة عشر قرنًا لم يكن استثمار الزكاة معلومًا، ولهذا لا نكاد نجد لذلك ذكرًا في كتب الفقهاء المتقدمين.
لكنها الآن أصبحت تطرح، بل وتطرح بقوة من بعض المؤسسات الخيرية، ومن هنا اختلف العلماء المعاصرون في حكم استثمار أموال الزكاة.
فمن العلماء من أجاز استثمار أموال الزكاة، وقال: إن في هذا الاستثمار مصلحة عظيمة، وفيه نفع كبير للفقراء والمساكين، وأصحاب الزكوات، قالوا: والشريعة الإسلامية قد أتت بتحصيل المصالح، وما كان فيه تحصيل للمصلحة، فإن الشريعة لا تمنع منه، وهذا الاستثمار فيه مصلحة تعود بالدرجة الأولى إلى الفقراء وبقية أصناف الزكاة.
قالوا: فهذا الاستثمار هو استثمار لصالح أهل الزكاة فهو أشبه باستثمار أموال اليتامى ونحوهم، قالوا: ومما يدل لذلك: أن النبي كان يجمع عنده إبل الصدقة ويسمنها، وهذا نوع استثمار، لأنها تتكاثر بالتوالد، هذه هي وجهة أصحاب هذا القول.
القول الثاني في المسألة: أنه لا يجوز استثمار أموال الزكاة مطلقًا، وهذا القول هو الذي عليه أكثر العلماء، وأدلة هذا القول:
أولًا: أن الله خص الزكاة بثمانية أصناف ذكرهم في قوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.. [التوبة:60] إلى آخر الآية، وختم الآية بقوله: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60]، وحينئذ يجب أن تصرف الزكاة في هذه المصارف الثمانية على الفور؛ لأن الأصل في الأمر الفورية، والزكاة عبادة، والأصل في العبادات التوقيف.
ثانيًا: استدلوا بقول الله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، قالوا: والمراد بذلك الزكاة، وهذا أمر والأمر المطلق يقتضي الفورية، فقوله: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141] هذا يدل على وجوب إخراج الزكاة على الفور، وعدم تأخيرها لأجل استثمارها.
وهذه الآية نزلت في مكة، نزلت في الفترة المكية لما كانت الزكاة واجبة من غير تحديد، فإن الزكاة في مكة فرضت في مكة، لكن من غير تحديد، وإنما كان الإنسان يدفع شيئًا من ماله، ثم في المدينة بينت أنصباؤها.
والشاهد هو قول: يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، فهذا فيه إشارة إلى أن الزكاة إنما تخرج يوم الحصاد، يعني: وقت وجوبها على الفور.
أيضًا من أدلة هذا القول: ما جاء في صحيح البخاري: عن عقبة بن الحارث قال: “صلى النبي صلاة العصر، فلما سلم أسرع”، يعني: خرج من المسجد مسرعًا، “ثم دخل البيت، ثم لم يلبث أن خرج، فقيل له، فقال: كنت قد خلفت في البيت تبرًا، يعني: ذهبًا، من الصدقة، فكرهت أن أبيت ولم أقسمه [2]، فقسمه عليه الصلاة والسلام.
قالوا: ففي انصراف النبي بعد صلاة العصر بسرعة على وجه ملفت للنظر، حتى إن الصحابة سألوه عن سبب إسراعه، في هذا دليل على أن الزكاة إنما تخرج على الفور، وأنه ينبغي المبادرة بإخراجها.
إذ أنه لو جاز التراخي في دفعها لما أسرع النبي ، ولما قال: كرهت أن أبيت قبل أن تقسم [3].
رابعًا: قالوا: إن هذا المال المستثمر هو مال مستحق للفقراء والمساكين، وسائر أصحاب الزكاة، وهؤلاء هم الذين يجب تمليكهم هذا المال، وهم إن أرادوا أن يستثمروا أموال الزكاة التي تدفع لهم، فهذا راجع إليهم.
أما أن يريد الجامع لأموال الزكاة استثمار أموال الزكاة نيابة عنهم، فليس له ذلك، فالأموال الزكوية حق للفقراء والمساكين وسائر الأصناف الثمانية، فالاستثمار في الحقيقة إنما هو راجع لهم إذا ملكوا هذه الأموال.
فلو أننا ملكنا الفقير أو المسكين مال الزكاة، فأراد هذا الفقير أو المسكين أن يستثمره، فهذا راجع إليه، أما أن يأتي أحد من الناس أو مؤسسة أو جمعية أو هيئة خيرية، ويتدخل ويريد أن يحبس أصل مال الزكاة الواجب تمليكه لهؤلاء، ويعطيهم فقط من ريعه حتى يستثمره، فليس له ذلك، لأنه يتصرف في حقهم، ومن الذي خوله لكي يستثمر حقهم الذي فرضه الله لهم؟
أيضًا قالوا: إن الاستثمار لا يكون مشروعًا إلا إذا كان فيه مخاطرة، إذ أن الاستثمار لو كان فيه ضمان في عدم المخاطرة، وذلك بأن يكون في ضمان عدم الخسارة، أو ضمان الربح، فإن هذا الاستثمار غير جائز.
الاستثمار الذي تضمن معه عدم الخسارة، أو يضمن معه الربح غير جائز، وهذا الاستثمار المبني على المخاطرة في الحقيقة يعرض أموال الزكاة للخسارة، فربما تستثمر أموال الزكاة في مشروع من المشاريع، فيخسر ذلك المشروع، فتضيع حقوق هؤلاء الفقراء والمساكين.
ثم إن حاجة الفقراء ناجزة، فيجب إخراجها على الفور، ولا شك أن استثمارها يحتاج إلى وقت طويل، فعلى سبيل المثال: رجل دفع زكاة عشرة آلاف ريال، لو قيل باستثمارها، فلو افترضنا أنها بقيت سنة، كم سيكون ربحها والريع لها بعد تشغيلها، في الغالب أنه لا يتجاوز الربع.
لكن لو أننا أعطينا هذه العشرة آلاف فقيرًا أو فقراء، فإنها تسد حاجة بعض هؤلاء الفقراء من جهة توفير الأكل والشرب والمسكن ونحو ذلك، ولا شك أن هذا فيه قضاء لحوائج الفقراء والمساكين، خاصة أن بعض أصحاب الزكاة من الفقراء والمساكين وغيرهم ربما تكون حاجتهم ملحة، وحينئذ فهم أولى بصرف هذا المال مباشرة بدلًا من استثماره لهم.
هذه هي وجهة نظر الفريقين، والأقرب -والله أعلم- هو القول الثاني، وهو أنه لا يجوز استثمار أموال الزكاة، وممن رجح هذا من علمائنا المعاصرين الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله؛ وذلك لقوة أدلته، وأصول وقواعد الشريعة تدل لهذا القول.
وأما ما ذكره أصحاب القول الأول القائلون بجواز استثمار أموال الزكاة من المصلحة فغير مسلّم، بل إن المصلحة تقتضي أن نسلم لأصحاب الزكاة أموال الزكاة، وهم الذين يتصرفون فيها، بل إن القول باستثمار أموال الزكاة للفقراء والمساكين فيه الحقيقة إضرار بهؤلاء الفقراء والمساكين.
إذ أن من الفقراء والمساكين من يعتمد في مأكله ومشربه وفي دفع الإيجار إيجار المسكن الذي يسكن فيه يعتمد على الزكاة اعتمادًا كاملًا أو شبه كامل، وحينئذ القول باستثمار أموال الزكاة وحبسها لأجل هذا الاستثمار فيه إضرار بهم، وليس فيه مصلحة ظاهرة.
ولو افترضنا أن فيه مصلحة فيقابلها مفسدة: وهي الإضرار بالفقراء والمساكين، ومن القواعد المقررة في الشريعة: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
ثم لماذا لم تطرح هذه المسألة على مدار أربعة عشر قرنًا؟ لماذا لم تطرح على مدار أربعة عشر قرنًا؟ لماذا خفيت هذه المسألة على الناس على مدار أربعة عشر قرنًا، ثم يأتي من يطرحها في هذا الزمان؟
ولا شك أنه.. لكون العلماء لم يذكروها ولم يتطرقوا لها دليل على أنهم لا يرون مشروعية هذا الاستثمار، والزكاة عبادة، والعبادات مبنية على التوقيف.
والقول بأن استثمار الزكاة فيه نفع للفقراء على المدى البعيد، هذا يمكن تحقيقه بوسائل أخرى غير الزكاة بمجالات أخرى؛ كالوقف مثلًا، لو جمعت أموال من المحسنين، واستثمرت هذه الأموال في وقف، جمعت أموال من المحسنين من غير أموال الزكاة، واستثمرت في أوقاف يكون ريعها للفقراء والمساكين، فإنه يحقق هذا الغرض، فلا تتعين أموال الزكاة لتحقيق هذا الغرض.
فهناك مجالات أخرى ووسائل أخرى يمكن أن يحقق من خلالها هذا الغرض كالوقف مثلًا، أما قولهم: إن النبي كان يجمع إبل الصدقة ويستسمنها، فنقول: إن النبي إنما كان يجمع إبل الصدقة لأجل صرفها في مصارفها الشرعية، وليس لأجل استثمارها، وإنما لأجل أن يصرفها في مصارفها الشرعية.
وبهذا يتبين أن القول الصحيح في هذه المسألة هو ما عليه أكثر أهل العلم: من أنه لا يجوز استثمار أموال الزكاة، وإنما طرحنا هذه المسألة؛ لأنها تثار الآن بقوة من بعض القائمين على الجمعيات والمؤسسات الخيرية، فيرون أن في هذا الاستثمار مصلحة لأصحاب الزكوات.
ولكن ظاهر النصوص والأصول والقواعد الشرعية يدل على أنه لا يجوز مثل هذا الاستثمار، وأنه يجب أن تدفع الزكاة على الفور لأصحابها المستحقين لها.
المسألة الثالثة: حكم إخراج الشعير في زكاة الفطر
المسألة الثالثة معنا في هذا الدرس متعلقة أيضًا بالزكاة، وهي: حكم إخراج الشعير في زكاة الفطر:
نقول: وردت السنة بإخراج الشعير في زكاة الفطر، قال البخاري في صحيحه: “باب صدقة الفطر صاعًا من شعير”، ثم ساق بسنده عن أبي سعيد قال: “كنا نطعم الصدقة صاعًا من شعير” [4]، وفي حديث أبي سعيد الخدري عند البخاري وغيره، قال: “كنا نخرج زكاة الفطر صاعًا من طعام، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من زبيب” [5]، وفي حديث ابن عمر أيضًا عند البخاري وغيره: “أمر النبي بزكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير” [6].
فنقول: لا شك في أن السنة قد وردت بإخراج الشعير في زكاة الفطر، ولكن في وقتنا الحاضر أصبح الشعير في كثير من البلدان، ومنها المملكة أصبح الشعير علفًا للبهائم، ولم يعد قوتًا للناس كما كان من قبل، فهل نقول: بجواز إخراج الشعير في زكاة الفطر أخذًا بظاهر النص، أو ننظر للمعنى، وهو أنه إنما جاز إخراج الشعير؛ لأنه كان قوتًا للناس في زمن النبي ؟
نقول: الذي يظهر هو الثاني، وهو أنه إنما كان الشعير مجزئًا في زكاة الفطر لقوم كان الشعير قوتًا لهم، فلا نتمسك بظاهر النص في هذه المسألة، ولهذا لو أنك أعطيت فقيرًا أو مسكينًا في الوقت الحاضر شعيرًا لما انتفع به.
ومن حكمة إيجاب زكاة الفطر أنها طعمة للفقراء والمساكين، وهذا لا يتحقق إلا حين يكون الشيء المخرج قوتًا للناس، وذكر الشعير في حديث أبي سعيد ، وفي حديث ابن عمر ذكره ليس على سبيل التعيين، بل لأنه كان غالب قوت الناس يومئذ.
ولهذا جاء في حديث أبي سعيد : “كنا نخرج في عهد رسول الله يوم الفطر صاعًا من طعام”، قال أبو سعيد : “وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر”، وقد ذكر الحافظ ابن عبدالبر رحمه الله في كتابه: “الاستذكار” قال: “قال أشهب: سمعت مالكًا يقول: لا يؤدي الشعير إلا من هو أكله، يؤده كما يأكله”.
فظاهر هذا أن الإمام مالك يرى أنه لا يخرج الشعير إلا لمن يقتات الشعير، يكون قوتًا له ويأكله، وفي الوقت الحاضر أصبح الشعير ليس قوتًا للناس، وإنما علفًا للبهائم، وحينئذ نقول: إن الظاهر والله أعلم في هذه المسألة أنه لا يجزئ إخراج الشعير في زكاة الفطر في الوقت الحاضر في البلدان التي لم يعد الشعير قوتًا فيها للناس، وإنما أصبح علفًا للبهائم، هذا هو الذي يظهر والله أعلم في هذه المسألة.
وإنما اعتبرناها نازلة؛ لأنها قد وردت في السنة، ولكن لما تغيرت أحوال الناس بحيث أصبح الشعير ليس قوتًا للناس، وإنما علفًا للبهائم، فإن الحكم يدور مع علته.
ولهذا نرى أن عامة العلماء المعاصرين يفتون بهذا، ويقررون هذا الحكم، وكذلك أيضًا نقول: إنه يجزئ في إخراج زكاة الفطر ما كان قوتًا للناس، ولو لم يكن مذكورًا في هذه الأحاديث، ومن ذلك مثلًا: الأرز، الأرز أصبح هو غالب قوت الناس اليوم، فيجزئ إخراجه، ولا نتمسك بظاهر النص، ونقول: إنه لم يذكر في النص؛ لأنه لم يكن قوت الناس في زمن النبي .
فإذن المقصود في زكاة الفطر أن يخرج ما هو قوت الناس، ما هو غالب قوت الناس، فنقول في الوقت الحاضر: لا يجزئ إخراج الشعير؛ لأنه لم يعد قوتًا للناس، وإنما أصبح علفًا للبهائم، ويجزئ إخراج الأرز وغيره مما أصبح قوت غالب الناس، وإن لم يكن مذكورًا في هذه الأحاديث، هذا ما يتعلق بهذه المسألة، والله تعالى أعلم.
الأسئلة
السؤال: يقول: ما دام أن القاعدة أنه لا يتعين الماء لإزالة النجاسة، لو قال شخص: أنا أستطيع الوضوء بغير الماء كبخار الماء مثلًا، أو غير سائل آخر، فهل يقبل منه؟
الشيخ: نعم، نقول: إن هناك فرق بين إزالة النجاسة وبين الوضوء، فالوضوء إنما يكون بالماء، فمن لم يجد الماء فإنه يتيمم، لقول الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43]، أما إزالة النجاسة، فكما ذكرنا في درس سابق لم يرد ما يدل على تعيين الماء لإزالة النجاسة، وإنما الوارد أن الماء تزول به النجاسة.
لكن ليس هناك دليل يدل على أن الماء يتعين لإزالة النجاسة، ولا تزول النجاسة بغيره، أما الوضوء فقد ورد الدليل الدال على أن الماء يتعين للوضوء، وهو قول الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43].
فقياس إحدى المسألتين على الأخرى قياس غير صحيح؛ لأن الوضوء منصوص عليه، وأنه لا بد أن يكون من الماء، وإذا لم يجد الإنسان ماء، فإنه يتيمم: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43]، بخلاف إزالة النجاسة فلم يرد ما يدل على تعيين الماء لإزالتها.
السؤال: ما حكم السقط سقط المرأة، قال: إذا ألزم الأطباء بعمل تنظيف، ولم يبق إلا أجزاء يسيرة، وقد تعدى أربعين يومًا، وبلغ خمسين يومًا تقريبًا، ماذا تفعل من أسقطت جنينها لخمسة أشهر إذا قرر الأطباء ذلك؟ وهل يلزمها الكفارة؟
الشيخ: إسقاط الجنين لعلها إن شاء الله تعالى تكون من موضوعات درس قادم إن شاء الله، إسقاط الجنين سواء كان مشوهًا أو غير مشوه، وحكم ذلك، وأثره في الأحكام الشرعية، سوف يكون إن شاء الله موضوعًا لأحد الدروس.
لكن نحن نسير بالتسلسل، بدأ بالنوازل في العبادات، ثم ننتقل للمعاملات، ثم لسائر أبواب الفقه، وسنذكر إن شاء الله تعالى هذه المسألة في درس قادم.
السؤال: ذكرتم بالأمس حكم توزيع الماء في المقبرة، فما حكم توزيع الطعام؟
الشيخ: الذي أرى أنه لا يتوسع في هذا، إذا كان توزيع الماء محل خلاف بين العلماء، فتوزيع الطعام أولى بالمنع، والذي أرى أن الأقرب هو المنع في توزيع الطعام، إذ أنه ليس له حاجة، ربما فتح أبوابًا من الشر، وربما توسع الناس في ذلك.
ومعلوم أن المقابر ليست محلًّا لتقديم المآكل والمشارب، ونحو ذلك، ولكن إنما أجزنا توزيع الماء للحاجة لذلك، خاصة في بلادنا التي يشتد فيها الحر، فإنه ربما أن كثيرًا من الناس، أو بعض الناس يحتاج للماء ويعطش، وخاصة من كان مريضًا، كالمصاب بمرض السكر وغيره ممن يعطشوا بسرعة، فأجزنا الماء فقط، أما التوسع في ذلك، فأرى أنه غير مشروع.
السؤال: يقول: نحن جئنا من بلاد بعيدة، وبعضهم من أوروبا، وبعضهم من إفريقيا نستفيد من هذه الدروس، والحمد لله استفدنا، قبل أن نرجع نريد مذكرة لبعض الدروس، وألا تعتذر من هذا الطلب.
الشيخ: على كل حال الإخوان جزاهم الله خيرًا، القائمين على هذا الجامع قد سجلوا هذه الدروس، وهي مسجلة بالصوت، وأيضًا تفرغ بعد مدة كما فرغوا دروس الدورة الماضية، فبإمكان الإخوة التواصل مع موقع الجامع على الإنترنت، فهذه الدروس تكون موجودة بالصوت، ومكتوبة أيضًا، ولعل هذا يحقق غرض الإخوة إن شاء الله.
السؤال: ما حكم ضرب الدف للرجال، وسماع النساء لهم؟
الشيخ: هذا الباب يعني باب المعازف الأصل فيه المنع، ولهذا جاء في صحيح البخاري: أن النبي قال: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف [7]، وفسر ابن مسعود، وعدد من الصحابة قول الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [لقمان:6] بأن المقصود بذلك: الغناء، والأدلة لهذا كثيرة.
والعجب ممن كتب في هذا، وحشد أدلة وناقش الأدلة وقال: أنه ليس هناك دليل يدل على تحريم الأغاني، وهذا ليس بصحيح إطلاقًا، لكن مثل هذا الحشد بهذه الطريقة ربما يخدع بعض الناس، ويغر بعض الناس.
والأدلة على تحريم الأغاني كثيرة، ولهذا المذاهب الأربعة كلها: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، على تحريم الغناء، والمقام ليس مقام يعني لذكر هذه الأدلة، ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان ذكر شيئًا يعني كثيرًا من هذا، وذكر المفاسد المترتبة على سماع الغناء، وذكر أنه قرآن الشيطان، وأنه لا يجتمع مع قرآن الرحمن في هذا.
فالمعازف الأصل فيها المنع، ومن ذلك: الطبول، فضرب الطبل محرم، ومن قال: بأنه لم يرد فيه شيء ليس بصحيح، ورد في سنن أبي داود بسند صحيح: أن النبي قال: إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة [8]، والكوبة هي الطبل، فورد فيه نص خاص، إنما استثني فقط الدف للنساء خاصة في العرس، وكذلك أيضًا في أيام العيد، أجيز ضرب الدف في يوم العيد فقط في هذه الحالات، وألحق بعضهم بعض أهل العلم حالة ثالثة، وهي: الحرب إذا احتيج لذلك.
هذه الأحوال الثلاث هي التي استثنيت، ما عدا ذلك فيبقى على المنع، قد قرر هذا الحافظ ابن حجر رحمه الله، وقال: “إن الأصل في هذا الباب المنع”، وحينئذ بناء على هذه القاعدة الدف للرجال لا يجوز؛ لأن الأصل المنع، ولم يرد ما يدل على جواز الدف للرجال، اللهم إلا يوم العيد فإنه قد ورد ما يدل على جواز ضرب الدف يوم العيد، كما في حديث الجاريتين لما نهرهما أبو بكر الصديق، عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله : يا أبا بكر إن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا [9]، فعلل بكونه عيدًا، وإنه إنما جاز ضرب الدف في ذلك اليوم لكونه عيدًا، وما عدا ذلك فيبقى على الأصل وهو المنع.
ففي غير هذه الأحوال الثلاث لا يجوز ضرب الدف، ولا الطبل من باب أولى، والمعازف كلها بأنواعها محرمة.
السؤال: أين يوجد كلام ابن تيمية في الكسوف والخسوف؟
الشيخ: ابن تيمية له عناية بمسائل الفلك، ومن العلماء المحققين في هذه المسائل فيما يتعلق بالهلال، وما يتعلق بالكسوف والخسوف، ومسائل الفلك عمومًا، كلامه يوجد في مجموع الفتاوى المجلد الرابع والعشرين صفحة مائتين وست وخمسين وما بعده.
السؤال: ما ينشر عن وقت الكسوف والخسوف في وسائل الإعلام، هل هو محرم أم مكروه؟
الشيخ: لا يصل لدرجة التحريم؛ لأنه يخبر عن أمر معلوم، يخبر عن سنة كونية معلومة، لكن تبقى مسألة الأولوية: هل الأولى النشر، أو الأولى عدم النشر؟
لكن الذي يظهر أنه لا يصل الأمر إلى درجة التحريم.
السؤال: هل يشترط في صلاة الكسوف والخسوف رؤيته شخصيًّا، أم يجوز أن يخبرك الناس أنهم رأوه؟
الشيخ: لو أخبرك الناس الثقات بأنهم رأوه في المكان نفسه، في المكان الذي أنت فيه، فإن هذا يكفي، لا يلزم أن كل إنسان يراه، فيمكن مثلًا إمام المسجد إذا رآه يكفي، وبقية الناس يصلون برؤية الإمام، وهذا كاف.
السؤال: أليس أصل العلوم الشرعية والطبيعية كلها من علوم المسلمين؟
الشيخ: نعم، هو الحضارة الإسلامية يعني أخذ الغرب أصول حضارتهم من الحضارة الإسلامية، ليس فقط في علم الفلك في كثير من العلوم.
السؤال: في الفترة الأخيرة أخبر بوقوع كسوف الشمس، لكن لم يكن صحيحًا، كيف نجمع بين ما قلت، وما حصل…؟
الشيخ: لا، هو صحيح، كسوف الشمس الذي حصل، الذي أُخبر به هو صحيح، لكن ربما الأخ لم يتنبه له، كسوف الشمس أحيانًا لا يكون واضحًا، وبسبب قوة إضاءة الشمس، لكن لا أذكر أنه أخبر بأنه سيقع كسوف ولم يقع أبدًا، اللهم إلا الخسوف الكاذب أو شبه الظل؛ لأنه هو الذي لا يُرى، ما عدا ذلك فإنها من سنن الله الكونية التي تعلم.
فما ذكر الأخ لعله هو لم يتنبه لهذا، وإلا لو أنه يعني رأى الشمس في وسيلة من الوسائل التي لا يعني يحصل معها الضرر للعين، سيرى الشمس انكسف جزء منها، ولا يلزم الكسوف الكلي للشمس، لو انكسف جزء منها شرعت صلاة الكسوف.
ولهذا الفقهاء يعرفون الكسوف بأنه انحجاب ضوء الشمس أو بعضه، فالكسوف حصل، ولا يعرف أنه في مرة.. ولو مرة واحدة أنه أخبر بحصول الكسوف ولم يحصل، إلا ما ذكرت فقط من الخسوف الكاذب الذي لا يعتبر خسوفًا بالمعنى الشرعي.
السؤال: هل يعتبر مشاهدة مجالس الذكر في التلفاز أو كانت مباشرة أو مسجلة كحضورها؟ وهل يحصل للمشاهد الأجر؟
الشيخ: يرجى أن يحصل له الأجر، وفضل الله واسع؛ لأنه يعتبر درس علم، سواء كانت على الهواء مباشرة أو مسجلة، والمقصود هو حصول الفائدة لهذا المشاهد، سواء شاهده في التلفاز، أو أنه سمع مثلًا في الإذاعة، أو عن طريق مسجل، فيرجى له حصول الأجر والثواب؛ لأن المقصود هو تحقيق الفائدة وهذا يحقق هذا الغرض.
السؤال: كيف الدعوة لشخص عندما نصحته قال: أنا أكره المطاوعة، وهؤلاء فيهم وفيهم..، إذا كنت أصلي فالحمد لله، وسماع الأغاني قليل، ولا أُكثر منه؟
الشيخ: أولًا: لماذا يكره الاستقامة؟ هل هو لأجل استقامتهم؟ هل هو لأجل الدين؟ أو لسبب آخر؟
فهؤلاء المستقيمين يجمعهم وصف وهو أنهم استقاموا على دين الله ، فكراهتهم معنى ذلك كراهة للدين.
والاستهزاء بهم في الحقيقة استهزاء بالدين، ولهذا لما قال بعض المنافقين: “ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء” يعنون أصحاب النبي “أكذب ألسنًا، ولا أرغب بطونًا، ولا أجبن عند اللقاء”، فقط قالوا هذه الكلمات، أنزل الله : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66]، لاحظ هنا أنهم استهزأوا بالقراء، استهزأوا بأصحاب النبي ، ومع ذلك قال الله تعالى: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65].
من استهزأ بالمستقيمين وأهل الخير والصلاح لأجل استقامتهم هو في الحقيقة استهزاء بالله وآياته ورسوله، ولهذا فإنه كفر، ولو كان على سبيل السخرية والهزل والمزاح، وهذا يدل على خطورة هذه المسألة.
فكراهة المستقيمين.. نقول: لماذا يكره هؤلاء المستقيمين؟ هل هو لأجل استقامتهم؟ أو لماذا؟ فهذا على خطر عظيم من مثل هذه المقولة ومثل هذا الكلام، بل إنه يحب هؤلاء المستقيمين وأهل التقى والصلاح، ويكره ما يحصل عند بعضهم من بعض التجاوزات؛ لأنهم بشر، لكن أنه يقول بهذا اللفظ: أنه يكره جميع المستقيمين وأهل الخير والصلاح، لا شك أن هذا فيه يعني خطورة على هذا الإنسان.
وأما قوله: بسماع الأغاني؛ فتقدم أنه محرم، وأن الإنسان يكسب به أوزارًا وآثامًا.
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.