عناصر المادة
- بيع التقسيط
- حكم الزيادة في بيع التقسيط
- أدلة الجمهور على الجواز
- أدلة الظاهرية على المنع
- من آداب البيع بالتقسيط
- بيع المُرابحة للآمر بالشراء
- صور بيع المُرابحة للآمر بالشراء
- ثمرة التَّفقه في المعاملات
- أهمية الرقابة على المصارف الإسلامية
- وسائل البنوك من أجل تلافي الخسارة
- الوعد في المعاملات
- القبض في بيع المُرابحة للآمر بالشراء
- الأسئلة
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِرِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُلِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:36-38].
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومَن اهتدى بهديه، واتَّبع سُنته إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
بيع التقسيط
في هذا الدرس وهذه السلسلة من الدروس في “فقه المعاملات المالية المعاصرة” سيكون الحديث -إن شاء الله- عن أحد البيوع المُنتشرة لدى الناس، والتي يكثر السؤال عنها، وهذا البيع هو ما يُسمى: بالمُرابحة للآمر بالشراء، والذي تُمارسه كثيرٌ من المصارف والمؤسسات المالية.
وقبل أن نُبين معناه، وتكييفه الفقهي، وحكمه الشرعي، نود أولًا أن نُشير إلى أحكام بيوع التقسيط، فإن هذا البيع له صِلةٌ ببيوع التقسيط.
ومن أبرز صور بيوع التقسيط: التقسيط المباشر، وهي الصورة المعروفة المشهورة: أن يبيع رجلٌ سلعةً أو بضاعةً بثمنٍ مُؤجلٍ، أو مُقسطٍ، إما بثمنٍ مُؤجلٍ، أو بثمنٍ مُقسطٍ.
وجرتْ عادة الناس من قديم الزمان على أن مَن يبيع حاضرًا لا يكون الثمن كمَن يبيع بالأجل، فمَن يبيع بالأجل يزيد في ثمن السلعة أكثر مما لو باعها حاضرًا، وهذا عُرْفٌ مُستقرٌّ عند أرباب التجارة، وعند الناس من قديم الزمان، فإن مَن يبيع ويستلم النقد حاضرًا يستفيد من هذا النقد، وربما يستثمره، بخلاف مَن يبيع بثمنٍ مُؤجلٍ، فإنه لن يحصل على الثمن إلا بعد مدةٍ؛ ولذلك يحسبون مثل هذا في ثمن السلعة.
فمثلًا: لو كان رجلٌ يبيع سيارةً بخمسين ألف ريالٍ نقدًا، وإذا أراد أن يبيعها بثمنٍ مُؤجلٍ -مثلًا- إلى سنةٍ أو سنتين أو أكثر أو أقلّ فإنه سيزيد، سيبيعها -مثلًا- بستين ألفًا، بسبعين ألفًا.
وهكذا لو كان يبيع بالتقسيط، قال -مثلًا-: هذه السيارة قيمتها خمسون ألفًا، لكن سأبيعها بسبعين ألفًا، وتُعطيني كل شهرٍ قسطًا قدره كذا.
فهذه الزيادة التي تكون في ثمن السلعة ما حكمها؟
حكم الزيادة في بيع التقسيط
هذه من الأسئلة التي تُسأل، أو يكثر السؤال عنها، فيُقال: هذه السيارة قيمتها نقدًا خمسون ألفًا، وقيمتها مُؤجلةً سبعون ألفًا، فما حكم هذه الزيادة: عشرون ألفًا؟ هل هي من الربا؟
فنقول: هذه الزيادة التي تكون في ثمن السلعة بسبب التقسيط أو التأجيل اختلف العلماء في حكمها على قولين:
- القول الأول: الجواز، وهذا قول أكثر العلماء قديمًا وحديثًا، بل حُكي الإجماع عليه، وممن حكى الإجماع عليه: الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه “فتح الباري”.
- والقول الثاني: أن هذا مُحرمٌ، وهذا لم يقل به سوى الظاهرية.
وكان هذا القول مهجورًا إلى أن تبناه الشيخ المُحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، فلما تبنى هذا القول أحياه، فإن بعض الأقوال الميتة أو الضعيفة أو المهجورة عندما يأتي عالمٌ كبيرٌ له قبولٌ، وكلمته مسموعةٌ يُحيي هذا القول.
أدلة الجمهور على الجواز
أما جمهور العلماء، أو أكثر أهل العلم الذين قالوا بأن هذه الزيادة التي تكون في ثمن السلعة إذا بِيعتْ مُقسطةً أو مُؤجلةً أنها جائزةٌ، ولا بأس بها، فاستدلوا لذلك بأدلةٍ كثيرةٍ:
فمن القرآن -مثلًا- قول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282]، هذه آية الدَّين، وهي أطول آيةٍ في القرآن الكريم، وهي آيةٌ عظيمةٌ ذُكرتْ فيها أمورٌ كثيرةٌ متعلقةٌ بالتوثيق والإشهاد، فهي من الآيات العظيمة التي تدل على أحكامٍ كثيرةٍ؛ ففي أول هذه الآية يقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ، فأمر الله تعالى بكتابة الدَّين، وهذا الأمر على سبيل الاستحباب أو الإرشاد، وليس على سبيل الوجوب، يعني: كأن الآية تُشير إلى أنه ينبغي لمَن كان يتعامل بالدَّين والأجل أن يُوثق هذا، فإن بعض الناس ربما يتعامل بمثل هذه التعاملات ولا يُوثقها، وبالتالي تحصل نزاعاتٌ، وتحصل خصوماتٌ، بينما مَن كان مُرتبًا، ويُوثق أموره؛ يكون بعيدًا عن المُنازعات والخصومات.
وجه الاستدلال بهذه الآية: أن الله لم يشترط أن تكون المُداينة بسعر الحاضر، ومعلومٌ أن الدَّين تصحبه الزيادة في الثمن من قديم الزمان، فلو كان يُشترط أن يكون الثمن بسعر الحاضر لبيَّن هذا الله في هذه الآية، خاصةً أن هذه الآية فيها إرشاداتٌ كثيرةٌ لأمورٍ متعلقةٍ بالدَّين والمُداينة.
وأيضًا استدلوا بما جاء في الصحيحين: عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قدم النبي المدينة وهم يُسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: مَن أسلف في شيءٍ فليُسْلِف في كيلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ، إلى أجلٍ معلومٍ [1]، فلم يشترط النبي أن يكون ذلك بسعر الحاضر، بل أطلق.
كذلك أيضًا جاء في قصة إبل الصدقة -قصة عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما- أن النبي أمره أن يُجهز جيشًا، فنفدتْ الإبل، فأمره أن يشتري البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة [2]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود، وسنده جيدٌ.
فهنا زِيد في الثمن إلى أن تأتي الصدقة: البعير بالبعيرين، وهذا يدل أيضًا على أن بيع الحيوان بالحيوان لا يُشترط فيه التماثل، فيمكن أن تبيع البعير بالبعيرين، والشاة بالشاتين، لا بأس بهذا كله، ولا يُشترط فيه التقابض، لا التقابض، ولا التماثل.
وأيضًا جاء في قصة بريرة حين اشترتْ نفسها من أسيادها بتسع أواقٍ، في كل عامٍ أوقيةٌ [3]، فهي اشترت الآن بثمنٍ مُقسطٍ مُؤجلٍ، والظاهر أنه قد زِيد في الثمن مقابل الأجل، وهذه القصة في الصحيحين، وأقرها النبي على هذا.
بريرة كانت رقيقةً -أمةً-، وكان زوجها مُغيثًا، فأرادتْ أن تشتري نفسها من أسيادها، وهذا يُسمى بالمُكاتبة، وهي مذكورةٌ في قول الله : فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33]، فوافق أسيادها، فذهبتْ إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تستعين بها، فساعدتها عائشة وأعانتها، وعتقتْ بريرة.
والحكم في الشريعة: أن الأمة إذا عتقتْ -أصبحتْ حُرةً- فهي مُخيرةٌ بين أن تبقى مع زوجها الذي ما زال رقيقًا، أو تختار فسخ النكاح، فاختارت الفسخ، فلما بلغ ذلك زوجها مُغيثًا خرج في الطرقات يبكي، والدمع يسيل على خديه، فذهب الناس للنبي وأخبروه، فدعا النبي بريرة، وأشار عليها بأن هذا هو زوجك، وأنه يُحبك، وأنه يبكي في الطرقات، فقالت: يا رسول الله، تأمرني؟ إن كنت تأمر فسمعًا وطاعةً، وإن كنت تُشير فلي رأيٌ آخر. فقال عليه الصلاة والسلام: إنما أنا أشفع، قالت: لا حاجةَ لي فيه [4]، فقالوا: هذا من العجب: أن يكون هذا الزوج يُحبها حبًّا شديدًا، وهي تكرهه كراهيةً شديدةً.
فالشاهد من هذه القصة: أن النبي أقرها على شرائها نفسها من أسيادها بتسع أواقٍ، مع الظاهر أن هذا كانت فيه زيادةٌ في الثمن.
أيضًا جاء في “صحيح البخاري” عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي اشترى طعامًا -وجاء في روايةٍ أخرى: أنه شعيرٌ؛ ثلاثون صاعًا من شعيرٍ [5]- من يهوديٍّ، فرهنه درعه [6].
النبي عُرضتْ عليه خزائن الدنيا، لكنه أبى وقال: أجوع يومًا، وأشبع يومًا [7]، فكان عليه الصلاة والسلام أحيانًا لا يجد الشيء الذي يُطعمه أهله كما تقول عائشة رضي الله عنها: “إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال … وما أُوقد في أبيات رسول الله نارٌ” [8].
فاشترى عليه الصلاة والسلام من هذا اليهودي ثلاثين صاعًا من شعيرٍ بأجلٍ، والنبي عليه الصلاة والسلام من أعظم الناس وفاءً، لكن اليهود فيهم لُؤْمٌ، قال اليهودي: ما أقبل، لا بد أن تُعطيني رهنًا. فرهنه النبي درعه، وتُوفي عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونةٌ عند هذا اليهودي [9].
وهذا يدل على جواز التبايع -البيع والشراء- مع الكفار، وأن هذا لا يُنافي البراء منهم، وإذا جاز البيع والشراء مع الكفار، فمن باب أولى أنه يجوز البيع والشراء حتى مع البنوك الربوية؛ لأن اليهود أكَّالون للسُّحْت كما وصفهم الله ، ومع ذلك اشترى النبي عليه الصلاة والسلام من يهوديٍّ ثلاثين صاعًا من شعيرٍ، فالبيع والشراء لا يتعلق …، يعني: لا بد أن يكون مسلمًا، يصح البيع والشراء من المسلم ومن الكافر.
الشاهد من هذه القصة: أن اليهودي لا يمكن أن يبيع للنبي ثلاثين صاعًا من شعيرٍ إلى أجلٍ بسعرها الحاضر، لا بد أن يكون قد زاد في الثمن، فدلَّ ذلك على أن الزيادة في الثمن لأجل الأجل لا بأس بها.
وأيضًا من جهة النظر: أن البائع حُرٌّ في تحديد الثمن، هذا هو الأصل، هذا البائع يقول: لا أرضى أن أبيع هذه السلعة إلا بهذا الثمن، إن اشتريتَها مني حاضرةً فأنا أُحدد لك هذا الثمن، أو اشتريتَها مني بثمنٍ مُؤجلٍ فأنا أقول: ما أبيع سلعتي إلا بهذا الثمن، ما أبيع بضاعتي إلا بهذا الثمن. فهو حرٌّ في تحديد الثمن، فما المانع من هذا؟
وأيضًا البيع فيه منفعةٌ للطرفين، ولا ضرر، فالبيع بأجلٍ فيه منفعةٌ للطرفين، وليس فيه ضررٌ، فيستفيد من هذا البيع كلا الطرفين؛ فالبائع يستفيد الربح والزيادة في الثمن، والمشتري يستفيد الإمهال والتيسير، فالقول بجوازه فيه تيسيرٌ على الناس، وتحقيقٌ لمصالحهم، والشريعة إنما أتتْ لتحقيق المصالح للناس، ودفع الضَّرر عنهم.
أدلة الظاهرية على المنع
أما مَن قال بالتحريم -وهم كما ذكرنا قِلةٌ- وهم الظاهرية فقاسوا الزيادة في الثمن في البيع المُقسط أو المُؤجل على زيادة الدَّين مقابل الأجل، فكما أنه لا تجوز زيادة الدَّين مقابل الأجل، قالوا: لا تجوز الزيادة في الثمن لأجل الزيادة في الأجل.
يعني مثلًا: لو أنك أعطيت شخصًا عشرة آلاف ريالٍ دَينًا إلى سنةٍ، ثم لما حَلَّ الدَّين قلت: يا فلان، سددني. قال: أمهلني سنةً، وأجعلها أحد عشر ألفًا. فهذا مُحرمٌ بالإجماع، وهذا هو ربا الجاهلية: إما أن تقضي، وإما أن تُربي.
فهم قاسوا الزيادة في ثمن السلعة على الزيادة في الدَّين مقابل الأجل، وهذا عُمدتهم، ولكن هذا الاستدلال استدلالٌ غير صحيحٍ، والقول الصحيح بلا شكٍّ هو القول الأول، والذي عليه عامة أهل العلم قديمًا وحديثًا.
وأما استدلال الظاهرية بقياس الزيادة في الدَّين مقابل الأجل على الزيادة في الثمن في بيع التقسيط، فنقول: هو قياسٌ غير صحيحٍ، وقياسٌ لا يستقيم؛ وذلك لأن زيادة الدَّين مقابل الأجل هي زيادةٌ في الدَّين الذي هو أساس الربا، أما في البيع المُؤجل، وفي البيع بالتقسيط فالزيادة ليست في الدَّين، الزيادة في الثمن؛ في ثمن السلعة، فبينهما فرقٌ، فهو مجرد ترتيب ثمنٍ، فالبائع يقول: ما أبيعك بضاعتي إلا بهذا الثمن.
فهناك فرقٌ بين هذه المسألة ومسألة الزيادة في الدَّين لأجل الأجل؛ ولهذا فالقول الثاني قولٌ ضعيفٌ، والصواب أنه تجوز الزيادة في ثمن السلعة مقابل الأجل، أو مقابل التقسيط.
من آداب البيع بالتقسيط
أيضًا مَن يبيع بالأجل أو يبيع بالتقسيط ينبغي له أن يرفق بإخوانه المسلمين، وألا يستغلَّ حاجاتهم، فإن بعض الناس يزيده زيادةً فاحشةً، ويستغلُّ حاجة المُضطر.
وقد ورد في “سنن أبي داود”: أن النبي نهى عن بيع المُضطر [10]، وهذا الحديث وإن كان إسناده ضعيفًا إلا أن أصول القواعد الشرعية تُؤيده، فكون المسلم يطمع ويستغلُّ حاجات إخوانه المسلمين، فهذه ليست من أخلاق المسلم.
ثم أيضًا التَّشبث بالمال والتَّعلق به والطمع هذا من أسباب محق البركة، بينما سخاوة النفس من أسباب البركة.
والبركة -أيها الإخوة- شيءٌ يجد الإنسان أثره، فالبركة تكون في المال، وتكون في البدن، وتكون في الأولاد، وتكون في الصحة، وتكون في الوقت، وتكون في العمر، وتكون في كل شيءٍ.
فمثلًا: البركة في المال، أنت تجد من نفسك أن بعض الأموال مُباركةٌ، فيكون المال قليلًا وتنتفع به انتفاعًا عظيمًا، وتجد عندك عقارًا يجعل الله فيه البركة وتنتفع به انتفاعًا عظيمًا، أو سيارةً، أو …، وبعض الأموال ممحوقة البركة، ما فيها بركةٌ، من خسارةٍ إلى خسارةٍ، ليست فيها بركةٌ.
البركة أيضًا تكون في الصحة، ومن أسباب نزع البركة في الصحة: المعاصي؛ لأن الطاعات هي سبب حلول البركة، والبركة في الوقت، والبركة في العمر.
انظر -مثلًا- كيف أن الله بارك لنبينا محمدٍ في وقته؛ ففي ثلاثٍ وعشرين سنةً فقط أخرج الله تعالى به الناس من الظلمات إلى النور.
سعد بن معاذ أسلم وعمره كم؟
واحدٌ وثلاثون عامًا، وتوفي وعمره ستٌّ وثلاثون، أو سبعٌ وثلاثون، يعني: بقي في الإسلام ستّ سنوات، أو سبع سنوات، ومع ذلك لما مات اهتزَّ لموته عرش الرحمن [11]، أخرجه البخاري ومسلم.
ستّ سنوات، أو سبع سنوات فقط، ومع ذلك لما مات اهتزَّ لموته عرش الرحمن.
انظر إلى البركة في الوقت، كيف شغل هذه السنوات الستّ أو السبع؟ بأي شيءٍ ملأها؟
فأقول: من أسباب حلول البركة في المال، أو في البيع وفي التجارة: سخاوة النفس، كما قال عليه الصلاة والسلام في قصة حكيم بن حزام ، يقول حكيم بن حزام : “سألتُ النبي فأعطاني، ثم سألتُه فأعطاني، ثم سألتُه فأعطاني، ثم قال”، لاحظ: أعطاه أولًا، ثم نصحه نصيحةً بأسلوبٍ لطيفٍ، قال: يا حكيم، إن هذا المال خضرٌ حلوٌ، فمَن أخذه بسخاوة نفسٍ بُورك له فيه، ومَن أخذه بإشراف نفسٍ يعني: بتعلقٍ وطمعٍ لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا يعني: المُعطية خيرٌ من اليد السُّفلى [12].
لاحظ: كلمات يسيرة ما تُجاوز سطرًا أو سطرين، لكن حكيم بن حزام تأثر بها تأثرًا عظيمًا، فكان أبو بكرٍ يُعطيه العطاء الذي له من بيت المال فيأباه، ويُعطيه عمر العطاء فيأباه، قال: “والذي بعثك بالحقِّ لا أَرْزَأُ أحدًا بعدك شيئًا”، يعني: لا أطلب من أحدٍ شيئًا، فيقول عمر : “يا معشر المسلمين، إني أعرض عليه حقَّه الذي قسم الله له من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه” [13]، تأثر بهذه النصيحة من النبي .
ففي هذا الحديث قال: فمَن أخذه بسخاوة نفسٍ بُورك له فيه، ومَن أخذه بإشراف نفسٍ لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع.
فمن بركة المال: أن يظهر أثره على الإنسان، فيأكل منه ويتصدق، ويُكرم ضيفًا ويُطعم، ويظهر أثره عليه.
نجد أن بعض الناس محرومٌ من المال، وعنده أموالٌ كثيرةٌ، لكنه محرومٌ منها، ولا يظهر أثر المال عليه إطلاقًا.
حدثني مديرٌ لأحد فروع البنوك يقول: إن رجلًا كان له عندنا رصيدٌ بالملايين توفي، ومضتْ مدةٌ طويلةٌ، وما علمنا أنه تُوفي، لكن سألنا عنه فقالوا: إنه تُوفي، فاتصلنا بأكبر أبنائه، يقول: فلما أتى عندنا في البنك انفجر بالبكاء، ثم قام يدعو على والده! فقلنا: اتَّقِ الله، والدك أفضى إلى ما قدَّم، كيف تدعو عليه وقد خلَّف لكم الآن هذه الثروة؟! فقال: نحن نعيش عيشة الفقراء طيلة هذه السنين، وقد حرم نفسه وحرمنا، وعنده هذه الملايين! يقول: فجعلتُ أُهدئه وأطلب منه أن يُسامح والده، فأبى أن يُسامحه، وأخذ الثروة. غُرمها على والدهم، وغنمها لهم، ويدعون عليه أيضًا!
إذن ماذا استفاد من هذا المال؟
هذا مجرد حارسٍ، مثل: أمين الصندوق، يحرس هذا المال حراسةً قويةً مُحكمةً للورثة من بعده، أليس هذا -يا إخوان- نوعًا من محق البركة؟
هذه من صور محق البركة، ومن صور الحرمان.
نعود لموضوعنا فأقول: مَن كان يبيع بالتقسيط ينبغي أن يكون مُتسامحًا، وأن يتعامل بسخاوة نفسٍ، وأن تشيع بين المسلمين روح الإخاء والمودة والمحبة، ولا تشيع بينهم روح الأنانية والطمع، واستغلال حاجات إخوانهم المسلمين.
ولهذا فإن من أبرز حِكَم تحريم الربا: أن الربا يؤدي إلى أن تكون التعاملات بين الناس ماديةً صرفة، والغني يزداد غِنًى، والفقير يزداد فقرًا، وتزداد الهُوة بينهما.
هذه من أبرز حِكَم تحريم الربا.
بيع المُرابحة للآمر بالشراء
بعد هذا ننتقل لبيع المُرابحة للآمر بالشراء.
نحن قلنا: إن البيع بالتقسيط جائزٌ.
“بيع المُرابحة للآمر بالشراء” هذا المصطلح أطلقه بعض الناس، وبعضهم يُسميها: “المُرابحة للواعد بالشراء”، وبعضهم يُسميها: “المُرابحة المُركبة”.
وصورة هذه المعاملة: أن يأتي رجلٌ يريد بضاعةً معينةً، وليس عنده نقدٌ، فيذهب إلى مصرفٍ، أو مؤسسةٍ، أو فردٍ، ويقول لهم: اشتروا لي هذه السلعة، وإذا اشتريتُموها سوف أشتريها منكم.
كأن تحتاج إلى سيارةٍ، وتذهب للبنك وتقول: أنا أرغب في السيارة من نوع كذا، اشتروها لي، وسوف أشتريها منكم.
هذه المعاملة تُسمى بالمُرابحة للآمر بالشراء، وكانت موجودةً من قديم الزمان، لكن ربما تغيرتْ بعض صورها، وأيضًا سُميت بهذا الاسم، وإلا فحقيقتها كانت موجودةً من قديمٍ.
صور بيع المُرابحة للآمر بالشراء
هذه لا تخلو من حالين:
- الحالة الأولى: أن يتعاقد ذلك الرجل مع المصرف، أو المؤسسة، أو الفرد تعاقدًا مباشرًا لشراء تلك السلعة.
وهذه الصورة مُحرمةٌ؛ لأن تلك المؤسسة أو المصرف أو الفرد لا يملك السلعة، فيكون قد باع ما لا يملك، وقد نهى النبي عن بيع ما لا يملك فقال: لا تَبِعْ ما ليس عندك [14].
ثم أيضًا هي حيلةٌ على الربا، فكأنه يقول للبنك: أقرضني قيمة هذه السيارة.
إذن إذا كان التعاقد مباشرةً، يتعاقد مع البنك مباشرةً، فيشتري منهم السلعة أو البضاعة عمومًا، والبنك لا يملك تلك السلعة؛ فهذا لا يجوز.
- الصورة الثانية: ألا يحصل تعاقدٌ سابقٌ، وإنما يحصل مجرد وعدٍ لتلك المؤسسة أو المصرف أو الفرد بشراء تلك البضاعة، ويَعِدهم ذلك الرجل بأنهم إذا اشتروها سوف يشتريها منهم على سبيل الوعد، وليس على سبيل العقد.
فإذا كان كذلك فأكثر أهل العلم على جوازها، وهذا هو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة، وأقرَّ هذا مجمع الفقه الإسلامي الدولي، وكذلك هو اختيار شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله.
ومن أهل العلم مَن قال بتحريمها في هذه الحال، ومن أبرز مَن قال به: الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله.
القائلون بالجواز -وهم أكثر أهل العلم- قالوا: إن هذا الموعود بالشراء منه لم يتعاقد معه، وإنما وعده وعدًا، ولا مانع من أن يَعِدَ الإنسان ببيع سلعةٍ وهو لا يملكها، لا مانع من هذا، فلم يحصل تعاقدٌ سابقٌ، وهو يقول: اشتروا لي هذه السلعة، وإذا اشتريتُموها سوف أشتريها منكم. فهم يذهبون ويشترونها ويتملكونها ويقبضونها، ثم يبيعونها عليه، فلم يحصل بينهما تعاقدٌ سابقٌ.
يعني: لم يحصل تعاقدٌ إلا بعدما ملك الموعود بالشراء منه -المصرف أو المؤسسة أو الفرد- البضاعة وباعها عليه، والأصل في المعاملات الحِلُّ والإباحة، فقالوا: إن هذه الصورة ليس فيها محظورٌ شرعيٌّ، فإن البنك أو المؤسسة أو الفرد لا يبيع إلا ما يملك.
وأما الاتفاق المبدئي فهو ليس عقدًا، هذا مجرد إبداء رغبةٍ ووعدٍ: أنا أرغب أن تشتروا لي هذه السلعة.
أنت الآن لو قلت لأحد أقاربك أو أصدقائك: اشْتَرِ لي سيارةً، وإذا اشتريتَها سوف أشتريها منك. فما المانع من هذا؟
هذه وجهة مَن أجازها.
ومَن منعوها قالوا: إنها حيلةٌ على الربا، فهو بدل أن يأخذ -مثلًا- خمسين ألفًا أو ستين ألفًا، أدخل بينهما هذه السيارة بهذه الطريقة؛ ولذلك يقولون: يذهب ويُحدد نوع السيارة، ويقول: اشترها لي، وسوف أشتريها منك. فيقولون: هي حيلةٌ على الربا.
والقول الصحيح هو القول الأول، وهو الجواز، وأما القول بأنها حيلةٌ على الربا فهذا غير مُسلمٍ، لا يُسلم بأنها حيلةٌ على الربا، وهذا بيعٌ صحيحٌ، وما قبله مجرد إبداء رغبةٍ؛ ولذلك جاء في الصحيحين: عن أبي سعيدٍ : أن النبي أُتي بتمرٍ بَرْنِيٍّ -يعني: من النوع الجيد- فقال عليه الصلاة والسلام: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا والله يا رسول الله، إنَّا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال عليه الصلاة والسلام: أوَّه! عين الربا [15].
ولكنه عليه الصلاة والسلام من حكمته أنه إذا حرَّم على الناس شيئًا، أو منعهم من شيءٍ ذكر لهم البديل، يعني: كان هذا منهجه عليه الصلاة والسلام: أن يذكر البديل للشيء المُحرم ما أمكن.
ما البديل؟
البديل: قال عليه الصلاة والسلام: بِعِ الجَمْع يعني: التمر الرديء بالدراهم، ثم ابْتَعْ بالدراهم جَنِيبًا [16].
ثمرة التَّفقه في المعاملات
طيب، أليست النتيجة واحدةً؟
يعني: إذا بِعْتَ صاعين بصاعٍ، أو بِعْتَ صاعين بدراهم، ثم اشتريتَ بالدراهم صاعًا؛ النتيجة واحدةٌ، وهي: أنك تريد أن تحصل على هذا التمر الجيد مقابل هذا التمر الرديء الذي عندك.
أنت عندك تمرٌ رديءٌ، وتريد أن تحصل في المقابل على تمرٍ جيدٍ، لكن نقول هكذا، هذا هو حكم الشارع؛ ولذلك فإن مسائل الربا -يا إخوان- من المسائل الدقيقة، فهي -كما ذكر ابن كثيرٍ وجماعةٌ- من أشكل مسائل وأبواب الفقه؛ لأن المأخذ فيها أحيانًا يكون دقيقًا.
والفرق بين الحلال والحرام يكون أحيانًا فرقًا دقيقًا ويسيرًا؛ ولهذا لما رأى الكفار أن الفرق يسيرٌ قالوا: لا يوجد فرقٌ بين البيع والربا: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275].
يعني: تجد بعض الناس يقول -مثلًا-: ما الفرق بين تعامل هذا المصرف وتعامل المصرف الفلاني؟ تعامل المصرف الإسلامي، وتعامل المصرف التقليدي؟
نقول: الفرق بين الحلال والحرام فرقٌ دقيقٌ، وهذه القصة تدل على أن الإنسان يستطيع أن يحصل على غرضه بطريقٍ مباحٍ، ولا يقع في الحرام، وهذه من ثمرة الفقه في الدين.
لو بعتَ الآن صاعين بصاعٍ وقعتَ في عين الربا، لكن لو بعتَ صاعين بدراهم، ثم اشتريتَ بالدراهم صاعًا من التمر الجيد حصلتَ على غرضك، وعلى ما أردتَ، ولم تقع حتى في شبهة الربا، فانظر إلى ثمرة الفقه في الدين.
ولذلك أنا أعجب من بعض الشركات التي تقع في الربا، وبإمكانها أن تحصل على ما أرادتْ من سيولةٍ نقديةٍ بمعاملاتٍ مباحةٍ بطريق التَّورق، بطريق المُرابحة، لكن قِلة الاهتمام بأمور الشرع، فتجد الأمور الشرعية والحلال والحرام آخر اهتمام بعض الشركات، فتجد الآن بعض الشركات المطروحة للاكتتاب تجد عندهم مستشارًا قانونيًّا، ومستشارًا ماليًّا، ومستشارًا تسويقيًّا، وخُذْ من أنواع المُستشارين، يمكن عشرة مستشارين، لكن ما تجد عندهم مستشارًا شرعيًّا، فهناك قِلة اهتمامٍ بأمور الشرع وأمور الدين.
فمن ثمرة الفقه في الدين: أن الإنسان يستطيع أن يحصل على ما أراد بطريقٍ مباحٍ من غير وقوعٍ في المحظور، من غير أن يقع في المحظور.
ففي هذه القصة التي ذكرتُها ردٌّ على مَن حرَّم بيع المُرابحة للآمر بالشراء.
طيب، لماذا لم يعتبر النبي عليه الصلاة والسلام هذه حيلةً؟
لماذا لم يقل عليه الصلاة والسلام: أي فرقٍ بين أنك تبيع الصاعين بصاعٍ، أو الصاعين بدراهم، ثم تشتري بالدراهم صاعًا؟
إذن أحيانًا الصورية في المعاملة مُؤثرةٌ، فالصورية قد تكون مُؤثرةً، وهنا الصورية مُؤثرةٌ، يعني: لا بد أن تكون هذه المعاملة على صورةٍ معينةٍ، ولا تكون على صورةٍ أخرى، فإذا بعتَ صاعين بصاعٍ فهذا حرامٌ، أما لو بعتَ صاعين بدراهم، ثم اشتريتَ بالدراهم صاعًا فهذا حلالٌ.
ما الحكمة؟
الله أعلم.
بعض العلماء تَلَمَّس الحكمة فقال: من باب سدِّ الذريعة، لكن هذا هو حكم النبي .
إذن القول الصحيح هو جواز بيع المُرابحة للآمر بالشراء، وأنه لا بأس به.
أهمية الرقابة على المصارف الإسلامية
أيضًا مع قولنا بالجواز ينبغي التَّنبه عند التطبيق، فبعض البنوك تُمارس بيع المُرابحة، لكنها يكون عندها خللٌ في التطبيق، فتجد أن فتوى الهيئة الشرعية عندهم جواز بيع المُرابحة، لكن تجد الموظف يبيع ما لا يملك، ويتعاقد مع الزبون أو العميل مباشرةً، وهم لم يملكوا السلعة بعد، أو يكون الخلل في التَّملك والقبض، فيتفاهمون مع معرضٍ، إذا كانت السلعة سيارةً يتفاهمون مع معرض السيارات -مجرد مُفاهمةٍ- ويقولون: نريد منك -مثلًا- عشر سياراتٍ أو كذا، لكن لم يشتروها بعد، فإذا أتى العميل ذهب معه المندوب، وأخذ ما أراد من السيارات، والبنك لم يتملك السيارة بعد!
كيف نعرف أن البنك ملك السيارة، أو لم يملكها؟
نعرف هذا بتقدير التَّلف، لو تلفتْ هذه السيارة فعلى ضمان مَن؟
إذا قالوا: على ضمان المعرض، فمعنى ذلك أن البنك ما ملكها، وما قبضها.
وإذا قالوا: لا، هي من ضمان البنك، فمعنى ذلك أنه ملكها.
إذن لا بد أن يتملك الموعود بالشراء منه -سواءٌ كان بنكًا أو غيره- هذه البضاعة ملكًا حقيقيًّا، وليس صوريًّا.
والأمر الثاني: ألا يكون بينه وبين ذلك الموعود بأن يشتري منه -الذي وعدهم بأن يشتري منهم- أي تعاقدٍ إلا بعد التملك وبعد القبض.
ولذلك ينبغي أن يكون عند المصارف جهاز رقابةٍ، يعني: بعض المصارف توجد عندها هيئاتٌ شرعيةٌ، ولها فتاوى واضحةٌ، لكن الخلل في التطبيق، فكيف نتلافى هذا الخلل؟
يكون هناك جهازٌ رقابيٌّ يُطبق قرارات الهيئة الشرعية، وإذا حصل خللٌ يُحاسِب ذلك الموظف، وهذا الجهاز الرقابي يرفع تقريرًا للهيئة الشرعية عن مدى التزام البنك بتطبيق قرارات الهيئة الشرعية.
وهذا موجودٌ في بعض المصارف الإسلامية، لكن بعض المصارف الأخرى قد لا يوجد فيها مثل هذا الضبط، ومثل هذه الرقابة، فيحصل خللٌ في التطبيق؛ ولذلك تقع المسؤولية على مَن يريد أن يشتري بطريق المُرابحة، فلا بد أن يتأكد من أن الموعود بالشراء منه مالكٌ لهذه السلعة، وقد قبضها.
وسائل البنوك من أجل تلافي الخسارة
طيب، أحيانًا الموعود بالشراء منه من مصرفٍ أو مؤسسةٍ أو فردٍ يقول: أنا قد أشتري هذه السلعة إذا قلتم: لا تتعاقد معه، وإنما على سبيل الوعد، فيمكن أن أشتري هذه السلعة، ثم بعد ذلك لا يفي بوعده؛ فأتورط بهذه السلعة، فما الحل؟
قال هذا الإنسان -هذا الرجل- للبنك -مثلًا-: اشتروا لي سيارةً من نوع كذا، (موديل) كذا بمئة ألف ريالٍ، وسوف أشتريها منكم.
طيب، يقول: لو اشترينا له السيارة، ما الذي يضمن أنه سوف يشتريها منا؟
نفترض أنه تراجع عن الشراء، فما الحل؟
بعض البنوك تفرض غرامةً، يعني: يقولون: إذا نَكَلْتَ عن وعدك ولم تَشْتَرِ منا هذه البضاعة، فعليك غرامةٌ خمسمئة ريالٍ، أو ألف ريالٍ، مقابل الضرر الذي لحقنا بسبب عدولك عن وعدك الذي وعدتنا إياه.
وبعض المصارف تحتاط لنفسها، فعندما تريد أن تشتري هذه السلعة تشتريها بشرط الخيار؛ خيار الشرط.
مثلًا: هذا الشخص يقول: اشتروا لي سيارةً بقيمة مئة ألفٍ من نوع كذا، (موديل) كذا. فيذهب هذا البنك للمعرض ويقول: نشتري هذه السيارة منك بشرط أن لنا الخيار لمدة شهرٍ.
فهذا الذي وعدهم بالشراء منهم إن نفَّذ وعده فالحمد لله، وإن لم يُنفذ وعده يردّ البنك هذه السيارة على المعرض بموجب خيار الشرط، وبالتالي ما يخسر شيئًا، وهذا تُمارسه بعض المصارف الإسلامية.
الطريقة الأولى هي فرض غرامةٍ إذا كانت فعلًا لحقت البنك أضرارٌ بسبب نكول الواعد عن وعده، فلا بأس؛ لأن الضرر يُزال، والقاعدة في الشريعة: لا ضرر ولا ضِرار، لكن الواقع أن البنوك تفرض غرامةً مطلقًا، سواءٌ حصل ضررٌ، أو لم يحصل ضررٌ، وهذا قد يكون من أكل المال بالباطل.
هم يقولون: يصعب أننا نتحقق من كل عميلٍ أنه حصل ضررٌ بفعله أو لم يحصل؛ ولذلك الأسلم هي الطريقة الأولى، وهي: أن البنك أو الموعود بالشراء منه يشتري بخيار الشرط، أو أنه إذا حصل الضرر يحسب المصرف الضرر الفعلي، ويأخذه من ذلك الذي وعده ثم نَكَلَ عن وعده.
وهذا الخلل الذي يُلحظ في التطبيق لهذا البيع جعل بعض العلماء يُحرمه، مثل: الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، لكن في الواقع نقول: إذا حصل خللٌ في تطبيق أمرٍ من الأمور، فنحن نمنع الخلل، لكن لا نمنع أصل التعامل، فأصل المُعاملة حلالٌ، لكن الخلل الذي حصل هو الذي نُنكره.
الوعد في المعاملات
لماذا يُفرق العلماء بين الوعد والعقد؟
نحن قلنا: إن اشتراها بطريق الوعد جاز، وإن اشتراها بطريق العقد لم يَجُزْ؛ لأن البنك باع ما لا يملك، فما الفرق بين الوعد والعقد؟
العقد مُلزمٌ، والبيع من العقود اللازمة، فإذا حصل التَّفرق بين المُتبايعين بالأبدان فقد لزم البيع: البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا [17]، فإذا حصل التَّفرق لزم البيع.
إذن العقد مُلزمٌ، أما الوعد فغير مُلزمٍ قضاءً، يعني: أمام القاضي، لكن هل الوعد مُلزمٌ ديانةً فيما بينه وبين الله، أو ليس بمُلزمٍ؟
نحن نعرف أن النبي ذكر أن من خِصال المنافقين: إذا وعد أخلف [18]، لكن ما المقصود بخلف الوعد؟
ذكر أهل العلم أن المقصود بخلف الوعد: أن يَعِدَ الإنسان ومن نيته ألا يَفِي، هذه من خِصال المنافقين، وهي التي ورد فيها الذمُّ، وورد في ذلك حديثٌ عند أبي داود والترمذي: إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يَفِي له فلم يَفِ ولم يَجِئ للميعاد فلا إثم عليه [19]، والحديث في سنده مقالٌ، لكن معناه صحيحٌ، وعليه العمل عند أهل العلم.
إذن خلف الوعد المذموم: إذا وعد ومن نيته عدم الوفاء، فهذه هي التي من خِصال المنافقين، وقد قرر هذا أهل العلم.
وممن حرر هذه المسألة الحافظ ابن حجر رحمه الله في “الفتح” وغيره: أن خلف الوعد المذموم: أن يَعِدَ ومن نيته عدم الوفاء.
أما إذا وعدتَ ومن نيتك الوفاء، ثم حصل لك ظرفٌ أو عذرٌ، فلا إثم عليك، ولا شيء عليك، وليس هذا من خلف الوعد المذموم الذي هو من خِصال المنافقين.
طيب، أنا أسأل سؤالًا: لو وعدتَ ثم غيرتَ رأيك بدون عذرٍ، هل تأثم؟
نحن قلنا: إذا كان بعذرٍ ما في إشكال، لكن لو كان بدون عذرٍ، أنت وعدتَ وأنت صادقٌ، لكن لما فكرتَ بدا لك أن تُغير رأيك بدون عذرٍ، وبدون سببٍ.
نقول أيضًا: هذا لا بأس به.
إذن ما خلف الوعد المذموم؟
خلف الوعد المذموم: أن تَعِدَ ومن نيتك عدم الوفاء، هذا هو خلف الوعد المذموم، وهذا من خِصال المنافقين: يَعِدُ ومن نيته ألا يَفِي.
إذن الوعد غير لازمٍ قضاءً، لكنه لازمٌ ديانةً بهذا التصور الذي ذكرتُ: أن يَعِدَه ومن نيته عدم الوفاء، هذا هو الذي يلحقه بسببه الذم.
لكن أيضًا إذا وعد وعدًا، ولحق الموعود ضررٌ، فهل يتحمل هذا الواعد تكاليف هذا الضرر؟
عند الجمهور أنه لا يتحمل تكاليف هذا الضرر؛ لأن الوعد غير مُلزمٍ.
وذهب المالكية إلى أن الواعد إذا أوقع الموعود في ورطةٍ فإنه يتحمل تبعة ذلك الضرر، وهذا هو الذي أقره مجمع الفقه الإسلامي الدولي.
يعني: أقرأ بعض ما ورد في قرار المجمع: “الوعد -وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد- يكون مُلزمًا للواعد ديانةً إلا لعذرٍ، وهو مُلزمٌ قضاءً إذا كان مُعلقًا على سببٍ يُدخل الموعود في كُلْفةٍ نتيجة الوعد”، يعني: أخذوا برأي المالكية في هذه المسألة.
ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحال: إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلًا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذرٍ.
إذن هذا ما يتعلق بالوعد في المعاملات، وينبغي لمَن يبيع ويشتري بهذه الطريقة أن يتَّخذ من الوسائل ما يُعينه على تلافي الضرر والخسارة، ومن ذلك على سبيل المثال: ألا يتعامل إلا مع إنسانٍ يثق فيه، ويعرف أنه جادٌّ، ويعرف ملاءته.
ومن ذلك أيضًا: أن يشترط خيار الشرط -مثلًا- مع مَن يشتري منه تلك السلعة، أو تلك البضاعة؛ حتى إذا تراجع هذا الذي وعده بالشراء يستطيع أن يُرجع تلك البضاعة، أو تلك السلعة، فيمكن أن يتَّخذ من الوسائل ما يجعله يدفع ذلك الضرر.
إذن خلاصة الكلام في هذه المسألة: أن بيع المُرابحة للآمر بالشراء، والذي نستطيع أن نصفه -إذا أردنا أن نصفه وصفًا دقيقًا- فنقول: المُرابحة للواعد بالشراء، نقول: إن القول الذي عليه أكثر العلماء هو القول بالجواز، وهو الذي أقره مجمع الفقه الإسلامي الدولي، وهو اختيار شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى.
وأنقل فتوى سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله، فإنه لما سُئل عن هذا البيع قال: “إذا كانت السلعة ليست في ملك الدائن، أو في ملكه وهو عاجزٌ عن التسليم؛ فليس له أن يُبْرم عقد البيع مع المُشتري، وإنما لهما أن يتواطآ على السعر، ولا يتم بينهما بيعٌ حتى تكون السلعة في حوزة البائع”.
إذن الشيخ يُجيزه بعدما يملك الموعود بالشراء منه تلك السلعة، وبعدما يقبضها.
القبض في بيع المُرابحة للآمر بالشراء
طيب، قلنا: إنه لا بد من التملك والقبض، فالتملك يكون كما ذكرنا، يعني: يتضح بأن تلك السلعة لو تلفتْ تكون من ضمانه، لكن القبض كيف نعرف أنه قد قبضها؟
القبض يرجع للعُرف، وكما قال أهل العلم: قبض كل شيءٍ بحسبه، فقبض العقار غير قبض الأغنام، وغير قبض الذهب، وغير قبض الأواني، فقبض كل شيءٍ بحسبه، والمرجع في ذلك هو العُرف.
فمثلًا: قبض العقار يكون بالتَّخلية، وهل يُشترط إفراغ الصَّك لقبض العقار؟
لا يُشترط، يعني: الإفراغ من الأمور الإجرائية، وليس شرطًا، وكان الناس قديمًا يتبايعون بدون صكوكٍ، لكن يكون القبض بالتَّخلية، فإذا خلَّى بينه وبين هذا العقار، ويستطيع أن يسكنه، ويستطيع أن يُؤجره؛ يكون قد قبضه.
طيب، قبض السيارات كيف يكون؟ وهي أكثر ما يكون في بيع المُرابحة للآمر بالشراء.
هنا نقول: المرجع في ذلك للعُرف.
وبعض العلماء يقول: إن قبض السيارات لا بد فيه من نقل السيارة خارج المعرض.
وفي الحقيقة نقل السيارة خارج المعرض فيه ضررٌ؛ فإذا أُخرجت السيارة من المعرض تنزل قيمتها، وأحيانًا تنزل قيمتها بالألوف، يعني: ألفين، أو ثلاثة، وربما أكثر.
ثم أيضًا: هل هذا هو العُرف عند أهل السيارات؟
ومن العلماء مَن قال: إن قبض السيارات يكون بتحريكها: يُقدمها ويُؤخرها.
طيب، ما الفائدة من التقديم والتأخير؟!
يعني: هذا أشبه بالعبث أن تَرِدَ بمثل هذا الشريعة.
والقول الثالث -وهو الأصح-: أن قبض السيارة يكون بحيازة البطاقة الجمركية الأصلية، فإن لم تكن هناك بطاقةٌ جمركيةٌ أصليةٌ فبالأوراق الثبوتية مع مفتاح السيارة، وهذا هو الذي عليه العُرف عند أهل السيارات، بدليل أن الإنسان إذا قبض البطاقة الجمركية الأصلية يستطيع أن يتصرف فيها، يعني: لو تلفتْ، أو سُرقتْ، من ضمانه.
فالأقرب أن قبض السيارات يكون بحيازة البطاقة الجمركية الأصلية، وأنه لا يُشترط نقلها من المعرض، ولا يُشترط أيضًا تحريكها، وهذا هو القول الصحيح في مسألة قبض السيارات.
إذن قبض كل شيءٍ بحسبه.
هذا حاصل كلام أهل العلم في هذا النوع من البيع، ولعلنا نكتفي بهذا القدر، ونُتيح الفرصة للإجابة عن أكبر قدرٍ من الأسئلة الواردة.
الأسئلة
السؤال: قال: ذكرتَ أن البائع حرٌّ في تحديد ثمن السلعة، وقد تحصل في بعض الأحيان قِلةٌ في بعض السلع: كالشعير والإسمنت وغيرهما، فيعمد بعض الناس لاحتكارها وبيعها بثمنٍ مُضاعفٍ، والناس مُحتاجون ومُضطرون لشرائها.
الجواب: طبعًا عندما نقول: إن البائع حرٌّ في تحديد الثمن، فهذا ليس على إطلاقه، بشرط ألا يترتب على ذلك احتكارٌ، أما لو ترتب على ذلك احتكارٌ للسلع التي يحتاج إليها الناس، فإن هذا لا يجوز، وقال عليه الصلاة والسلام: لا يحتكر إلا خاطئٌ [20]، وهنا يتدخل ولي الأمر لتسعير السلع.
والتَّسعير لا بأس به، وهو من مسؤولية ولي الأمر.
وقد ذكر ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى أن التَّسعير قد يكون واجبًا، فهنا تكون المسؤولية مسؤولية ولي الأمر في الحدِّ من جشع التجار، ومن طمع التجار، والتسعير عليهم.
فمثلًا: الإسمنت أو الشعير، أو ما يحتاج إليه الناس، هنا يتدخل ولي الأمر ويُحدد سعر البيع؛ حتى لا يكون هناك جشعٌ أو طمعٌ من بعض التجار، فبعض الناس ليس عنده خوفٌ من الله تعالى؛ فيرفع السلعة، ويتواطأ معه بقية التجار، والمُتضرر هو المشتري.
فهنا لا يُترك هؤلاء يتواطؤون على رفع السلع على الناس، ويضرون المسلمين.
هنا يتدخل ولي الأمر ويُجبرهم على أن يبيعوا بالسعر الذي يُحقق لهم الربح المعقول.
السؤال: قال: استأجرتُ شقةً مفروشةً، وعندما استخدمتُ فِيَش الكهرباء سقطت التوصيلة على الأرض، وحدث خللٌ في الكهرباء، وأصلحه حارس العمارة، وطلب مني مقابل هذا الإصلاح، فهل أضمن القيمة، أم أنها من مسؤولية صاحب الشقة؟
الجواب: ننظر: إذا كنت قد حصل منك تَعَدٍّ وتسببتَ في هذا الخلل، وقال الفني المُختص -الكهربائي مثلًا الذي أتوا به-: إن هذه التوصيلة تسببتْ في هذا الخلل، فإنك تتحمل؛ لأنك أنت الذي تسببتَ في هذا الخلل.
وكونك لم تقصد، أو لم تعلم، هذه لا يُنظر لها: لأنه فيما يتعلق بالتلف يُنظر للتلف الناشئ بغض النظر عن قصد فاعله.
ولهذا قد يكون التلف من طفلٍ صغيرٍ، وقد يكون التلف من مجنونٍ، ومع ذلك يضمنان.
إذن نقول: إذا كان ذلك الخلل بسبب تصرفك هذا فأنت تضمن، أما إذا لم يكن بسبب تصرفك فليس عليك ضمانٌ.
مَن الذي يُحدد التَّصرف؟
أهل الخبرة، وهو هنا في هذا السؤال: فني الكهرباء، الكهربائي.
السؤال: قال: اشتريتُ سيارةً، وأعطيتُ مالكها الأصلي أكثر من المبلغ، فلما جاء وقت استلام السيارة -وكانت في ورشةٍ- اتَّصل بي وأخبرني أنه تراجع، فتملكتُ بالبيع، فهل لي هذا؟
علمًا بأنني رددتُ له ملكية السيارة، وأعطاني ما قدمتُ له.
الجواب: البيع من العقود اللازمة، فإذا قال: بعتُك. وقلتَ: قبلتُ. فقد لزم البيع، وليس له الحق في أن يتراجع إلا إذا رضي الطرف الآخر، فإذا رضي الطرف الآخر فهذه تُسمى: إقالة.
السؤال: هذا يقول: في بيع المُرابحة لم يتضح لي الفرق في كلتا الحالتين: مَن أراد السلعة، ومَن عرض على المصرف شراءها يُعطي البنك، وبعض البنوك تتفق مع بعض أصحاب المعارض، وتدَّعي أنها تملك عدد تلك السلع، وتضع لها مكتبًا لدى صاحب المعرض، وعند حصول المُستفيد على السلعة يعرض عليه صاحب المعرض شراءها بخسارةٍ 1%، بينما لو باعها خارج المعرض خسر أكثر.
الجواب: الفرق بين الحالتين هو: أنه في الحالة الأولى يبيع البنك مباشرةً وهو لا يملك السلعة، وفي الحالة الثانية يَعِد ولا يبيع.
في الحالة الأولى لا يملك المُشتري التراجع، يُلزمه البنك؛ لأنه عقدٌ، ولو ذهب للمحكمة ألزمته.
وفي الحالة الثانية يملك المُشتري التراجع؛ لأنه ليس عقدًا أصلًا، والأدق ألا نقول: المشتري، وإنما نقول: الواعد بالشراء يملك التراجع.
فبين الحالتين فرقٌ.
ما يذكره الأخ قد يكون خللًا في التطبيق، فهو يذكر أن بعض البنوك يكون لها مندوبٌ لدى المعرض، وتدَّعي أنها تملك تلك السيارات.
وبالفعل بعض البنوك تدَّعي أنها تملك، وهي لا تملك، مجرد تفاهمٍ.
ولذلك ينبغي التأكد من أن البنك يملك تلك السيارة، فلو تلفتْ على ضمان مَن؟
هذا الذي يُبين هل البنك يملك أو لا يملك؟
الإشكال الذي ذكره: أنه عندما يشتري السيارة يشتريها صاحب المعرض منه مرةً أخرى، يعني: المعرض يبيعها على البنك، والبنك يبيعها عليه، وهو يبيعها مرةً ثانيةً على المعرض، والسيارة في مكانها.
إذا كان هناك تواطؤٌ واتفاقٌ على بيعها على صاحب المعرض فلا يجوز؛ لأن هذا من العِينة الثلاثية، ولأن هذا حيلةٌ على الربا.
أما إذا لم يكن هناك تواطؤٌ، وعرض هذه السيارة للبيع على المعرض، وعلى غير المعرض؛ فلا بأس أن يبيعها على صاحب المعرض، لكن الغالب أنه يكون هناك ترتيبٌ واتفاقٌ.
وأحيانًا يتفق صاحب المعرض مع البنك على أن يرفع سعر السيارة؛ حتى لا يشتريها إلا صاحب المعرض، وهو يعرف أن هذا العميل بحاجةٍ للسيولة، ثم يشتريها العميل من البنك، ثم هذا المشتري عندما يعرض السيارة ما يجد أحدًا يشتريها منه إلا صاحب المعرض؛ لأن سعرها مرتفعٌ، وهذه من الحِيَل.
ولذلك إن استطاع هذا العميل أن يبيعها على غير صاحب المعرض فلا شكَّ أن هذا هو الأبعد عن الشبهة، لكن لو أنه عرضها على صاحب المعرض وعلى غيره، ووجد أن أفضل عرضٍ هو صاحب المعرض، ولم يكن هناك تواطؤٌ؛ فلا بأس.
لكن في كثيرٍ من الحالات يكون هناك تواطؤٌ؛ فلذلك عند الشك في التواطؤ بين المعرض والبنك نقول: الأحسن والأبرأ للذمة والأبعد عن الشبهة: أن تبيعها على طرفٍ خارجيٍّ، يعني: طرفًا آخر غير صاحب المعرض.
والحقيقة أن ما ذكره الأخ السائل يُمثل إشكاليةً في التطبيق، يعني: أنتم الآن استمعتم لتقرير هذه المسألة، وقلنا: إنها تجوز بهذه القيود والضوابط، والمشكلة هي عدم الاهتمام بتطبيق هذه الضوابط، فيحصل الخلل، فالبنك يبيع أحيانًا ما لا يملك، وأحيانًا يكون هناك بيعٌ على صاحب المعرض، فتنشأ المشكلة في التطبيق.
ولهذا ينبغي أيضًا للمُشتري أن تكون عنده ثقافةٌ، ويكون عنده الحد الأدنى من العلم الشرعي في هذه المسائل، خاصةً مَن يبيع ويشتري ينبغي أن يعرف مسائل البيع والشراء؛ ولهذا كان عمر يُرسل مَن يسأل الناس الذين يبيعون ويشترون في السوق، يسألهم عن أحكام البيوع والحلال والحرام، فإن أجاب أو قال له: قم، لا تأكل الحرام وتُؤكله المسلمين.
السؤال: هل يجوز الاشتراك في الصناديق الاستثمارية للبنوك، والتي تقوم على أساس المُرابحة؛ لأن تلك البنوك تدَّعي أن تلك الصناديق مُجازةٌ من الهيئة الشرعية للبنك، وأنها مُطابقةٌ للشريعة الإسلامية؟
علمًا بأن تلك البنوك لها تعاملاتٌ مُختلطةٌ: ربويةٌ، وغير ربويةٍ.
الجواب: هذا يكون بحسب الثقة بتلك البنوك، وبهيئاتها الشرعية، وبتطبيقها.
والواقع أن البنك الذي يتجرأ على الربا تكون الثقة فيه مُهتزةً، يعني: لا يثق فيه الإنسان كثيرًا؛ لأنه ما دام تجرأ على الربا، فما الذي يضمن لي أنه سيتعامل تعاملًا جائزًا؟
ثم أيضًا لو كان عنده قرارٌ من الهيئة الشرعية، مَن الذي يضمن لي أنه سيُطبقه التطبيق الصحيح؟
الربا أمره عظيمٌ، مَن تجرأ عليه -في الحقيقة- تكون الثقة فيه ليست كاملةً.
وأيضًا المؤسسة المالية التي تتعامل بالربا يكون الربا شُؤْمًا عليها؛ لأن الله تعالى توعد بالمَحْق للربا: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا [البقرة:276].
تأمل قوله: يَمْحَقُ هذا الفعل معناه: يُزيله شيئًا فشيئًا بحيث لا يشعر الإنسان.
ومنه المُحاق للهلال، فالقمر يكون بدرًا، ثم يكون هلالًا، ثم يُصبح مُحاقًا لا يُرى، يعني: تجد أن الهلال يضعف ويضعف ويضعف إلى أن يُصبح مُحاقًا.
هكذا أيضًا المال الذي يُخالطه ربًا يُمْحَق: إما مَحْقًا حسيًّا، أو محق بركةٍ؛ تُنزع البركة منه نزعًا، وهذا توعد الله به: يَمْحَقُ اللَّهُ يعني: أسند المَحْق إليه سبحانه، وما قال: الربا ممحوقٌ، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا، ومَن أصدق من الله حديثًا؟
لا يمكن أن تجد شخصًا مُرابيًا إلا وقد مَحَقَ الربا ماله: إما مَحْقًا حسيًّا، أو معنويًّا؛ ولهذا لا تجد إنسانًا مُباركًا، له أثرٌ وقيمةٌ في المجتمع، وله نفعٌ، وهو يتعامل بالربا.
كذلك الربا الذي يُخالط الشركات والبنوك يَمْحَق تلك الشركات والبنوك، حتى وإن ربحتْ في الظاهر إلا أنها ممحوقة البركة.
فينبغي أن يكون التعامل مع الشركات والبنوك التي لا تتعامل بالربا، فالربا أمره عظيمٌ جدًّا، يعني: ورد فيه اللعن: “لعن رسول الله آكل الربا، ومُؤكله، وكاتبه، وشاهديه” [21].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278-279].
فنقول للأخ: ابحث عن المصارف التي لا تتعامل بالربا، وهي -ولله الحمد- موجودةٌ لدينا، موجودٌ عددٌ من المصارف التي لا تتعامل بالربا، لكن لا نريد أن نُسمي مصارف معينةً؛ حتى لا نضع لها دعايةً في بيتٍ من بيوت الله .
السؤال: قال: شخصٌ عليه دَينٌ لأحد البنوك، ثم احتاج إلى المال، فذهب لنفس البنك وطلب منهم قرضًا، فقالوا: نعمل لك إعادة تمويلٍ. وقالوا: عندنا أخشابٌ تُوكلنا على البيع، فنبيعها لك. ولم يتأكد الشخص هل عندهم أخشابٌ أم لا؟ فما الرأي؟
الجواب: يعني: هذا من قلب الدَّين، وهذا موجودٌ لدى بعض البنوك، وهو مُحرمٌ، ولا يجوز مثل هذا العمل، وهذه الأخشاب التي يذكرونها، أو الأرز، أو المُكيفات، أو الحديد، هذه التَّورق المُنظم، وسأتكلم عنها -إن شاء الله- في الدرس القادم، وهذا هو عنوان الدرس القادم، آخر ثلاثاء من الدرس القادم -إن شاء الله- سأتكلم بالتفصيل عن التَّورق المصرفي المُنظم، وأيضًا عن واقع البنوك في تطبيق ذلك التَّورق.
ولكن باختصارٍ أقول للأخ السائل: إن هذا الذي ذكره لا يجوز، أما تفصيله فإن شاء الله أُوضحه في الدرس القادم.
السؤال: الشركة التي أشتغل فيها يُؤَمِّنون طبيًّا، وهذا في عقد التَّشغيل، وأنا أحسب كم أصرف في التداوي بالتأمين؟ وإذا بلغتُ القدر المدفوع أتوقف، لكن أحيانًا تتراكم السنين، ولا أستهلك مبلغ التأمين.
الجواب: إذا كان هذا التأمين يُبذل لك مجانًا من الشركة التي تعمل فيها فلا بأس أن تستفيد؛ لأن هذه هديةٌ، أو هِبةٌ، أو مِنحةٌ لك من الشركة التي تعمل فيها، فتُقدم لك خدماتٍ طبيةً لدى عددٍ من المستشفيات، وأنت لم تدفع شيئًا، فهذا لا بأس به.
أما إذا كانوا يأخذون منك رسمًا مقابل هذا التأمين، فننظر: إن كان هذا التأمين تعاونيًّا فلا بأس، وإن كان تجاريًّا فلا يجوز.
التأمين التعاوني والتجاري، وما الفرق بينهما؟ وما واقع الشركات التي تتعامل بالتأمين أيضًا؟ هذا موضوع أحد الدروس القادمة -إن شاء الله تعالى- ولا أريد أن نستبق في الإجابة عن الأسئلة الكلامَ عن الدروس التي سنتكلم فيها بالتفصيل إن شاء الله.
لكن باختصارٍ: إذا كان هذا التأمين يُمنح لك مجانًا فلا بأس أن تقبله، وإذا كان برسمٍ: إن كان تجاريًّا فلا يجوز، وإن كان تعاونيًّا فلا بأس به.
السؤال: قال: في هذا اليوم وقَّعْتُ عقد تمويلٍ عقاريٍّ لدى أحد المصارف، ورغم وجود عدة عروضٍ إلا أنني فضلتُ هذا المصرف؛ لكونه أفاد أن العقار لا يسقط حقُّه عند الوفاة أو العجز، بينما المصارف الأخرى تدَّعي أن تلك الميزة لديها، وأنها مُؤَمِّنةٌ على العقار، فما مشروعية ذلك؟
الجواب: هذا التأمين على العقار في حال الوفاة وفي حال العجز على ما ذكرنا من التفصيل: إن كان تأمينًا تعاونيًّا …، يوجد الآن عندنا عددٌ من الشركات التي تُمارس التأمين التعاوني الجائز، ولا أريد أن نُسمي شركاتٍ في بيتٍ من بيوت الله ؛ حتى لا نضع دعايةً لها.
يوجد عددٌ من الشركات التي تُمارس التأمين التعاوني، فإذا كان هذا البنك مُتعاقدًا مع إحدى هذه الشركات فلا بأس، أما إذا كان تأمينًا تجاريًّا فإنه غير جائزٍ.
وينبغي أن تسأل عن الهيئة الشرعية التي أجازتْ هذا التعامل، فإذا وثقتَ بهذه الهيئة فتعتمد على فُتياهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: مَن أُفتي بغير علمٍ كان إثمه على مَن أفتاه [22].
السؤال: هل الإيجار المُنتهي بالتمليك لشركة عبداللطيف جميل جائزٌ؟
الجواب: نعم، لا بأس به، قرأتُ عقدهم، وهو على الصيغة الجائزة إن شاء الله.
السؤال: قال: أخذتُ سيارةً من مصرفٍ، وعند كتابة العقد والتوقيع رأيتُ من بنود العقد رسومًا إداريةً، ما حكمها؟
الجواب: لا بأس بها، الرسوم الإدارية التي تُؤخذ مقابل المصاريف الفعلية الحقيقية لا بأس بها؛ لأننا لا نستطيع أن نقول للبنوك: اخدموا الناس مجانًا، فالبنك عندما يتكلف مصاريف ويريد رسمًا مقابل هذه المصاريف الإدارية، لا بأس بأن يأخذ مقابل هذه المصاريف، وكما يُقال في المثل: لا يُخدم بخيلٌ.
فما نستطيع أن نقول للبنوك: اخدموا الناس مجانًا، فإذا قالوا: نريد أن نأخذ مقابل هذه المصاريف، نقول: لا بأس بها، وتُضم لثمن السلعة.
السؤال: قال: من المُقرر عند الأصوليين أن الظاهرية لا يعتدون بالقياس كدليلٍ، فكيف يُؤخذ بقياسهم في حكم التقسيط على ربا الدَّين؟
الجواب: نعم، هذا سؤالٌ جيدٌ، الظاهرية … ابن حزم لا يقول بالقياس، لكن عند التطبيق العملي هل هم فعلًا لا يقيسون؟
الواقع أنهم يقيسون.
تجد من الفقهاء مَن يُنَظِّر لأمورٍ، لكن عند التطبيق يُطبق تطبيقًا آخر، فالعلماء يقولون … يعني: الظاهرية، ومنهم ابن حزمٍ يُنكر القياس، لكنه في حقيقة الأمر يقيس، وإن لم يُصرح بالقياس، فعند التطبيق الواقع أنه يقيس، الواقع أن الظاهرية يقيسون، فهذا مما يُضعف قولهم.
السؤال: يقول: أليس هذا البيع يتنافى مع المقصد السامي من تحريم الربا، والتكافل والتراحم بلا مقابلٍ؟
الجواب: هذا بيعٌ وشراء، والله تعالى يقول: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، فلا نستطيع أيضًا أن نقول للناس: ابذلوا أموالكم مجانًا.
هذا بيعٌ وشراء، يعني: هذا -مثلًا- بنكٌ أو مؤسسةٌ أو فردٌ يريد أن يتكسب، يريد أن يتعامل بالتجارة، فهذا لا يُنافي مسألة التراحم والتكافل والتعاون، لكن ننصح بعدم رفع نسبة الربح رفعًا فاحشًا، فهذا هو الذي نُوصي به، أما مسألة البيع والشراء وأخذ ربحٍ عند بيع السلعة فهذا نقول: إنه لا بأس به، وهو يدخل في قول الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ.
السؤال: قال: إن اشتريتُ قطعة ذهبٍ من معرضٍ، وعرضتُها على معرضٍ آخر لبيعها بسعرٍ أعلى، هل الربح حلالٌ؟
الجواب: لا بأس، المهم أنك عندما تشتري الذهب لا بد من التقابض، يعني: عند مُبادلة الذهب بالأوراق النقدية لا بد من التقابض، فإذا كنتَ تُعطي صاحب المحل قيمة هذا الذهب، وتقبض هذا الذهب، ثم تذهب وتبيعه في محلٍّ آخر؛ لا بأس به، المهم أن تتنبه لتحقيق شرط التقابض.
السؤال: قال: نحن في زمنٍ كثُرتْ فيه النوازل، والسائل يسأل عن نازلةٍ، ويكون المُفتي قد أسهب في تعديد الأقوال، ثم يقول ….. تختلف الإجابات وتتعدد على المُفتين، فلماذا لا تَنْبَري هيئة كبار العلماء لإبداء رأيها الشرعي في كل نازلةٍ دون تأخيرٍ؟
الجواب: على كل حالٍ، الاختلاف بين المُفتين من قديم الزمان؛ من عهد الصحابة، بل حتى في عهد النبي عليه الصلاة والسلام؛ لما قال النبي للصحابة -والقصة في “صحيح البخاري”-: لا يُصلين أحدٌ العصر إلا في بني قُريظة [23]، فلما أرادوا أن يذهبوا لبني قُريظة اختلفوا؛ فقال بعضهم: حان وقت صلاة العصر. وقال بعضهم: أبدًا لا نُصلي إلا في بني قُريظة، حتى لو لم نُصلِّ العصر إلا بعد غروب الشمس. أخذوا بظاهر اللفظ، وقال آخرون: لا، النبي عليه الصلاة والسلام ما قصد أن نُؤخر صلاة العصر ولا نُصليها إلا في بني قُريظة، إنما قصد حثَّنا على الإسراع. فصلوا صلاة العصر في وقتها في الطريق.
يقول ابن عمر رضي الله عنهما: فلم يُعنف -يعني: النبي – واحدًا منهم.
لأن كلًّا من الطائفتين مُجتهدٌ، لكن أي الطائفتين أفقه: الذين أخذوا بظاهر اللفظ، أم الذين أخذوا بالمعنى؟
ابن القيم يقول: الأفقه الطائفة الثانية التي أخذتْ بالمعنى، والطائفة الأولى لا تُلام، وهذا يدل على أن مَن أخذ بظاهر اللفظ لا يُلام؛ لأنه مجتهدٌ، لكن الأفقه مَن أخذ بالمعنى والمقصد، وهذا يدل على أهمية معرفة طالب العلم لمقاصد الشريعة.
فأقول: الخلاف موجودٌ من قديم الزمان، وينبغي أن تكون عندنا ثقافةٌ في كيفية التعامل مع الخلاف، كيف نتعامل مع الخلاف؟ وكيف نفهم الخلاف؟
الخلاف فيه نوعٌ من السعة للناس، فإذا تعددت الأقوال وكانت المسألة ليست محل اتفاقٍ ففيها سعةٌ للناس وتوسعةٌ عليهم؛ ولهذا بعض أهل العلم لما أراد أن يُصنف كتابًا في الخلاف سمَّاه كتاب “السعة”، وليس الخلاف، لكن ما موقف الإنسان عند اختلاف العلماء؟
الموقف هو: أنه يلزمه أن يتبع مَن يرى أنه الأوثق من العلماء في علمه ودينه وأمانته، يتبع مَن يراه الأوثق من هؤلاء.
كما لو اختلف طبيبان أو أطباء، يعني: لو كانت عند إنسانٍ مشكلةٌ صحيةٌ، وذهب لطبيبٍ وشَخَّصَ تشخيصًا -مثلًا- ووصف له وصفةً، وذهب إلى طبيبٍ آخر فذكر له رأيًا آخر، فأيّهما يأخذ؟
يأخذ بمَن يرى أنه أوثق وأكثر حِذْقًا في طِبِّه ومعرفةً ورسوخًا.
هكذا أيضًا بالنسبة لعلماء الشريعة نقول: يلزمه أن يأخذ بقول مَن يرى أنه هو الأعلم والأوثق في علمه ودينه وأمانته.
وأما ما ذُكر من هيئة كبار العلماء: فهيئة كبار العلماء تجتمع كل ستة أشهرٍ، وتدرس في الغالب نوازل وقضايا، ولها قراراتٌ في هذا، ولها جهدٌ مشكورٌ، لكن حاجة الناس ربما تكون أكبر وأوسع؛ ولهذا صدر قرارٌ بإنشاء المجمع الفقهي الإسلامي السعودي؛ لأجل تحقيق هذا المعنى، وليكون أيضًا مُعينًا لهيئة كبار العلماء في أداء رسالتها.
السؤال: قال: لو أعطيت شخصًا مئة ريالٍ؛ ليأخذ خمسين ريالًا، وأخذ المئة وقال: ليس لدي صرفٌ الآن، وإذا صرفتُ أُعيد لك الباقي.
الجواب: نعم، مسألة الصرف هذه تحتاج إلى وقفةٍ:
أولًا: لا بد أن نُفرق بين مسألتين:
مسألة: إذا ذهبتَ إلى محلٍّ واشتريتَ منه، وبقي جزءٌ من الثمن.
ومسألة: المُصارفة.
فالمسألة الأولى: إذا ذهبتَ لمحل البقالة -مثلًا- أو محلٍّ تجاريٍّ، أو محل تسوقٍ، وأعطيتَه خمسمئة ريالٍ، اشتريتَ بأربعمئةٍ وقال: بقيتْ لك مئة ريالٍ، ما عندي الآن شيءٌ، وسأُعطيك إياها فيما بعد، فهذا لا بأس به باتفاق العلماء.
كما أنك لو أتيتَ لهذا المحل أو الدكان واشتريتَ منه السلعة وقلتَ: إن شاء الله آتي لك بالمبلغ غدًا.
فما الفرق بين أن يكون الدَّين في ذمة البائع، أو في ذمة المُشتري؟
هذا دَينٌ، هذا لا بأس به.
الصورة الثانية: المُصارفة؛ أن تُعطي إنسانًا خمسمئة ريالٍ، فيُعطيك أربعمئةٍ ويقول: مئةٌ -إن شاء الله- في وقتٍ آخر.
أو مثلما ذكر الأخ السائل تقول: اصرف لي هذه المئة ريال. فيُعطيك خمسينًا، ويقول: الخمسون -إن شاء الله- غدًا.
بعض العلماء المعاصرين أفتى بأن هذه مُحرمةٌ، وأن هذه من الربا.
والذي يظهر لي أن هذا لا بأس به، فهذه ليست من الربا؛ لأنك عندما تصرف فإنك تصرف المبلغ الذي تقبضه، والمبلغ المُتبقي أمانةٌ أو وديعةٌ؛ ولهذا نقول: ينبغي أن تنوي أن المبلغ المُتبقي وديعةٌ، فعندما تقول -مثلًا-: اصرف لي مئة ريالٍ. قال: ما عندي إلا خمسون. تقول: طيب، اصرف لي الآن خمسينًا بخمسين -هنا تقابضٌ وتماثلٌ-، والخمسون ريالًا المُتبقية هي عندك وديعةٌ، ما المانع من هذا؟
أو مثلًا: خمسمئةٍ، ويُعطيني أربعمئةٍ، إذن أنا صرفتُ الآن أربعمئةٍ بأربعمئةٍ، والمئة ريالٍ أُبقيها عندك وديعةً، أستلمها منك غدًا.
وقد نصَّ فقهاء الحنابلة على جواز هذه الصورة، وذكرتُ فتوى في موقعي لما كثُر السؤال عن هذه المسألة، ذكرتُ فتوى مُحررةً، ونقلتُ بعض كلام فقهاء الحنابلة في جواز هذه الصورة، وأنها ليست من الربا.
وما قاله بعض العلماء المعاصرين من أنها من الربا بنوه على أنك صرفتَ خمسمئةٍ بأربعمئةٍ، وهذا غير صحيحٍ؛ فأنت لم تصرف خمسمئةٍ بأربعمئةٍ، وإنما صرفتَ أربعمئةٍ بأربعمئةٍ، والمبلغ المُتبقي وديعةٌ؛ ولذلك ينبغي أن تنوي أنه وديعةٌ عند الذي صرف لك.
ثم هذا الذي صرف لك هو مُحسنٌ إليك الآن، فهذا بابٌ من أبواب الإحسان، فينبغي ألا نسدَّ هذا الباب إلا بشيءٍ واضحٍ.
السؤال: قال: دخلتُ في وقت صلاة المغرب، وتأكدتُ أنهم يُصلون العشاء؛ نظرًا لنزول المطر، وانتظرتُ حتى أنهوا الركعة الأولى من صلاة العشاء، ثم نويتُ التكملة؛ تكملة الصلاة بنية المغرب، فهل صلاتي صحيحةٌ؟
الجواب: هذه المسألة يكثُر السؤال عنها، خاصةً في هذه الأيام، فبعض المساجد تجمع بين الصلاتين:
أولًا: أُشير إلى مسألة الجمع.
الجمع -يا إخوان- عند نزول المطر لا يجوز إلا عند وجود الحرج الظاهر والمشقة، وبعض الناس يفهم مسألة الجمع فهمًا غير صحيحٍ؛ ولذلك يقول بعض الناس: إنها سنةٌ. وهذا ليس بصحيحٍ، فهي رخصةٌ عند وجود الحرج، أما عند عدم وجود الحرج فلا يجوز الجمع.
بعض المساجد تجمع والمطر خفيفٌ، ولا يوجد حرجٌ؛ ولذلك يجمعون ويذهبون لأمور دنياهم، وربما يذهبون للسواليف، ويذهبون للاستراحات، أما بالنسبة للصلاة فهي فقط التي فيها الحرج، وبقية أمور دنياهم ليس فيها حرجٌ ولا مشقةٌ.
فيا إخوان، الجمع إنما يكون عند وجود الحرج الظاهر.
طيب، ما الذي يضبط الحرج؟
الذي يضبط الحرج هو العُرْف.
طيب، الناس يختلفون في العُرْف، فأنا أُعطيكم ضابطًا في هذا يتَّضح به وجود الحرج من عدم وجوده:
إذا تأثرت الحركة التجارية، وتأثرت حركة السيارات في الشوارع، وحركة المارة، فمعنى ذلك: أن الحرج موجودٌ، أما إذا لم تتأثر الحركة التجارية، وكانت على ما هي عليه، فالمحلات فاتحةٌ، يعني: لم تُقفل المحلات التجارية أبوابها، وحركة السيارات في الشوارع كما هي، وربما تكون أكثر ازدحامًا، وحركة المارة كما هي، فمعنى ذلك: أنه لا توجد أدنى درجات الحرج والمشقة، فما وجه الجمع؟
خاصةً -يا إخوان- أن شرط الوقت هو آكد شروط الصلاة، فآكد شروط الصلاة شرط الوقت، وقد تسقط كثيرٌ من الأركان والشروط مُراعاةً له.
لو افترضنا أن إنسانًا عاجزٌ عن ستر العورة، عاجزٌ عن استقبال القبلة، عاجزٌ عن الطهارة، عاجزٌ عن أركانٍ وشروطٍ كثيرةٍ، نقول: صَلِّ على حسب حالك، لكن لا تدع الصلاة حتى يخرج وقتها.
وأنا أذكر أني مرةً كنتُ في درسٍ لسماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله، وأتاه رجلٌ وقال: إن إمام المسجد جمع بنا، وكان المطر خفيفًا. فأفتاه بأن يُعيدوا صلاة العشاء؛ لأن هذا الجمع جمعٌ غير صحيحٍ.
وبعض جماعة المسجد يُحرجون الإمام ويضطرونه إلى الجمع.
فنقول: إن الجمع لا بد فيه من وجود الحرج الظاهر والمشقة الظاهرة، وأن نستحضر الفرق بين واقعنا وواقع الناس من قبل؛ فالناس من قبل إذا وُجد مطرٌ لحق الناس حرجٌ عظيمٌ، فليست هناك كهرباء، وليس هناك فرشٌ، والطرق غير مُسَفْلَتةٍ، ووسيلة المواصلات هي الدواب، فإذا نزل أدنى مطرٍ لحق الناس حرجٌ كبيرٌ.
أما في وقتنا الحاضر فلله الحمد مع وجود الكهرباء، والمساجد مفروشةٌ، والطرق مُسَفْلَتةٌ، والسيارات موجودةٌ، فأحيانًا لا يلحق الناس أدنى درجات الحرج والمشقة.
فأقول: لا يجوز الجمع إلا عند وجود الحرج الظاهر والمشقة الظاهرة، وإذا شككنا: هل يوجد حرجٌ أم لا؟ فالأصل أن الصلاة تُصلى في وقتها.
أما سؤال الأخ فيقول: إنه دخل في وقت صلاة المغرب مع مَن يُصلي العشاء بعدما صلوا الركعة الأولى.
فنقول: الحمد لله، إذن تُسلم معهم، فالمطلوب منك أن تُصلي ثلاث ركعاتٍ وتُسلم معهم.
واختلاف النية بين الإمام والمأموم لا يضر؛ ولهذا كان معاذٌ يصلي مع النبي صلاة العشاء، ثم يرجع ويُصلي بقومه، وهي في حقِّه نافلةٌ، وفي حقِّهم فريضةٌ، فدلَّ ذلك على أن اختلاف النية بين الإمام والمأموم لا يضر، إنما الذي يضر هو اختلاف الأفعال.
لكنني أقول للأخ السائل: كان هناك تصرفٌ أحسن من هذا، وهو: أنك تدخل معهم من الركعة الأولى، فإذا قام الإمام للركعة الرابعة أكملتَ التشهد وسلمتَ، ثم دخلتَ معهم العشاء في الركعة الرابعة؛ حتى تحوز أجر الجماعة في الصلاتين، وهذا لا بأس به، لكن ما فعلتَه صحيحٌ.
وبقيت أسئلةٌ كثيرةٌ لم نستطع … يعني: ضاق الوقت للإجابة عنها، فنعتذر للإخوة الذين لم نُجب عن أسئلتهم.
ونكتفي بهذا القدر.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 2240، ومسلم: 1604. |
---|---|
^2 | رواه أبو داود: 3357، والحاكم: 2340. |
^3 | رواه البخاري: 2168، ومسلم: 1504. |
^4 | رواه البخاري: 5283. |
^5, ^9 | رواه البخاري: 2916. |
^6 | رواه البخاري: 2200، ومسلم: 1603. |
^7 | رواه الترمذي: 2347، وأحمد: 22190، والبيهقي في “شعب الإيمان”: 9925. |
^8 | رواه البخاري: 2567، ومسلم: 2972. |
^10 | رواه أبو داود: 3382. |
^11 | رواه البخاري: 3803، ومسلم: 2466. |
^12 | رواه البخاري: 2750، ومسلم: 1035. |
^13 | رواه البخاري: 2750. |
^14 | رواه أبو داود: 3503، والترمذي: 1232. |
^15 | رواه البخاري: 2302، 2312، ومسلم: 1593، 1594. |
^16 | رواه البخاري: 2201، ومسلم: 1593. |
^17 | رواه البخاري: 2079، ومسلم: 1532. |
^18 | رواه البخاري: 33، ومسلم: 59. |
^19 | رواه أبو داود: 4995، والترمذي: 2633. |
^20 | رواه مسلم: 1605. |
^21 | رواه مسلم: 1598. |
^22 | رواه أبو داود: 3657. |
^23 | رواه البخاري: 946. |