|categories

(29) باب صلاة أهل الأعذار

مشاهدة من الموقع

باب: صلاة أهل الأعذار

يلزم المريضَ الصلاةُ قائمًا ولو مستندًا

وبدأ بالمريض فقال:

يلزم المريض أن يصلي المكتوبة قائمًا.

أجمع العلماء على أن المريض إذا كان لا يطيق القيام صلى جالسًا، أما إذا كان يطيق القيام، فيلزمه أن يصلي قائمًا كما قال المؤلف، قال:

ولو مستندًا.

يعني: إذا كان يستطيع أن يقوم مستندًا على حائط مثلًا، أو متكئًا على عصًا، فيلزمه أن يصلي قائمًا، ما لم يشق ذلك عليه مشقةً شديدةً، فإن لم يستطع، أو شق ذلك عليه مشقةً شديدةً، فإنه يصلي قاعدًا، وقد أجمع العلماء على أن المريض إذا كان لا يطيق القيام صلى قاعدًا، ويدل لهذا: ما جاء في “صحيح البخاري” عن عمران بن حصينٍ قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي  عن الصلاة؟ فقال: صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبٍ [1].

والبواسير جمع: باسورٍ، ويقال: ناسور، وهو مرضٌ يحدث فيه تمدد وريدي في الشرج.

استشكل هذا بأن البواسير لا تمنع من القيام في الصلاة، كيف نجيب عن هذا الإشكال؟

الآن المعروف أن من به بواسير ما يمنع هذا من أن يصلي قائمًا، وهنا في رواية البخاري قال عمران: كانت بي بواسير، كيف نجيب عن هذا الإشكال؟

مداخلة:

الشيخ: قالوا: إنه عنده مرضٌ آخر غير البواسير، لكن هنا ذكر البواسير، وإلا فعنده مرضٌ آخر، قيل: إن معه الاستسقاء في بطنه [2]، ما يسمى بالاستقاء؛ ولهذا قال ابن سيرين: استقى بطن عمران ثلاثين سنةً، نوع من الإسهال ونحوه، سقى بطنُه نحو ثلاثين سنةً، وكل ذلك يعرض عليه الكي فيأبى، حتى كان قبل موته بسنتين اكتوى، وكان قد صبر على المرض ثلاثين سنةً، ولم يشأ أن يتداوى أو يكتوي، فكانت الملائكة تسلم عليه عند السحر [3]، وهذا في “صحيح مسلمٍ”.

في “صحيح مسلمٍ” عن عمران قال: كان يسلَّم عليَّ -يعني: ملائكة- عند السحر”، كيف تسلم عليه ولم يذكر هذا، قال: إن الملائكة كانت تسلم عليه، قال: “فلما اكتويت أَمسَكَ ذلك”، لما اكتوى أصبحت الملائكة لا تسلم عليه، قال: “فلما تركتُه عاد إليَّ”، يعني: تسليم الملائكة، وفي روايةٍ أخرى: “لما حدثت بهذا لم تسلم الملائكة”، لكن رواية مسلمٍ: “لما اكتويت”، وهذا يدل على صبره على هذا المرض طيلة هذه المدة.

الذي يهمنا هو قول النبي : صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبٍ [4].

فهذا الحديث أصل في صلاة المريض، ونحن قلنا: إذا كان المريض يستطيع الصلاة قائمًا وجب عليه ذلك، إذا كان لا يستطيع فإنه يصلي قاعدًا، لكن إذا كان يستطيع ويخشى أن يلحقه ضررٌ، أو زيادة مرضٍ، أو تأخر بُرءٍ، فله أن يصلي قاعدًا.

وهكذا أيضًا إذا كان يستطيع لكن يلحقه مشقةٌ شديدةٌ، فله أن يصلي قاعدًا.

نريد الآن أن نضبط هذه المسائل؛ لأن بعض العامة يفتون أنفسهم بأن يصلوا قاعدين، وهم قادرون على الصلاة قيامًا، تجد أحدهم في أمور الدنيا لا أحد أنشط منه، يمارس أمور الدنيا بنشاطٍ وبقوةٍ، فإذا أتت الصلاة صلى قاعدًا، واعتذر بأنه مريضٌ، فلا بد إذنْ من ضابطٍ.

أما إذا كان لا يستطيع فهذا ظاهرٌ، هذا عند جميع العلماء، لكن إذا كان يستطيع القيام ويخشى أن يلحقه ضررٌ، أو زيادة مرضٍ، أو تأخر بُرءٍ، ما الضابط في هذا؟ هل للإنسان يفتي نفسه بنفسه في هذا؟

نقول: الضابط في هذا والمرجع في هذا للأطباء، الطبيب الثقة إذا قال له: إذا صليت قائمًا زاد مرضك، أو تأخر البرء، أو حصل لك ضررٌ، فهنا يصلي قاعدًا، فلا يفتي نفسه بنفسه، وإنما يسأل الطبيب في هذا.

قلنا: إذا كان هناك مشقةٌ شديدةٌ، ما ضابط المشقة الشديدة؟

قال كثيرٌ من أهل العلم: إن الضابط في المشقة الشديدة هي: التي يَفوت الخشوع في الصلاة بسببها، فإذا كان إذا صلى قائمًا لم يطمئن في صلاته وقلق، ويتشوف للفراغ من القراءة والركوع، فهذا يجوز له أن يصلي قاعدًا، ويدل لهذا: ما جاء في “الصحيحين” عن أنسٍ أن النبي ركب فرسًا فصُرع -يعني سقط- فجُحِش شِقه الأيمن، فصلى قاعدًا [5].

وقوله: “جُحِش” الجَحْش هو: الخَدْش، وقَشْر الجلد.

قال الموفق: والظاهر أن من جُحش شقه لا يعجز عن القيام بالكلية، وهذا يدل على أنه لا يلزم لصلاة المريض قاعدًا كونه لا يستطيع القيام، بل حتى إذا كان يستطيع القيام مع المشقة الشديدة جاز له أن يصلي قاعدًا.

إذن نضبط المسألة، نقول: يجوز للمريض أن يصلي قاعدًا إذا كان لا يستطيع القيام، هذا ظاهر.

إذا كان يستطيع لكن يلحقه ضررٌ، أو زيادة مرضٍ، أو تأخر برءٍ، أو مشقةٌ شديدةٌ يفوت الخشوع بسببها، أما إذا لم يوجد واحدٌ من هذه الأمور، فليس له أن يصلي قاعدًا، ولهذا -كما ذكرت- نجد أن بعض الناس يتساهل في هذا، والقيام مع القدرة في الفريضة ركنٌ من أركان الصلاة.

ذكر الشافعي أن رجلًا في زمانه كان قد جاوز التسعين من عمره، وكان يعلم الجواري الغناء قائمًا، فإذا أتى إلى الصلاة صلى جالسًا، فهذا نظير ما هو موجودٌ عند بعض العامة: في أمور دنياه يقوم ويذهب ويمشي، وإذا أتت الصلاة صلى جالسًا، واعتذر بأنه لا يستطيع، أو أن ذلك يشق عليه، أو نحو ذلك، وهو عند التحقيق قادرٌ على الصلاة قائمًا.

إذا صلى المريض قاعدًا لأي سببٍ من الأسباب السابقة؛ إما لعدم قدرته، أو لكون القيام يشق عليه، أو يلحقه الضرر، فإن أجره يكون كأجر القائم، يكون أجره تامًّا، ويدل لذلك: ما جاء في “صحيح البخاري” عن أبي موسى  أن النبي قال: إذا مرض العبد أو سافر، كُتب له ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا [6].

كيفية صلاة المريض قاعدًا

قال:

فإن لم يستطع فعلى جنبه.

قبل هذا، نشير إلى أنه إذا صلى قاعدًا فالسنة أن يكون متربعًا؛ وذلك بأن يجلس على أليتيه، ويجعل باطن قدمه اليمنى تحت الفخذ اليسرى، وباطن القدم اليسرى تحت الفخذ اليمنى، يعني: التربع على الصفة المشهورة للتربع، ويدل لذلك: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: “رأيت النبي يصلي متربعًا” يعني: إذا صلى جالسًا [7]، أخرجه النسائي وغيره.

هذه هي السنة؛ ولأن التربع أرفق بالإنسان في الغالب، وأكثر طمأنينةً وارتياحًا.

إذا ركع هل يبقى متربعًا، أو يثني رجليه؟ هذا محل خلافٍ بين العلماء:

فقال بعضهم إذا ركع ثنى رجليه يعني: يصلي مفترشًا رُوي ذلك عن أنسٍ ، وحكاه ابن المنذر عن أحمد وإسحاق.

وحكى ابن المنذر عن أحمد وإسحاق أنه يبقى متربعًا، ولا يثني رجليه.

إذنْ قولان للعلماء:

القول الأول: أنه إذا ركع ثنى رجليه، أنه يصلي مفترشًا، وقلنا: روي هذا عن أنسٍ .

والقول الثاني: أنه يبقى متربعًا، ولا يثني رجليه في الركوع، وإنما يثني رجليه في السجود خاصةً، فتكون هيئته في حال الركوع كهيئته في حال القيام.

وهذا القول الثاني هو الراجح والله أعلم، وقد اختاره الموفق ابن قدامة، قال الموفق في “المغني”: وهذا القول أقيس؛ لأن هيئة الراكع في رجليه هيئة القائم، فينبغي أن يكون على هيئته، وهذا أصح في النظر.

فإذنْ: المريض إذا صلى قاعدًا فالسنة أن يكون متربعًا إذا ركع، فيبقى متربعًا على القول الراجح، إذا سجد هنا ثنى رجليه.

صلاة المريض على جنبه

قال:

فإن لم يستطع فعلى جنبه.

يعني: إذا لم يستطع المريض أن يصلي قاعدًا، فإنه يصلي على جنبه؛ لحديث عمران : صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبٍ [8].

قال:

والأيمن أفضل.

يعني: السنة أن يكون ذلك على الجنب الأيمن، وذلك؛ لحديث عليٍّ أن النبي قال في المريض: فإن لم يستطع أن يصلي قاعدًا صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة [9]، وهذا الحديث أخرجه الدارقطني، لكنه ضعيفٌ، بل قال الذهبي: منكرٌ.

لكن يمكن أن يُستدل لهذا بما جاء في “صحيح البخاري” عن عمران بن حصينٍ قال: سألت النبي عن صلاة الرجل وهو قاعدٌ؟ فقال: من صلى قائمًا فهو أفضل، ومن صلى قاعدًا فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائمًا فله نصف أجر القاعد [10]، ثم قال البخاري: قال أبو عبدالله: نائمًا عندي: مضطجعًا.

وسماه نائمًا؛ لأنه مضطجعٌ في هيئة النائم، ومعلومٌ أن النائم يستحب له أن ينام على شقه الأيمن؛ لقول النبي في حديث البراء : إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن… الحديث [11].

فهذا يمكن أن يستدل به على أنه إذا صلى على جنبه فالأفضل أن يكون على جنبه الأيمن، فإن عجز عن أن يصلي على جنبه صلى مستلقيًا ورجلاه إلى القبلة، لكن هل له أن يصلي مستلقيًا مع قدرته على الصلاة على جنبه؟

إنسانٌ يستطيع أن يصلي على جنبه، لكنه صلى مستلقيًا، هل هذا يصح أم لا؟

اختلف العلماء في هذه المسألة:

فذهب بعضهم إلى صحة صلاته؛ لأنه نوع استقبالٍ، وهذه الصفة أقرب ما تكون إلى صفة القائم، فإن هذا الرجل لو قام فإن القبلة تكون أمامه.

وقال آخرون: إن الصلاة لا تصح في هذه الحال، ليس له أن يصلي مستلقيًا مع قدرته على الصلاة على جنبه.

وهذا القول هو القول الراجح والله أعلم، أن الصلاة لا تصح؛ لأن النبي قال لعمران : فإن لم تستطع فعلى جنبٍ [12]، وهذه هيئةٌ منصوصٌ عليها من النبي ، وتمتاز هذه الهيئة عن الاستلقاء بأن وجه المريض إلى القبلة، بينما في الاستلقاء وجه المريض إلى أين؟ إلى السماء.

فهو على الجنب إذنْ أقرب إلى الاستقبال، وقد ذكر الموفق بن قدامة رحمه الله في “المغني” الخلاف في هذه المسألة، واختار القول: بعدم الصحة.

قال: والدليل يقتضي ألا يصح؛ لأنه خالف أمر النبي في قوله: فعلى جنب، ولأن نقله للاستلقاء عند عجزه عن الصلاة على جنبه يدل على أنه لا يجوز ذلك مع إمكان الصلاة على جنبه؛ ولأنه ترك الاستقبال مع إمكانه.

الإيماء في الركوع والسجود

قال:

ويومئ بالركوع والسجود.

يعني: إذا صلى قاعدًا، أو على جنبه، فإنه يومئ بالركوع والسجود، إذا عجز المريض عن الركوع والسجود أومأ بهما، ولكن لو كان يقدر على الركوع والسجود لزمه الإتيان بهما، فلو كان لا يستطيع القيام فقط وصلى قاعدًا، ويستطيع أن يأتي بالركوع والسجود يجب عليه أن يأتي بهما، لكن إذا عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما، ويجعل السجود أخفض من الركوع.

لكن إذا كان يصلي مضطجعًا، كيف يكون إيماؤه بالركوع والسجود؟ يومئ بالرأس إلى صدره؛ لأنه لو أومأ إلى الأرض لكان في ذلك نوع التفات عن القبلة، بخلاف الإيماء إلى الصدر، فإن الاتجاه باقٍ إلى القبلة، يعني: إذا كان مضطجعًا فإنه يومئ إلى الصدر، لكن لو أومأ إلى الأرض، وهو مضطجعٌ فيكون في ذلك نوع التفاتٍ عن القبلة، قال:

ويجعله أخفض -يعني السجود- فإن عجز أومأ بطرْفه، واستحضر الفعل بقلبه، وكذا القول: إن عجز عنه بلسانه.

إذا عجز المريض عن أن يومئ برأسه، يقول المؤلف: يومئ بطرفه، يعني: بعينيه؛ لِمَا رَوى الدارقطني وغيره، أن النبي قال: فإن لم يستطع أومأ بطرْفه [13]، وهذا الحديث لو صح لكان حجةً في هذه المسألة، لكنه حديثٌ ضعيفٌ لا يصح عن النبي ؛ ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا عجز عن الإيماء برأسه سقطت عنه الأفعال في الصلاة دون الأقوال، فينوي أفعال الصلاة بقلبه، وذلك؛ لأن أفعال الصلاة قد عجز عنها، بينما أقوال الصلاة قادرٌ عليها، وقد قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا [التغابن:16]، وحينئذٍ نقول لمن هذه حاله: كبِّر واقرأ الفاتحة وما تيسر معك من القرآن، ثم انوِ الركوع وكبر، وسبح تسبيح الركوع، ثم انوِ الرفع منه، وهكذا.

أما ما هو شائع عند بعض العامة من أنه يومئ بالأصابع، فهذا لا أصل له، الإيماء بالطرْف له أصلٌ عند الفقهاء، وقلنا: الحديث المروي في ذلك ضعيفٌ، لكن أنه يومئ بالأصابع، إذا ركع مال بالأصابع قليلًا حنى أصابعه، ثم إذا سجد حناها أكثر، هذا لا أصل به، وهذا أشبه بالعبث، كيف تكون الصلاة هكذا؟ هذا عبثٌ، ولا تكون الصلاة بهذه الطريقة، لكن هذا موجودٌ عند بعض العامة، إذا عجز يجعل الأصابع هكذا ويقرأ الفاتحة، وإذا ركع حناها قليلًا، وإذا سجد حناها أكثر، هذا في الحقيقة نوعٌ من العبث، وهذا لا أصل له، فينبغي التنبه والتنبيه على هذه المسألة؛ لأنها موجودةٌ عند بعض العامة.

ولهذا نقول: إذا عجز عن الإيماء برأسه سقطت عنه الأفعال، ويأتي بالأقوال، وينوي الأفعال بقلبه.

صلاة من عجز عن القول والفعل

أما إذا عجز عن الأقوال والأفعال، لكن عقله معه، كما يوجد عند بعض الناس، بعض الناس يصاب مثلًا بحادث سيارةٍ أو نحوه، لا يستطيع أن يتكلم، وعاجزٌ عن الحركة، عجز عن الأقوال والأفعال، ولكن عقله معه، فما الحكم في هذه المسألة؟

اختلف العلماء في هذه المسألة:

فقال بعضهم: إن الصلاة تسقط عنه في هذه الحال، وهذه روايةٌ عن الإمام أحمد، واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

والقول الثاني: وهو قول الأكثر، قول الجمهور: أنه إذا عجز عن الأقوال والأفعال فإنه يصلي بالنية، يعني: ينوي قراءة الفاتحة، ثم ينوي قراءة ما تيسر، ثم ينوي الركوع، ثم الرفع منه، وهكذا.

وذلك؛ لأن القول بسقوط الصلاة عنه في هذه الحال يترتب عليه انقطاع الإنسان عن ذكر ربه ​​​​​​​، وقطع الصلة بالله سبحانه في مدةٍ ربما تطول، والقول بإيجاب الصلاة عليه بالنية يجعل هذا الإنسان متصلًا بربه خمس مراتٍ في اليوم والليلة على الأقل، وهذا هو الأقرب والله أعلم، ولأن هذا هو الأبرأ للذمة؛ ولأنه لا دليل يدل على أن الصلاة تسقط في هذه الحال، ولو كانت الصلاة تسقط لبين هذا النبي ؛ ولهذا قال المؤلف بعد هذا:

لا تسقط الصلاة عن المريض ما دام عقله معه

ولا تسقط ما دام عقله ثابتًا.

يعني: ما دام عقله معه، لا تسقط الصلاة عن المكلف ما دام عقله معه، إلا في حالةٍ واحدةٍ، من يذكر لنا هذه الحالة؟ تسقط الصلاة عن المكلف وعقله معه؟

المرأة حال الحيض والنفاس؛ ولهذا نستطيع أن نضع هذا ضابطًا أو قاعدةً: أن الصلاة لا تسقط عن المكلف ما دام عقله معه، إلا في حالةٍ واحدةٍ، وهي المرأة في حال الحيض والنفاس، وما عدا ذلك نقول: يجب عليك أن تصلي على حسب حالك ما دام عقلك معك، صل على حسب حالك، على ما ذكرنا قائمًا، إن عجزت فقاعدًا، إن عجزت فعلى جنبٍ، إن عجزت فمستلقيًا، إن عجزت تومئ بالركوع والسجود، إن عجزت فبالأقوال دون الأفعال، إن عجزت فالبنية، لكن الصلاة لا تسقط، وذلك؛ لأن الصلاة هي الصلة بين العبد وبين الله ، العبد لا يقطع صلته بربه سبحانه، ما دام عقله معه، فإنه لا بد أن يكون على صلة بالله ، ولذلك؛ ينبغي تنبيه المرضى، بعض المرضى إذا كان في المستشفى ما يصلي، يقول: إذا خرجت من المستشفى أقضي الصلوات، هذا فهم غير صحيحٍ، بعض العامة يقول: كيف أصلي وعليَّ نجاسةٌ؟ كيف أصلي وأنا عاجزٌ عن الصلاة، وعاجزٌ عن استقبال القبلة؟ نقول: صل على حسب حالك، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، لكن لا تترك الصلاة، ما دام عقلك معك فأنت غير معذورٍ، والمريض يجوز له أن يجمع إذا لحقه الحرج بترك الجمع، لكن يصلي على حسب حاله، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ.

هذه المسألة ينبغي تنبيه العامة عليها، خاصةً من يزور مريضًا في المستشفى ينبهه على هذا، ينبغي أن يكون الإنسان في زيارته للمستشفى يكون لهذه الزيارة أثرٌ وثمرةٌ؛ يُذَكِّر بالله ، يَذكُر لهم مثل هذه المسائل والأحكام، ولهذا؛ النبي زار الغلام اليهودي، عرض عليه الإسلام فأسلم، كان عليه الصلاة والسلام يغتنم كل فرصةٍ تسنح له للدعوة ولتعليم الناس.

قال:

ومن قدر على القيام.

يلزمه أن يقوم؛ لأن القيام مع القدرة ركن من أركان الصلاة، وإذا صلى على جنب فقدر على القعود لزمه القعود، هذا مراد المؤلف بهذه العبارة.

من استطاع القيام منفردًا ولم يستطعه في الجماعة

قال:

ومن قدر أن يقوم منفردًا ويجلسَ في جماعةٍ خُيِّر.

وفي نسخةٍ أخرى: أو يجلس في جماعةٍ خُيِّر.

يعني: هذا رجلٌ يقول: إذا صليت في البيت أستطيع أن أصلي قائمًا، لكن إذا ذهبت للمسجد ربما أن الإمام يطيل فلا أستطيع أن أصلي قائمًا، وإنما أصلي قاعدًا، فهل نقول له: صل في البيت قائمًا، أو نقول له: صل مع الجماعة قاعدًا؟ يقول المؤلف: إنه يخير بينهما؛ لأنه يفعل في كل منهما واجبًا ويترك واجبًا، فإذا صلى في البيت يترك واجبًا، وهو الجماعة، وإذا صلى مع الجماعة يترك واجبًا وهو القيام.

والقول الثاني في المسألة: أنه تلزمه الصلاة قائمًا منفردًا، ولو في بيته، وذلك؛ لأن القيام ركن من أركان الصلاة، لا تصح الصلاة إلا به مع القدرة عليه، وهذا قادرٌ عليه، بينما الجماعة واجبةٌ تصح الصلاة بدونها، وهذا القول الأخير هو الأقرب والله أعلم، وقد صوبه المرداوي في “الإنصاف”، قال: هذا القول هو الصواب؛ إذ إنه وإن كان يفعل في كل منهما واجبًا ويترك واجبًا، إلا أن أحدهما آكد من الآخر، فالقيام مع القدرة ركنٌ، بينما الجماعة واجبةٌ، القيام مع القدرة لو أخل به وهو قادرٌ عليه ما صحت صلاته، بينما لو ترك الجماعة من غير عذرٍ فصلاته صحيحةٌ مع الإثم.

فإذنْ نقول: إذا قال: إذا صليت في بيتي صليت قائمًا، وإذا كنت في المسجد أصلي قاعدًا، نقول: صل في بيتك بناءً على القول الراجح في هذه المسألة، والله تعالى أعلم.

مداخلة:

الشيخ: هذا محتملٌ، لكن إذا نظرنا إلى أن هذا ركنٌ وهذا واجبٌ فما الذي يعذره بترك هذا الركن مع قدرته عليه؟ ما دام قادرًا عليه فيأتي به، وأما صلاة الخوف فهذه حالةٌ خاصةٌ شرعت فيها الجماعة بهذه الطريقة، وأصل العبادات التوقيف.

لكن هنا الآن تعارض عندنا واجبان، أيهما آكد؟ لا شك -عند جميع العلماء- أن القيام آكد، الجماعة مختلفٌ فيها، بينما القيام ركنٌ من أركان الصلاة فهو آكد، الجماعة مختلفٌ فيها بينما القيام ركنٌ من أركان الصلاة فهو آكد من الجماعة.

ولهذا؛ فالأقرب -والله أعلم- والأبرأ للذمة: هو أنه يصلي قائمًا.

مداخلة:

الشيخ: إذا كان تارةً يقوم إذنْ يذهب للمسجد ويصلي، مادام أنه يستطيع أحيانًا أن يصلي قائمًا فلا بأس.

مداخلة:

الشيخ: قلنا: عنده علةٌ أخرى، عنده استسقاءٌ.

مداخلة:

الشيخ: ورد هذا، لكن ورد في روايةٍ أخرى: أن عنده استسقاءً في البطن [14].

الصلاة على الراحلة لمن يتأذى بمطرٍ ووَحَلٍ

ثم قال رحمه الله:

وتصح على الراحلة لمن يتأذى بنحو مطرٍ ووَحَلٍ، أو يخاف على نفسه من نزوله، وعليه الاستقبال وما يقدر عليه، ويومئ من بالماء والطين.

متى تضرر الإنسان بالسجود على الأرض؛ لأجل الوَحَل وخاف من تلويث بدنه وثيابه بالطين والبلل، فيجوز له أن يصلي على الراحلة، ويجوز له أن يومئ بالركوع والسجود، فإن كان راجلًا جاز له بالإيماء بالركوع والسجود، وإن كان على راحلته صلى على دابته؛ لِمَا رُوي عن أنسٍ أنه صلى على دابته في ماءٍ وطينٍ، قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم، وحينئذٍ يومئ بالركوع والسجود، ولا نقول له: انزل وصل ولو في الماء والطين، ولو اتسخت ثيابك وملابسك وبدنك؛ لأن هذه حالةٌ يلحق الإنسانَ معها حرجٌ كبيرٌ، ولذلك؛ له أن يصلي على راحلته ولو أن يومئ بالركوع والسجود، القاعدة في هذا: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

لكن يلاحظ ألا يصلي في أوقات النهي، فيصلي مثنى مثنى، يعني: يغتنم هذا الوقت في الصلاة.

أما صلاة النافلة في الحضر، فلم يرد فيها شيءٌ عن النبي ، والأصل في العبادات التوقيف، وإن كان في المسألة خلافٌ، لكن الأظهر أنها لا تشرع في حال الحضر، وإنما تشرع في حال السفر خاصةً.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 1117.
^2 رواه ابن المبارك في الزهد: 156، وابن أبي الدنيا في الرضا عن الله: ص86، 87، والبيهقي في شعب الإيمان: 9499.
^3 رواه مسلم: 1226.
^4, ^8, ^10, ^12, ^14 سبق تخريجه.
^5 رواه البخاري: 1114، ومسلم: 411.
^6 رواه البخاري: 2996.
^7 رواه النسائي: 1660.
^9 رواه الدارقطني: 1706.
^11 رواه البخاري: 247، ومسلم: 2710.
^13 رواه الدارقطني: 1706 بنحوه.
مواد ذات صلة