logo

(27) فصل في الإمامة

مشاهدة من الموقع

فصلٌ في الإمامة

الأَولى بالإمامة في الصلاة

لظاهر حديث أبي مسعودٍ : يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً، فأعلمهم بالسنة [1].

قال: وقوله: أعلمهم بالسنة، يعني: الأفقه، وهذا نصٌّ في محل النزاع.

ولما جاء في “صحيح البخاري” عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “لما قدم المهاجرون الأولون قبل مَقدَم رسول الله ، كان يؤمهم سالمٌ مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآنًا، وكان فيهم عمر بن الخطاب”.

وأيضًا في “صحيح مسلمٍ” عن أبي سعيدٍ أن النبي قال: إذا اجتمع ثلاثةٌ فليؤمَّهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم [2].

القول الثاني في المسألة: أن الأفقه يقدم على الأقرأ، إذا كان يقرأ ما يكفي في صلاته، وذلك؛ لأنه الأعلم بفقه الصلاة، فيؤديها على الوجه المشروع، ولا يكون فقيهًا إلا إذا كان يحفظ من القرآن ما يكفي في الصلاة، بخلاف الأقرأ، فإنه ربما لا يؤدي الصلاة على الوجه المشروع، وربما نابه شيءٌ في صلاته، فلا يدري ماذا يفعل، والأفقه يدرك هذا كله، والأقرب -والله أعلم- هو القول الثاني، وهو أن الأفقه مقدمٌ على الأقرأ.

وأما قول النبي : يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله، فمحمولٌ على أن الأقرأ في عهد النبي هو الأفقه، فكان الصحابة  أقرؤهم أفقههم؛ وذلك أنهم كانوا إذا قرؤوا القرآن تعلموا معه أحكامه، وكانوا لا يتجاوزون عشر آياتٍ حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، فتعلموا القرآن والعلم والعمل جميعًا، فكان الأقرأ هو الأفقه.

نعود لعبارة المؤلف، قال:

ويقدم قارئٌ لا يعلم فقه صلاته على فقيهٍ أميٍّ، ثم الأسن.

يعني: الأكبر سنًّا؛ لحديث مالك بن الحويرث : يؤمكم أكبركم [3].

ولقوله  في حديث ابن مسعودٍ : فإن كانوا في القراءة سواءً فأقدمهم سِلمًا، أو قال: سنًّا [4].

حكم تقديم الأشرف نسبًا

قال:

ثم الأشرف.

يعني: نسبًا، فالقرشي مقدمٌ على غيره، واستدلوا بحديث: قدموا قريشًا، ولا تقَدَّموها [5].

وأجيب على هذا الحديث بأنه حديث ضعيفٌ، أخرجه ابن أبي شيبة والشافعي، فهو ضعيفٌ من جهة الإسناد، ولو صح فالمراد تقديم قريشٍ، في أي شيءٍ؟ في الإمامة العظمى؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: الأئمة من قريشٍ [6].

والصحيح أنه لا اعتبار لهذا الوصف، إسقاط هذه المرتبة الأشرفية، ولا اعتبار بها، والله تعالى يقول: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].

تقديم الأتقى والأورع

قال:

ثم الأتقى والأورع.

وهي صفةٌ تراعى في كل هؤلاء، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إذا كان الرجلان من أهل الديانة، فأيهما كان أعلم بالكتاب والسنة وجب تقديمه على الآخر، فإن كان أحدهما فاجرًا؛ مثل: أن يكون معروفًا بالكذب والخيانة ونحو ذلك من أسباب الفسوق، والآخر مؤمنًا من أهل التقوى، فهذا الثاني أولى بالإمامة إذا كان من أهلها، وإن كان الأول أقرأ وأعلم منه، فإن الصلاة خلف الفاسق منهيٌّ عنها نهي تحريمٍ عند بعض العلماء، ونهي تنزيهٍ عند بعضهم.

فإذنْ: هذه الأوصاف المذكورة في الحديث لا تؤخذ على إطلاقها، تؤخذ إذا استووا في التقوى والديانة، لكن إذا كان أحدهم إنسانًا مثلًا يقع في الكبائر، تجد أنه يحلق لحيته، ويشرب الدخان، ومعه رجلٌ ربما أنه أقل علمًا منه، وأقل قراءةً، هذا أقرأ وأعلم، لكن الرجل عنده مظاهر الفسق باديةٌ عليه، فيقدم الأتقى، وإن كان هذا أقرأ، وإن كان هذا أعلم.

نفترض أن رجلًا تخرج من الكلية الشرعية، ويحفظ أجزاءً من القرآن؛ لأنه لا يتخرج من الجامعة إلا بحفظ ثمانية أجزاءٍ.

وهناك رجلٌ من عامة الناس، لكنه رجلٌ صالحٌ، ونفترض أن هذا الذي تخرج من الكلية الشرعية ظهرت عليه مظاهر الفسوق؛ يشرب الدخان، ويحلق لحيته، عنده بعض مظاهر الفسق، فاجتمعا، فأيهما يقدَّم؟ هل نقول: إن هذا أقرأ وأعلم يقدم على هذا الإنسان الأصلح؟ لا نقول: الأصلح يقدم؛ لماذا؟ لأن الصلاة خلف الفاسق محل خلافٍ، سيأتي الكلام عنها، بعض العلماء يقول: إنها لا تصح مطلقًا، فهي إما مكروهةٌ كراهة تنزيهٍ، أو كراهة تحريمٍ، فالأصلح والأتقى يقدم.

إذنْ تكون هذه الأوصاف عند التساوي والتقارب في الصلاح والتقوى.

وإن كان لفظ المؤلف يُشعر بغير هذا، لكن هذا هو القول الراجح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

القرعة عند التساوي والمُشَاحَّة

قال:

ثم يقرع بينهم عند التساوي والمُشَاحَّة، فيقرع بينهم.

والقُرعة يصار إليها عند التساوي في الحقوق وعدم وجود المرجح، وقد فعلها سعد بن أبي وقاصٍ في معركة القادسية، لما تشاح الناس على الأذان، فأقرع بينهم.

نفترض لو أن اثنين كلًّا منهما يريد أن يصبح إمامًا، ومتساويان في الصفات، ولا مرجح في القراءة، وفي الفقه، وفي كل شيءٍ، وفي السن، فهنا يقرع بينهم.

صاحب البيت مقدَّمٌ على غيره

قال:

وصاحب البيت وإمام المسجد -ولو عبدًا- أحق.

صاحب البيت أحق من غيره، يعني المقصود: ساكن البيت أحق من غيره، والمقصود بالغير هنا: الزائر أو الضيف، وما الفرق بين الضيف أو الزائر؟ ما الفرق بين هذين المصطلحين؟

الضيف: هو الذي يَقْدَم من خارج البلد وينزل عندك، والزائر: الذي يأتيك من داخل البلد.

إذنْ ساكن البيت أحق من الضيف أو الزائر؛ لقول النبي : لا يَؤُمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في أهله، ولا في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته في بيته إلا بإذنه [7]، وهذه رواية مسلمٍ، وعند أبي داود: لا يؤمن الرجل الرجل في بيته [8].

وأيضًا جاء في حديث مالك بن الحويرث ، أن النبي قال: من زار قومًا فلا يؤمَّهم، ولْيؤمَّهم رجلٌ منهم [9]، أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد، وقال الموفق بن قدامة: لا نعلم في هذا خلافًا.

لكن إذا اجتمع المالك والمستأجر، إذا اجتمع مالك البيت ومستأجر البيت، فأيهما أولى بالإمامة؟ إذا اجتمع المالك والمستأجر، فالمستأجر أولى بالإمامة؛ لأن المستأجر مالكٌ للمنفعة، فهو أحق بانتفاعه في هذا البيت، ولذلك؛ فهو مقدمٌ في الإمامة على المالك.

وهكذا أيضًا إمام المسجد.

إمام المسجد أحق بالإمامة من غيره

قال:

ولو عبدًا أحق بالإمامة من غيره.

حتى وإن وجد من هو أقرأ منه وأفقه؛ لأنه في معنى صاحب البيت، ولقول النبي : ولا يَؤُمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، وإمام المسجد في مسجده سلطان فيه؛ ولهذا لا تقام الصلاة إلا بحضوره وإذنه.

استثنى الفقهاء من هذا: الأمير ذا السلطان، فقالوا: إنه هو أولى بالإمامة من إمام المسجد الراتب، الأمير ذو السلطان أولى بالإمامة من إمام المسجد الراتب، بل الأولى بالإمامة من صاحب البيت؛ لهذا قال الموفق: فإن كان في البيت ذو سلطانٍ قدم على صاحب البيت؛ لأن ولايته على البيت وصاحبه.

أيضًا لو كان مثلًا في استراحة صاحب الاستراحة أولى بالإمامة، وإن كان فيه من هو أقرأ منه، وهكذا والمدرسة من الأولى بالإمامة؟ مدير المدرسة وإن كان غيره أقرأ منه، ما لم يقدم غيره، لكن من حيث الأصل: مدير المدرسة هو الأولى بالإمامة.

في الدوائر الحكومية أيضًا مدير الدائرة أولى بالإمامة؛ لأن هذا في معنى صاحب البيت.

مداخلة:…؟

الشيخ: نعم، الأولى أن يقدم، هو أولى، لكن إذا كان يرى غيره أولى منه، الأقرأ لكتاب الله الأولى أن يقدم غيره.

مداخلة:…؟

الشيخ: هذه مسألةٌ أخرى ترجع إلى الإيثار في القُرَب، الإيثار في القرب هل هو مستحبٌّ، أو ليس مستحبًّا وأنه مكروهٌ؟ هذه للعلماء فيها كلامٌ، ابن القيم رحمه الله تكلم عنها وأفاض.

قد تقول: إنه ليس بأولى؛ لأن كونه هو الإمام فهذا هو الأفضل في حقه، وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، يشمل الإمامة بجميع صورها ومعانيها، وقد لا نقول: إن هذا أفضل، لا نقول؛ لأن بعض العلماء يكرهون الإيثار بالقُرَب.

الحر أولى من العبد في الإمامة

قال:

والحر أولى من العبد.

يعني: أن الحر أولى من العبد في الإمامة؛ لأنه غالبًا أعلم بالأحكام.

والقول الثاني في المسألة: أن العبد أولى إذا كان أفضل وأدْيَن.

والأقرب والله أعلم: أنه لا اعتبار للحرية أو العبودية، وأن الاعتبار هو ما ذكره النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث، فقد يكون العبد أعلم وأفقه وأقرأ من الحر، فلا اعتبار لهذه الأمور.

وقولهم: غالبًا إن الحر أعلى من العبد، نقول: إذا كان الحر أعلم فهو أصلًا أولى، لكن نفترض أن العبد أقرأ وأفقه من الحر، فيكون هو الأولى بالإمامة.

الحاضر أولى من المسافر

قال:

والحاضر والبصير والمتوضئ أولى من غيره.

الحاضر: ضده ماذا؟ المسافر، فإذا اجتمع مقيمٌ ومسافرٌ يقولون: إن المقيم أولى بالإمامة؛ لأن المسافر ربما قصَر الصلاة ففات بعضَ المأمومين بعضُ الصلاة جماعةً، هكذا عللوا، يقولون: إن المقيم أولى بالإمامة؛ لأن المسافر ربما قصَر الصلاة ففات بعض المأمومين بعض الصلاة جماعةً.

والقول الثاني في المسألة: أن الأولى بالإمامة هو الأقرأ لكتاب الله ، سواءٌ كان مقيمًا أو مسافرًا؛ لعموم الحديث، وهذا كأنه يرجحه الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله ويفعله، أتى مرةً إلى الرياض وأم الناس فقصر، والناس أتموا كلهم، جميع من في المسجد.

ولكن الذي يظهر: أن القول الأول أقرب؛ لأن التعليل الذي ذكروه وجيهٌ، فإنه إذا قصر الإمام يفوت بعض المأمومين بعض الصلاة جماعةً، يعني: بدلًا من أن يصلوها جماعةً أربع ركعاتٍ يصلونها جماعةً ركعتين، وركعتين فرادى فيفوتهم بعض الجماعة، وهذا التعليل -كما ترون- وجيهٌ؛ ولهذا فالأقرب هو ما ذهب إليه المؤلف: أن المقيم أولى بالإمامة من المسافر. هذا الكلام على الأولوية فقط.

البصير أولى من الأعمى

قال: “والبصير”، والبصير ضده الأعمى، يقولون: البصير أولى من الأعمى في الصلاة، وإن كانت إمامة الأعمى تصح، لكن البصير ربما يكون أكثر معرفةً بأمور الصلاة، وبما قد يَعرِض له في صلاته، ولكن هذا التعليل تعليلٌ عليلٌ، والصحيح: أنه لا اعتبار للبصر من عدمه؛ لأنه لا دليل يدل على هذا، وكان النبي إذا سافر في بعض غزواته استخلف عبدالله بن أم مكتومٍ، وكان رجلًا أعمى.

المتوضئ أولى من المتيمم

قال: “والمتوضئ”، ضد المتوضئ من هو؟ المتيمم، فالمتوضئ أولى من المتيمم.

وهذا مبنيٌّ على المسألة السابقة، وهي: هل التيمم مبيحٌ أو رافعٌ؟

فالمذهب عند الحنابلة أن التيمم مبيحٌ وليس رافعًا، ولذلك يقولون: إن المتوضئ ارتفع حدثه، بينما المتيمم لم يرتفع حدثه، وإنما التيمم مبيحٌ، فالمتوضئ أولى من المتيمم، لكن على القول الذي رجحناه، رجحنا أن التيمم رافعٌ لا مجرد مبيحٍ، وإنما رافعٌ للحدث، وبهذا يترجح أيضًا في هذه المسألة القول: بأنه ليس المتوضئ أولى من المتيمم، بل الأولى هو الأقرأ لكتاب الله.

تكره إمامة غير الأَولى بلا إذنه

قال:

وتكره إمامة غير الأولى بلا إذنه.

يعني فيما سبق.

نحن قلنا: إن الأَولى: الأجود قراءةً والأفقه… إلى آخره، فغير الأَولى تكره إمامته بلا إذنه، يعني: لو أتى مثلًا إنسانٌ وأمَّ الناس في بيت رجلٍ، ولم يستأذن من صاحب البيت، فهذا مكروهٌ، ما لم يقدمه صاحب البيت، وعللوا للحكم -القول بالكراهية- للافتيات عليه؛ لأنه قد افتات عليه.

إمامة الفاسق

قال:

ولا تصح إمامة الفاسق إلا في جمعةٍ وعيدٍ تعذَّرَا خلف غيره.

وفي الحقيقة هذه المسألة من المسائل المهمة، ولكن لا بأس أن نقف معها:

إمامة الفاسق: أولًا نقول: الفاسق ينقسم إلى قسمين: فاسقٌ من جهة الاعتقاد، وفاسقٌ من جهة الأفعال.

أما الفاسق من جهة الاعتقاد: فإن كانت بدعته مكفرةً، فإنه لا تصح الصلاة خلفه قولًا واحدًا؛ لأنه لا تصح صلاته في نفسه، فلا تصح إمامته من باب أولى.

أما إذا كانت بدعته مفسقةً وليست مكفِّرةً، فإن كان يعلن بدعته، ويتكلم بها، ويدعو إليها، ويناظر، لم تصح إمامته.

قال الإمام أحمد: لا يصلى خلف أحدٍ من أهل الأهواء إذا كان داعيةً إلى هواه، قال: لا تصل خلف المرجئ إذا كان داعيةً، إلا في الجمعة والعيدين، وهذا استثناهما المؤلف، الفقهاء يستثنون الجمعة والعيدين.

قال الموفق بن قدامة رحمه الله: أما الجمعة والأعياد فتصلى خلف كل برٍّ وفاجرٍ.

كان أحمد يشهدها مع المعتزلة، كذلك من كان من العلماء في عصره.

فالجمعة والعيدان تصلى خلف الفاسق مطلقًا، إلا إذا كانت بدعته مكفِّرةً.

أما إذا لم يكن الفاسق يظهر بدعته، ولم تكن الصلاة جمعةً أو عيدين، فهل يصلى خلفه أم لا؟

اختلف العلماء في هذه المسألة: والمذهب عند الحنابلة ما هو؟ قال: ولا تصح إمامة الفاسق، فالمذهب عند الحنابلة: أنها لا تصح إلا في الجمعة والأعياد فقط، ولكن الأقرب -والله أعلم- أنها تصح، ويدل لذلك عموم قول النبي في أئمة الجور الذين يصلون الصلاة لغير وقتها: صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل، تكن لك نافلةً [10]، وظاهر هذا الحديث أنهم كانوا يصلون الصلاة في وقتها، وظاهر هذا الحديث: أنهم لو كانوا يصلون الصلاة في وقتها لكان مأمورًا بأن يصلي معهم.

وقوله: يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم [11]، وهذا أيضًا هو المأثور عن كثيرٍ من السلف، كانوا يصلون خلف أئمة الفسق، فكان الصحابة ، ومنهم: ابن عمر رضي الله عنهما، وهو من أشد الناس تحريًا للسنة، وابن مسعودٍ ، كانوا يصلون خلف الحجاج بن يوسف الثقفي، وأمره معروفٌ، قال الذهبي: نبغضه ولا نحبه، ونرى أن بغضه من أوثق عرى الإيمان، قتل كثيرًا من الناس من الصالحين، وسفك الدماء، فأمره إلى الله تعالى، لكن سفكه لهذه الدماء فسقه العلماء لأجل هذا.

وقتل العالم الجليل سعيد بن جبيرٍ، وقتل عبدالله بن الزبير، قتله وصلبه، وبقي أيامًا مصلوبًا على خشبةٍ، حتى مر به ابن عمر رضي الله عنهما فقال: السلام عليك أبا خبيب، أما لقد كنت صوامًا قوامًا -كان يصوم الدهر كله ما يفطر أبدًا، وإن كان قد ورد النهي عن هذا، لكن لعله لم يبلغه، ويقوم الليل، صوامًا قوامًا- والله لأمةٌ أنت شرها لأمة خيرٍ، فأبلغوا الحجاج مباشرةً بهذه المقولة، فلما بلغ الحجاج أمر به فألقي في مقبرةٍ، فأخذوه وقد تقطع جسده قطعًا قطعًا، جمعوها، وغسلوه وكفنوه وصلوا عليه رحمه الله، وقتل سعيد بن جبيرٍ، وقال: اللهم لا تسلطه على أحدٍ بعدي، فكان يراه كل ليلةٍ في المنام، ولم يبق بعده إلا شهرًا واحدًا، لكن كان الصحابة  يصلون خلفه مع أن هذه حاله.

أيضًا الوليد بن عقبة، جاءت قصته في “صحيح مسلمٍ”، مع أنه كان يشرب الخمر، جاء في “صحيح مسلمٍ” عن حُضَين بن المنذر، قال: شهدت عثمان بن عفان أُتي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين، وجاء في بعض الروايات: أنه صلى بهم الصبح أربعًا [12]، لكن رواية مسلمٍ: أنه صلى بهم ركعتين وقال: هل أزيدكم؟ لأنه كان سكران، فقالوا: ما زلنا في زيادةٍ منذ وُليت علينا، وما تزيدنا لا زادك الله؟! فأخذوا حصًى وحصبوه، وذهبوا به إلى عثمان ، فجلده ثمانين جلدةً، وعزله عن الولاية [13].

لكن كان الصحابة  يصلون خلفه مع أنه معروفٌ يشرب الخمر، وهذا يقتضي الفسق، وقيل: كان فيهم ابن مسعودٍ فصلى خلفه.

فالقول الصحيح إذنْ: أنه يصلَّى خلف أهل الفسق، ما لم تكن البدعة مكفرةً أو الفسق يؤدي إلى الكفر، وما لم يكن يعلن أيضًا بدعته وفسقه، هذا هو القول الأرجح والأقرب -والله أعلم- في هذه المسألة.

إمامة الأعمى

قال:

وتصح إمامة الأعمى.

سبق الكلام عنها، وكذلك أيضًا الأصم والأقلف، وهو: الذي لم يختن، وذلك؛ لأنه ذكرٌ مسلمٌ عدلٌ قارئٌ فتصح صلاته، فتصح إمامته، فالأعمى تصح إمامته، وكذلك الأصم والأقلف.

لكن الأقلف: إذا ترك الاختتان لعذرٍ تصح صلاته، لكنهم يقيدون ذلك بـ”مع الكراهة”، ولذلك؛ المؤلف لما قال: “تصح إمامة الأعمى والأصم والأقلف وكثير اللحن”، قال في الأخير: “مع الكراهة”.

وسبق أن قلنا: إن الصحيح: أن إمامة الأعمى تصح من غير كراهةٍ، وهكذا أيضًا الأصم، تصح من غير كراهةٍ، فلا وجه للقول بالكراهة ما دام رجلًا مسلمًا عدلًا قارئًا، أولى بالإمامة من غيره، فلا وجه للقول بالكراهة.

وأما الأقلف إن كان قد ترك الختان لغير عذرٍ، فإنه يكون فاسقًا بهذا؛ لأنه لا تتم طهارته، والختان يجب على الرجل إذا بلغ، أما إذا تركه لعذرٍ من الأعذار، فالذي يظهر أن صلاته تصح؛ لأنه كصاحب السلس، والقول الصحيح: أن صاحب السلس تصح صلاته من غير كراهةٍ.

فإذنْ الخلاصة: أن الأعمى والأصم تصح صلاتهما من غير كراهةٍ على القول الراجح.

والأقلف إن كان لعذرٍ تصح من غير كراهةٍ، وإن كان لغير عذرٍ فتكره الصلاة خلفه، ويكون حكمه فيها حكم الصلاة خلف الفاسق.

الاقتداء بمن يَلحَن في قراءته

قال:

وكثير لحنٍ لم يُحِل المعنى.

أفادنا المؤلف بهذا بأن اللحن ينقسم إلى قسمين: لحنٍ يحيل المعنى، ولحنٍ لا يحيل المعنى.

أما إذا كان اللحن يحيل المعنى: فإن كان في الفاتحة، فإن الصلاة لا تصح خلفه، وهذا سبق الكلام عن هذه المسألة في درسٍ سابقٍ.

أما إذا كان اللحن لا يحيل المعنى: فتكره الصلاة خلفه، ومثال اللحن الذي لا يحيل المعنى: مثلًا بدل أن يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، يقول: (الحمد لله ربُّ العالمين)، هذا لا يحيل المعنى، قال:

والتَّمْتام، الذي يكرر التاء.

فتكره إمامته، لكن إمامته صحيحةٌ، وإنما تكره إمامته؛ لأنه يزيد حروفًا في القراءة، فتكره إمامته لأجل هذا.

مداخلة: ما هو التمتام؟

الشيخ: التمتام يعني يتمتم، يزيد التاء، ينطق الحروف من…

إمامة العاجز عن شرطٍ أو ركنٍ

قال:

ولا تصح إمامة العاجز عن شرطٍ أو ركنٍ إلا بمثله، إلا الإمام الراتب بمسجد.. إلى آخره.

يقولون: إنه لا تصح إمامة العاجز عن شرطٍ أو ركنٍ؛ لإخلاله بفرضٍ في الصلاة، فهو يخل إما بشرطٍ، وإما بركنٍ؛ ولذلك لا تصح إمامته إلا بمثله، إلا لمن كان عاجزًا مثله، واستثنوا من هذا الإمام الراتب في مسجده.

أيضًا الذي يرجى زوال علته، فإنه يصلي جالسًا، ويصلون… شيء من أركان الصلاة أو شروطها مطلقًا، وذلك؛ لعموم الأدلة الواردة في الإمامة، والتي لم تفرق بين العاجز وغيره، ولأن الصحيح: أن من صحت صلاته صحت إمامته، إلا في مسألةٍ واحدةٍ، وهي إمامة المرأة، هذا هو القول الصحيح، والله أعلم، وهذا هو القول الراجح الذي عليه كثيرٌ من المحققين من أهل العلم، ورجحه الشيخ السعدي وابن عثيمين رحمهما الله، أنه تصح إمامة العاجز عن شرطٍ أو ركنٍ مطلقًا، ما دام أنه الأقرأ لكتاب الله تعالى، فيصح أن يكون هو الإمام، ومما يدل على هذا: استثناؤهم للإمام الراتب بمسجد المرجو زوال علته، ما الدليل على هذا الاستثناء؟ ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ على هذا.

وأشار المؤلف هنا في هذه المسألة إلى أن الإمام إذا صلى جالسًا فإنهم يجلسون خلفه، وهذه هي السنة، السنة للمأمومين إذا صلى الإمام جالسًا يصلون خلفه جلوسًا، وهل ذلك على وجه الاستحباب أو على وجه الوجوب؟ المؤلف يرى أن هذا على سبيل الاستحباب؛ لهذا قال:

ويجلسون خلفه، وتصح قيامًا.

وذلك لما جاء في “الصحيحين” عن أنسٍ قال: قال رسول الله : إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا.. إلى قوله: وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون [14]، وهذا في “الصحيحين”.

قوله: أجمعون، بالواو وليس بالياء، تأكيد لضمير الفاعل في قوله: صلوا، وهذه اللفظة أجمعون جاءت في جميع الطرق في “الصحيحين”.

أما إذا ابتدأ الإمام الصلاة بهم قائمًا، ثم عرض له عارضٌ فجلس، فيلزم المأمومين أن يتموا الصلاة خلفه قيامًا، كأن يكون الإمام يصلي بالناس ثم أصابه علةٌ في بطنه، أو في ظهره فجلس، وأكمل الصلاة جالسًا، فإن المأمومين يصلون خلفه قيامًا.

قال الموفق بن قدامة رحمه الله: فإن ابتدأ بهم الصلاة قائمًا ثم اعتل، أتموا خلفه قيامًا، واستدل بقصة أبي بكرٍ ، قال: لأن أبا بكرٍ ابتدأ بهم الصلاة قائمًا، ثم جاء النبي فأتم الصلاة بهم جالسًا، وأتموا خلفه قيامًا ولم يجلسوا.

إذنْ: إذا ابتدأ الإمام بهم الصلاة قاعدًا صلوا خلفه قعودًا، إذا ابتدأ بهم قائمًا ثم جلس، صلوا خلفه قيامًا.

ما رأيكم؟ إمام مسجدٍ راتبٌ عرض له عارضٌ، ما استطاع أنه يصلي قائمًا، فأتى يصلى بجماعته قعودًا، فماذا نقول بالنسبة للناس؟ صلوا خلفه جلوسًا كلكم، كل أهل المسجد صلوا خلفه قعودًا، وهذا بنص الحديث: صلوا جلوسًا أجمعون، فلا حرج في هذا؛ لأن بعض أئمة المساجد يتحرج من هذا، مع أن هذا قد ورد فيه السنة الصحيحة الصريحة.

ربما بعض العامة يفرح بهذا بدل أن يصلوا قيامًا يصلون كلهم قعودًا، لكن يحتاج إلى أن يوضح لهم السنة قبل هذا؛ لأن العامة إذا ما أَلِفُوا شيئًا استنكروه.

هو محل خلافٍ: هل هو على سبيل الوجوب أو الاستحباب؟

بعض العلماء يرى الوجوب، والأقرب هو قول الجمهور: أن ذلك على سبيل الاستحباب، والمؤلف اختاره، وهو المذهب، أن ذلك على سبيل الاستحباب.

قال:

وإن ترك الإمام ركنًا أو شرطًا مختَلَفًا فيه مقلِّدًا صحت، ومن صلى خلفه معتقدًا بطلان صلاته أعاد، ولا إنكار في مسائل الاجتهاد.

إذا ترك ركنًا أو شرطًا مختلفًا فيه مقلدًا؛ كأن يكون حنفيًّا مثلًا، وترك الطمأنينة في الصلاة، مثلًا الحنفية لا يرون الطمأنينة في الصلاة، فإذا كان مقلدًا لإمامه ويرى أن هذا هو الحق فتصح صلاته.

من صلى خلفه إذا كان يعتقد صحة صلاته؛ كأن يكون مثلًا حنفيًّا خلف حنفيٍّ، فكلهم صلاتهم صحيحةٌ.

لكن لو كان الذي خلفه مثلًا حنبليًّا، الحنابلة عندهم أن الطمأنينة ركنٌ من أركان الصلاة، فلا تصح صلاته، ولهذا قال: “ومن صلى خلفه معتقدًا بطلان صلاته أعاد، ولا إنكار في مسائل الاجتهاد”، وهذه قاعدةٌ عند العلماء، لكن المسائل التي تكون محلًّا للاجتهاد ليست هذه المسألة على إطلاقها، بأن يكون مثلًا: لم يرد فيها نصٌّ، أو وردت نصوصٌ متعارضةٌ مثلًا، لا إنكار في مسائل الاجتهاد، ولا يفتح هذا الباب على إطلاقه، وهذا بالنسبة للعلماء القادرين على الاجتهاد، وطلاب العلم، أما بالنسبة للعوام: فالعوام فرضهم التقليد.

طيب كيف نقلد؟ هل نختار أي عالمٍ؟ لا، ملزمون بتقليد علماء بلدهم، علماء البلد نفسه، وإذا اختلف علماء البلد فيقدِّم العاميُّ من يراه الأوثق في علمه ودينه وأمانته.

لا تصح إمامة المرأة بالرجال

قال:

ولا تصح إمامة المرأة بالرجال.

وهذا حُكي الإجماع عليه، حكي الإجماع على أنه لا تصح إمامة المرأة بالرجال؛ لما رَوى ابن ماجه: أن النبي قال: لا تؤمن امرأةٌ رجلًا [15]، لكن هذا الحديث ضعيفٌ من جهة الإسناد، لكن يؤيده قول النبي في حديث أبي بكرة : لن يفلح قومهم وَلَّوا أمرهم امرأةً [16]، وهذا في “صحيح البخاري”.

والجماعة قد ولوا أمرهم الإمام، فلا يصح أن تكون المرأة إمامًا لهم، وإن كان هذا الحديث ورد في الإمامة العظمى، لكن قالوا: إنه يشمل بمفهومه الإمامة الصغرى.

ما رأيكم لو كان زوجها أُميًّا، وهي طالبة علمٍ، امرأةٌ طالبة علمٍ وزوجها أميٌّ، فهل تكون هي الإمامة، أو يكون زوجها الإمام؟

الجواب: زوجها هو الإمام، قال الموفق بن قدامة رحمه الله: وهذا هو قول عامة الفقهاء.

حكم إمامة المميز بالبالغ

قال:

ولا إمامة المميز بالبالغ في الفرض.

وهذا هو المذهب عند الحنابلة، أن إمامة المميز لا تصح بالبالغ، وهذه المسألة محل خلافٍ بين العلماء:

فالمذهب: أنها لا تصح، وعللوا لذلك في المذهب قالوا: لأن صلاة المميز غير البالغ نافلةٌ، وصلاة البالغ فرضٌ، والفرض أعلى من النفل، فلا يصح أن يؤم الصبي البالغين في صلاة الفريضة، طبعًا هذا هو قول الجمهور؛ الحنابلة والمالكية والحنفية.

والقول الثاني في المسألة: أن الصبي المميز تصح إمامته لغيره من البالغين، وهذا هو مذهب الشافعية، وروايةٌ عن الإمام أحمد، وهذا هو القول الراجح، ويدل له ما جاء في “صحيح البخاري” عن عمرو بن سلمة أن النبي قال: يؤمكم أكثركم قرآنًا، قال: فوجدوني أكثرهم قرآنًا [17]، فأم قومه وعمره ستٌّ أو سبع سنين، وقد أقره النبي على هذا؛ ولأن الصبي تصح صلاته وتصح إمامته.

وأما ما يُروى، حديث: “لا تقدموا صبيانكم ولا سفهاءكم”، فهو لا أصل له.

فإذنْ القول الراجح: أنه تصح إمامة المميز.

قال:

وتصح إمامته في النفل وفي الفرض بمثله.

الصواب: أنه تصح إمامته مطلقًا، أن إمامة الصبي تصح مطلقًا في النفل وفي الفرض للبالغ وغيره.

إمامة المُحْدِث

قال:

ولا تصح إمامة محدِثٍ ولا نجسٍ يعلم ذلك.

لا تصح إمامة المحدث، هذا هو المذهب عند الحنابلة، ولا نجسٍ إذا كان يعلم ذلك، فهذا بالإجماع لا تصح صلاته فضلًا عن إمامته.

قال:

فإن جهل هو والمأموم حتى انقضت، صحت صلاة المأموم وحده.

إذا جهل الإمام والمأموم أن هذا الإمام محدِثٌ، أو أن عليه نجاسةً، فصلاة المأموم صحيحةٌ، وأما صلاة الإمام فغير صحيحةٍ، ولكن إذا علم المأموم، أو علم الإمام بالحدث في أثناء الصلاة، كما لو كبر بالناس ليصلي بهم، ثم تذكر أن عليه غسل جنابةٍ، فإن صلاة الإمام تبطل، وهذا لا إشكال فيه، لكن الإشكال: هل تبطل صلاة المأموم أو لا تبطل؟ هذا محل خلافٍ بين العلماء:

المذهب عند الحنابلة: أنها تبطل صلاة المأموم في هذه الحال، قالوا: لأنه تبين له أنهم قد اقتدوا بمن لا تصح صلاته.

والقول الثاني: أن صلاتهم لا تبطل، وأن ما مضى من صلاتهم صحيحٌ، فيبنون عليه، ويكملون صلاتهم، ويستخلف الإمام من يكمل بهم الصلاة، وهذا القول هو مذهب الشافعية، وهو روايةٌ عند الحنابلة، وهو القول الراجح، والله أعلم؛ لأن المأمومين معذورون في هذه الحال؛ لجهلهم بحدث إمامهم، ولأن الصحابة لما قُتل عمر أكمل بهم الصلاة عبدالرحمن بن عوفٍ .

وهكذا أيضًا بالنسبة للنجاسة، إذا لم يعلم الإمام والمأموم بالنجاسة إلا بعد الصلاة، فصلاتهم صحيحةٌ.

إذا علم بها الإمام في أثناء الصلاة، فإن استطاع أن يزيلها ويكمل صلاته فعل، لكن إذا لم يستطع، فهل تصح صلاة المأمومين؟

أما المأمومون فصلاتهم -إذا كان قد فرغ من الصلاة- صحيحةٌ، أما إذا كان في أثناء الصلاة، فالمذهب عند الحنابلة أن صلاتهم لا تصح، ولكن القول الراجح أنها تصح.

وأما بالنسبة للإمام لو أمكنه أن يزيل النجاسة في أثناء الصلاة، ويكمل الصلاة فعل، فإذا لم يمكنه ذلك قطع صلاته، واستخلف من يصلي بهم.

لو كانت مثلًا النجاسة على ثوبه، لو أمكنه أن يخلع ثوبه، ويكمل بهم الصلاة من غير حرجٍ فهنا يفعل هذا كما خلع النبي عليه الصلاة والسلام نعليه، لكن الغالب أنه يلحق الإمام حرجٌ، لو خلع الإمام ثوبه وهو يصلي بالناس ربما يتهم في عقله، ما الذي دهى هذا الرجل؟

لكن لو كان مثلًا بين طلاب علمٍ، أو بين زملائه، أو بين أصحابه، ويعرفون هذا، فخلع ثوبه وأكمل الصلاة بهم وعليه ما يستر عورته، فالذي يظهر أن صلاتهم صحيحة.

إمامة الأمي

قال:

ولا تصح إمامة الأُمِّي -وهو من لا يحسن الفاتحة- إلا بمثله.

إذا كان لا يحسن الفاتحة، فإنه لا يصلي إلا لمن هو مثله، هذا هو المذهب عند الحنابلة.

والقول الثاني في المسألة: أنه تصح إمامته بمثله وبغيره ما دام يحسن الفاتحة، وإن كان الأولى ألا يؤم غيره على سبيل الأولوية، لكن كلامنا في الصحة، وسبق أن ذكرنا قاعدةً: وهي أن من صحت صلاته صحت إمامته، إلا في مسألة إمامة المرأة.

يصح النفل خلف الفرض

قال:

ويصح النفل خلف الفرض.

لحديث أبي سعيدٍ  أن النبي صلى بأصحابه فدخل رجلٌ فقال: من يتصدق على هذا فيصلي معه؟، فقام رجلٌ فصلى معه [18]، أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد.

ائتمام المفترض بالمتنفل

وقال:

ولا عكس.

يعني: لا يصح أن يأتم المفترض بالمتنفل لحديث: إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه [19]، قالوا: وهذا اختلافٌ بين الإمام والمأموم، فهذا مفترضٌ، وهذا متنفلٌ، فهذا نوع اختلافٍ.

والقول الثاني في المسألة: أنه يصح ائتمام المفترض بالمتنفل، وهذا هو القول الراجح، وذلك؛ لقصة معاذٍ ، فإنه قد كان يصلي مع النبي صلاة العشاء، ثم يرجع ويصلي بقومه وهو متنفلٌ، وقومه مفترضون [20]، وأقره النبي على هذا.

تصح الصلاة المقضية خلف الحاضرة

آخر مسألةٍ معنا، قال:

وتصح المقضية خلف الحاضرة وعكسُه، حيث تساوتا في الاسم.

تصح الصلاة المقضية خلف الحاضرة، إنسانٌ فاتته صلاة العصر، ثم أتى اليوم الثاني للناس، وهم يصلون العصر، فصلى معهم، فتصح.

وهكذا أيضًا الحاضرة خلف المقضية لو كان العكس، لكن قال: “حيث تساوتا في الاسم”، تصح صلاة العصر خلف العصر، لكن ما تصح خلف من يصلي الظهر، وهذه مسألة محل خلافٍ بين العلماء، والصحيح: أنها تصح.

الصحيح -يا إخواني- أن المنهي عنه هو الاختلاف في الأفعال، أما الاختلاف في النية فلا يضر؛ لأن النبي قال: إنما جُعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، ثم فسر المقصود بهذا الاختلاف فقال: فإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا [21] فذكر النبي أفعالًا، ولم يذكر غير ذلك.

بقي مسألةٌ يذكرها بعض الفقهاء، أحب أن أضيفها هنا: وهي صلاة مَن أَمَّ قومًا وهم له كارهون، وهذا قد جاء في حديث أبي أمامة ، أن النبي قال: ثلاثةٌ لا تجاوز صلاتهم آذانهم…، وذكر منهم إمام قومٍ وهم له كارهون [22]، أخرجه الترمذي وحسنه، وصححه الضياء المقدسي وغيره.

وجاء في حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما أيضًا [23]، قال البوصيري: هذا إسنادٌ صحيحٌ، رجاله ثقاتٌ.

وقال الإمام أحمد: إذا كرهه اثنان أو ثلاثةٌ فلا بأس، حتى يكرهه أكثرهم، فإذا كان كرهه أكثر جماعة المسجد، لا يريدونه إمامًا لهم، فيكره أن يؤمهم.

لكن إذا كان ذا دينٍ فكرهه القوم لذلك، لدينه، لم تكره إمامته، أما إذا كرهه المأمومون لخللٍ في دينه، فإنه يكره له أن يؤمهم.

الخلاصة: أنهم إذا كرهوه بغير حقٍّ فلا بأس أن يؤمهم، أما إذا كرهوه بحقٍّ فيكره في حقه أن يؤمهم.

وقال بعض العلماء: إذا كره أكثر المأمومين إمامة إمامٍ معينٍ فيكره أن يؤمهم مطلقًا، حتى لو كانت كراهتهم بغير حقٍّ، حتى لو كانت كراهتهم لشحناء، أو لخلافٍ في أمرٍ دنيويٍّ؛ لأن الغرض من صلاة الجماعة ما هو؟ الاجتماع والائتلاف، وهذا الغرض لا يتحقق إذا كان أكثر المأمومين يكرهون إمامهم، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إذا كان بين الإمام والمأمومون معاداةٌ فتكره الإمامة، وقال: لا ينبغي له أن يؤمهم؛ لأن المقصود بصلاة الجماعة الائتلاف؛ ولهذا قال: فلا تختلفوا عليه [24].

كراهة فردٍ أو أفرادٍ أقل من النصف إذا كانت بغير حقٍّ فهي غير معتبرةٍ، إذا كان أكثر من النصف فالأفضل والأولى له ألا يؤمهم.

ونكتفي بهذا القدر.

ونكمل -إن شاء الله تعالى- بقية الفصل في الدرس القادم.

الأسئلة

السؤال: أحسن الله إليكم، صليت العشاء وأنا مسافرٌ ركعتين خلف من يصلي المغرب وهو مسافرٌ، فسلمت بعد التشهد، فهل صلاتي صحيحةٌ؟

الجواب: نعم، فعلك صحيحٌ ولا بأس بذلك، ولا يلزمه الإتمام في هذه الحال، صلى خلف مسافرٍ، وصلاة المغرب تصلَّى ثلاثًا، وهو قد صلى العشاء، وذكرنا قاعدةً: وهي أن الاختلاف في النية لا يضر، وإنما الممنوع هو الاختلاف في الأفعال.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1, ^4, ^7 رواه مسلم: 673.
^2 رواه مسلم: 672.
^3 رواه البخاري: 628، ومسلم: 674.
^5 رواه الشافعي في الأم: 1/ 161، وابن أبي شيبة: 32386.
^6 رواه النسائي: 5909، وأحمد: 12307.
^8 رواه أبو داود: 582.
^9 رواه أبو داود: 596، والترمذي: 356، وقال: حسنٌ صحيحٌ، وأحمد: 20532.
^10 رواه مسلم: 648.
^11 رواه البخاري: 694.
^12 رواه أحمد: 1230.
^13 رواه مسلم: 1707.
^14 رواه البخاري: 689، ومسلم: 411.
^15 رواه ابن ماجه: 1081.
^16 رواه البخاري: 4425.
^17 رواه البخاري: 4302.
^18 رواه أبو داود: 574، والترمذي: 220، وقال: حسنٌ، وأحمد: 11613.
^19 رواه البخاري: 722، ومسلم: 414.
^20 رواه البخاري: 6106، ومسلم: 465.
^21, ^24 سبق تخريجه.
^22 رواه الترمذي: 360.
^23 رواه ابن ماجه: 971.
مواد ذات صلة
zh