logo

(11) الدعاء وآدابه

مشاهدة من الموقع

الدعاء وآدابه

كنا قد وصلنا في وصية الإمام ابن قدامة إلى كلامه عن الدعاء، قال:

ومِلَاك الأمر الدعاء، فإن الأمر كله بيد الله، يَهْدِي مَن يشاء ويستعمله، ويُضلّ مَن يشاء ويخذله.

هداية الإلهام والتوفيق

الله تعالى يهدي مَن يشاء، ويُضلّ مَن يشاء، فهو أعلم بمَن هو أهلٌ للهداية، فيهديه جلَّ وعلا بفضله ومِنَّته، ويُخلِّي بين مَن لا يستحق الهداية، يُخلِّي بينه وبين نفسه فيضلّ.

وهذه الهداية هي هداية الإلهام والتوفيق، وهذه لا يملكها مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ولا نبيٌّ مُرْسَلٌ، لا يملكها إلا الله وحده، وهي المذكورة في قول الله : إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ يعني: هداية إلهامٍ وتوفيقٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].

أما هداية الدلالة والإرشاد فهذه يملكها الأنبياء وأتباع الأنبياء، ويملكها الأب مع أولاده، ويملكها المعلم، ويملكها الداعية، يُدِلُّ ويُرْشِد، وهي المذكورة في قول الله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، لكن هداية الإلهام والتوفيق لا يملكها إلا الله وحده.

ولذلك لم يستطع نوحٌ -نبي الله ومن أُولي العزم من الرسل- أن يهدي ابنه، ولم يستطع إبراهيم أن يهدي أباه، ولم يستطع محمدٌ أن يهدي عمَّه عليهم الصلاة والسلام جميعًا.

نبينا محمدٌ عليه الصلاة والسلام عمّه كان في مقام أبيه، وحماه ودافع عنه، حتى إنه بقي معه في الشِّعْب قُرابة ثلاث سنين، حتى أكل ورق الشجر من شدة الجوع، وكان يعرف أن ما جاء به نبينا محمدٌ حقٌّ، فكان يقول:

ولقد علمتُ بأن دين محمدٍ من خير أديان البرية دينَا
لولا المَلَامَة أو حَذَار مَسَبَّةٍ لوجدتني سَمْحًا بذاك مُبِينَا

كان يقول: أنا أعرف أنه حقٌّ، لكني أخشى ملامة الناس، يقولون: ترك دين آبائه وأجداده.

طيب، هل نفعه الناس؟

هذا الحاجز -يا إخواني- يمنع بعض الناس من الاستقامة؛ يخشى من كلام الأقارب، ومن الأصحاب، ومن الأقران، وهؤلاء لن يُغنوا عنك من الله شيئًا.

أبو طالب عرف الحقَّ، لكن تركه لأجل كلام الناس، وحاول النبي عليه الصلاة والسلام أن يهديه إلى آخر لحظةٍ من حياته، وهو على فراش الموت، قال: يا عمّ، قُلْ: لا إله إلا الله، كلمةً أُحاجُّ لك بها عند الله [1]، لكنَّ الله لم يُرد هدايته، ومات على الكفر؛ فكان من أهل النَّار.

فهداية الإلهام والتوفيق لا يملكها إلا الله وحده، وهذا معنى قول المؤلف: "يهدي مَن يشاء ويستعمله، ويُضلّ مَن يشاء ويخذله، فينبغي لك أن ترغب إلى مَن الأمر بيده، وتُفوض أمرك إليه".

ثم ذكر المؤلف بعض آداب الدعاء، والدعاء هو العبادة، وليس شيءٌ أكرم على الله من الدعاء [2]، كما قال النبي .

وكان عمر بن الخطاب يقول: "إني لا أحمل همَّ الإجابة، ولكني أحمل همَّ الدعاء، فإذا أُلْهِمْتُ الدعاء كانت الإجابة".

من أسباب إجابة الدعاء

الدعاء بخضوعٍ وخشوعٍ وبكاءٍ وتضرعٍ

ليكن دعاؤك بخضوعٍ وخشوعٍ وبكاءٍ وتضرعٍ.

وهذا من أعظم أسباب إجابة الدعاء: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55]، الدعاء بالتَّضرع والخشوع والانكسار والانطراح بين يدي الله.

فإن بعضهم قال: إني لأعلم حين يستجيب لي ربي .

يعني: متى يستجيب الله الدعاء؟

قال:

إذا وَجَلَ قلبي، واقشَعَرَّ جلدي، وفاضتْ عيناي، وفُتِحَ لي في الدعاء.

يعني: في هذه اللحظة التي يخشع فيها الإنسان، وينكسر، ويبكي، ويقشعر جلده، وتفيض عيناه، حينما يدعو في هذه الحال هذا الدعاء هو الذي يُستجاب، بإذن الله .

قالت أم الدَّرداء لِشَهْر بن حَوْشَب: أما تجد قشعريرةً؟
قال: بلى.
قالت: فَادْعُ عندها، فإن الدعاء يُستجاب عند ذلك.

إذا وجدتَ هذه القشعريرة، ووجدتَ الخشوع، وفاضت العيون بالدمع؛ فهذا هو موضع الدعاء: عندما يقشعر الجلد، وتجد القشعريرة، وتفيض العينان بالدمع، ويوجل القلب، هذا هو موضع إجابة الدعاء.

وعن أبي الجلد قال: أوحى الله إلى موسى.

هذه من أخبار بني إسرائيل.

يا موسى، إذا ذكرتني فاذكرني وأعضاؤك تنتفض، وإذا دعوتني فاجعل لسانك من وراء قلبك، وإذا قمتَ بين يدي فَقُمْ مقام الذليل الحقير، وذُمّ نفسك، فهي أولى بالذَّم، وناجِ حين تُناجيني بقلبٍ وَجِلٍ، ولسانٍ صادقٍ.

الله تعالى يقول: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62]، المُضطر حتى لو كان كافرًا يُستجاب دعاؤه، يعني: الكفر مانعٌ من موانع إجابة الدعاء، لكن الاضطرار سببٌ قويٌّ لا يمنع منه الكفر، كما قال الله تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65] يعني: وقت الشدة يدعون الله تعالى، فيستجيب الله لهم.

طيب، السؤال: لماذا تُستجاب دعوة المُضطر؟

مَن يُجيب عن هذا السؤال؟

طالب: لأنه يعود إلى الفطرة.

الشيخ: طيب، وغيره يعود إلى الفطرة أيضًا، حتى غير المُضطر.

طالب: .......

الشيخ: طيب، نريد جوابًا أوضح.

نعم.

طالب: .......

الشيخ: لكن لماذا اختصَّ المُضطر بأن الله يُجيب دعاءه حتى لو كان كافرًا؟

طالب: لعله يُسْلِم.

الشيخ: طيب، نريد جوابًا أوضح.

نعم.

طالب: .......

الشيخ: أحسنتَ؛ لأنه يقترن مع الاضطرار إخلاصٌ عظيمٌ، إخلاصٌ وحرارةٌ وصدق لجوءٍ وتضرعٌ وبكاءٌ وانطراحٌ بين يدي الله.

يعني: إنسانًا -مثلًا- في لُجَّة البحر، إما أن يغرق ويموت، وإما أن يدعو الله فيستجيب الله دعاءه، فما ظنك بالإخلاص الذي يحمله في قلبه؟

ركبوا في الفلك، وهاجتْ بهم الرياح، الآن يرى الموت أمامه، فيدعو الله، فما ظنك بالإخلاص العظيم المُقترن بهذا الدعاء؟

إخلاصٌ عظيمٌ، يدعو من حرارة قلبه.

إذا دعوتَ الله تعالى مثلما يدعو المُضطر يُستجاب دعاؤك، هذا هو السر في إجابة الدعاء.

إذا دعوتَ الله كأنَّك مثل هذا المُضطر الآن الذي في لُجَّة البحر يدعو الله بحرارةٍ من قلبه، مُخلصًا، صادقًا، باكيًا، مُتضرعًا، إذا وصلتَ إلى هذه المرحلة يُستجاب لك الدعاء.

طيب، أنا أسأل سؤالًا آخر أيضًا: المظلوم تُستجاب دعوته وإن كان كافرًا، فلماذا تُستجاب دعوة المظلوم؟

نعم.

طالب: .......

الشيخ: يعني: لماذا؟ ما السبب؟

مَن يُجيب عن هذا السؤال؟

نعم.

طالب: .......

الشيخ: طيب، نريد جوابًا أوضح.

نعم.

طالب: .......

الشيخ: نعم.

طالب: .......

الشيخ: لا، هناك جوابٌ أوضح؛ لأن المظلوم قريبٌ من المُضطر.

طالب: لأنه أخلص .......

الشيخ: أحسنت؛ لأنه يدعو الله بإخلاصٍ وحُرقةٍ وحرارة قلبٍ.

المظلوم يجد الحُرْقَة في قلبه على الظالم، فتجده عندما يدعو هل يدعو وهو بقلبٍ غافلٍ لاهٍ؟

لا، يدعو الله بحرارة قلبٍ، وإخلاصٍ، وبكاءٍ، واضطرارٍ: يا ربّ، إن فلانًا ظلمني؛ فافعل به كذا وكذا. فتُستجاب دعوته.

فإذا وصلتَ في دعائك إلى حالةٍ مثل حالة المُضطر والمظلوم يُستجاب لك الدعاء، وهذه من أسرار قبول الدعاء وإجابة الدعاء.

أيضًا من أسباب إجابة الدعاء: ألا يستعجل الداعي في الإجابة، يقول النبي : يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوتُ، فلم يُستجب لي [3]، فالإنسان يستمر في الدعاء، ولا تشترط على الله وقتًا مُعينًا لإجابة الدعاء، ادعُ الله، واستمر في دعائك.

تفويض الأمر لله تعالى

قال:

وفوِّض أمرك إلى الله تعالى، واستطرح بين يديه، وأشعر قلبك أنه لا ينالك من الرزق والخير إلا ما كتبه الله لك، ولو اجتهدتَ فيه بحيلة السماوات والأرض، ولا يجري عليك ما تكرهه إلا ما كتبه الله عليك، ولو اجتمع عليك مَن في السماوات والأرض، فإن ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك.

أخذ المؤلفُ هذا من قول النبي في وصية ابن عباسٍ: واعلم أن الأُمة لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيءٍ، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام، وجَفَّت الصحف [4].

فالأمور كلها بيد الله ، والبشر ضعفاء، مساكين، لا يملكون نفعًا ولا ضَرًّا، ولا حياةً ولا موتًا ولا نُشُورًا: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107]، فَفَوِّضْ أمرك إلى الله، وتعلق بالله .

بعض الناس عندهم خوفٌ شديدٌ من بعض الأشياء؛ فتجد أن بعض الناس يخاف من السحر خوفًا شديدًا، وبعض الناس يخشى من العين؛ فتجد أنه يُخفي كثيرًا من أموره خشية العين، وبعض الناس يخشى من المَسِّ من الجنِّ، وبعض الناس يخاف أيضًا من شياطين الإنس خوفًا شديدًا.

هذا كله يدل على ضعف التَّوكل على الله، وأن هذا الإنسان الذي عنده هذا الخوف الشديد وهذا التَّحسس عنده ضعف توكلٍ على الله ، وإلا فلو كانت عنده قوة توكلٍ لما خشي هؤلاء، والله تعالى لما ذكر السحر والسحرة قال: وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102].

نجد هذا في المجتمع؛ بعض الناس عنده تكتمٌ شديدٌ على أموره، يُنْعِم الله عليه بالنعم الكثيرة، ولا يظهر أثر النعمة عليه، وكل ذلك خوفٌ من العين، وهذا دليلٌ على ضعف التَّوكل على الله .

إن الله يُحب إذا أنعم على عبده نعمةً أن يرى أثر نعمته عليه، فهذا التَّكتم المُبالغ فيه من آثار ضعف التَّوكل على الله ، والأمور كلها بيد الله، فلا أحد يستطيع أن ينفع أو يَضُرَّ إلا بإذن الله .

قال:

فإنَّ ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك.

يقول النبي في الحديث الذي أخرجه مسلمٌ في صحيحه: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة [5]، كل شيءٍ مكتوبٌ.

أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: ربِّ، وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيءٍ حتى تقوم الساعة [6]، فجرى القلم بكتابة ما هو كائنٌ إلى قيام الساعة.

فكل شيءٍ قد كُتِبَ، ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك؛ ولهذا قيل للنبي : العمل فِيمَا جَفَّ به القلم، وجرتْ به المقادير، أم في أمرٍ مستقبلٍ؟ قال: بل فيما جَفَّ به القلم، وجرتْ به المقادير، وكلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له [7]، فكل شيءٍ قد كُتِبَ، لكن ما كُتِبَ مُغيَّبٌ عنك، وأنت مطلوبٌ منك أن تسعى لفعل الخير، وتبتعد عن الشرِّ، لكن لا يُصيبك إلا ما كتب الله لك: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51].

واعلم أن مَن هو في البحر على لوحٍ ليس هو بأحوج إلى الله تعالى وإلى لُطْفِه ممن هو في بيته وبين أهله وماله، فإن الأسباب التي ظهرتْ له بيد الله تعالى، كما أن أسباب نجاة هذا الغريق بيده.

يعني: هذا كلامٌ بديعٌ من المُوفق رحمه الله، يقول: هذا المُضطر الآن الذي على لوحٍ في البحر هو مُحتاجٌ إلى الله وإلى لُطْفِه، وأنت أيضًا في بيتك وبين أهلك ومالك مُحتاجٌ إلى الله ولُطْفِه، فلو توقفتْ دقَّات قلبك لهلكتَ، ولو توقف النَّفس عندك لهلكتَ، فكما أن هذا الذي على لوحٍ في البحر بحاجةٍ عظيمةٍ وماسةٍ إلى لُطْف الله، فأنت أيضًا بين أهلك ومالك بحاجةٍ إلى لُطْف الله .

الاعتماد على الله والتَّوكل عليه

فإذا حققتَ هذا في قلبك فاعتمد على الله اعتماد الغريق الذي لا يعلم له سبب نجاةٍ غير الله.

على المسلم أن يعتمد على الله، وأن يتوكل على الله ، وأن يُقَوِّي جانب التَّوكل على الله سبحانه.

التَّوكل -يعني- كما قال بعض السلف: مَن سرَّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:3].

ما معنى: التَّوكل على الله؟ وما حقيقة التَّوكل على الله؟

هو اعتماد القلب على الله في جلب المنافع ودفع المضار، مع فعل الأسباب المأذون فيها.

فهو ينتظم أمرين: اعتماد القلب على الله، وفعل الأسباب، لكن إذا اعتمد القلب على الله من غير فعل سببٍ فهذا توكلٌ ناقصٌ، وإذا فعل السبب من غير اعتماد القلب على الله فهذا أيضًا ناقصٌ.

مثلًا: المُزارع يُلقي البذر في الأرض، يفعل السبب: يُلقي البذر في الأرض ويسقيه بالماء، فهنا فعل السبب، ثم يعتمد بقلبه على الله في أن الله تعالى يُنبت هذه الأرض نباتًا طيبًا، وهنا حقق التَّوكل، لكن لو أنه لم يُلْقِ البذر في الأرض، أو أنه لم يَسْقِه بالماء، ويقول: توكلتُ على الله. فهذا توكلٌ ناقصٌ، أو أنه يُلْقِي البذر ويسقيه بالماء، لكنه ما يعتمد بقلبه على الله، هذا أيضًا توكلٌ ناقصٌ، فاعتمد على الله بقلبك في جميع أمور دينك ودُنياك، هذا هو التَّوكل، والله تعالى يُحب المُتوكلين.

الورع واجتناب الشُّبهات

وعليك بالورع واجتناب الشبهات، فإن مَن واقع الشُّبهات أوشك أن يقع في الحرام، فإن مَن رَتَعَ حول الحِمَى أوشك أن يقع فيه.

الورع تكلمنا عنه في درسٍ سابقٍ، وذكرنا تعريفه.

مَن يذكر لنا تعريف الورع مرةً أخرى؟

الورع والفرق بينه وبين الزهد.

طالب: .......

الشيخ: أحسنتَ، أحسن تعريفٍ تعريف ابن تيمية رحمه الله: الورع هو ترك ما يُخْشَى ضرره في الآخرة، والزهد: ترك ما لا ينفع.

أيُّهما أعلى مرتبةً: الزهد أم الورع؟

الزهد أعلى؛ لأن كل زاهدٍ ورعٌ، وليس كل ورعٍ زاهدًا.

طيب، من الورع: اجتناب الشبهات، أي شيءٍ فيه شُبهةٌ ابتعد عنه، ومن ذلك: ما اختلف فيه العلماء، اختلف العلماء هل هذا حرامٌ أو حلالٌ؟ ابتعد عنه، فهذا من اتِّقاء الشُّبهات.

قال:

فإن مَن واقع الشُّبهات أوشك أن يقع في الحرام، فإن مَن رَتَعَ حول الحِمَى أوشك أن يقع فيه.

هذا أخذه المؤلف من حديث النعمان بن بشير : أن النبي قال: إن الحلال بَيِّنٌ، وإن الحرام بَيِّنٌ، وبينهما مُشتبهاتٌ لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس، فمَن وقع في الشُّبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمَى يُوشك أن يَرْتَع فيه، ألا وإن لكل ملكٍ حِمًى، ألا وإن حِمَى الله محارمه [8].

أرأيتَ لو أن سلطانًا من السلاطين وضع حِمًى، وحذَّر الناس، قال: مَن رَعَتْ أغنامه في هذا الحِمَى سأُعاقبه.

فمَن أتى بأغنامه حول هذا الحِمَى يُوشك أن أغنامه تقع في هذا الحِمَى فترعى فيه؛ فيُوقع عليه السلطان العقوبة.

هكذا أيضًا مَن وقع في الشُّبهات، فإنه يُوشك أن يقع في الحرام، لكن مَن اتَّقى الشُّبهات اتَّقى الحرام.

قيام الليل والخلوة بالله

وعليك بالليل، فَاخْلُ فيه بربك، واطلب منه حوائجك، وتضرع إليه، واخضع بين يديه.

الليل وقتٌ عظيمٌ وفاضلٌ للصالحين، يقول النبي : ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلةٍ إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: هل من سائلٍ يُعْطَى؟ هل من داعٍ يُستجاب له؟ هل من مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَر له؟ [9] رواه مسلم.

كل ليلةٍ الرب الغني عن عباده يُنادي عباده بهذا النِّداء، فما أعظم رحمة الله ! وما أعظم لُطْفَ الله ! وما أعظم إحسان الله تعالى لعباده!

الله غنيٌّ عن عباده، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، لكنه من رحمته وفضله وجوده ولُطْفِه وكرمه يُنادي عباده بهذا النِّداء: هل من سائلٍ يُعْطَى؟ هل من داعٍ يُستجاب له؟ هل من مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَر له؟ كل ليلةٍ؛ ولذلك ينبغي أن نتعرض لنفحات الربِّ في هذا الوقت العظيم الفاضل.

يُروى أن أحد الصالحين زار أخًا له في الله آخر الليل، فوجده نائمًا، قال: سبحان الله! ما ظننتُ أن أحدًا ينام هذا الوقت!

هذا وقت توزيع الغنائم، وقت البركات، وقت النَّفحات، فينبغي أن تجعل لك نصيبًا من قيام الليل في هذا الوقت، فتقوم قبل الفجر بما تيسر، وتُصلي فيه ما شاء الله ، وتُناجي الربَّ سبحانه، خاصةً في السجود تدعو الله ، فهذا من أعظم أسباب الثبات.

"ما قام الليل منافقٌ" إذا قمتَ الليل فهذا دليلٌ على صدقك مع الله، ودليلٌ على قوة إيمانك، فاحرص على هذه الوصية -وصية المُوفق رحمه الله- احرص على قيام الليل.

وقد قال عليه الصلاة والسلام أيضًا في الحديث الذي رواه مسلم: إن في الليل لساعةً لا يُوافقها رجلٌ مسلمٌ يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلةٍ [10]، ساعة إجابةٍ كل ليلةٍ.

والمقصود بالساعة يعني: لحظات يُستجاب فيها الدعاء، وأرجى ساعات الليل مُوافقةً لها قُبيل الفجر، اللحظات التي تسبق أذان الفجر، هذه أرجى ما تكون مُوافقةً لساعة الإجابة.

قال:

اخْلُ فيه بربك.

يعني: كُنْ في مكانٍ خالٍ لا يراك فيه أحدٌ، تضرع بين يدي الله، انطرح بين يديه.

التَّضرع والخضوع بين يدي الله

واطلب منه حوائجك، وتضرع إليه، واخضع بين يديه، فإنه يُروى أن رجلًا قال: أتيتُ بشرًا.

وهو بشر بن الحارث الحافي.

فقال: ما جاء بك؟ قلتُ: مسألة. قال: ما هي؟ قلتُ: رجلٌ عليه دَينٌ كثيرٌ لا سبيل له إلى قضائه. قال: عليك بجوف الليل.

اضرع إلى الله في جوف الليل، اسأل الله تعالى، هؤلاء مخلوقون مثلك، مساكين.

هذا المعنى يغفل عنه بعض الناس، تحصل له ظروفٌ قاسيةٌ من ديونٍ أو غيرها، فيبدأ يستعين بالناس، وربما أكثر الناس يخذلونه، لكن لو أنه لجأ إلى الله تعالى في آخر الليل لربما وجد الفرج؛ أن الله يستجيب له، ويُفرج عنه.

قال:

فأتيتُ أبا عبدالله أحمد بن حنبل، فسألتُه، فقال: عليك بجوف الليل.
قال: فَدَلَّاني جميعًا عليه.
وإذا سألتَ الله فاسأله وأنت مُوقِنٌ بأنه مُطَّلعٌ عليك، سامعٌ لدعائك، قريبٌ منك، قادرٌ على إجابتك، لا يتعاظمه شيءٌ.

يعني: هذا يستدعي المُراقبة، فالله قريبٌ من عباده: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186].

"مُطَّلعٌ عليك" يستوي عند الله السرّ والجهر: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ۝ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الملك:13- 14]، فالجهر والسرّ عند الله سواء.

أنت عندما تدعو الله استحضر أن الله مُطَّلعٌ عليك، سامعٌ لكلامك، لا يخفى عليه شيءٌ.

إذا سألتَه أمرًا فاسأله الخيرة فيه

وإذا سألتَه أمرًا فاسأله الخيرة فيه، فإنك لا تدري ما يكون لك فيه، وإذا شاء الله تعالى أعطاك رغبتك، وخار لك -اختار- في ذلك، فيجمع لك بين الأمرين.

يعني: كثيرًا من الأمور لا يدري الإنسان ما الخير فيها؟ فيسأل الله الخير.

مثلًا: أردتَ أن تتزوج امرأةً، أو امرأةٌ خطبها رجلٌ، يسأل الله الخير، إن كان هذا الزواج خيرًا أن الله يُيَسِّره، وإن كان شرًّا أن الله يصرفه عنه، وهكذا بقية الأمور.

عدم استعجال الإجابة

فإن لم يُعجِّل لك الإجابة فلا تيأس من الإجابة، ولا تَمَلَّ من السؤال، فقد رُوِيَ أن بعضهم قال: لقد خار الله لعبدٍ في حاجةٍ أكثر فيها تضرعه.

يعني: اختار الله له.

لكن أخبر النبي أنه ما من داعٍ يدعو إلا كان له بهذا الدعاء إحدى ثلاثٍ: إما أن تُعجَّل له دعوته، وإما أن يدَّخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السُّوء مثلها، قالوا: إذن نُكثر. قال: الله أكثر [11].

فالداعي على خيرٍ: إما أن تُقضى حاجته وتُعجَّل له الإجابة، أو تُدَّخَر له في الآخرة، أو يدفع عنه من البلاء والسُّوء مثلها.

ولذلك فإن إجابة الدعاء أعمُّ من قضاء الحوائج، فأنت إذا دعوتَ الله تعالى فالدعاء مُستجابٌ، لكن قد لا تُقضى حاجتك، قد تُدَّخر لك الدعوة في الآخرة، وقد يدفع عنك من البلاء مثلها.

^1 رواه البخاري: 3884، ومسلم: 24.
^2 رواه الترمذي: 3370، وابن ماجه: 3829.
^3 رواه البخاري: 6340، ومسلم: 2735.
^4 رواه الترمذي: 2516 وقال: حسنٌ صحيحٌ.
^5 رواه مسلم: 2653.
^6 رواه أبو داود: 4700، والترمذي: 2155.
^7 رواه ابن ماجه: 91.
^8 رواه البخاري: 52، ومسلم: 1599.
^9 رواه البخاري: 1145، ومسلم: 758.
^10 رواه مسلم: 757.
^11 رواه أحمد: 11133.
zh