logo

(12) المناجاة

مشاهدة من الموقع

أَذِبْ قسوة قلبك بكثرة ذكر الله.

لأن قسوة القلب بسبب تعلق القلب بالدنيا وبأمور المادة، فإذا أكثرَ الإنسان من ذكر الله قلَّ تعلقه بالماديات، وقوي تعلقه بالله ؛ فَرَقَّ قلبه، وزالت القسوة عن قلبه. ولذلك؛ تجد من نفسك عندما تُكثِر من الطاعات مثلًا في العشر الأواخر من رمضان وفي غيرها؛ تحس برِقة وخشوع، فكثرة ذكر الله من أسباب تحصيل الخشوع ورِقة القلب.

كلمات مناجاة لبعض الصالحين

يُروى عن أبي سليمان الداراني: أنه دخل على أبي أحمد بن أبي الحواري وهو يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: يا أحمد، وما لي لا أبكي لو رأيت قُوَّام الليل وقد قاموا إلى محاريبهم، وانتصبوا على أقدامهم، يناجون ربهم في فِكَاك رقابهم، وقَطَرَت دموعهم على أقدامهم، وجرت على خدودهم، وقد أشرف عليهم الجليل، فنادى: يا جبريل، بعينيَّ مَن تلذذ بكلامي، واستراح إلى مناجاتي، فلِمَ لا تنادي فيهم يا جبريل: ما هذا الجزع الذي أراه فيكم؟ أَبَلَغَكم أن حبيبًا يعذِّب أَحِبَّاءه؟ أم كيف يَجْمُل بي أن أُبَيِّت أقوامًا وعندهم البَيَات آخذهم وقوفًا لي يتملقونني؟ فبعزتي لأجعلنَّ جزاءهم وقد وردوا عليَّ أن أكشف لهم الحجاب عن وجهي حتى أنظر إليهم وينظروا إليَّ.

هذا الكلام طبعًا هو لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، هذا من كلام بعض الصالحين، ومن باب المواعظ والرقائق، فهو لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يمكن لأحد أن يحكي عن الله سبحانه إلا عن طريق الوحي، لكن هذه من الرقائق التي لا يشدد العلماء في أسانيدها كثيرًا.

قال:

ومنها: ما رُوي عن منصور بن عمار أنه قال: سمعتُ عابدًا بالليل يناجي ربه، وهو يقول: وعزتك وجلالك، ما أردت بمعصيتي مخالفتك، ولا التعرض لغضبك، ولا أنا بِنَكَالِكَ جاهلٌ، ولا لعذابك مُتعرِّضٌ، ولا بنظرك مُسْتَخِفٌّ، ولكن زيَّنَتْ لي نفسي، وأعانتها شِقْوتي، وغَرَّني سِتْرك المُرخى عليَّ؛ فعصيتك بجهلي، وخالفتك بجَهدي؛ فالآن من عذابك مَن ينقذني؟! وبحبل مَن أعتصم إن قطعت حبلك عني؟! وا سوأتاه من الوقوف بين يديك غدًا إذا قيل للمُخِفِّين: جُوزُوا، وللمُثَقِّلين: حُطُّوا؛ أَفَمَعَ المُخِفِّين أَجُوزُ أم مع المُثَقِّلين أَحُطُّ يا سيدي؟! وَيْلي؛ كلما طالت أيامي كثرت آثامي! وَيْلي؛ كلما كبرت سني عظمت مصيبتي! فمِن كم أتوب؟! وفي كم أعود؟! وا شباباه وا شباباه!

يعني هذه أيضًا من الرقائق التي رُويت عن بعض الصالحين في مناجاتهم للرب .

ورُوي عن رجل قال: طلعت بعض جبال الشام؛ فإذا في رأسه رجلٌ عابدٌ قد اشتد بكاؤه ونحيبه، فسمعته يقول: أتُرى بكائي نافعًا لي عندك يا سيدي، ومُنقِذًا لرقبتي من سخطك؟ أتُراك مقيلي عثرتي من نارك، ومعذبًا كَبْرَتي بعذابك؟

يعني: كِبَرَ سني.

أتُراك مُوَبِّخي على رؤوس الخلائق بتفريطي في حقك؟ أَوَّاه لكشف سِتري! أوَّاه لحياء وجهي! أَوَّاه لِمَا يُلقى غدًا في النار جسدي! ثم اشتد بكاؤه حتى أنساني ما قبل ذلك. فناداه رجل: دُلَّنا على الطريق رحمك الله، فبكى، فقال: وكيف لي ولكم بالثبوت عليها، وكيف لي ولكم بالاستقامة؟! ثم قال: اللهم دُلَّ حيرتهم وحيرتي، ولا تُعَثِّرْني ولا إياهم!

هذه من أدعية الصالحين؛ أنهم يبكون، ويتضرعون، ويمقتون أنفسهم في ذات الله ، ويَطَّرِحُون وينكسرون بين يدي الرب ، ويأتون بمثل هذه العبارات.

ورُوي عن الحسن بن جعفر عن أبيه قال: صليتُ العيد في الجبَّانة، ثم انفردتُّ في ناحية، فإذا بعجوزٍ رافعةٍ يديها، وهي تقول: انصرف الناس، ولم أشعر قلبي باليأس، يا صاحب الصدقة، ها أنا منصرفة، فليت شعري ما زوَّدتَّني! ربِّ ارحم ضعفي، وكِبَر سني! خرجتُ أرجوك فلا تخيِّبْ حُسن ظني! وهي تبكي. قال: فما انتفعتُ بشيء في يومي.

فهذه أيضًا يعني من مواقف الصالحين في هذا.

وعن سفيان قال: سمعتُ أعرابيًّا بعرفة يقول: يا إلهي، مَن أحق بالزلل والتقصير مني وقد خلقتَني ضعيفًا؟! ومَن أحق بالعفو عني منك وعِلمك بي سابقٌ وأمرك بي محيط؟! إلهي، لم أُحسِن حتى أذِنْتَ لي، ولم أُسِئ حتى قضيتَ عليَّ! أطعتُك بنعمتك والمنة لك، وعصيتُ بعِلمك والحجة لك؛ فأسألك بوجوب حجتك وانقطاع حجتي، وفقري إليك وغناك عني إلا ما غفرتَ لي ورحمتني! إلهي، أنت أُنْس المُؤنِسين لأوليائك، وأقربهم بالكفاية إلى مَن توكل عليك، تشاهدهم في سرائرهم، وتطَّلع على ضمائرهم! اللهم وَسِرِّي لك مكشوف، وأنا إليك ملهوف؛ فإن أوحشتني الذنوب آنَسَنِي ذكرك، وإذا أصمَّتْ عليَّ الهموم لجأتُ إليك؛ علمًا مني بأن أزِمَّتَها بيديك، ومصدرها عن قضائك وقدرك.

هذه أيضًا من الكلمات التي نقلها المؤلف عن بعض الصالحين في مناجاتهم وتضرعهم واطِّراحهم بين يدي الرب .

ولبعضهم: اللهم إن استغفاري لك مع إصراري لَلُؤمٌ، وإن تركي الاستغفار مع سعة رحمتك لَعَجزٌ! كم تتحبَّب إليَّ بالنِّعَم وأنت غنيٌّ عني! وكم أتبغَّض إليك بالمعاصي وأنا إليك فقير! إلهي، أتُراك تعذبنا بالنار وقد أسكنتَ توحيدك في قلوبنا؟! وما أُراك تفعل، ولئن فعلتَ فَلَمَعَ قوم طالما عاديناهم فيك!

هذه أيضًا من كلمات الصالحين التي أوردها المؤلف في التضرع والانطراح بين يدي الله .

ذكر لي أحد المشايخ عن شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله؛ يقول: كنت أنا وإياه لما كان في المدينة في مكتبة، يقول: وقرأت عليه سيد الاستغفار اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني، وأنا عبدك...[1] يقول: فبكى بكاءً عظيمًا، حتى إني خشيت عليه، يقول: من شدة خشيتي عليه أنني ذهبت وتركته، وهو يبكي ويتضرع ويبكي ويبكي، يقول: ذهبت من المجلس وتركته من شدة تأثر الشيخ، فلما أتيت اليوم الثاني، قال: استر ما رأيت، استر ما رأيت.

فهذا مأثور عن الصالحين؛ هذا الانطراح والتضرع والبكاء والخشية والانكسار بين يدي الرب ، هذا من سمات أولياء الله وأهل الصلاح والتقوى. هذه العبارات التي نَقَلَها الموفق عن هؤلاء الصالحين، هي معروفة أنها من شأن أهل الصلاح، ومن شأن أولياء الله وعباده المتقين.

قال:

من مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم

وأحسن من هذا: ما رُوي عن النبي أنه قال حين رجع من الطائف وقد كذبَتْه ثَقِيف وردوا عليه، فقال ...

وهذا فيه ضعف من جهة الإسناد، لكن العلماء لا يشددون في أحاديث السيرة، لكن لا يؤخذ منها أحكام، لكنها تأتي في الفضائل.

اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس! اللهم أنت رب المستضعفين، وأنت أرحم الراحمين، أنت ربي، إلى مَن تَكِلُني، إلى بعيد يتجهَّمني، أم إلى عدوٍّ مَلَّكْتَه أمري؟! إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع إليَّ! أعوذ بوجهك الكريم الذي أضاءت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة؛ أن يحل بي سخطك، أو ينزل عليَّ غضبك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك[2].

رُوي أنه لما دعا بهذا الدعاء أتاه مَلَك الجبال -وهذا في الصحيحين-؛ فقال: إن الله قد أمرني أن أأتمر بأمرك، فماذا تريد أن أفعل؟ هل أُطبِق عليهم الأخشبَين؟ [يعني: الجبلَين المحيطَين بمكة] ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ قال: لا، بل أرجو أن يُخرِجَ الله من أصلابهم مَن يعبد الله لا يشرك به شيئًا[3].

فصلوات الله وسلامه عليه، ما أعظم رحمته بالناس! وما أعظم شفقته! كانت فرصة أن ينتقم منهم، آذوه حتى وضعوا سلا الجزور على رأسه وهو ساجد، ثم ذهب للطائف وضربوه حتى سال الدم من عقبَيه، فيأتيه ملك الجبال يقول: إن الله أمرني أن أأتمر بأمرك، فيقول عليه الصلاة والسلام: لا، بل أرجو أن يُخرِجَ الله من أصلابهم مَن يعبد الله لا يشرك به شيئًا، وما رجاه النبي عليه الصلاة والسلام تحقق، أخرج الله من أصلابهم مَن يعبد الله، ولا يشرك به شيئًا.

^1 رواه البخاري: 6306.
^2 رواه الطبراني في الكبير: 14764.
^3 رواه البخاري: 3231، ومسلم: 1795.
zh