الدنيا مزرعةٌ للآخرة
هنا المؤلف بيَّن حقيقة الدنيا، افتتح هذه الوصية ببيان حقيقة الدنيا، وأنها مزرعةٌ للآخرة، فهذه الدنيا مزرعةٌ للآخرة، تُزرع بالأعمال، فإن كانت الأعمال صالحةً فإن الإنسان يجني من ثمارها السعادة الأبدية، وإن كانت الأعمال سيئةً فإن ذلك يكون سببًا للشقاوة: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الأعراف:8- 9].
كيف ينظر الإنسان للدنيا؟
ينظر لهذه الدنيا على أنها مزرعةٌ للآخرة.
هذه كلمةٌ عظيمةٌ من المُوفق، فإذا نظرتَ لهذه الدنيا على أنها مزرعةٌ للآخرة فإنك ستزرع كل يومٍ أعمالًا صالحةً، تقول: كل يومٍ يمضي لا بد أن أزرع فيه عملًا صالحًا، وكل يومٍ يمضي يُقرب الإنسان من الآخرة، ويُبْعده عن الدنيا، وكل يومٍ يمضي ينقص به العمر، ويقترب به الأجل.
فعندما تصبح كل يومٍ قُلْ: هذا اليوم يومٌ من أيام عمري، وهذه الدنيا مزرعةٌ للآخرة، فأنا أريد أن أقتنص ما يمكن من ساعات هذا اليوم في أن أزرع لي أعمالًا صالحةً أجد ثوابها في الدار الآخرة.
كل إنسانٍ له اهتماماتٌ، بعض الناس اهتماماته جمع المال، وبعض الناس اهتماماته بأمورٍ مُعينةٍ، فاجعل اهتمامك أنك تزرع الآخرة، ازرع في الآخرة أعمالًا صالحةً.
قال:
الإنسان يمر بمراحل:
المرحلة الأولى: مرحلة العدم، وهذه ذكرها الله تعالى في قوله: هَلْ أَتَى يعني: قد أتى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1] أي: نحن قبل مئة عامٍ وأكثر لم نكن شيئًا مذكورًا، ثم بعد ذلك يخرج الإنسان إلى الدنيا، وهذه المرحلة من أهم المراحل، فهذه مرحلة العمل التي يكون على ضوئها مصيره بعد الممات، فبعد الممات ينتقل من مرحلة العمل إلى الجزاء والحساب.
فالإنسان في مراحل، ونحن الآن في مرحلةٍ من أهم هذه المراحل، وهي مرحلة العمل.
إذن هذه الدنيا هي مزرعةٌ للآخرة، وهي موضع تحصيل الزاد منها والبضائع الرابحة.
قال:
طول الأمل والحرص على الدنيا
لا بد -أيها الإخوة- أن ينظر الإنسان للدنيا النظرة الصحيحة، النظرة السَّوية.
بعض الناس ليست عنده نظرةٌ صحيحةٌ، فيعيش في هذه الدنيا كأنه سيُعمر، كأنه سيخلد.
ذكر لي مدير أحد فروع البنوك يقول: كان عندنا حسابٌ لأحد كبار السنِّ، ثم إن هذا الحساب مضتْ عليه مدةٌ طويلةٌ لم يتحرك، فاتصلتُ على رقمه، وسألتُ عن فلانٍ، فقالوا: فلانٌ تُوفي من مدةٍ طويلةٍ. فقلتُ: يأتي إليَّ ويُكلمني أكبر أبنائه، فاتصل وكلَّمني، فطلبتُ منه أن يحضر عندي في البنك، ولما حضر عزَّيتُه في أبيه، ثم قلتُ له: إن لوالدك عندنا رصيدًا ضخمًا. فقال: كم؟ قلتُ: كذا مليونًا، عشرات الملايين. فانهار بالبكاء، وأصبح يدعو على والده، فجعلتُ أُهَدِّئه، وقلتُ: خلَّف لكم هذه الثروة. فقال: نحن عشنا فقراء، وأبي عاش فقيرًا، وكنا نعذره؛ نظن أنه ما عنده شيءٌ، وعنده هذه الثروة الضخمة العظيمة، ويعيش فقيرًا، ونعيش معه نحن فقراء! فجعل يدعو عليه.
إذن ماذا استفاد هذا الرجل؟ ماذا استفاد من هذه الثروة؟
للورثة غُنْمُها، وعليه غُرْمُها، وهم لا يحمدونه عليها، بل يدعون عليه، وهذا كله بسبب النَّظرة الخاطئة للمال وللحياة الدنيا.
ماذا لو أن هذا الرجل انتفع بثروته، فأكل منها وتصدق، وأكرم ضيفًا، ووسَّع على أهله؛ لكان هذا المال خيرًا له وبركةً عليه.
بعض الناس عنده نظرةٌ غير سَوِيةٍ للمال، ونظرةٌ غير سَوِيةٍ أيضًا للحياة الدنيا، كأنه سيُعمر فيها، كأنه سيخلد فيها!
هذه الدنيا مقامنا فيها قصيرٌ، فهي متاع الغرور، كراكبٍ استظلَّ تحت شجرةٍ، ثم راح وتركها، وهذا يقتضي الزهد في الدنيا، ولكن ما معنى: الزهد؟
تعريف الزهد
هذا المصطلح: الزهد.
أحسن ما قيل في تعريف الزهد هو تعريف ابن تيمية رحمه الله، وهو: ترك ما لا ينفع في الآخرة.
تعريف الزهد هو: ترك ما لا ينفع في الآخرة؟
الفرق بين الزهد والورع
طيب، ما الفرق بين الزهد والورع؟
مَن يذكر لنا الفرق؟
ما الفرق بين الزهد والورع؟
الورع: ترك ما يُخْشَى ضرره في الآخرة.
والزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة.
الورع: ترك ما يُخْشَى ضرره في الآخرة، بينما الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة.
أيّهما أعظم: الزهد أم الورع؟
الزهد؛ لأن الزهد يشمل ترك ما يُخْشَى وما لا يُخْشَى مما لا ينفع، بينما الورع ترك ما يُخْشَى ضرره، فكل زاهدٍ وَرِعٌ، وليس كل وَرِعٍ زاهدًا.
قال ابن القيم رحمه الله: "والذي أجمع عليه العارفون: أن الزهد سفر القلب من وطن الدنيا، وأخذه في منازل الآخرة" [1].
فِيمَ يكون الزهد؟
إذا قلنا: الزهد ترك ما لا ينفع، ففي أي شيءٍ يكون؟
قال بعض العلماء: إنما يكون في الحلال؛ لأن ترك الحرام واجبٌ.
وقال آخرون: بل الزهد لا يكون إلا في ترك الحرام، أما الحلال فنعمةٌ من الله، والله يُحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
فهما قولان مُتقابلان.
قال ابن القيم: "والتَّحقيق: أن الدنيا إن شغلته عن الله فالزهد فيها أفضل، وإن لم تشغله عن الله، بل كان شاكرًا لله فيها، فحاله أفضل، والزهد فيها تجريد القلب عن التَّعلق بها والطمأنينة إليها" [2].
قال الإمام أحمد: "الزهد على ثلاثة أوجهٍ:
- الأول: ترك الحرام، وهو زهد العوام.
- والثاني: ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواصّ.
- والثالث: ترك ما يشغل عن الله، وهو زهد العارفين".
هذه مقولةٌ عظيمةٌ من الإمام أحمد، يقول: "الزهد على ثلاثة أوجهٍ:
الأول: ترك الحرام، وهو زهد العوام.
والثاني: ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواصّ.
والثالث: ترك ما يشغل عن الله، وهو زهد العارفين".
وأثنى ابن القيم على كلام الإمام أحمد، وقال: "هو من أجمع الكلام، وهو يدل على أنه" الإمام أحمد "من هذا العلم بالمحل الأعلى، وقد شهد الشافعي بإمامته في ثمانية أشياء، أحدها: الزهد" [3].
هل المراد بالزهد: رفض الأموال، ورفض أن يتملك الإنسان شيئًا؟
لا، فسليمان بن داود عليهما السلام أعطاه الله مُلْكًا عظيمًا، وداود عليه الصلاة والسلام كذلك، وهما أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والمُلْك ما لهما.
ومحمدٌ أزهد البشر على الإطلاق، ومع ذلك له تسع نسوة، وربما طاف عليهنَّ في ليلةٍ واحدةٍ، وأيضًا في آخر حياته عليه الصلاة والسلام أغناه الله تعالى من الغنائم ونحوها، وكان في أول الأمر يمر الشهران والثلاثة وما أُوقد في بيته نارٌ، لكن في آخر حياته أغناه الله، وكان عنده مئةٌ من الغنم، وإذا زادتْ واحدةً ذبح مكانها أخرى، ومع ذلك هو أزهد البشر.
وكان عددٌ من المُبشرين بالجنة عندهم ثروةٌ: عبدالرحمن بن عوف من أثرياء الصحابة، وأبو بكر الصديق يُعتبر من الأغنياء، وعلي بن أبي طالب كذلك، والزبير بن العوام كذلك، وعثمان بن عفان أيضًا من أثرياء الصحابة، وهؤلاء كلهم من العشرة المُبشرين بالجنة، ومع ذلك كان لهم ما كان من الأموال، وهم من الزُّهاد، فكيف نجمع بين هذا؟
نقول: المطلوب أن تكون الدنيا في يد الإنسان، وليست في قلبه، فإذا كانت في يده لا يضرّ، المهم ألا تكون في قلبه، وألا تشغله عن الله، فما ذكرنا من هؤلاء الأنبياء، وما ذكرنا من هؤلاء الصحابة من العشرة المُبشرين بالجنة، هؤلاء الأموال وأمور الدنيا في أيديهم، وليست في قلوبهم، فلا يمكن أن تشغلهم عن الله ، بل إن سليمان عليه الصلاة والسلام لما شغلته الخيل عن ذكر الله ماذا فعل؟
قال: رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ [ص:33] ذبحها كلها؛ لأنها شغلته فقط عن صلاة العصر، فذبحها كلها، رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ، ولسان حاله: لا بارك الله في مالٍ يشغلني عن طاعة الله.
وهكذا نجد أن بعض الأئمة والعلماء الكبار كانت عندهم ثروات، لكن كانوا من الزهاد، مثل: عبدالله بن المبارك، فكان من الأثرياء، وكان من أعظم الزهاد، والليث بن سعد كان من الأثرياء، وكان من أعظم الزهاد.
إذن الزهد ليس معناه: أن الإنسان يعيش فقيرًا، لا، الزهد معناه: ألا تشغله الدنيا والأموال عن طاعة الله ، فتكون الدنيا في يده، وليست في قلبه.
قد يكون الإنسان فقيرًا، وليس زاهدًا، وقد يكون غنيًّا، وهو من الزُّهاد، فلا بد إذن أن نعرف حقيقة الزهد.