logo

(44) فصل: ومن جامع في نهار رمضان

مشاهدة من الموقع

نبدأ بدرس الفقه، ودرسُ “البخاري” هذه الليلةَ نؤجله للدرس القادم؛ كسبًا للوقت.

كنا قد وصلنا إلى أحكام الصيام، ولعلنا نختم في هذا الدرس كتاب الصيام، وكنا قد وصلنا إلى قول المؤلف: “ومن جامع نهار رمضان في قُبُل”.. إلخ.

حكم من جامع في نهار رمضان

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

ومن جامع في نهار رمضان في قُبُلٍ أو دبرٍ، ولو لميتٍ أو بهيمةٍ، في حالةٍ يلزمه فيها الإمساك، مكرهًا أو ناسيًا؛ لزمه القضاء والكفارة.

الجماع في نهار رمضان هو أعظم المُفَطِّرات، كما أنه في الحج كذلك هو أعظم المحظورات؛ ولهذا إذا وقع قبل التحلل الأول؛ فسد به النسك، ولما كان هو أعظم المفطرات تحريمًا؛ عَقَد المؤلف رحمه الله فصلًا خاصًّا لبيان مسائله وأحكامه.

فيقول المصنف رحمه الله: “من جامع نهار رمضان في قُبُلٍ”.

قوله: “في قُبُلٍ”، يشمل ذلك: القُبُلَ الحلالَ والحرامَ، فيشمل وطء الزوجة، ويشمل كذلك الزنا.

“أو دبرٍ”: أي أنه يشمل كذلك عمل قوم لوطٍ، فكل هذه الأمور موجبةٌ للكفارة المغلَّظة.

“أو بهيمةٍ”: أو حتى لو كان الوطء لبهيمةٍ في نهار رمضان؛ فإنه موجبٌ أيضًا للكفارة.

“في حالةٍ يلزمه فيها الإمساك”؛ احترازًا مما إذا كان ممن لا يلزمه الإمساك؛ كما لو كان مسافرًا مثلًا؛ فلا يلزمه الإمساك، أو كان مريضًا مثلًا، أو نحو ذلك، فلا يجب عليه الصوم فجَامَع؛ فإنه لا يترتب على جماعه شيءٌ، بل يباح له ذلك.

وقول المصنف: “مكرَهًا كان أو ناسيًا”، أي أن المؤلف لا يُفرِّق بين المكره وبين غير المكره، وهذا بالنسبة للرجل، وهذه مسألةٌ تَرِد في عدة أبوابٍ، ترد في هذا الباب، وترد كذلك في محظورات الإحرام، وترد كذلك في الحدود، فهل يُتصور إكراه الرجل، أو أن الإكراه خاصٌّ بالمرأة؟

أما إكراه المرأة فظاهرٌ، لكن إكراه الرجل: من الفقهاء من قال: إن الرجل لا يمكن في حقه الإكراه، لماذا؟ لأنه لا يمكن أن يطأ إلا بانتشار الآلة، قالوا: وانتشار الآلة يكون باختياره، فكيف يكون مكرهًا؟! ولذلك يقولون: لا يمكن الإكراه حتى في الزنا، ولو ادعى الإكراه؛ لا يقبل منه.

ولكن الصحيح: أن الإكراه يمكن بالنسبة للرجل، فإن الرجل قد يستثار رغمًا عنه، فتنتشر آلته رغمًا عنه، فلا يتحكم بها، فيكره على الوطء.

وهناك وقائع لأناسٍ حصل الإكراه في حقِّهم وأكرهوا، فهذا غير مستحيلٍ عقلًا، وغير ممنوعٍ شرعًا؛ ولذلك فهو ممكنٌ.

والصواب: أنه يمكن الإكراه بالنسبة للرجل، وأن الرجل إذا أكره فلا شيء عليه، سواءٌ كان في باب الصيام أو الحج أو في باب الحدود؛ لقول النبي : عُفِي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه [1].

قال: “أو ناسيًا”: يرى المؤلف أنه أيضًا يستوي في ذلك الناسي وغير الناسي، فعنده: أنه تجب الكفارة سواءٌ كان ناسيًا أم ذاكرًا؛ وذلك لأنه يَبعُد النسيان في هذا الأمر، كذا قالوا.

ولكن الصواب: أن الناسي لا شيء عليه، وأن الناسي لو كان في الأكل والشرب؛ لكان معذورًا بالنص؛ فكذلك أيضًا بالنسبة للجماع، خاصةً في أول أيام رمضان، ربما يحصل النسيان فيحصل الوطء.

والقول بأنه يبعد النسيان، نقول: هو قليلٌ، لكنه غير محالٍ، فلو تحققنا من أنه كان ناسيًا بالفعل؛ فالصحيح أنه لا شيء عليه، وهكذا أيضًا النسيان في محظورات الإحرام، وهكذا النسيان عمومًا، المسلم غير مؤاخذٍ به؛ لقول الله : لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، وجاء في “صحيح مسلمٍ”: قال الله ​​​​​​​: قد فعلت [2]؛ ولقول النبي كما في الحديث السابق: عُفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.

ما الذي يترتب على الجماع في نهار رمضان؟

قال: “لزمه”، يعني: الذي يترتب على الجماع في نهار رمضان -على الضوابط التي ذكرها المصنف، ونحن ناقشنا في بعضها- لزمه:

  • أولًا: القضاء، وهذا بالاتفاق، أنه يلزمه القضاء، قضاء ذلك اليوم.
  • وثانيًا: الكفارة، وهي الكفارة المغلظة، وسيأتي الكلام عنها.
  • وثالثًا: الإمساك، وهذا لم يذكره المؤلف، ربما لم يذكره؛ لكونه معلومًا: إمساك بقية يومه.

قال:

وكذا من جُومع إن طاوع غيرَ جاهلٍ وناسٍ.

يعني: بالنسبة للمرأة إذا طاوعت الرجل؛ فيلزمها ما يلزم الرجل تمامًا، لكن استثنى المؤلف: الجاهل والناسي بالنسبة للمرأة؛ ولأن هذا يَرِد بالنسبة للمرأة وليس ببعيدٍ، بخلاف الرجل.

والصحيح: أنه لا فرق بينهما، الصواب: أنه لا فرق بينهما، وأن من كان جاهلًا أو ناسيًا أو مكرهًا؛ فإنه لا شيء عليه.

كفارة الجماع في نهار رمضان

ثم انتقل المؤلف رحمه الله لبيان الكفارة.

أولًا: ما هي الحكمة من وجوب الكفارة؟

الحكمة من وجوب الكفارة: هي انتهاك حرمة الشهر، انتهاك حرمة شهر رمضان؛ ولهذا لو أنه جامع في غير رمضان؛ لم تجب عليه الكفارة، كما سيذكر ذلك المؤلف.

والأصل في هذا: قصة الأعرابي أو الرجل الذي أتى النبي فقال: يا رسول الله هلكتُ، قال: ما أهلكك؟، قال: وقعتُ على امرأتي في رمضان، فقال النبي : هل تجد ما تعتق به رقبةً؟، قال: لا، قال: هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟، قال: لا، قال: هل تجد ما تُطعِم به ستين مسكينًا؟، قال: لا، فسكت النبي ، فأُتِيَ بعَرَقٍ [3] فيه تمرٌ، فقال: خذ هذا فتصدَّق به، قال: أعلى أفقر منا يا رسول الله! فوالله ما بين لابَتَيْها -يعني: ما بين الحَرَّتَيْن؛ يعني الجبلين- أهل بيتٍ أفقر منا، فقال عليه الصلاة والسلام: خذ هذا فأطعمه أهلك [4]، وهذا الحديث متفقٌ عليه، أخرجه البخاري ومسلمٌ، وجاء في بعض الروايات: أنه لما قال: هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟؛ قال: وهل أوقعني إلا الصيام؟! [5]، والسبب في هذا: أن هذا الرجل كان عنده شيءٌ من الشَّبَق والتعلق بالنساء، فلما قرب دخول شهر رمضان؛ حلف ألا يطأ امرأته، أو ظاهر منها، كما جاء في الروايات الأخرى: أنه ظاهر من امرأته، لكنه لم يصبر، فوقع بها في نهار رمضان [6].

وهذا الرجل لما وقع على امرأته في نهار رمضان؛ خوَّفه الناس فقالوا: إنك قد ارتكبت ذنبًا عظيمًا؛ ولهذا قال: “هلكتُ”، دليلٌ على أنه مستشعرٌ أنه قد ارتكب معصيةً كبيرةً، فأتى النبيَّ خائفًا وَجِلًا مشفقًا، ثم رجع من عند النبي ومعه طعامٌ يُطعمه أهله، فانظر إلى رحمة النبي عليه الصلاة والسلام، وحكمة النبي عليه الصلاة والسلام! ولذلك لمَّا رجع؛ لامَ أصحابَه، قال: ذهبت للنبي عليه الصلاة والسلام وخوفتموني، ورجعت من عنده بطعامٍ أطعم أهلي.

وذلك لأن مِن هدي النبي التفريق بين من أتى تائبًا وبين من لم يتب؛ فمن أتى تائبًا من الذنب؛ لا يُعنَّف ولا يوبخ، وإنما يُحَثُّ على التوبة وعلى الإتيان بالكفارة إن كان ممن يلزمه الكفارة، بخلاف من كان مُصِرًّا على الذنب؛ فلذلك من أتانا تائبًا؛ ينبغي ألا نوبخه بأدنى كلمة توبيخٍ؛ ما ظنك لو أن هذا الرجل أتى لأحد الناس وقال: إنه وقع على امرأته في نهار رمضان، ماذا سيقول؟! متعمدًا! هذا الرجل متعمدٌ؛ بدليل أنه قال: “هلكتُ”، يعرف أن هذا محرمٌ.

لكن انظر كيف تعامل النبي عليه الصلاة والسلام معه! وهكذا لما أتاه ماعزٌ، ولما أتته المرأة التي وقعت في الزنا، وهكذا نجد أن مِن هدي النبي عليه الصلاة والسلام أن من أتاه تائبًا؛ فإنه يرأف به ويرحمه، ولا يُعنِّفه ولا يوبخه، هذه القصة هي الأصل في هذا الباب.

فالنبي أمره بالكفارة، ولم يأمر زوجته بذلك؛ قيل: إنها لم تسأل، ولم يعلم النبي عليه الصلاة والسلام عن حالها: هل هي جاهلةٌ أو غير جاهلةٍ؟ مكرهةٌ أو غير مكرهةٍ؟ فإنما أفتى مَن سأل فقط، وربما أن هذا الرجل سينقل هذه الفتوى لزوجته، وربما أيضًا أن النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى فقر هذا الرجل وفقر زوجته، ورأى أن الكفارة سقطت عنه، ومِن باب أولى أنها ستسقط عن زوجته؛ ولذلك لم يأمره بالكفارة.

وبكل حالٍ، فلا دلالة في هذه القصة على أن الكفارة إنما تلزم الرجل دون المرأة، بل الصواب، وهو قول جماهير أهل العلم قديمًا وحديثًا: أن الكفارة تلزم الرجل، وتلزم المرأة إذا كانت مُطاوِعةً عالمةً مختارةً.

كفارة الجماع في نهار رمضان

وما هي الكفارة؟ قال المؤلف:

والكفارة: عتق رقبةٍ مؤمنةٍ.

“الكفارة”: هي كفارة الظهار، وهي المذكورة في سورة المجادلة: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا [المجادلة:3].

  • فالأمر الأول الذي يجب في الكفارة: هو عتق رقبةٍ، وهنا اشترط المؤلف أن تكون “مؤمنةً”؛ لأن الله تعالى شَرَط الإيمان في عتق الرقبة في كفارة ماذا؟ القتل، قتل الخطأ، فحَمَل الجمهورُ المطلَقَ على المقيَّد، فاشترطوا الإيمان في الكفارة، فهذا إذنْ هو الواجب: عِتْق رقبةٍ مؤمنةٍ.

والرِّقُّ: هو عجزٌ حُكْميٌّ يقوم بالإنسان؛ بسبب كفره بالله تعالى؛ ولذلك لا يجوز أن يُسترَقَّ المسلمُ، وإنما يسترق الكافر؛ ولهذا لو أن الأسير الكافر أسلم قبل استرقاقه؛ لم يجز استرقاقه.

والرِّقُّ في الوقت الحاضر انقطع، انقطع الآن، وما يُذكَر أنه موجودٌ في بعض بلاد إفريقيا رِقٌّ، فما يظهر والله أعلم أنه غير شرعيٍّ؛ لأنه ممنوعٌ الآن في جميع الأنظمة الدولية، وهل سيعود الرق أم لا؟ الله أعلم، هو مرتبطٌ بالجهاد في سبيل الله، لكن في قول النبي عليه الصلاة والسلام مِن أشراط الساعة لمَّا قال: أن تلد الأمة ربتها [7]، فهل المقصود: أن السراري والرق سيكثرون في آخر الزمان بسبب كثرة الفتوحات الإسلامية؟ قال بهذا بعض أهل العلم، ولكن هذا محلُّ نظرٍ، وقد رده الحافظ ابن حجرٍ وجماعةٌ؛ قالوا: إن كثرة الأَرِقَّاء كان في صدر الإسلام، خاصةً في عهد الخلفاء الراشدين والدولة الأموية، وكذلك الدولة العباسية، اتسعت رقعة الدولة الإسلامية وكثر الرقيق، ثم انحسر في وقتنا الحاضر.

ولهذا رجَّح الحافظ ابن حجرٍ: أن المقصود بهذه العلامة: كثرة العقوق، وأنه سيكثر في آخر الزمان عقوق الوالدين، حتى تصبح الأم عند أولادها كالأمة عند سيدها، قال: ويناسب هذا التفسير العَلَامة الثانية: وهي أن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان [8].

يعني: هذا الأعرابي الذي نشأ في البادية حافيًا وما عنده إلا ربما ما يستر عورته، يفتح الله عليه الدنيا، فيتطاولون في البنيان، قال: فهذا دليلٌ على انتكاس الأمور، فيكون المُرَبَّى مُرَبِّيًا ويكون السافل عاليًا، هكذا قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله، فقال: المناسب هو التفسير الثاني؛ لأجل أن يتناسب مع العلامة الثانية، فيكون المقصود: كثرة العقوق.

وهذا كما ترون الآن، نرى شيئًا من هذا، يعني في السَّنَة الواحدة كم يُقتل تعزيرًا أو حِرَابةً، ممن قَتَل أمه أو قتل أباه؟! ففي كل سنةٍ نرى عددًا من القضايا، وهذه هي التي فقط تَثبت، وهي التي يُحكم فيها، فما بالك بغيرها من القضايا؟!

طيب، إذنْ الأمر الأول: عِتْق رقبةٍ مؤمنةٍ، لكن بعض أهل العلم يقول: حتى وإن كان الرق غير شرعيٍّ، فإذا كان هذا الرقيق مسلمًا؛ فإنك إذا أعتقته؛ قد خلَّصته من هذا الرق غير الشرعي، فيعتبرونه بالنسبة للمعتِق سائغًا، وهذا له وجهٌ.

العلامة الثانية، قال:

فإن لم يجد؛ فصيام شهرين متتابعين.

إن لم يجد ما يعتق به رقبةً؛ فإنه يصوم شهرين متتابعين، والتتابع شرطٌ لصحة الصوم، فلو أنه صام ثمانيةً وخمسين يومًا ثم أفطر؛ لزمه أن يُعيد الصيام من جديدٍ، فلا بد إذنْ من التتابع، ولكن كيف يَحسب شهرين متتابعين؟

هذا سؤالٌ كثيرًا ما يَرِد.

أما إذا صام من أول الشهر: فيحسبها على الهلال، فإذا كان الشهر ناقصًا؛ حسَب الشهر تسعةً وعشرين يومًا، وإذا كان تامًّا؛ حسبه ثلاثين يومًا؛ ولذلك قد يصوم ثمانيةً وخمسين يومًا لو كان الشهران تسعةً وعشرين يومًا، وقد يصوم تسعةً وخمسين يومًا، وقد يصوم ستين يومًا، لكن إذا صام في أثناء الشهر، وليس من أول الشهر، فبعض أهل العلم يرى أنه يصوم ثلاثين يومًا، وقال آخرون: إنه يصوم الشهر الثاني على حسب رؤية الهلال، أما الأول فيكمل ثلاثين يومًا.

واختار أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: أنه يكون على حسب رؤية الهلال، حتى وإن كان ابتداء الصيام في أثناء الشهر، قال: فلو بدأ مثلًا منتصف الشهر؛ فإنه ينتهي من الصوم منتصف الشهر ليس الذي بعده، وإنما الذي بعده؛ يعني لو بدأ مثلًا منتصف شهر محرَّمٍ؛ ينتهي منتصف شهر ربيعٍ، ولو بدأ منتصف شهر مثلًا جمادى الأولى؛ فمعنى ذلك أنه ينتهي منتصف رجبٍ.

قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: لأن الله إنما أناط الأحكام بالأهلة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة:189]، وأكثر صيام الناس إنما يكون في أثناء الشهر، وأما صيامهم في أول الشهر فهو أقل بكثيرٍ من ابتداء صيامهم في أثناء الشهر، فكيف تُعلَّق الأحكام على حالةٍ قليلةٍ جدًّا؟

ونقول: مَن صام في أثناء الشهر: فإنه يُكمِل ستين يومًا، وانتصر لهذا القول رحمه الله، وهو الأقرب والله أعلم، بل إنه قال: هذا القول لا شك فيه، وذكر له وجوهًا، هذا بالنسبة إذنْ لصيام شهرين متتابعين.

طيب، بعض الناس إذا قيل له: صم شهرين متتابعين؛ يقول: والله لا أستطيع، لكن كلمة “لا أستطيع” عند العامة، أو عند كثيرٍ منهم، يتوسعون فيها؛ ولذلك نسأله سؤالًا: هل أنت صمت شهر رمضان؟ فإذا قال: نعم، نقول: إذنْ أنت مستطيعٌ، لكن عليك مشقةٌ، والمشقة لا بد منها هنا؛ لأن الذنب عظيمٌ، ولأن المعصية كبيرةٌ، فما دام أنه قد صام شهر رمضان كاملًا؛ فهو مستطيعٌ، فبعض العامة عندهم كلمة “لا أستطيع” تعادل: “عليَّ مشقةٌ كبيرةٌ”، فالمشقة هنا لا بد منها؛ ولذلك اشتُرط التتابع؛ لأن الذنب عظيمٌ فلا يكفره إلا هذا.

لكن لو كان مثلًا لا يستطيع أن يصوم شهر رمضان، أو أن الطبيب منعه مثلًا، أو نحو ذلك، فهذا يكون معذورًا ويَعدِل للأمر الثالث، وهو:

فإن لم يستطع؛ فإطعام ستين مسكينًا.

يعني: إذا عجز عن الصيام؛ انتقل إلى الإطعام.

حكم عدد المساكين في كفارة الجماع

وهنا العدد لا بد منه، وهو أن يكون عدد المساكين ستين، فلا يصلح أن يكون الإطعام لثلاثين ويكرر الإطعام عليهم مرتين، ولا يصلح أن يكون مثلًا لعشرة مساكين ويعطيهم ما يكفي ستين مسكينًا، فالعدد هنا مقصودٌ ولا بد منه.

وهكذا أيضًا العدد في كفارة اليمين، لا بد من عشرةٍ، وهذه يخطئ فيها بعض الناس، فتجد مثلًا أنه يعطي ما يكفي عشرةً لخمسة مساكين، فنقول: هذا لا يكفي، أو يعطي ما يكفي ستين مسكينًا لعشرين مسكينًا، فهذا لا يكفي، لا بد إذنْ من إطعام ستين مسكينًا.

وهذا الإطعام الصحيح اختُلف فيه؛ فقيل: نصف صاعٍ، وقيل: مُدٌّ مِن بُرٍّ، ونصفُ صاعٍ من غيره.

والقول الصحيح: أن المرجع فيه إلى العرف؛ وذلك لأنه قد ورد مطلقًا، والأصل فيما ورد مطلقًا ولم يقيد بالشرع ولا باللغة، أن المرجع فيه إلى العرف، فيُرجَع فيه إلى عرف الناس، فما عده الناس في عرفهم إطعامًا؛ كان إطعامًا؛ وبناء على ذلك: فإذا كان أهل البلد يأتدمون؛ فلا بد من أن يكون مع الطعام إدامٌ؛ فعلى سبيل المثال: إذا أراد أن يُطعِم بأُرْزٍ مثلًا عندنا هنا؛ فالناس هنا يأتدمون، فلا بد من أن يكون مع الأرز مثلًا لحمٌ، أو يكون معه مثلًا إدامٌ، وله أن يأخذ وجباتٍ جاهزةً مثلًا من المطعم بقدر عدد المساكين، فيقول مثلًا: أعطني ستين وجبة أرزٍ مع لحمٍ، ويذهب لستين مسكينًا ويعطيهم إياها، وهذا يجزئ.

فالصحيح: أنه إذا جمع المساكين فغدَّاهم أو عشَّاهم؛ أجزأ ذلك، أو أنه يجمع ستين مسكينًا ويأتي لهم بأرزٍ مع لحمٍ، فيغديهم أو يعشيهم.

وهذا كان يفعله أنسٌ لما كبرت سنه، فكان يجمع المساكين فيطعمهم.

والطعام والمُطعَم ينقسم إلى ثلاثة أقسامٍ:

  • القسم الأول: ما قُدِّر فيه الطعام دون المُطعَم، وهو زكاة الفِطر، فقُدِّر فيها الطعام بكم؟ بصاعٍ، قُدِّر فيها الطعامُ بصاعٍ، ولم يُقدَّر فيها المُطعَم؛ فلك أن تعطي الصاع أكثر من مسكينٍ، ولك أن تَخُصَّ به مسكينًا واحدًا.
  • القسم الثاني: ما قُدِّر فيه المُطعَم دون الطعام، كما في كفارة الجماع في نهار رمضان، وكفارة الظهار، وكفارة القتل -على القول بأن فيها إطعامًا- وكفارة اليمين، فهذه قُدِّر فيها المُطعَم، وهو ستون مسكينًا بالنسبة لكفارة الظِّهار والجماع في نهار رمضان، وعشرة مساكين بالنسبة لكفارة اليمين، ولم يُقدَّر فيها الطعام، فالمرجع في ذلك للعرف.
  • القسم الثالث: ما قُدِّر فيه الطعام والمُطعَم، من يمثل لنا بهذا المثال؟

الطالب:

الشيخ: فِدْية الأذى، أحسنت، مثاله: فدية الأذى، فقد قُدِّر فيها الطعام بنصف صاعٍ، كما في حديث كعب بن عُجْرة في “الصحيحين” [9]، وقُدِّر فيها المُطعَم بكم مسكينًا؟ بستة مساكين.

فإذنْ، هذه ثلاثة أقسامٍ ذكرها أبو العباس ابن تيمية رحمه الله.

أعيدها مرةً ثانيةً باختصار:

  1. ما قُدِّر فيه الطعام دون المُطعَم؛ مثاله: زكاة الفطر، قُدِّر فيها صاعٌ، ولم يُقدَّر عدد المساكين.
  2. وما قُدِّر المُطعَم دون الطعام: وهو كفارة الجماع في نهار رمضان، وكفارة الظهار، وكفارة القتل -على القول بأن فيها إطعامًا- وكفارة اليمين.
  3. القسم الثالث: ما قُدِّر فيه الطعامُ والمُطعَم، وهو فِدية الأذى، فإنها نصف صاعٍ لستةٍ: لكل مسكينٍ نصف صاعٍ، وهم ستة مساكين.

حكم من لم يجد إطعام ستين مسكينًا

قال:

فإن لم يجد.

يعني: فإن لم يجد إطعام ستين مسكينًا.

سقطت.

سقطت الكفارة، ويدل لذلك قول الله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، وهذا الرجل فقيرٌ ليس عنده شيءٌ؛ فلا يكلَّف إلا ما آتاه الله، ولقول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]؛ ولأن قاعدة الشريعة: أنه لا واجب مع العجز؛ فالواجبات كلها تسقط بالعجز عنها، وهذا الرجل لا يستطيع العتق ولا الصيام ولا الإطعام؛ فيكون عاجزًا؛ فتسقط عنه الكفارة.

ويدل لذلك من السُّنة: قصة هذا الرجل الذي قال: “وقعت على امرأتي في نهار رمضان..”، ولم يقل النبي : إن الكفارة باقيةٌ في ذمتك، وإنما أمره بالعتق فاعتذر بالعجز، فأمره بالصيام فاعتذر بعدم الاستطاعة، فأمره بالإطعام فاعتذر بالعجز، فسكت النبي  [10]، ولو كانت الكفارة باقيةً في ذمته؛ لبين ذلك النبي ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، خاصةً أن هذا الرجل قد جاء مستفتيًا ويريد من النبي أن يبين له الحكم في هذه المسألة.

طيب، فإن قال قائلٌ: قول النبي : خذ هذا فأطعمه أهلك [11]، أَلَا يَحتمل أن يكون هذا هو كفارةً عنه، يأخذها من النبي عليه الصلاة والسلام ويكفر بها، يتصدَّق بها على أهله؛ فالكفارة إذنْ لم تسقط، فما الجواب عن هذا؟ واضحٌ الإشكال؟ لو قال قائلٌ: إن الكفارة لم تسقط عن هذا الرجل؛ لأن النبيَّ عليه الصلاة والسلام لمَّا أُتِيَ بعَرَقِ تمرٍ قال: خذ هذا فأطعمه أهلك، فأمره بأن يتصدق على أهله، فهذا الرجل إذنْ أطعم أهله؛ فإذنْ لم تسقط الكفارة عنه.

الطالب:

الشيخ: طيب ما هو الدليل لهذا؟

الطالب:

الشيخ: إي نعم، هذا وجهٌ، يعني: أهله عددهم قليلٌ لا يتجاوزون بكل حالٍ عشرةً، يعني على أكثر تقدير، ومعلومٌ أنه في الكفارة لا بد من إطعام ستين مسكينًا، هذا دليلٌ على أنه لم يقصد النبي عليه الصلاة والسلام هذا.

أيضًا هناك دليلٌ آخر، وهو أن..

الطالب:

الشيخ: نعم.

  • أولًا: سكوت النبي عليه الصلاة والسلام.
  • ثانيًا: أن الكفارة إطعام ستين مسكينًا، وهذا الرجل هو وأهل بيته لا يتجاوزون بكل حالٍ عشرةً.
  • ثم أيضًا قاعدة الشريعة: أنه لا يمكن أن يكون الإنسان مَصْرِفًا لكفارته، كما أنه لا يمكن أن يكون مصرفًا لزكاته، أرأيت لو كان فقيرًا، أو أنه غارمٌ عليه ديونٌ، ووجبت عليه الزكاة، فهل له أن يدفع الزكاة لنفسه؟ ليس له ذلك بإجماع العلماء، فالإنسان إذنْ ليس مَصْرِفًا لزكاته، وليس مصرفًا لكفارته، وإنما أمره النبي بأن يأخذ هذا ويطعمه أهله؛ لفقرهم؛ لأنه ذكر أنهم أفقر أهل بيتٍ في المدينة، فأعطاه النبي عليه الصلاة والسلام هذا؛ لأجل فقرهم.

فإن قال قائلٌ: لو كان كذلك؛ لقال النبي عليه الصلاة والسلام ابتداءً: خذ هذا وأطعمه أهلك؟

نقول: أولًا النبي عليه الصلاة والسلام لم تتبين له حالة هذا الرجل إلا بعدما قال: أَعَلَى أفقر أهل بيتٍ مني؟! فكأنه أراد أن هذا الرجل يعطيه لمن يعرفه من الفقراء الذين حوله؛ لأن الغالب أن الفقير يسكن بجواره فقراء، فلما بيَّن هذا الرجل شدة فقره وحاجته؛ قال: أطعمه أهلك [12].

إذنْ نقول: إن الكفارة تسقط بالعجز عنها؛ لهذه الأدلة، وهذا الذي قرره المؤلف صحيحٌ، فالكفارة إذنْ -إذا لم يجد- تسقط بالعجز عنها، ولا يلزمه قضاؤها في المستقبل، كما أن الفقير لو أغناه الله تعالى لم يلزمه أن يؤدي الزكاة عما مضى من سنواته.

قال:

بخلاف غيرها من الكفارات.

يعني: فإنها لا تسقط بالعجز عنها، وهذا هو المذهب: أن الذي يسقط فقط: هو كفارة الجماع في نهار رمضان.

والقول الثاني في المسألة: أن الكفارات كلها تسقط بالعجز عنها؛ لعموم هذه الأدلة، ولا فرق بين كفارة الوطء في نهار رمضان وبين غيرها، وهذا هو الأقرب والله أعلم، الأقرب: أن جميع الكفارات تسقط بالعجز عنها؛ لأنها لو كانت باقيةً في الذمة؛ لبين ذلك النبي ، ولم يَرِد بيان ذلك.

فالصواب إذنْ: أن جميع الكفارات تسقط بالعجز عنها.

حكم كفارة الفطر في رمضان بغير الجماع

قال:

ولا كفارة في رمضان بغير الجماع.

يعني: لو أنه أفطر في نهار رمضان متعمدًا، فأكل متعمدًا أو شرب متعمدًا مثلًا، فهل تلزمه كفارةٌ أم لا؟

يقول المؤلف: إنه لا تلزمه كفارةٌ.

أولًا: قوله: “ولا كفارة في رمضان بغير الجماع”، هذا يدل لهذا المعنى، يدل على أنه لا تجب الكفارة بمفسدٍ من مفسدات الصيام غير الجماع، وهذا هو المذهب عند الشافعية والحنابلة.

وذهب الحنفية والمالكية إلى أن الكفارة تجب بالأكل والشرب والجماع، فعندهم: أن من أكل متعمدًا؛ لزمه كفارةٌ مغلَّظةٌ، ومن شرب متعمدًا؛ لزمه كفارةٌ مغلظةٌ، كما أن من جامع متعمدًا؛ لزمه كفارةٌ مغلظةٌ، قالوا: ويقاس الأكل والشرب على الجماع بجامع انتهاك حرمة الشهر، فكما أن هذا الذي قد وطئ في نهار رمضان انتهك حرمة الشهر؛ فهكذا من أكل أو شرب فقد انتهك حرمة الشهر.

والصحيح: هو القول الأول، وهو أن الكفارة إنما تجب بالجماع فقط، ولا تجب بالأكل والشرب؛ وذلك لأنه لا دليل يدل على وجوب الكفارة بالأكل والشرب، والأصل براءة الذمة، وقياس الأكل والشرب على الجماع قياسٌ مع الفارق؛ وذلك لأن الحاجة إلى الزجر عن الجماع أشد؛ فإن الداعي إليه أقوى؛ ولهذا يجب به الحد إذا كان مُحرَّمًا، ويختص بإفساد الحج إذا وقع قبل التحلل الأول دون سائر المحظورات، ويَفسد به صوم اثنين في الغالب دون غيره، ماذا نقصد باثنين؟ الزوج والزوجة، ويفسد به صوم اثنين في الغالب دون غيره؛ ولهذا لا يصح قياس الأكل والشرب على الجماع.

فالصواب إذنْ: هو ما قرره المؤلف رحمه الله؛ من أن الكفارة إنما هي خاصةٌ بالجماع في نهار رمضان.

والجماع في غير نهار رمضان أيضًا لا يوجب الكفارة، حتى وإن كان في صوم القضاء، أو كان في صوم نذرٍ، أو كان في صوم نافلةٍ؛ فإنه لا يوجب الكفارة، ولا يصح قياس صيام القضاء على نهار رمضان؛ لأن الحكمة من وجوب الكفارة: هي انتهاك حرمة الشهر بالجماع، وهذا لا يتحقق إلا فيما إذا كان في نهار رمضان.

حكم الكفارة في الإنزال بالمساحقة

قال المؤلف:

والإنزال بالمساحقة.

يعني: وتجب الكفارة بالإنزال بالمساحقة، هذا معنى كلام المؤلف، فعندهم أن الإنزال بالمساحقة -يعني: مساحقة المرأة للمرأة، وألحقوا بها أيضًا المجبوب إذا حصل معها إنزالٌ- فتوجب الكفارة المغلظة كالجماع، ومستندهم في هذا: القياس على الجماع؛ لفساد الصوم وهتك حرمة الشهر، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.

والقول الثاني في المسألة: أنه يجب القضاء فقط دون الكفارة، فيجب بذلك القضاء فقط دون الكفارة، قال الموفق بن قدامة رحمه الله: وهذا هو أصح الوجهين، يعني: عند الحنابلة؛ لأنه ليس بمنصوصٍ، ولا في معنى المنصوص؛ فيبقى على الأصل، وهذا هو القول الراجح.

فالقول الراجح إذنْ: أن الإنزال بالمساحقة لا يوجب الكفارة، وإنما يوجب القضاء فقط؛ لأنه لا دليل يدل على ذلك، وقياسه على الجماع قياسٌ مع الفارق.

وكل هذه المسائل طبعًا يترتب عليها الإثم؛ ولذلك فالواجب فيها كلها التوبة، مع ما ذكرنا من الكفارة المغلظة، أو القضاء، أو هما جميعًا، أن الكفارة المغلظة مع القضاء أو الكفارة المغلظة، يعني من القضاء مع الكفارة المغلظة، أو الاقتصار على القضاء فقط.

الطالب:

الشيخ: الإنزال مرَّ معنا في الدرس السابق، قلنا: الإنزال إذا كان متعمدًا؛ يفسد به الصوم.

الطالب:

الشيخ: لا، إذا كان متعمدًا، ذكرنا فيما إذا نظر أو كرر النظر، وتكلمنا عن هذا بالتفصيل في الدرس السابق، وذكرنا أيضًا مسألة الاحتلام، وأنه لا يُفسد الصوم؛ لأنه غير متعمَّدٍ، وإنما يكون بغير اختيار الإنسان، فذكرنا الضابط في هذا، وأن يكون متعمدًا.

الطالب:

الشيخ: على كل حالٍ، الإنسان مؤتمنٌ على عباداته، لكن على سبيل النصيحة؛ لأنه -كما ذكرتُ- كثيرٌ من العامة عندهم توسُّعٌ في مسألة عدم الاستطاعة، فمعناها إذا قال: لا أستطيع، يعني: أن عليه مشقةً، والمشقة هنا لا بد منها؛ ولذلك ينبغي أن يُنبَّه: إذا كنتَ تستطيع أن تصوم شهر رمضان؛ فإنك قادرٌ على صيام شهرين متتابعين، وصيام شهرين متتابعين لا شك أن فيه مشقةً، لكن الذنب عظيمٌ، والمعصية كبيرةٌ، فيُنبَّه العامة على هذا؛ لأنه كما ذكرت: بعض العامة عنده المشقة تعادل عدم الاستطاعة.

الطالب:

الشيخ: تُؤخَذ منه الكفارة، لكن إذا أصر؛ فالأصل أن الإنسان مؤتمنٌ على عباداته، أمور العبادة: الإنسانُ مؤتمنٌ عليها؛ ولهذا فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يحقق مع هذا الرجل، ونقله مباشرةً لمَّا قال: هل تجد ما تُعتق رقبةً؟، قال: لا، قال: هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا [13]، مباشرةً.

الطالب:

الشيخ: لا يُشترط أن يكون دَفْعةً واحدةً، لكن المهم أنه لا بد من إطعام ستين، المشترط هو العدد: أن يكون إطعام ستين مسكينًا، سواءٌ كان في وقتٍ واحدٍ، أو في أكثر من وقتٍ.

الطالب:

الشيخ: إذا لم يفعل ذلك حيلةً؛ تسقط.

الطالب:

الشيخ: نعم، أما إذا قصد أن يفعل ذلك؛ لأجل أنه ليس عنده شيءٌ؛ حتى تسقط عنه الكفارة، فيُعامَل بنقيض قصده، ولا تسقط عنه، أما إذا حصل هذا اتفاقًا من غير قصد فتسقط إذنْ.

الطالب:

الشيخ: نعم، هو يكفر به، اتقوا الله ما استطعتم، وقد اتقى الله ما استطاع، يعني: يتقي الله تعالى قدر استطاعته.

أحكام القضاء

ثم قال المصنف رحمه الله:

فصلٌ

ثم انتقل المؤلف للكلام عن أحكام القضاء، قال:

ومَن فاته رمضان؛ قضى عدد أيامه.

لقول الله تعالى: فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].

حكم المبادرة في قضاء الصوم

قال:

ويُسن القضاء على الفور، إلا إذا بقي من شعبان بقدر ما عليه؛ فيجب.

من كان عليه أيامٌ أفطرها من نهار رمضان؛ يُسن له القضاء على الفور، يعني: المبادرة إلى قضائها بعد يوم العيد مباشرةً؛ لأن هذا أسرعُ في إبراء الذمة، وأحوط للإنسان؛ فإن الإنسان لا يدري ما يَعرِض له، وله أن يؤخرها إلى آخر شهر شعبان، لكن إذا بقي من شعبان بقدر ما عليه؛ فيجب عليه القضاء؛ لقول عائشة رضي الله عنها: “كان يكون عليَّ الصيام من شهر رمضان، فما أقضيه حتى يجيء شعبان” [14]؛ وذلك لانشغالها بالنبي .

ويستحب أن يكون القضاء متتابعًا، قال الموفق بن قدامة رحمه الله: لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في استحباب التتابع في قضاء رمضان؛ لأنه أشبه بالأداء، وفيه خروجٌ من الخلاف، ولكنه لا يجب التتابع، الصحيح: أنه لا يجب التتابع، وإنما يستحب.

حكم التطوع لمن عليه قضاءٌ

قال:

ولا يصح ابتداءُ تطوعِ مَن عليه قضاء رمضان، فإن نوى صومًا واجبًا أو قضاءً ثم قلبه نفلًا؛ صح.

“لا يصح ابتداء تطوع من عليه قضاء”، يعني: ليس للإنسان أن يتطوع وعليه قضاء صومٍ واجبٍ، فإنْ فَعَل لم يصح تطوعه، هذا هو المذهب عند الحنابلة، واستدلوا بقول النبي : اقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء [15]؛ وبناءً على ذلك: ليس له أن يتطوع بصيام ستٍّ مِن شوالٍ وعليه قضاءٌ، فليس له أن يتطوع مثلًا بصيام يوم عرفة وعليه قضاءٌ، وهكذا ليس له أن يصوم الاثنين والخميس وعليه قضاءٌ، هذا هو المذهب عند الحنابلة.

والقول الثاني في المسألة: أنه يجوز التطوع بالصيام قبل القضاء ما لم يَضِق الوقت، وهذا هو قول الجمهور، وذهب إليه الحنفية والمالكية؛ واستدلوا بعموم قول الله تعالى: فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، فدلت الآية على أن القضاء على التراخي؛ وبناءً عليه: فيجوز التطوع قبل القضاء، ولقول عائشة رضي الله عنها، الذي سقناه قبل قليلٍ: “كان يكون عليَّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان؛ لمكان رسول الله ، وقياسًا على ما إذا تنفَّل قبل أن يصلي الفريضة مع سعة الوقت، فإن هذا جائزٌ بالإجماع؛ فكذلك أيضًا إذا تطوع بالصوم قبل القضاء، وهذا القول هو القول الراجح والله أعلم، وهو أنه يجوز التطوع بالصوم قبل القضاء، وإن كان الأولى بالمسلم أن يبادر بقضاء الصوم الواجب، لكن الصحيح: أنه لا يجب، الصحيح: أن ذلك لا يجب.

لكن هنا مسألةٌ تَرِد: وهي مسألة تقديم صيام الست من شوالٍ على قضاء رمضان؛ هذه مسألةٌ أخرى، فطبعًا على مذهب الحنابلة: أنه لا يصح، لكن على القول الثاني: الجمهور بعضهم يرى أنه وإن كان يصح تقديم التطوع على القضاء؛ إلا أنه لو قدَّم صيام الست على القضاء؛ فإنه لا يحصل على الثواب المذكور في الحديث: من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوالٍ؛ كان كصيام الدهر كله [16]، قالوا: لأن لفظ الحديث: من صام رمضان، ومن كان عليه قضاءٌ فإنه لا يَصدُق عليه أنه صام رمضان، وإنما صام بعضه، وهذا القول هو الأقرب والله أعلم، وقد اختاره شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله.

ولذلك: فمن أراد أن يَحصل على الثواب المذكور في الحديث؛ فعليه أن يبادر بالقضاء قبل صيام الست، لكن لو أنه صام الست قبل القضاء؛ فعلى القول الراجح: صيامه صحيحٌ، وإن كان عند الحنابلة لا يصح، لكن على القول الراجح: صحيحٌ، لكنه لا يحصل على الثواب؛ لكونه لم يصم رمضان، وإنما صام بعضه، هذا هو الأظهر في هذه المسألة: أنه يكون قد صام بعض رمضان.

وأكثر ما تَرِد هذه المسألة: عند النساء، فيكون عليها أيامٌ من رمضان أفطرتها؛ لأجل الحيض مثلًا، وترى أنها لو صامت الست من شوالٍ مع القضاء؛ لَشَقَّ عليها ذلك، فتريد أن تصوم الست، ثم القضاء تؤجله وتصومه فيما بعد.

فنقول: لا بد -حتى تحصل على الأجر والثواب- من أن تقدم القضاء أولًا، ثم بعد ذلك صيام الست ثانيًا.

طيب، قال: “فإن نوى صومًا واجبًا أو قضاءً، ثم قلبه نفلًا؛ صح”، يعني: لو أنه نوى صومًا واجبًا فقلبه نافلةً، أو قضاءً ثم قلبه نافلةً؛ فيصح ذلك، يصح تغيير النية ويصبح نفلًا.

لكن هل يجوز قطع الصيام الواجب إذا شَرَع فيه؟

نقول: إنه لا يجوز قطع الصيام الواجب إذا شرع فيه، وهذه المسألة سيأتي الكلام عنها في آخر الفصل، لكن المؤلف أشار لها هنا.

إذا قَطَعَ الصوم الواجب؛ فهذا لا يجوز، أما إذا قلبه نفلًا؛ جاز ذلك، وسنعود إلى هذه المسألة في آخر الفصل.

صوم التطوع

ثم قال المؤلف:

ويُسَن صوم التطوع.

انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن صيام التطوع: “يسن صوم التطوع”، والمراد بصوم التطوع: الصوم غير الواجب، والصوم سواءٌ كان واجبًا أو تطوعًا فهو من أفضل الأعمال الصالحة؛ ويدل لذلك ما جاء في “الصحيحين” عن أبي هريرة  أن النبي قال: قال الله ​​​​​​​: كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمئة ضعفٍ قال الله تعالى: إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به [17]، ووجه الدلالة: دلالة هذا الحديث على أن الصوم من أفضل الأعمال الصالحة.

من يبين لنا؟ نحن أشرنا لها فيما سبق، في أول درسٍ تكلمنا فيه عن الصيام.

الطالب:

الشيخ: إي نعم، أحسنت، يعني: أن الله خصَّ الصوم بالجزاء الخاص من عنده، بخلاف سائر الأعمال، فجزاؤها من باب: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمئة ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، لكن الصوم يَجزي الله عليه جزاءً خاصًّا، وكما يقال: العطية بقدر معطيها، ونعطي مثالًا لما سبق: لو أن أستاذًا قال للمتفوقين من طلابه: أنت لك جائزةٌ قَدْرها كذا، وأنت لك جائزةٌ كذا، وأنت لك جائزةٌ كذا، أما أنت -يا فلان- فلك جائزةٌ خاصةٌ عندي، فما الظن بهذه الجائزة؟ لا شك في أن المتبادر أنها أفضل من جوائز زملائه؛ هكذا الصوم، فالأعمال الصالحة: الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعافٍ كثيرةٍ، أما الصوم فيَجزي الله عليه جزاءً خاصًّا من عنده.

ولعل الحكمة في ذلك أنه:

أولًا: الصوم يظهر فيه أثر الإخلاص لله ؛ فإن الإنسان يكون في مكانٍ خالٍ لا يراه أحدٌ؛ فبإمكانه أن يفطر، ومع ذلك يترك ذلك لله .

ثم أيضًا الصوم يجتمع فيه أنواع الصبر الثلاثة:

  1. الصبر على طاعة الله.
  2. والصبر عن معصية الله.
  3. والصبر على أقدار الله.

فالصبر على طاعة الله تعالى في الصوم: فإن المسلم يصبر على فعل هذه الطاعة ويفعلها.

أما عن المعصية: فلأنه يجتنب ما يَحرُم على الصائم.

أما على أقدار الله: فما يتعرض له الصائم من ألمِ العطش والجوع، وكذلك الكسل والفتور، وضعف النفس، فهو يجمع بين أنواع الصبر الثلاثة؛ ولهذا قال الله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، ولمعانٍ أخرى أيضًا ربما غير ما ذكرناه في الصوم؛ فهذا يدل إذنْ على أن الصوم هو من أفضل الأعمال الصالحة.

الطالب:

الشيخ: لا، الحديث لا يصح؛ يعني: مَن أفطر متعمدًا لم يجزئه القضاء وإن صام الدهر كله، الحديث ضعيفٌ لا يصح؛ ولذلك يجب عليه أن يقضي.

الطالب: لا، لا، التطوع…

الشيخ: التطوع من باب أولى، إذا قلنا هذا من باب أولى.

أفضل التطوع في الصيام

قال:

وأفضله يومٌ ويومٌ.

يعني: يصوم يومًا ويُفطر يومًا، وهو صيام داود ، فقد كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وأوصى به النبي عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لمَّا بلغه أنه يصوم الدهر كله، يعني السنة كلها، قال عبدالله : أنكحني أبي امرأةً ذات حسبٍ، وكان أبوه عمرو بن العاص يتعاهدها؛ لأنه يعرف أن ابنه عنده قوةٌ في العبادة، فكان عمرو بن العاص يتعاهد زوجة ابنه فيسألها عن بعلها، فقالت: نِعم الرجل مِن رجلٍ! لم يطأ لنا فراشًا، ولم يُفتِّش لنا كنفًا منذ أتيناه، ففهم عمرو بن العاص  المقصود، وذكر ذلك للنبي ، فقال عليه الصلاة والسلام: ائتني به.

فأتاه عبدالله بن عمرٍو رضي الله عنهما، فقال عليه الصلاة والسلام: ألم أُخبَر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟، قال: فقلت: بلى، قال: فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لجسدك عليك حقًّا، ولعينك عليك حقًّا، ولزوجك عليك حقًّا، ولزَوْرِك -يعني ضيفك- عليك حقًّا، وإن بحسْبك أن تصوم من كلِّ شهرٍ ثلاثة أيامٍ؛ فإن لك بكلِّ حسنةٍ عشرَ أمثالها، فإن ذلك صيام الدهر كله -هكذا لفظ البخاري، يعني: صيام السنة كلها، لماذا؟ لأن ثلاثة أيامٍ: إذا ضُربت ثلاثةٌ في عشرة: بثلاثين، كأنك صمت السنة كلها- فقلت: يا رسول الله، إني أطيق أفضل من ذلك، قال: صم يومًا وأفطر يومين، فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: صم يومًا وأفطر يومًا، فقلت: يا رسول الله، إني أطيق أفضل من ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: لا أفضل من ذلك، يعني: وَصَلَ إلى أعلى درجةٍ، فاقتصر عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما على ذلك، ولمَّا كبرت سِنُّه وضعف؛ ندم وقال: يا ليتني أخذت برخصة رسول الله ! فكان يصوم الأيام يسردها صومًا، ثم يُفطر بعددها [18]، ووجد أنه لو أخذ برخصة النبي ؛ لكان ذلك خيرًا له.

وهذه القصة، الحقيقةَ فيها إشارةٌ إلى أنه ينبغي التوازن في حياة المسلم، فلا يُغلِّب جانبًا على جانبٍ، فكونه مثلًا ينشغل بالعبادة ويُهمل أهله، هذا نوعٌ من الخلل، وكذلك مثلًا كونه ينشغل بأمور الدعوة ويترك أهله ويهملهم، فهذا أيضًا نوعٌ من الخلل، أو أنه ينشغل بأهله عن أمور العبادة وعن أمور الدعوة، أيضًا هو نوعٌ من الخلل: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14].

فإذنْ، لا بد من التوازن في حياة المسلم؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: إن لنفسك أولًا عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، ولعينك عليك حقًّا، ولزَوْرك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حقٍّ حقه [19].

فهذا يدل على أنه ينبغي التوازن في حياة المسلم، فلا يُغلِّب جانبًا على جانبٍ؛ لأنه إذا غلَّب جانبًا على جانبٍ؛ فهنا يحصل الخلل، فهذا أصلٌ عظيمٌ في مسألة: أنه ينبغي الاعتدال والتوازن في حياة المسلم.

والشاهد من هذه القصة: أن النبي تدرَّج مع عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما إلى أعلى درجات صوم التطوع، وهو أن يصوم يومًا ويفطر يومًا؛ وهذا يدل على أنه لا يُشرَع صيام الدهر، وقد ورد النهي عنه؛ قال عليه الصلاة والسلام فيمن صام الدهر: لا صام ولا أفطر [20].

يعني: قد يتعجب الإنسان من أناسٍ يصومون الدهر! في هذا المسجد كان هنا أحد الناس يصوم الدهر كله، فأخبرته بأن هذا غير مشروعٍ، وقلت: بحَسْبك أن تصوم يومًا وأن تفطر يومًا، فيوجد بعض الناس عندهم قوةٌ في العبادة وجَلَدٌ، وأيضًا ربما أن الصوم لا يشق عليهم، لكن ينبغي أن يُنبَّهوا على أن أعلى درجات الصوم -صوم التطوع- هو صيام يومٍ وإفطار يومٍ، وأنه لا أفضل من ذلك؛ يعني هذه أعلى درجات الصوم، مع أنه ورد عن بعض الصحابة أنه يصوم الدهر كله، ومنهم عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما، لكن قيل في الجواب عن هذا: إنه لعله لم يبلغه النهي في هذا.

الطالب:

الشيخ: بعضهم ربما لم يبلغه النهي؛ مثل عبدالله بن الزبير وبعض الصحابة ، وبعض التابعين، ويقال أيضًا: إن هناك بعض الناس في الهند وغيره يصومون الدهر كله، ربما أن بعضهم لم يبلغه النهي في هذا.

الطالب:

الشيخ: آيات، كيف هذا؟

الطالب: أعياد…

الشيخ: أعياد، إي نعم، لا، صوم الدهر طبعًا من غير الأعياد، هذا هو محل النهي.

صوم أيامِ البِيض

قال:

وسُن صوم أيام البِيض، وهي: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة.

صيام أيام البيض قد حث عليه النبي ؛ كما جاء في حديث أبي ذرٍّ  أن النبي قال: إذا صمتَ من الشهر فصم: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة [21]، وهذا الحديث رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ، وفي سنده مقالٌ، لكن له طرقٌ متعددةٌ يشد بعضها بعضًا.

وقال الوزير بن هُبَيرة في “الإفصاح”: اتفقوا على أن صيام الأيام البيض التي جاء الحديث فيها: هي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر.

سميت أيام البيض؛ لابيضاض لياليها بضوء القمر، فالوصف إذنْ لليالي، والتقدير إذنْ: أيام الليالي البيض.

ويستثنى من ذلك، يعني من هذا التقدير الذي ذكرناه: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، شهرٌ من أشهر السنة، فما هو هذا الشهر؟ شهر ذي الحجة؛ فإن الثالث عشر هو من أيام التشريق ولا يجوز صومه؛ لذلك فالثالث عشر يكون الرابع عشر، والخامس عشر، والسادس عشر، وقد وردت عدة أسئلةٍ عن أناسٍ صاموا الثالث عشر؛ لأن من عادتهم صيام أيام البيض، فصاموا الثالث عشر من ذي الحجة، وهذا لا يجوز؛ لأنها من أيام التشريق.

فإذنْ عندما نقول: إنها هي الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر؛ نستثني من ذلك ونقول: إلا شهر ذي الحجة، فلا يصام الثالث عشر.

وقيل في الحكمة من مشروعية صيامها: أن دم الإنسان في منتصف الشهر يصبح أكثر فورانًا، وتَهِيج فيه فضلات البدن، والصوم يُذهِب فضلات البدن، ويُخفِّف من ضغط الدم؛ ولذلك فالقائمون على دُور الرعاية التي فيها بعض المرضى النفسيين، أو الذين عندهم أمراض أعصابٍ، يقولون: إنهم أكثر ما تكون حركتهم وهيجانهم في منتصف الشهر.

فهذا أمرٌ معروفٌ من طبيعة الإنسان، أكثر ما يفور دمه ويهيج: في منتصف الشهر؛ لأن له علاقةً بجاذبية القمر، فقيل: إن هذه هي الحكمة، وقد قرَّر ذلك ابن القيم رحمه الله، والله تعالى أعلم، لكن الثابت في الأحاديث الصحيحة في “الصحيحين” وغيرها: هو صيام ثلاثة أيامٍ من الشهر؛ لأن حديث أبي ذرٍّ  -كما ذكرتُ- في سنده مقالٌ، فالمطلوب هو صيام ثلاثة أيامٍ من الشهر؛ كما جاء في حديث أبي هريرة ، قال: أوصاني خليلي بثلاثٍ..”، وذكر منها: “صيام ثلاثة أيامٍ من كل شهرٍ” [22]، وأيضًا في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما السابق، وهو في “الصحيحين”، قال: صم من الشهر ثلاثة أيامٍ؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر كله، وأيضًا وصَّى النبي بذلك أبا ذرٍّ [23].

فنجد إذنْ: أن النبي عليه الصلاة والسلام وصَّى بها عددًا من الصحابة ، وهي وصيةٌ للأمة جميعًا، لكن الأفضل أن يكون محلها هو أيام البيض، أيام الليالي البيض، فإن لم يتيسر؛ ففي أي وقتٍ من الشهر، سواءٌ في أوله أو وسطه أو آخره؛ لأن الأحاديث الصحيحة خصَّت ذلك بثلاثة أيامٍ، وحديث أبي ذرٍّ الذي عيَّنه في أيام البيض -كما ذكرنا- فيه مقالٌ؛ فإن تيسر أن يجعلها أيام البيض؛ كان ذلك حسنًا، وإلا ففي أي وقتٍ من الشهر.

صوم الخميس والاثنين

قال:

وصوم الخميس والاثنين.

لحديث أسامة بن زيدٍ رضي الله عنهما، قال: كان النبي يصوم يومي الاثنين والخميس، فسئل عن ذلك فقال: إنهما يومان تُعرَض فيهما الأعمال على رب العالمين، وأُحب أن يعرض عملي وأنا صائمٌ [24]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد، وقال الترمذي: إنه حديثٌ حسنٌ، وفي سنده مقالٌ، الحديث في سنده مقالٌ، وبعض أهل العلم يُضعِّفه، ولكن له طرقٌ متعددةٌ، لعله بمجموع الطرق يرتقي إلى درجة الحَسَن لغيره.

وصيام الاثنين آكَد من صيام الخميس؛ لما جاء في “صحيح مسلمٍ” عن أبي قتادة : أن رسول الله سئل عن صيام يوم الاثنين؟ فقال: ذلك يومٌ وُلدتُ فيه، وبعثت فيه أو أنزل عليَّ فيه [25]، وهذا في “صحيح مسلمٍ”.

فالحديث الوارد في صيام الاثنين صحيحٌ لا إشكال فيه، لكن الإشكال في صيام الخميس، لكن قد نقول: لعل حديث أسامة بمجموع الطرق يرتقي لدرجة الحَسَن لغيره، لكن لو أن شخصًا يقول: لا أستطيع أن أصوم الاثنين والخميس، فأيهما أفضل؟ نقول: الأفضل صيام الاثنين.

صوم ستةٍ من شوالٍ

قال:

وستةٍ من شوالٍ.

وذلك لحديث أبي أيوب الأنصاري  أن النبي قال: من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوالٍ؛ كان كصيام الدهر كله [26]، رواه مسلمٌ، ومعنى: كصيام الدهر كله، يعني: كصيام السنة كلها.

فمن يبين لنا وجه كون صيام الست يعادل صيام السنة؟

الطالب:

الشيخ: الحسنة بعشر أمثالها، فصيام رمضان أولًا عن كم شهرٍ؟ عن عشرة أشهرٍ، وصيام الست عن شهرين، عن ستين يومًا؛ ستةٌ اضربها في عشرةٍ: بستين؛ يعني عن شهرين، فإذا أضفت شهرين لعشرة أشهرٍ؛ أصبح يعادل السنة كلها، فالمقصود كصيام الدهر: كصيام السنة كلها.

لكن يشترط للحصول على الفضل الوارد في صيام الست: تبييت النية من الليل؛ وذلك شرطٌ لحصول الثواب، وليس شرطًا لصحة الصيام، فصيام النافلة لا يُشترط له تبييتُ النية، لكن صوم النفل المعين يشترط للحصول على الفضل والثواب الوارد فيه تبييتُ النية، وهذه مسألةٌ أشرنا لها في درسٍ سابقٍ.

وهنا مسألةٌ، لا بأس أن نستطرد ونذكر بعض المسائل المهمة، هنا مسألةٌ متعلقةٌ بصيام الست، وهي: من لم يتمكن من صيام الست من شوالٍ لعذرٍ؛ كمرضٍ، إنسانٌ مرض في شوالٍ، وما استطاع أن يصوم الست، أو امرأةٌ نَفِست في رمضان، ويستوعب القضاء شهر شوالٍ كله، فهل تقضي الست من شوالٍ بعد شهر شوالٍ؟ يعني هل تقضي الست في شهر ذي القعدة، أم لا؟ ما رأيكم؟

إنسانٌ حصل له عذرٌ في شهر شوالٍ، فما استطاع أن يصوم الست، كما ذكرنا في الأمثلة: إنسانٌ مريضٌ أو مسافرٌ، أو امرأةٌ نَفِست في رمضان، واستوعب القضاء شوالًا كله، فهل يُشرَع قضاء الست في شهر ذي القعدة؟

الطالب

الشيخ: يعني سُنَّةٌ فات محلها، ويُرجى كتابة الأجر، هذا قولٌ لبعض أهل العلم.

إذنْ هذه مسألةٌ اختلف فيها العلماء على قولين:

  • القول الأول: أنها لا تُقضَى؛ لأنها سنةٌ فات محلها، وهو إذا كان من عادته صيامها؛ كُتب له الأجر كاملًا؛ لقول النبي : إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب الله له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا [27].
  • القول الثاني في المسألة: يُشرع قضاؤها، فتُقضى الست من شوالٍ في شهر ذي القعدة؛ كالفرض إذا أخَّره عن وقته لعذرٍ، وكالسُّنَّة الراتبة إذا أخرها عن وقتها لعذرٍ، فإنه يقضيها متى ما زال العذر، وهذا القول هو الراجح والله أعلم، واختاره الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله، وهناك دليلٌ يمكن أن يُستدل به أيضًا لهذا القول، وهو في “الصحيحين”: أن رجلًا أتى النبي  فقال له: هل صمت من سَرَر شعبان شيئًا؟، قال: لا، قال: فإذا أفطرتَ فصم [28]، والمقصود بسَرَر شعبان: يعني آخر شعبان على الصحيح، والبخاري بوَّب على هذا فقال: “باب صوم آخر الشهر”، ثم ساق بسنده هذا الحديث.

يعني: هذا الرجل كان من عادته أنه يصوم آخر الشهر، آخر ثلاثة أيامٍ من الشهر، فلم يصمها؛ لِمَا رأى مِن نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن الصيام قبل رمضان، فالنبي عليه الصلاة والسلام بيَّن أن من كان لا يصومها بقصد الاحتياط لرمضان؛ فلا يمنعه ذلك من الصيام، فلما كان هذا قد اعتاد على هذا العمل الصالح؛ أرشده النبي عليه الصلاة والسلام إلى قضاء هذه السنة بعد رمضان، فهذا مما استدل به بعض أهل العلم على مشروعية قضاء الست في شهر ذي القعدة.

الاستدلال واضحٌ؟

الطالب:

الشيخ: في أي شيءٍ؟

الطالب:

الشيخ: أنا ما أدري، هل هو رأي شيخ الإسلام؟ ما قلت هو رأي شيخ الإسلام، نعم، رأي ابن سعدي، ابن سعدي ذكره في “الفتاوى السعدية”.

على كل حالٍ: هو قولٌ لبعض أهل العلم، ويستدلون بهذا الحديث -وهو استدلالٌ قويٌّ- على أن تفسير السَّرَر من شعبان.

هناك كلامٌ كثيرٌ لأهل العلم، لكن الأقرب كما رجحه البخاريُّ: أنه آخر الشهر.

الطالب:

الشيخ: نعم، هو الست من شوالٍ، لكنها سُنةٌ فاتت وعجز عن الإتيان بها في محلها، كما لو فاتتك سنة الفجر، فهي سنة فجرٍ، وخاصةً في وقت الفجر، ومع ذلك يُشرَع قضاؤها، كما أرشد النبي عليه الصلاة والسلام هذا الذي فاته سُنة صيام سَرَر شعبان بأن يقضيها في غير شعبان [29]، فهي سُنةٌ فات محلها، فيُشرع قضاؤها، هذا هو القول الراجح والله أعلم، هذا هو الأقرب في هذه المسألة.

صوم شهر المحرم

ثم قال المؤلف رحمه الله:

وسُن صوم المحرم.

يعني: شهر الله المحرم؛ وذلك لحديث أبي هريرة  أن النبي قال: أفضل الصيام بعد رمضان: شهر الله المحرم [30]، وهذا الحديث رواه مسلمٌ.

فيستحب إذنْ الإكثار من الصيام في شهر المحرَّمٍ، ونحن الآن في هذا الشهر الكريم، وإضافة الشهر إلى لفظ الجلالة (الله) يقتضي تشريف هذا الشهر.

قال:

وآكده عاشوراء.

وعاشوراء: هو اليوم العاشر من شهر المحرم.

وهو كفارة سنةٍ.

وذلك لحديث أبي قتادة  أن النبي قال: صيام عاشوراء، أحتسب على الله أن يُكفِّر السنة التي قبله [31]، ويدل لفضله أيضًا حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: “ما رأيت النبي يتحرى صوم يومٍ فضَّله على غيره إلا هذا اليوم، يوم عاشوراء” [32].

وقد كان صيام عاشوراء واجبًا في أول الأمر، ثم نُسخ بفَرْضِيَّة صيام شهر رمضان، وكما جاء في “صحيح البخاري” عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان يوم عاشوراء تصومه قريشٌ في الجاهلية، وكان رسول الله يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة؛ صامه وأمر بصيامه، فلما فُرض رمضان؛ ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه” [33].

صوم عشر ذي الحجة

قال:

وصوم عشر ذي الحجة.

ومراد المؤلف: تسع ذي الحجة، لكن هذا من باب التجوز في العبارة، وإلا فإن اليوم العاشر لا يصام؛ لأنه يوم عيد الأضحى، فمقصود المؤلف إذنْ: التسعة الأيام من ذي الحجة؛ وذلك لدخولها في العمل الصالح، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ما من أيامٍ العمل فيهن أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيءٍ [34]، أخرجه البخاري في “صحيحه”.

وآكده يوم عرفة.

لكن جاء في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: “ما رأيت النبي يصوم عشر ذي الحجة” [35]، وهذا في “صحيح مسلمٍ”.

لكن ذكرنا قاعدةً: وهي أن النبي قد يَحُث على الشيء ولا يفعله؛ لمصالح أرجح، ومثَّلنا لذلك بصيام يومٍ وإفطار يومٍ؛ فكون النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يصوم تسع ذي الحجة، لا ينفي ذلك مشروعية صيامها.

“وآكده يوم عرفة”.

وهو كفارة سنتين.

لحديث أبي قتادة ، وفيه: أن النبي قال: صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده [36].

لكنَّ هذا لغير الحاج، أما الحاج: فقد نهى النبي عن الصيام لمن كان بعرفة أن يصوم عرفة [37].

ما يكره صومه

قال:

وكُره إفراد رجبٍ.

وذلك لما فيه من التشبه بالجاهلية؛ لأن هذا من شعار الجاهلية، فهم الذين يُعظِّمون شهر رجبٍ، ولم يرد في السُّنة ما يدل على تعظيمه.

ولهذا فكل ما يُروى في فضل صيام رجبٍ، أو الصلاة فيه، كذبٌ باتفاق أهل العلم بالحديث، وقد صنف الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله رسالةً سمَّاها “تبيين العَجَب لما ورد في فضل صيام رجب”، وتكلم عن الأحاديث المروية في فضل صيام رجبٍ، وخَلَص إلى أنه لا يثبت فيها شيءٌ.

حكم إفراد الجمعة بالصوم

قال:

والجمعة.

يعني: يُكره إفراد الجمعة بالصوم، وظاهر كلام المؤلف: أن هذا مكروهٌ وليس محرمًا، والأصل في هذا هو حديث أبي هريرة  أن النبي قال: لا تَخُصُّوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، ولا ليلتها بقيامٍ من بين الليالي [38]، متفقٌ عليه، فهذا الحديثُ ورد فيه النهي عن تخصيص الجمعة بالصيام، وتخصيص ليلتها بالقيام، فهل هذا الحكم هو على ظاهره للتحريم، أو أنه للكراهة؟

المؤلف، وهو قول الجمهور، يرون أنه للكراهة، ولكن الأصل في النهي: أنه يقتضي التحريم، وقد ورد في معنى هذا الحديث أحاديث أخرى؛ ومنها: حديث جويرية بنت الحارث رضي الله عنها أن النبي دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمةٌ فقال لها: أَصُمتِ أمس؟، قالت: لا، قال: أتريدين أن تصومي غدًا؟، قالت: لا، قال: فأفطري [39]، فأمرها بالفطر؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: إنه يحرم إفراد يوم الجمعة بالصوم، وقد نقل ابن المنذر وابن حزمٍ منع صومه عن عدد من الصحابة : عن عليٍّ وأبي هريرة وسلمان وأبي ذرٍّ ، قال ابن حزمٍ: لا نعلم لهم مخالفًا من الصحابة.

وهذا هو القول الراجح: أن إفراد يوم الجمعة بالصوم محرمٌ.

الحكمة من النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصوم

واختُلف في الحكمة من النهي عن إفراد يوم الجمعة؛ قيل: إنه يوم عيدٍ، والعيد لا يصام، وقد رجح هذا ابن القيم رحمه الله، وقال الحافظ ابن حجرٍ بعد أن ذكر أقوالًا في المسألة، قال: وأقوى هذه الأقوال وأولاها بالصواب: أن يوم الجمعة يوم عيدٍ، والعيد لا يصام، وقد ورد فيه صريحًا حديثان:

  1. حديث أبي هريرة  أن النبي قال: يوم الجمعة يوم عيدٍ، فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلا أن تصوموا قبله وبعده [40].
  2. والثاني: حديث عليٍّ : من كان منكم متطوعًا؛ فليصم يوم الخميس، ولا يصم يوم الجمعة؛ فإنه يوم طعامٍ وشرابٍ وذكرٍ [41].

إذنْ الراجح أو الأظهر: أن الحكمة: أن يوم الجمعة يوم عيدٍ، عيدٌ لأي شيءٍ؟ للأسبوع، هو عيد الأسبوع، لكن أورد ابن القيم إشكالًا على هذا القول: وهو أن يوم العيد لا يصام مع يومٍ قبله أو يومٍ بعده، بينما يوم الجمعة يجوز صومه مع يومٍ قبله ويومٍ بعده؟

ثم أجاب ابن القيم عن هذا الإشكال، قال: لمَّا كان يوم الجمعة مشبَّهًا بالعيد؛ أَخذ من شُبهة النهي عن تحري صيامه؛ فإذا صام قبله أو بعده؛ لم يكن قد تحراه، وكان حكمه حكم صوم الشهر أو العشر منه، أو صوم يومٍ وإفطار يومٍ إذا وافق يوم الجمعة، والممنوع: هو تخصيص يوم الجمعة وإفراده بالصوم، أما إذا لم يقصد تخصيصه؛ فإنه لا يدخل في النهي.

ولهذا: فمن كان من عادته أن يصوم يومًا ويفطر يومًا، نفترض مثلًا أنه صام الأربعاء وأفطر الخميس، أو صام الجمعة وأفطر السبت، فيكون قد صام يوم الجمعة ولم يصم قبله يومًا ولا بعده يومًا، فهل هذا يدخل في النهي؟ لا يدخل في النهي، لماذا؟ لأنه لم يقصد تخصيص الجمعة بالصوم؛ ولهذا سئل الإمام أحمد عن رجلٍ كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، فوقع فِطْرُه يوم الخميس، ووقع صومه يوم الجمعة وفطره يوم السبت، فصام الجمعة مُفرَدًا؟ يعني سئل الإمام أحمد عن هذه المسألة، فقال: هذا لم يتعمد صومه خاصةً، إنما كُره أن يَتعمد الجمعة؛ ولهذا في حديث أبي هريرة : لا تخصوا يوم الجمعة.. [42]، فالنهي عن التخصيص.

وبناءً على هذا: لو أن رجلًا موظفًا، ولا يتيسر له أن يصوم إلا يوم الجمعة؛ باعتباره يوم إجازةٍ، ومن عادته مثلًا أن يصوم ثلاثة أيامٍ من الشهر، وكل يوم جمعةٍ يصوم، فهل هذا يدخل في النهي، أو مثلًا أيام الست مثلًا: جَعَل يصوم الجمعة، الخميس والجمعة، إذا صام الخميس والجمعة ليس هناك إشكالٌ، لكن لو أيضًا ما تيسَّر له؛ يعني: بعض مَن يعملون في القطاع الخاص يعملون مثلًا الخميس، وما يتيسر له إلا يوم الجمعة، فقال: أنا أصوم يوم الجمعة ليس بقصد التعظيم له؛ وإنما لكونه يوم إجازتي، ويصوم يوم الجمعة ولا يصوم قبله يومًا ولا بعده يومًا، فهل هذا يسوغ؟ هل يجوز مثل هذا، أو نقول: إنك أفردت الجمعة بالصوم؟

الطالب:

الشيخ: يجوز، الظاهر أنه يجوز، ظاهر الأدلة أنه يجوز؛ لأنه لم يقصد تخصيص الجمعة لكونه يوم جمعةٍ، وقد أفتى بهذا سماحة شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله، سئل عن هذه المسألة: عن رجلٍ لا يتيسر له أن يصوم إلا الجمعة؛ لكونه يوم إجازةٍ؟ فقال: إنه يجوز في هذه الحال؛ لأنه لم يقصد تخصيصه بهذا.

حكم إفراد السبت بالصوم

قال:

والسبت.

يعني: إفراد السبت.

بالصوم.

إفراد السبت بالصوم يُكره، معنى كلام المؤلف: أنه يُكره إفراد يوم السبت بالصوم، وقد ورد فيه حديث الصَّمَّاء بنت بُسْرٍ رضي الله عنها أن النبي قال: لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افتُرض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبٍ أو عود شجرةٍ؛ فليمضغه [43]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد.

وهذا الحديث، بعض العلماء أخذ بظاهره، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله كان يُضعِّف هذا الحديث، ثم تراجع عن تضعيفه فصححه وأخذ بظاهره، فيرى أنه لا يجوز صيام السبت إلا في الفرض؛ ولذلك هو وطلابه ينهون عن صيام السبت إذا وافق عاشوراء، أو وافق عرفة، أو وافق أي يومٍ؛ أخذًا بظاهر هذا الحديث، لكن هذا الحديث: الصحيح أنه لا يصح؛ ولهذا قال الإمام مالكٌ: هو كذبٌ، وقال أبو داود: هو منسوخٌ، وقال النسائي: هو حديثٌ مضطربٌ، وكذا قال الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله.

فهذا الحديث عند أئمة هذا الشأن غير محفوظٍ، ثم هو مُعارَضٌ بما هو أصح منه، وهو ما جاء في “الصحيحين” عن أبي هريرة  أن النبي قال: لا تصوموا يوم الجمعة، إلا أن تصوموا قبله يومًا أو بعده يومًا [44]، ما هو اليوم الذي بعد الجمعة؟ السبت.

وأيضًا الحديث الذي سقناه: حديث جويرية رضي الله عنها لمَّا دخل النبي عليه الصلاة والسلام عليها وهي صائمةٌ الجمعة، قال: أَصُمْتِ أمس؟، قالت: لا، قال: أتصومين غدًا؟، ما هو غدًا؟ السبت، قالت: لا، قال: فأفطري [45].

فهذه أحاديث في “الصحيحين”، كيف تُترَك هذه الأحاديث في “الصحيحين”، والدالة على جواز صيام السبت، ويؤخذ بحديثٍ أكثرُ أئمة الحديث على عدم ثبوته، وعلى تضعيفه؟! بل جاء عند النسائي وابن خزيمة عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله كان أكثر ما يصوم من الأيام: يوم السبت، ويوم الأحد، ويقول: إنهما يوما عيدٍ للمشركين، وأنا أحبُّ أن أخالفهم [46].

المؤلف يقول: يُكره إفراد السبت، لكن هل الحديث يدل على..، يعني: لو أخذنا بظاهره، هل فيه إشارةٌ للإفراد؟ ليس فيه إشارةٌ، قال : لا تصوموا يوم السبت، إلا فيما افترض عليكم [47]، فإما أن نأخذ بظاهره كما أخذ به الشيخ الألباني، أو نقول: إن هذا الحديث غير محفوظٍ، فيُشرع صيامه كغيره من الأيام.

ولهذا، ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على كراهة إفراد السبت بالصوم؛ ولهذا نقول: الصواب أنه لا بأس بصيام يوم السبت، ولا بأس بإفراده؛ إذ إنه لم يثبت ما يدل على المنع من ذلك؛ ولهذا قال ابن القيم: “لا ريب أن الحديث لم يجئ بإفراده”؛ وبذلك يكون يوم السبت كغيره من الأيام؛ كيوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وإن كان ربما يكون التشبيه له بالأحد والثلاثاء والأربعاء؛ لأن الاثنين والخميس صيامهما مستحبٌّ.

فنقول: السبت هو كالأحد والثلاثاء والأربعاء؛ يعني يباح صومه، ويباح إفراده، ولم يثبت في النهي عن صومه أو إفراده حديثٌ.

حكم صوم يوم الشك

قال:

وكره صوم يوم الشك، وهو الثلاثون من شعبان، إذا لم يكن غيمٌ أو قَتَرٌ.

وهذه المسألة سبق أن تكلمنا عنها بالتفصيل في أول كتاب الصيام، وحررنا المذهب عند الحنابلة، وبينا القول الصحيح في المراد بيوم الشك، والقول الصحيح في حكم صيام يوم الشك، فلا نعيد ما قلناه.

الأيام التي يحرم صومها

قال:

ويحرم صوم.

يومي

العيدين وأيام التشريق.

ويدل لتحريم صيام يومي العيدين حديث أبي سعيدٍ قال: “نهى رسول الله عن صيام يومين: يوم الفطر، ويوم النحر” [48]، متفقٌ عليه، وقد أجمع العلماء على ذلك.

والحكمة من ذلك: أن عيد الفطر هو يوم الفطر من رمضان، ولا يتميز تحديد رمضان إلا بفطر يوم العيد.

ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يأكل تمراتٍ صبيحة عيد الفطر قبل أن يذهب إلى المصلى، ويقطعها وترًا [49]؛ تحقيقًا للفطر في هذا اليوم.

أما عيد الأضحى؛ فلأنه يوم النحر، ولو صام الناس فيه؛ لعَدَلوا عما يحبه الله تعالى مما أَمَر به في قوله سبحانه: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28]، وكيف يأكل منها من كان صائمًا؟!

قال: “وأيام التشريق”؛ لقول عائشة وابن عمر : “لم يُرخَّص في أيام التشريق أن يُصَمْنَ، إلا لمن لم يجد الهدي” [50]، وهذا في “صحيح البخاري”؛ ولحديث نُبَيْشة الهُذَلي  أن النبي قال: أيام التشريق أيام أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله [51]؛ فهذا دليلٌ على أن هذه الأيام لا تصلح أن تكون أيامَ إمساكٍ، وإنما هي أيامُ أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله .

لكن يستثنى مِن ذلك مَن؟ يستثنى من ذلك شخصٌ واحدٌ، يجوز له أن يصوم أيام التشريق، فمن هو؟ المتمتع والقارن إذا لم يجدا الهدي.

إذنْ نقول: يستثنى من ذلك: الصيام في حق المتمتع والقارن إذا لم يجدا الهدي، فيجوز لهما صيام أيام التشريق؛ للحديث السابق: “لم يرخَّص في أيام التشريق أن يُصمن، إلا لمن لم يجد الهدي”.

حكم إتمام صيام التطوع

قال:

ومن دخل في تطوعٍ؛ لم يجب إتمامه.

المتطوع -كما يقول الفقهاء- هو أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر؛ فلا يلزمه إتمامه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسول الله فقلت له: أُهْدِيَ إلينا حَيْسٌ -والحيس: هو التمر مع السمن والأَقِط- فقال : أَرِينِيهِ؛ فلقد أصبحت صائمًا، وأكل [52].

ولكن الأفضل ألا يقطع صومه إلا لغرضٍ صحيحٍ؛ مثل: أن يُدعَى لوليمةٍ مثلًا وهو صائمٌ فيجيب الدعوة، ويرى أن في فِطْره جبرًا لقلب أخيه المسلم، وإدخالًا للسرور عليه، أو يكون مثلًا في زيارةٍ لوالديه، ويرى أن إفطاره فيه برٌّ بهما، وجَبْرٌ لخواطرهما، فيعتبر هذا غرضًا صحيحًا.

وغير الصيام: جميع النوافل لا تَلْزم بالشروع فيها، ويجوز قطعها، ولا يجب قضاؤها، إلا نافلةً واحدةً تَلْزم بالشروع فيها، فما هي؟

الحج والعمرة؛ إذنْ إلا الحج والعمرة، فإنهما يخالفان سائر العبادات بوجوب إتمامهما بعد الشروع فيهما.

قال:

وفي فرضٍ يجب، ما لم يَقْلِبه نفلًا.

يعني: إذا ابتدأ صيام فرضٍ؛ فيجب إتمامه؛ وعلى ذلك: إذا ابتدأ صيام القضاء؛ فليس له أن يقطعه، يجب عليه أن يتمه، ولا يجوز الخروج منه، قال الموفق بن قدامة: “لا نعلم في هذا خلافًا”؛ وذلك لأنه قد تعيَّن بدخوله فيه؛ فصار كالمتعيِّن، والخروج من عهدة الواجب في هذه الحال لا يجوز، وإنما دخلت التوسعة في وقته؛ رفقًا بالمكلف؛ ولهذا نجد أن عامة أهل العلم يرون أنه لا يجوز قطع الصوم الواجب بالشروع فيه، بخلاف النافلة، فالمتطوع أمير نفسه، إن شاء أتم، وإن شاء أفطر.

هذه أبرز الأحكام المتعلقة بالصيام.

كان بودنا أن نأخذ هذا الدرس: “مسائل الاعتكاف”، لكن يبدو أن الوقت لا يسعفنا.

في الدرس القادم -إن شاء الله- سنأخذ “الاعتكاف”، ونأخذ أيضًا معه ما تيسَّر من “كتاب الجهاد”.

والدرس القادم سيكون -إن شاء الله- هو الدرس الأخير.

بعض الإخوة اقترح أن يكون هذا الدرس هو الدرس الأخير، لكن نحن ملتزمون بخطةٍ، وربما أن هذا يؤثر على سيرنا؛ ولهذا لعل الإخوة يحتسبون، ومن كان عنده مذاكرةٌ؛ يرتب وقته، وينظم وقته، وربما أيضًا الدرس القادم نؤجل “صحيح البخاري” ونكتفي بفقه “دليل الطالب”؛ مراعاةً للإخوة الطلاب.

لكن سوف نكمل -إن شاء الله- كتاب الاعتكاف، ونأخذ ما تيسر من الجهاد.

وبالمناسبة: هناك بحثٌ منشورٌ في “مجلة البحوث الفقهية المعاصرة”، كتبتُه عن حكم خروج المعتكف من المسجد والاشتراط فيه، وسوف نذكر خلاصته -إن شاء الله- في الدرس القادم، المنشور في العدد الأخير أو قبل الأخير، العدد قبل الأخير “مجلة البحوث الفقهية المعاصرة”.

الطالب:

الشيخ: نعم، إذا قلب الصوم نفلًا؛ ثبت له حكم النفل، لكن الممنوع هو أن يقطعه بدون أن يقلبه إلى نفلٍ.

الطالب:

الشيخ: أظنه في الموقع، ما أدري.

الأخ فهد، البحث موجودٌ في الموقع؟ بحث “خروج المعتكف”، هل هو في الموقع؟

الأخ فهدٌ يقول: إن البحث موجودٌ في الموقع، فمن أحب أن يراجع البحث قبل الدرس؛ يكون طيبًا.

أيضًا، فيه نتائج سنتكلم عنها؛ يعني: خروج المعتكف، وخروجه مثلًا لدورة المياه: هل يجوز أو لا يجوز؟ وأيضًا الاشتراط أصلًا هل له أصلٌ أو ليس له أصلٌ؟ الاشتراط في الاعتكاف، وما دليله؟ هذه أنا كتبت البحث لأجل هذه المسائل؛ لأجل أن نبرز الكلام فيها، والكلام فيها مشهورٌ عن الاشتراط، وحكم الاشتراط؛ فأردت أن أسلط الضوء على هذه المسائل، وإن شاء الله تعالى نتكلم عنها بالتفصيل في الدرس القادم.

الأسئلة

السؤال:…؟

الجواب: لا، هذا لا يجوز، هذا من القول على الله بغير علمٍ، إذا قلنا: إن الصُّحف ستطوى، وتكون هناك صفحةٌ جديدةٌ، هذا غير صحيحٍ، لماذا؟ لأن السَّنَة أصلًا في عهد النبي عليه الصلاة والسلام لم تكن أصلًا تبدأ بمُحرَّمٍ، وإنما الذي وضعها هو عمر والصحابة ، هم الذين رأوا أن الحج هو آخر أركان الإسلام، فوضعوا شهر ذي الحجة هو الأخير، ومحرمًا هو الأول، وإلا فالأدلة تدل على أن الصحف التي بأيدي الملائكة إنما تطوى في ليلة القدر، فِيهَا ‌يُفۡرَقُ ‌كُلُّ أَمۡرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4]، فينزل من أوامر الله المحكمة المتقنة التي لا خلل فيها في ليلة القدر للسَّنَة كلها إلى ليلة القدر من السنة التي بعدها، فهذا هو الذي ورد، أما الانتقال من ذي الحجة إلى المحرمٍ: فهذا لا يترتب عليه أي حكمٍ شرعيٍّ؛ ولذلك فتخصيصه بعبادةٍ من البدع، تخصيص هذا بعبادةٍ يعتبر من البدع، يقول: اختِمْ عامَك بصيامٍ، تخصيص هذا بالصوم أيضًا من البدعة، من البدعة الإضافية.

فإذنْ المسألة مسألة اتباعٍ وليس مسألة ابتداعٍ.

يا إخواني، البدع في الأساس مبناها على الاستحسان؛ تجد المبتدعة عندما يبتدعون استحسنوا هذا الأمر، فالاستحسان ليس مبررًا، وليس مُعوِّلًا الحقيقةَ، وإنما المُعوَّل عليه هو الدليل.

السؤال:…؟

الجواب: يعني أما الدخول: فصيام الاثنين والخميس سُنةٌ مستقلةٌ عن صيام ثلاثة أيامٍ من الشهر، لكن لو أراد أن يصوم ثلاثة أيامٍ من الشهر، فجعلها مثلًا الاثنين ثم الاثنين ثم الاثنين؛ فلا بأس، أو جعلها الاثنين والخميس والاثنين فالأمر في هذا واسعٌ، فكل هذا تطوعٌ، لكن الذي يظهر: أن هذه سُنةٌ مستقلةٌ عن تلك، وأما التتابع فليس شرطًا، ليس شرطًا في صيام ثلاثة أيامٍ من الشهر، يعني: إذا لم يتيسر للإنسان أن يصومها متتابعًا؛ فلا بأس أن يُفرِّقها؛ لأنها وردت: “ثلاثة أيامٍ من كلِّ شهرٍ”، ولم يرد التتابع إلا في حديث أبي ذرٍّ في صيام الأيام البيض فقط.

السؤال:…؟

الجواب: هذه رخصةٌ، بشرط: ألا يكون ذلك حيلةً على قطع التتابع، فإن كان ذلك حيلةً على قطع التتابع؛ لم يجز، فهذه حيلةٌ غير مشروعةٍ.

لكن ما رأيكم لو أنه لمَّا أراد أن يصوم شهرين متتابعين؛ ابتدأ مثلًا من منتصف شهر ذي القعدة؛ لأجل أن يستريح يوم العيد وأيام التشريق، تكون فترة راحةٍ بالنسبة له، فهل هذه حيلةٌ مشروعةٌ أو غير مشروعةٍ؟

الطالب: مشروعةٌ.

الشيخ: الذي يظهر أنها مشروعةٌ، أن هذه من الحيل المشروعة، لكن لو سافر لأجل أن يفطر؛ فهذه حيلةٌ غير مشروعةٍ.

السؤال:…؟

الجواب: نعم، يُخاطَب على قدر عقله: “خاطبوا الناس بما يعرفونه؛ أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله”، والصغار لهم تعاملٌ يختلف عن التعامل مع الكبار.

الطالب: أحسن الله إليكم، لو جامع أكثر من مرةٍ في شهر رمضان، فهل عليه أكثر من كفارةٍ؟

الجواب: نعم، هذه مسألةٌ.. الحقيقةَ هناك مسائل لم نذكرها؛ لأن المؤلف لم يذكرها، وهذه المسألة ذكرها صاحب “الزاد”، وهي: إذا كرر الجماع، إذا تكرر منه الجماع، فإن كان ذلك في يومٍ ولم يُكفِّر؛ فتكفيه كفارةٌ واحدةٌ، وإن كان في يومٍ وكفَّر ثم جامع؛ فعليه عن كلِّ جماعٍ كفارةٌ، لكن الإشكال إذا جامع في يومين ولم يُكفِّر، فهل عليه كفارةٌ واحدةٌ أو كفارتان؟ هذه الجمهور يرون أن عليه كفارتين، وهذا هو المذهب عند الحنابلة: أن عليه كفارتين؛ يقولون: لأن كل يومٍ مستقلٌّ؛ فكان كما لو أكل أو شرب مثلًا في يومٍ، ثم أكل أو شرب في اليوم الثاني، فلا ارتباط بين هذا اليوم وهذا اليوم، فيقضي هذا اليوم ويقضي هذا اليوم، وهكذا أيضًا إذا جامع.

والحنفية يرون أن عليه كفارةً واحدةً؛ يقولون: لأن الكفارات تتداخل، فإنه لو حلف ثم حلف؛ فعليه كفارةٌ واحدةٌ، ولو زنى ثم زنى؛ فعليه حدٌّ واحدٌ.

والمسألة الخلاف فيها قويٌّ، والشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله قال: إن القول الثاني وجيهٌ، لكن ينبغي ألا يُفتَى به؛ لأنه ربما يُجرِّئ الناس، وينبغي إذا أُفتِيَ به: أن يُفتَى به سرًّا؛ لأن هناك فرقًا بين الفتوى الخاصة والفتوى العامة.

فأكثر أهل العلم على القول الأول: أن عليه الكفارات بعدد الأيام، والحنفية على الرأي الثاني، فيمكن أن يُراعَى حال المستفتِي؛ إذا كان ممن يتجرَّأ على حرمات الله، ووقع في هذا الأمر أكثر من مرةٍ، وعنده شيءٌ من التساهل؛ فيُفتَى بقول الجمهور، إذا كان وَقَع عن جهلٍ، أو عن شيءٍ، أو أنه ربما مظنة الغفلة، أو نحو ذلك؛ فيمكن أن يُفتَى بالقول الثاني.

فالمسألة ربما تختلف بحسب حال المستفتِي.

السؤال:…؟

الجواب: كلمة “الاختلاط” كلمةٌ عامةٌ، فالاختلاط في مقاعد الدراسة لا يجوز، هذا مظنة الفتنة، بل هو من الأمور المعلومة بالضرورة، هذا لا شك في تحريمه، ولا شك في أنه لا يجوز، لكن مثلًا الاختلاط في الأسواق، أو في المسجد الحرام، هو الذي يدندن عليه بعض هؤلاء الذين يتحدثون؛ فهذا اختلاطٌ لا بد منه، والمرأة يجب أن تكون محتشمةً متسترةً متحجبةً، ولا يجوز لها أن تكون سافرةً.

وقد حاول أحد خلفاء بني أمية أن يفصل الرجال عن النساء في المسجد الحرام، فأنكر عليه الناس، وأنكر عليه العلماء، ذكر هذا البخاري في “صحيحه”.

وقالوا: إن هذا في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وعهد الخلفاء الراشدين كان الرجال والنساء يطوفون جميعًا، فتُرِكَ الأمر؛ وذلك لأن المرأة في حاجةٍ لأن يكون مَحْرمها، معها أثناء الطواف، وأثناء السعي، فصل الرجال عن النساء صعبٌ، وهكذا أيضًا في الأسواق، وربما أيضًا لا يتيسر فصل الرجال عن النساء، وإن كان المطلوب والأولى أن تكون أسواقٌ نسائيةٌ وأسواقٌ خاصةٌ بالرجال، لكن قد لا يتيسر هذا، لا يتيسر للناس في جميع الأزمان وجميع الأماكن، في مثل هذا لا نستطيع أن نقول: إنها محرمةٌ، مثل الذي في المسجد الحرام أو في الأسواق، لكن نقول: يجب على المرأة أن تكون متسترةً، وألا تخرج أيضًا للسوق إلا لحاجةٍ، هذا هو الأصل، الأصل: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33].

لكن الاختلاط الذي يترتب عليه فتنةٌ؛ مثل الاختلاط في مقاعد الدراسة؛ هذا لا شك في تحريمه، لا شك أنه يُؤدي إلى فتنٍ عظيمةٍ؛ ونَعتَبِر بحال الدول التي هي قريبةٌ منا، كيف أنها كانت قبل مئة عامٍ كان الحجاب كاملًا، وكان النساء لا يخالطن الرجال، لكن بدأت الأمور شيئًا فشيئًا إلى أن أصبح الرجال والنساء يختلطون في مقاعد الدراسة، فالرجل بجوار المرأة، ولا شك أن هذا من أعظم الفتنة، ومن أعظم ما يقود للشر وللفساد.

السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: إذا كان… مسكين، فهل يطعمهم ثلاث مراتٍ… ستين مسكينًا؟

الجواب: نعم، هذه ذكرها الفقهاء، قالوا: إذا لم يوجد مساكين بالعدد المطلوب؛ فإنه يُكرِّر عليهم الإطعام في عدة أيامٍ، فإذا لم يوجد مثلًا في المنطقة إلا عشرون مسكينًا؛ فيطعمهم في اليوم الأول، ثم الثاني، ثم اليوم الثالث؛ يعني ثلاثة أيامٍ، وهذا موجودٌ، وأدركت هذا في بعض الدول التي تُعطي العاطلين؛ تعطيهم بدلًا، أو مكافأةً، أو راتبًا، ما عندهم فقراء إلا قليلٌ جدًّا، فيجدون حرجًا مثلًا؛ يجدون حرجًا، لا يجدون ستين مسكينًا، فهذه ذكرها الفقهاء، وقالوا: إنه يكرر الإطعام عدة أيامٍ، حتى يكون قد أطعم ستين مسكينًا.

أما لو كان المساكين كُثُرًا، كما هو عليه الحال مثلًا عندنا هنا المساكين كثيرٌ، وبإمكانه أن يجد ستين مسكينًا بكل سهولةٍ؛ ومن غير حرجٍ ومشقةٍ؛ فهنا لا بد من استيعاب العدد، والجمعيات الخيرية تقوم بهذا، الجمعيات الخيرية لها مَلَفَّاتٌ للفقراء والمساكين والأسر الفقيرة، فيمكن أن يُوكِّل الجمعيات الموثوقة في توزيع الكفارات.

السؤال: أحسن الله إليكم يقول:…؟

الجواب: أولًا: مسألة البيع والشراء تجوز مع الكافر، فما بالك بالمسلم؟! والنبي تبايع مع اليهود، وتوفي ودرعه مرهونةٌ عند يهوديٍّ [53]، فكونك تبيع وتشتري مع كافرٍ أو مع مسلمٍ عنده فِسقٌ؛ هذا لا بأس به، فَعَله النبي عليه الصلاة والسلام، ولو كان ممنوعًا؛ لما فعله عليه الصلاة والسلام، وما زال الناس من عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا يتبايعون مع الكفار ويشترون، ولم يقل أحدٌ من العلماء: إن في هذا إعانةً لهم، فطالب العلم ينبغي أن يؤصِّل المسألة.

ثانيًا: مسألة أن البنك الذي أشار إليه ربويٌّ، هذا كان في السابق، قبل تقريبًا.. ربما قبل أكثر من عشر سنواتٍ فأكثر، هذا صحيحٌ، كان الغالب هو الربا على هذه البنوك كلها، البنك الذي ذكره أو غيره، لكن لما فُتح مجالٌ للاستثمار للبنوك؛ أصبح أكثر عمل البنوك في الاستثمار؛ يعني في البيع والشراء، وأصبحت الأمور الربوية عندهم قليلةً، وليست هي الغالبة؛ وحينئذٍ لا يستقيم الآن وصفها بأنها بنوكٌ ربويةٌ، بل أيضًا مع وعي المجتمع -ولله الحمد- ورفضهم للربا؛ أصبحت معظم البنوك لا تتعامل بالربا، إلا في نطاقٍ ضيقٍ جدًّا، وأصبحت جميع البنوك -بلا استثناء- عندها هيئاتٌ شرعيةٌ، وعندها نوافذ إسلاميةٌ، وإن كان عليها ملحوظاتٌ، خاصةً فيما يتعلق بالرقابة، لكن أيضًا لا بد من أن نفهم المسائل الفهم الصحيح، فالآن أنا في نظري أنها لا تُسمَّى الآن بنوكًا ربويةً، وأيضًا لا تسمى بنوكًا إسلاميةً، هي بنوكٌ تقليديةٌ، ما زال عندها إشكالاتٌ، وطلاب العلم الذين لهم صلةٌ بهذه البنوك ساعون في التصحيح؛ ولذلك لا يَصدُق عليه أنه بنكٌ ربويٌّ، ومعظم معاملاته جائزةٌ، بخلاف ما كان عليه الحال من قبل، معظم المعاملات كانت محرمةً، الآن معظم معاملات البنوك أصبحت جائزةً.

فهذا توضيحٌ لما ذَكَره الأخ، لكن هنا يوجد إشكالٌ؛ كون المشتري يشتري البيت عن طريق البنك؛ لا حرج في ذلك، وميزة هذا: أن البنك لا يفرغ البيت إلا بعد أن يسدد المشتري المبلغ كاملًا؛ يعني تملُّك البنك واضحٌ، وقبضُ البنك واضحٌ، لكن هناك إشكالٌ: وهو أن المشتري إذا تعامل مع صاحب البيت مباشرةً، وأعطاه العربون؛ فإن ذلك لا يجوز، لماذا؟ لأن البنك يصبح ممولًا فقط، يصبح البنك كأنه مُقرِضٌ لقيمة البيت، والذي ينبغي: أن يكون التعامل بين المشتري والبنك مباشرةً، ولا يكون التعامل بين المشتري وصاحب البيت، ولا المكتب العقاري، فتجد الخطأ عند بعض الناس: أنه يذهب إلى صاحب البيت يعطيه عربونًا، أو يتفق معه اتفاقًا ملزِمًا مثلًا، أو يشتري منه، هذا لا يجوز، أو يذهب للمكتب العقاري ويعطيه عربونًا، هذا لا يجوز، لماذا؟ لأن البنك يصبح كأنه مقرِضٌ بفائدةٍ، نحن نريد أن يكون البنك هو المشتري الحقيقي بالفعل؛ ولذلك نقول للمشتري: تعاملك مع البنك، لا تتعامل مع صاحب البيت، ولا تتعامل مع المكتب العقاري، ليكن تعاملك مع البنك مباشرةً.

فهذه من المسائل التي يكثر فيها هذا الخطأ، وغالبًا يقع عن جهلٍ، فينبغي التنبه والتنبيه على هذه المسألة.

السؤال:…؟

الجواب: لا، هو لا يلزم، هو أن تعده وتقول للبنك: هذه العمارة اشتَرِها لي من فلانٍ، فيذهب البنك ويرسل له مندوبًا، ثم يبيعها لك، فإبرام العقد يكون يعني بعد ذلك، الأصل أنه لا يلزم، فلو أُلزم؛ يكون باع ما لا يملك.

لكن بعض البنوك يأخذون عليك مقابلًا، يعني بدل أتعابٍ، لو أنك لم تُنفِّذ وعدك؛ يقولون: مجرد أن نرسل المندوب وينظر، وكذا، والأوراق، فنحن نغرمك بدل هذه الأتعاب، فإذا كان بدل أتعاب فعلًا؛ فلا بأس بها أيضًا؛ لأننا لا نستطيع أيضًا أن نُلزِم البنك بأن يفعل هذه الأمور ويُقدِّمها للناس مجانًا.

السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: “الصائم المتطوع أمير نفسه؛ إن شاء صام، وإن شاء أفطر”، هل هذا حديثٌ أم قول صحابيٍّ؟

الجواب: هو روي حديثًا عن النبي [54]، لكن لست متأكدًا من صحته؛ ولذلك أوردته على أنه قولٌ؛ لأني لم أستحضر هل هو ثابتٌ أم لا، لكنه رُوي مرفوعًا، لا أدري، الأخ عليٌّ، تبحث لنا الحديث، هو روي مرفوعًا، لكن هل هو ثابتٌ أم لا؟ فلعل الشيخ عليًّا -إن شاء الله- الدرسَ القادمَ يُفيدنا.

السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: ألا يكون عمل قوم لوطٍ كالمساحقة، ليس عليه دليلٌ في الكفارة؟@

الشيخ: قياس عمل قوم لوطٍ على المساحقة قياسٌ مع الفارق، وعمل قوم لوطٍ لا شك في أنه أشنع من الزنا؛ لأن الله سماه الفاحشة [55]، بينما الزنا فاحشةٌ [56]، وما كان مُعرَّفًا بـ(أل) أشد في القبح؛ ولهذا يقول عبدالملك بن مروان: لولا أن الله ذكره في القرآن؛ لَمَا صدَّقت أن رجلًا يأتي رجلًا.

فلا شك أن قياسه على الجماع أقرب من قياسه على المساحقة، بجامع الإيلاج؛ فإن المساحقة ليس فيها إيلاجٌ.

السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: يشعر كثيرٌ من طلبة العلم بعدم البركة في أوقاتهم، فبماذا توصون؟

الشيخ: هذا صحيحٌ؛ البركة -يا إخواني- شيءٌ معنويٌّ يجده الإنسان في الوقت وفي العمر، وفي كذلك الصحة والبدن والولد والمال وكل شيءٍ، فإذا جعل وأنزل الله تعالى البركة في شيءٍ؛ تجد أنك تنتفع به انتفاعًا عظيمًا، ومن أعظم ما تكون البركة: في الوقت؛ ولذلك نجد أن من أعظم الناس بركةً في وقته: هو رسول الله ، بُعث وعمره أربعون، وتوفي وعمره ثلاثٌ وستون، بقي ثلاثًا وعشرين سنةً فقط، ثلاثًا وعشرين سنةً، ومع ذلك بلَّغ الرسالة، وأكمل الله به الدين في ثلاثٍ وعشرين سنةً.

الأحاديث التي رواها أبو هريرة أكثر من أربعة آلاف حديثٍ، أبو هريرة أسلم في آخر السنة السابعة، يعني ما لازم النبيَّ عليه الصلاة والسلام إلا ثلاث سنواتٍ وبضعة أشهرٍ، ومع ذلك رَوى أكثر من أربعة آلاف حديثٍ، انظر إلى البركة العظيمة في وقته عليه الصلاة والسلام.

ثم أيضًا البركة العظيمة في وقت الأئمة؛ انظر مثلًا: ابن قدامة رحمه الله، كم صنَّف من مصنفاتٍ؟! لو لم يأتك إلا “المغني”، هذه الموسوعة الضخمة، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، له مصنفاتٌ عظيمةٌ، وبعضها مفقودٌ، بل ربما كثيرٌ منها، قيل: له تفسيرٌ قيل: إنه يقع في مئات المجلدات، أتى فيه بالعجب العجاب، لكنه مفقودٌ، وكان ابن القيم رحمه الله يذكر عنه قوةً في التصنيف، قال: كان يكتب في الساعة ما لا يكتب غيره في الجمعة، يعني في الأسبوع، فلعل الله تعالى جعل في وقته بركةً.

فهذه البركة -يعني البركة في الوقت- كانت موجودةً عند هؤلاء؛ ولذلك كان نتاجهم عظيمًا وغزيرًا؛ ولذلك فمِن أعظم الأدعية التي يدعو بها المسلم: أن يسأل الله تعالى أن يبارك له في وقته وفي عمره وفي ماله وفي أهله وفي ولده وفي صحته، هذه من الأدعية النافعة العظيمة أن الله تعالى يبارك له في هذه الأشياء؛ لأن الله تعالى إذا بارك في الشيء يكون أثره عظيمًا.

وأيضًا يفعل الأسباب؛ يعني لا يكفي فقط الدعاء بالبركة، فيفعل الأسباب؛ ومن ذلك: تنظيم الوقت، وحسن ترتيبه وإدارته مع الدعاء، فهذا -بإذن الله تعالى- مما يكون له بركةٌ في حسن استثمار الوقت.

السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: ما حكم الاستمناء في نهار رمضان، وقد مضى على ذلك أعوامٌ؟

الجواب: لا شك أن هذا العمل محرَّمٌ؛ لأنه تعمَّد إفساد صومه في نهار رمضان، فعليه أولًا التوبة إلى الله ، وعليه كذلك القضاء، وهو أن يقضي هذا اليوم، لكن لا يجب عليه الكفارة، كما أشرنا في الدرس.

السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: في حديث صيام يوم السبت، ردَّ الألباني رحمه الله على ذلك، فقال: وأما قول أبي داود فهو منسوخٌ، فيقول:…، وأما حديث عائشة رضي الله عنها في صيام السبت والأحد فلا يثبت، فما قولكم؟

الجواب: على كل حالٍ؛ المرجع في ذلك لأئمة هذا الشأن، نقول: من صححه أصلًا من الأئمة؟ من الذي صححه؟ فهؤلاء أئمة الحديث أنكروا هذا الحديث، وكيف نترك الأحاديث التي رواها البخاري ومسلمٌ ونأتي لحديثٍ على الأقل نقول: هو مختلفٌ فيه؟!

ثم أيضًا لو افترضنا صحته؛ يكون شاذًّا؛ لمخالفته لما هو أصحُّ منه؛ فإن قوله عليه الصلاة والسلام لجويرية: أتصومين غدًا [57]، ظاهرٌ في مشروعية صيام السبت، وقوله : إلا أن تصومي يومًا قبله ويومًا بعده [58].

كيف نترك هذه الأحاديث المتفق على صحتها، ونأخذ بحديثٍ فيه كلامٌ؟!

فلا شك أن المنهج الصحيح لطالب العلم: أنه يأخذ ما اتُّفق عليه -بالأصح من الأحاديث- فلا يعمد لحديثٍ شاذٍّ أو ضعيفٍ أو منسوخٍ، ويترك الأحاديث المتفق عليها.

بل إن قاعدة الشريعة في هذا: الله ذكر أن القرآن فيه متشابهٌ وفيه محكمٌ، وهكذا أيضًا نصوص السنة، فيها متشابهٌ وفيها محكمٌ، والقاعدة في هذا هي ردُّ المتشابه إلى المحكم: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران:7]، يعني: يَرُدُّون المتشابه إلى المحكم، فقد يكون هناك اشتباهٌ في بعض النصوص، لكن تُرَدُّ إلى النصوص المحكمة الواضحة التي لا اشتباه فيها.

فهذه -يا إخواني- قاعدةٌ ومنهجٌ ينبغي أن يسير عليه طالب العلم، وهو أنه يَرُد ما اشتبه عليه إلى المحكم، فلا يأتي لنصٍّ دلالتُه محتملةٌ، ويترك النصوص المحكمة الواضحة الصريحة.

السؤال: أحسن الله إليكم،…؟

الجواب: نعم، كان القول أصلًا ضعيفًا، بل ميتًا، حتى تبناه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله، وتبناه أيضًا طُلَّابه معه، فأحيوا هذا القول، بل أصبحوا ينهون في بعض البلدان الناس عن صيام السبت إذا وافق عاشوراء أو عرفة؛ ولذلك ربما أن الشيخ وغيره كتبوا هذا؛ لبيان أن هذا الحديث لا يثبت.

السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: ما معنى قول النبي : مائلاتٌ مُمِيلاتٌ [59]؟ وهل إذا سَرَّحت المرأة شعرها على جنبٍ؛ فهل هذا جائزٌ؟

الجواب: مائلاتٌ مميلاتٌ، فيها أقوالٌ لأهل العلم، وأظهر هذه الأقوال: أنهن مائلاتٌ عن الحق، مميلاتٌ لغيرهن بما يحصل منهن من الفتنة، لكن قوله: رؤوسهن كأسنمة البُخت، استدلَّ به بعض أهل العلم على أنه لا يجوز للمرأة أن تضع شعرها من فوق على شكل سنامٍ، وأن هذا لا يجوز، أما لو وضَعَتْه من الجنب؛ فإن هذا لا يشبه السنام، ولا يكون على شكل سنامٍ؛ فيبقى على الأصل وهو الإباحة.

السؤال: فَتْحُ حسابٍ في أحد البنوك…؟

الجواب: الأَولى أن يفتح الحساب في البنوك المحافِظة، أنا في نظري لا يقال: بنوكٌ إسلاميةٌ؛ حتى لا يُنسَب للإسلام، لا يقال: بنوكٌ إسلاميةٌ، ولا يقال: قنواتٌ إسلاميةٌ، ولا يقال مثلًا: أناشيد إسلاميةٌ؛ لا تنسب للإسلام، وإنما يقال محافِظةٌ مثلًا، فالأولى لا شك أن تُشجِّع البنوك المحافظة؛ مثل الراجحي، والبلاد، والإنماء، هذه بنوكٌ محافِظةٌ، وتتبرأ من الربا صراحةً، وعندها هيئاتٌ شرعيةٌ قويةٌ.

أما البنوك التقليدية -البنوك غير هذه البنوك الثلاثة- فهذه ما كان يُعلَن منها الربا بشكلٍ صريحٍ؛ فلا شك في أن فتح الحساب فيها، فيه نوعٌ من الإعانة، ما دامت أنها تُعلِن الربا بشكلٍ صريحٍ، وما كانت لا تعلن الربا؛ مثل: الأهلي، والجزيرة، فهذه تتبرأ من الربا، لكن عندها إشكالاتٌ، ما زال عندها إشكالاتٌ، هذه يظهر أنه يجوز فتح الحساب فيها، مع أن الأولى فتحه في غيرها فيمن هو أكثر محافظةً.

الطالب:…؟

الشيخ: طيب، انتهت الأسئلة، ونأخذ آخر سؤالٍ ثم نرجع لسؤالك.

السؤال: أحسن الله إليكم، يقول: من يستدل على جواز الإسبال لغير الخُيَلاء بأن أحاديث العموم في تحريم الإسبال تحمل على الأحاديث المقيدة، فهل يسلم لهم بذلك؟

الجواب: حمل المطلق على المقيد هنا لا يستقيم؛ وذلك لاختلاف العقوبة؛ لأن عقوبة مَن جرَّ ثوبه خُيَلاء تختلف عن عقوبة من أسبل لغير الخيلاء؛ فمن جر ثوبه خيلاء لا يكلمه الله، ولا ينظر إليه يوم القيامة، ولا يزكيه، وله عذابٌ أليمٌ [60]، بينما من أسبل لغير الخيلاء؛ فـما أسفل من الكعبين؛ فهو في النار [61]، ومع اختلاف العقوبة لا يصح حمل المطلق على المقيد.

ولذلك فالأقرب والله أعلم: هو تحريم الإسبال مطلقًا، سواءٌ كان لخيلاء أو لغير الخيلاء، هذا هو الأظهر، لكن قصة أبي بكرٍ لما قال: يا رسول الله، إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده [62]، هذا دليلٌ على جواز هذه الحالة، لو كان على الإنسان ثوبٌ أو كذا، ينزل منه فيرفعه، وهذا أكثر ما يكون في لباس الإحرام، أحيانًا ينزل الإزار ثم يتعاهده الإنسان، فهنا هذه حالةٌ مستثناةٌ؛ لأنه لم يتعمد الإسبال، وإنما كان من غير قصدٍ فهو يتعاهده، هذه ليست حجةً أيضًا في جواز الإسبال لغير الخيلاء.

السؤال:…؟

الجواب: نعم، الأصل الجواز، لكن إذا كان يتوصَّل بهذا لمخططاتٍ للمكر بأهل السنة فلا يجوز؛ لأن بعض الرافضة عندهم مخططاتٌ في هذا -في شراء مساحاتٍ كبيرةٍ من أهل السنة- ولهم في هذا مخططاتٌ للكيد والمكر بأهل السنة، فإذا كان يراد منها التوصل لذلك؛ فلا يجوز، وإلا إذا لم يتحقق من هذا؛ فالأصل الجواز؛ لأنه أجزنا البيع والشراء على الكافر، فكذلك أيضًا مَن كان حاله كحال المنافق، يعني يُظهر الإسلام، حتى وإن كان يبطن الكفر؛ يجوز البيع والشراء معه، إلا إذا تحققنا من أن لهم مخططاتٍ ماكرةً بأهل السنة، فهنا لا يجوز؛ لأجل ذلك.

السؤال: من جامع في نهار رمضان…؟

الجواب: نعم، يجب عليه الإمساك، من جامع في نهار رمضان يجب عليه الإمساك بالاتفاق، إنما الخلاف في المسافر، فيمن أُذِن له بالفطر، أما هذا المتعمِّد فيجب عليه الإمساك.

السؤال:…؟

الجواب: مَن مات وعليه قضاءٌ: عند الحنابلة أنه خاصٌّ بالنذر، والصحيح: أنه يشمل النذر وغيره، فهناك من المسائل التي لم يذكرها المؤلف عدة مسائل، لكن لو استقصينا هذه المسائل؛ ربما أطلنا في الدرس، وبعض الإخوة يعتبون ويقولون: لا نريد أن يطول الدرس كثيرًا، فلذلك نحن نأخذ مسائل المؤلف والمسائل القريبة منها.

السؤال:…؟

الجواب: ويستحب طبعًا، لا تزر وازرةٌ وزر أخرى، لو أن إنسانًا مات وعليه قضاءٌ وفرَّط في القضاء، وقيل لأبنائه: صوموا، ولم يصم أحدٌ منهم؛ لا يأثمون، لكن نقول: يستحب، فإذا لم يتيسر الصيام؛ فينتقل إلى الإطعام، يُطعِم عنه مِن تركته، عن كل يومٍ مسكينًا.

السؤال:…؟

الجواب: إي نعم، القارن إما أن يكون قد ساق الهدي أو لا؛ فإذا ساق الهدي؛ يتعيَّن القِرَان، فيجب أن يكون قارنًا، أما إذا لم يَسُق الهدي فعند الجمهور أنه مخيرٌ بين الأنساك الثلاثة: التمتع والإفراد والقران، فهو مُخيَّرٌ على قول الجمهور، إلا على قول ابن عباسٍ رضي الله عنهما، يعني: أنه يجب عليه التمتع، لكن الذي عليه أكثر العلماء: أنه مخيرٌ بين الأنساك الثلاثة، فقد يكون قارنًا وهو لم يَسُق الهدي.

السؤال:…؟

الجواب: إذا كان ذلك بصفةٍ عارضةٍ، يعني: في سَنةٍ من السنوات فَعَل هذا؛ فلا حرج، لكن إذا كان بصفةٍ مستمرةٍ، أو اعتقاد أنه سُنةٌ؛ فهذا أي فَرْقٍ بينه وبين الذين يحتفلون بالمولد؛ لأن الذين يحتفلون بالمولد يقولون: نحن نقرأ السيرة في وقت ميلاد النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك فهذا غير مشروعٍ.

ولذلك يخطئ بعض الخطباء الذين يخطبون عن الهجرة بدايةَ كل سنةٍ، بداية كل سنةٍ يخطب عن الهجرة، فهذا يحتاج إلى دليلٍ، أو مثلًا في كل سنةٍ يخطب في شهر رجبٍ عن الإسراء والمعراج، يعني التزام المناسبات تحتاج إلى دليلٍ، لكن لو فعله أحيانًا بصفةٍ غير مستمرةٍ؛ فلا بأس؛ لأنه يجوز أحيانًا في الشيء العارض ما لا يجوز في الشيء المستمر؛ فمثلًا: لو اجتمع مجموعةٌ يريدون أن يصلُّوا صلاة الوتر جماعةً؛ يجوز أن يكون ذلك بصفةٍ عارضةٍ، ولا يجوز أن يكون بصفةٍ مستمرةٍ، وهذا له نظائر كثيرةٌ، أن الشيء العارض يجوز فيه ما لا يجوز في الشيء المستمر الدائم.

السؤال:أحسن الله إليك، ما حكم الزواج؟

الشيخ: نعم، زواج الأب..

الطالب: بربيبته، إن تزوج امرأةً عندها بنتٌ؟

الشيخ: إي نعم، الله أعلم.

السؤال:…؟

الشيخ: مَن صام.

السؤال: في أثناء الشهر.

الجواب: إي نعم، يكون من صام في أثناء الشهر يَعتبر بالهلال وليس بإتمام الشهر ثلاثين يومًا.

الطالب:

الشيخ: يمشي على حسب نقصان الشهر أو تمامه.

الطالب:

الشيخ: إي نعم، تسعة وعشرين، يعني مثلًا: ابتدأ 15 من محرم، ففي 15 من ربيع الأول ينتهي، بغض النظر عن كون الشهر نقص أو تم، لكن على القول الثاني: لا، لا بد من أن يصوم ستين يومًا، فإذا صام 15: فإذا كان شهر محرمٍ ناقصًا يُعوَّض بيومٍ، معنى ذلك: إذا كان شهر صفرٍ ناقصًا؛ يُعوَّض بيومٍ، معنى ذلك: لا ينتهي إلا 17 من ربيعٍ، هذا هو الفرق بين القولين.

طيب، يكون آخر سؤالٍ.

السؤال: رجلٌ سافر…؟

الشيخ: أثناء السفر..

الطالب:

الشيخ: لكن لمَّا جامع أهله، في سفرٍ، أم وصل للإقامة؟

الطالب: لا…

الشيخ: يعني ذهب إلى بلد إقامته.

الطالب: إي نعم…

الشيخ: المهم أنه لما جامع كان مسافرًا.

الطالب: نعم، كان على سفر…

الشيخ: إذا كان مسافرًا؛ فلا شيء عليه، إذا كان أثناءه، جامع وهو مسافرٌ؛ فلا شيء عليه؛ إذا كان يُباح له الترخص برُخَص السفر؛ فلا يكون عليه شيءٌ؛ لأن الحكمةَ من إيجاب الكفارة: انتهاكُ حرمة الشهر، وهذا لم ينتهك حرمة الشهر.

لكن المهم أن تتحقق فيه ضوابط الترخص برخص السفر: أن تكون مسافة سفرٍ، فيكون مثلًا إذا أقام في حدود أربعة أيامٍ فأقل، فلا بد من تحقق الضوابط.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه ابن ماجه: 2043.
^2 رواه مسلم: 126.
^3 العرق: مكتل كالقفة يسع ‌خمسة ‌عشر صاعا إلى عشرين، ينظر مشارق الأنوار للقاضي عياض: 2/ 76 (ع ر ق).
^4 رواه البخاري: 6711، ومسلم: 1111.
^5 رواه عبدالغني بن سعيد الأزدي في الغوامض والمبهمات: 36.
^6 رواه أحمد: 23700، وأبو داود: 2213.
^7, ^8 رواه مسلم: 8.
^9 رواه البخاري: 4517، ومسلم: 1201، قال كعب : حملت إلى النبي  والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا، أما تجد شاة؟ قلت: لا، قال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك.
^10, ^11, ^12, ^13, ^23, ^26, ^29, ^36, ^42, ^44, ^45, ^47, ^57, ^58 سبق تخريجه.
^14 رواه البخاري: 1950، ومسلم: 1146.
^15 رواه البخاري: 1852.
^16 رواه مسلم: 1164.
^17 رواه مسلم: 1151.
^18 رواه البخاري: 5052، 3418، 1975، ومسلم: 1159.
^19 رواه البخاري: 1968.
^20, ^25, ^31 رواه مسلم: 1162.
^21 رواه الترمذي: 761، والنسائي: 2424، أحمد: 21437.
^22 رواه البخاري: 1178، ومسلم: 721.
^24 رواه أبو داود: 2436، والترمذي: 747، والنسائي: 2358، وأحمد: 21753.
^27 رواه البخاري: 2996.
^28 رواه البخاري: 1983، ومسلم: 1161.
^30 رواه مسلم: 1163.
^32 رواه البخاري: 2006.
^33 رواه البخاري: 2002، ومسلم: 1125.
^34 رواه البخاري: 969، بنحوه.
^35 رواه مسلم: 1176.
^37 رواه أبو داود: 2440، وابن ماجه: 1732، وأحمد: 8031.
^38 رواه البخاري: 1985، ومسلم: 1144.
^39 رواه البخاري: 1986.
^40 رواه أحمد: 8025.
^41 رواه عبدالرزاق: 8058، وابن أبي شيبة: 9243.
^43 رواه أبو داود: 2421، والترمذي: 744، والنسائي: 2774، وابن ماجه: 1726، وأحمد: 27075.
^46 رواه أحمد: 26749، والنسائي: 2789.
^48 رواه البخاري: 1197، ومسلم: 1138.
^49 رواه البخاري: 953.
^50 رواه البخاري: 1997.
^51 رواه مسلم: 1141.
^52 رواه مسلم: 1154.
^53 رواه البخاري: 2916.
^54 رواه أحمد: 26893، والترمذي: 732، والنسائي في السنن الكبرى: 3288، وقال الترمذي: في إسناده مقال.
^55 يعني في قوله ​​​​​​​: وَلُوطًا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ‌مَا ‌سَبَقَكُمْ ‌بِها ‌مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ [الأعراف:80].
^56 يعني في قوله ​​​​​​​: وَلا ‌تَقْرَبُوا ‌الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا [الإسراء:32].
^59 رواه مسلم: 2128.
^60 رواه البخاري: 3665، ومسلم: 2085، بلفظ: من ‌جر ‌ثوبه ‌خيلاء؛ لم ينظر الله إليه يوم القيامة.
^61 رواه البخاري: 5787.
^62 رواه مسلم: 3665.
zh