logo
الرئيسية/دروس علمية/شرح كتاب دليل الطالب لنيل المطالب/(41) فصل ويشترط لإخراجها نية من مكلف

(41) فصل ويشترط لإخراجها نية من مكلف

مشاهدة من الموقع

طيب ننتقل بعد ذلك إلى درس الفقه، وكنا قد وصلنا في “الدليل” إلى باب إخراج الزكاة.

حكم النية عند إخراج الزكاة

وقفنا عند قول المؤلف:

فصل: ويشترط لإخراجها نية من مكلف.

وذلك لقول الله تعالى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39]؛ ولقول النبي : إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى[1].

ولأن إخراج المال يكون لأغراض متنوعة: قد يكون صدقة، وقد يكون هدية، وقد يكون زكاة، وقد يكون غير ذلك. ولا يُحدِّد نوعَ الإخراج إلا النيةُ.

وبناء على هذا: لو أخرج رجلٌ الزكاةَ عن آخر بدون توكيل، يعني: مثلًا رجل أخرج عن أخ له أو عن صديقٍ، الزكاة، يعرف بأن فلانًا يريد أن يخرج الزكاة، فهو أتى وقال: يا فلان، أخرجت عنك الزكاة، فهنا هل يجزئ ذلك، أو لا يجزئ؟

على كلام المؤلف، المؤلف اشترط لإخراجها النية، هنا النية لم تحصل لصاحب المال، النية هنا، فعلى كلام المؤلف أنه لا يجزئ؛ وذلك لعدم النية ممن تجب عليه الزكاة، وهذا الذي قد دفع الزكاة عن غيره ليس أصلًا ولا فرعًا، هو ليس وكيلًا، دفع من غير أن يقول له: ادفع، ولم يُوكِّله، هذا الذي دفع الزكاة عن غيره ليس أصلًا ولا فرعًا؛ فلا تجزئ. هذا هو المذهب عند الحنابلة.

والقول الثاني في المسألة: تجزئ إذا أجاز ذلك مَن تجب عليه الزكاة.

وذلك لما جاء في الصحيح في قصة أبي هريرة ؛ لمَّا وكَّله النبي بحفظ أموال الصدقة، فوجد مَن يختلس منها على هيئة رجل، فشكا فقرًا وحاجة فأطلقه، ثم وجده في اليوم الثاني وأطلقه، ثم في اليوم الثالث قال: لأذهبن بك إلى رسول الله . قال: ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قال: نعم. قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فذهب أبو هريرة للنبي عليه الصلاة والسلام، فقال: أتدري مَن تخاطب منذ ثلاثِ ليالٍ أبا هِرٍّ، ذاك شيطان، صَدَقَك وهو كذوب[2].

وهذا دليل على أن بعض الشياطين قد تتمثل بصور الإنس، وفيه أيضًا دلالة على أنها قد تختلس بعض الأموال، وفيه دلالة أيضًا على أن الحق ضالة المؤمن يأخذه ممن أتى به ولو كان شيطانًا، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: صدقك يعني: هذا الشيطان فيما قال، وإن كان هو كذوبًا.

الشاهد من هذه القصة: أن أبا هريرة دفع الزكاة لمن جاء إليه، وادعى فقرًا، مع أن أبا هريرة وكيلٌ في الحِفظ فقط، وليس وكيلًا في الإعطاء، فأجازه النبي ، واضحٌ وجهُ الدلالة.

أبو هريرة وكيلٌ في الحفظ، ومع ذلك دَفَع الزكاة من غير نيةٍ من صاحب الزكاة، وأقره النبي عليه الصلاة والسلام على هذا؛ ولأن منع التصرف في حق الغير، فإذا أجازه فلا مانع، وأما النية فتكفي نية النائب؛ وذلك لأن المالك لو أذن له قبل التصرف صح، فكذا إذا أذن له بعد التصرف.

وهذا هو الأقرب -والله أعلم- في هذه المسألة، وقد رجحه الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله، الأقرب أنه إذا دفع الزكاة عن غيره فأجازه رب المال، أن ذلك يجزئ. هذا هو القول الراجح، والله أعلم.

لو أنه مثلًا يعرف بأن فلانًا يريد أن يدفع الزكاة، قال: يا فلان، أنا دفعت عنك الزكاة. قال: جزاك الله خيرًا، وأثابك الله. فالقول الصحيح: أن هذا يجزئ.

طيب، أيضًا من فروع هذه المسألة: لو أنه تصدق بصدقةٍ على فقير، ثم بعد ذلك تبين له وجوب الزكاة في ماله، فهل يصح اعتبار تلك الصدقة زكاة؟

إنسان تصدق مثلًا بصدقة في الفقراء والمساكين، ولم يكن يعلم أنه تجب الزكاة في ماله، فاستفتى مثلًا وقيل: بأن الزكاة تجب في مالك، فقال: إذن، أعتبر تلك الصدقة على الفقير زكاة، هل يجزئ هذا؟ نعم.

الطالب: لا…

الشيخ: لماذا؟

الطالب:

الشيخ: أحسنت. إذن؛ لا يجزئ، إذن نقول: من فروع هذه المسألة: أنه لو تصدق بصدقة تطوع، ثم تبين له بعد ذلك وجوب الزكاة في ماله، فلا يصح اعتبار الصدقة زكاةً؛ لأنه يُشترط مقارنة النية للإخراج، يشترط مقارنة النية للإخراج.

وهذه تحصل من بعض الناس، تجد أنه يتصدق بصدقة، ثم يقال: إن عليك زكاة، فيقول: إذن أعتبر هذه الصدقة زكاة. نقول: لا، ليس لك ذلك؛ لأنه يشترط أن تقارن النية الإخراج.

قال:

وله تقديمها.

يعني: وله تقديم النية عن الإخراج.

بيسير.

يعني: بزمن يسير، كسائر العبادات، كما قال الفقهاء بالنسبة لنية الصلاة، لو تقدمت على الصلاة بزمن يسير صح، فتقديم النية بزمن يسير لا يضر في جميع العبادات.

والأفضل قَرْنُها بالدفع.

الأفضل أن النية تقترن بالدفع، لكن لو تقدمت بزمن يسير فلا يضر.

قال:

فينوي الزكاة أو الصدقة الواجبة.

يعني: يُعيِّن ما نواه، هل هي زكاة؟ هل هي صدقة؟

ولا يجزئ إن نوى صدقة مُطلَقةً، ولو تصدق بجميع ماله.

ولا يجزئ أن ينوي صدقة مطلقة؛ لأن الصدقة تكون نفلًا، فلا تنصرف إلى الفرض إلا بالتعيين، كما لو صلى صلاة مطلقة، فإنها لا تجزئ عن الفريضة، فكذا لو تصدق صدقة مطلقة لا تجزئ عن الصلاة.

فإذن؛ لا بد أن ينوي أنها زكاة، لا ينوي أنها صدقة مطلقة؛ ولذلك قال المصنف: حتى (ولو تصدق بجميع ماله)، فإن ذلك لا يجزئ عن الزكاة إذا لم ينوها زكاةً.

ولا تجب نية الفرضية.

اكتفاء بنية الزكاة؛ لأنها لا تكون إلا فرضًا.

يعني: تجد بعض الفقهاء يُشدد، يقول: لا بد أن ينوي أنها زكاة، وينوي أنها فرض.

هذا لا دليل عليه؛ يكفي أن ينوي أنها زكاة، كما أيضًا قالوا في الصلاة: لا بد أن ينوي أنها فرض، ولا بد أن ينوي أنها صلاة.

والصحيح: يكفي أن ينوي أنها صلاة، فهذا التشقيق ليس عليه دليل؛ ولذلك كما قال المصنف: أنه (لا تجب نية الفرضية)، بل تكفي نية الزكاة.

ولا تعيين المال المُزكَّى عنه.

يعني: لا يجب تعيين المال المزكى عنه، فإن كان له خَمْسٌ من الإبل، وأربعون من الغنم، فقال: هذه الشاة عن الإبل أو عن الغنم، هذه الشاة أُخرِجها عن الإبل أو عن الغنم؛ فإن ذلك يجزئ عن أحدهما.

وأيضًا من فروع هذه المسألة: لو كان له مال غائب، فنوى زكاةً عن ماله الغائب، فإن كان تالفًا فعن الحاضر، قال: “هذه زكاةٌ عن مالي الغائب، فإن كان المال الغائب تالفًا فعن الحاضر”؛ أجزأ ذلك إذا كان الغائب تالفًا.

الطالب:

الشيخ: لا، هو يقول: أنا عندي مال غائب، ولا أدري هل هو تالف، أو أنه غير تالف، أنا أُخرِج به زكاةً إن كان سالمًا، فإن كان تالفًا فيكون عن مالي الحاضر. فمِن فروع هذه المسألة أن ذلك يجزئ؛ لأننا قلنا: إنه لا يُشترط نية تعيين المال المُزكَّى، لكن لو قلنا باشتراط نية تعيين المال المُزكَّى فلا تجزئ.

ومن ذلك مثلًا: زكاة الشركات المتعثرة، فبعض الناس يكون ساهم في شركة متعثرة، ويقول: ما أدري هل الآن هذه الشركة أموالها موجودة أو لا؟ هل ترجع لي أو لا؟ فيقول: أنا أزكي عنها إن كانت موجودة، فإن كانت غير موجودة أو تالفة أو لن ترجع لي، فتكون عن مالي الحاضر. فيصح ذلك.

فإذن؛ هذا من فروع قول المصنف: (ولا تعيين المال المزكى عنه).

قال:

وإن وكَّل في إخراجها مسلمًا؛ أجزأتْ نية المُوكِّل مع قرب الإخراج.

لأن الغرض متعلق بالموكل.

وإلا نوى الوكيل أيضًا.

يعني: هو إذا وكَّل في إخراجها وكيلًا مسلمًا، فتجزئ نية الموكل إذا كان وقت الإخراج قريبًا؛ لأن الأصل أن النية تكون من المُوكِّل، لكن إذا كان وقت الإخراج بعيدًا، فلا بد من نية الموكل والوكيل.

الموكل لا بد عندما يعطي الوكيل الزكاة، يقول: “هذه زكاة” وينوي أنها زكاة، ومع أيضًا طول مدة الإخراج أو زمن الإخراج، ينوي الوكيل كذلك أنها زكاة؛ لئلا يخلو الدفعُ إلى المستحِق عن نيةٍ مُقارِنةٍ أو مُقارِبة.

حكم نقل الزكاة إلى غير فقراء البلد

والأفضل جَعْلُ زكاةِ كلِّ مالٍ في فقراء بلده، ويحرم نقلها إلى مسافةِ قصرٍ؛ وتجزئ.

 هذه المسألة، مسألة نقل الزكاة من بلد إلى بلد، يقول: الأفضل جعل زكاة كل مالٍ في فقراء بلده؛ وذلك لأن فقراء أهل البلد تتعلق أطماعهم بما عند الإنسان من المال، فدفعها إليهم أفضل؛ ولأن دفع الزكاة إلى فقراء البلد يُقوِّي من المحبة والمودة بين أفراد المجتمع، وهذا أمر مقصود شرعًا.

ولهذا شُرعت الجماعة، مع أنه بالإمكان أن يصلي كل واحد في بيته، وربما تكون صلاته في بيته أكثر خشوعًا من صلاته في المسجد، لكن شُرعت صلاة الجماعة لأنها تقوي المحبة والمودة بين أفراد المجتمع؛ ولأن دفعها في بلده أيسر للمُكلَّف غالبًا، وأكثر أمانًا؛ ولذلك فالأفضل أن يدفع زكاة ماله في فقراء بلده.

قال: (ويحرم نقلها إلى مسافة قصر)؛ فإنه لا يجوز نقلها إلى مسافة قصر.

ومسافة القصر على قول الحنابلة وقول الجمهور أنها أربعةُ بُرُدٍ، وهي تعادل تقريبًا ثمانين كيلو مترًا، سبق أن قررنا هذا في درس سابق: أربعة برد، والبُرُد: أربعة فراسخ، وأربعة بُرُدٍ تعادل ستة عشر فرسخًا، والفرسخ ثلاثة أميال، يعني: تعادل ثمانيةً وأربعين ميلًا، وتعادل بالكيلو مترات ثمانين كيلو مترًا.

فيقول: إنه (يحرم نقلها إلى مسافة قصر)، يعني: إلى أكثر من ثمانين كيلو مترًا، وتجزئ مع ذلك.

وإلى هذا ذهب الجمهور، واستدلوا بحديث معاذ  حين بعثه النبي إلى اليمن، وقال له: أعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تُؤخَذ من أغنيائهم، وتُرَد على فقرائهم[3].

قالوا: فقوله: على فقرائهم هذه إضافة، والإضافة تقتضي التخصيص، أي: فقراء أهل اليمن؛ ولأن الأطماع تتعلق بهذا المال؛ ولذلك لا يجزئ نقلها أكثر من مسافة قصر.

وقال بعض أهل العلم: إنه يجوز نقلها إلى البلد البعيد للحاجة أو للمصلحة، فالحاجة مثل ما لو كان أهل البلد البعيد أشد فقرًا، والمصلحة مثل أن يكون له في البلد البعيد أقارب فقراء يساوون فقراء أهل بلده في الحاجة، فإنْ دفعها إلى أقاربه تحصل به مصلحة، وهي أنها تكون صدقة وصلة رحم.

وهذا هو القول الراجح -والله أعلم-: أنه يجوز نقل الزكاة للحاجة أو للمصلحة. وهذا هو الذي عليه العمل؛ وذلك لعموم الأدلة، ومنها قول الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60]، وهذا يعم الفقراء والمساكين في كل مكان.

وأما حديث معاذ ، الذي استدل به الجمهور في منع نقل الزكاة، فإن قوله: فترد على فقرائهم المقصود فقراء المسلمين، وليس المقصود فقراء أهل اليمن، وإنما فقراء المسلمين، فتكون الإضافة للجنس، كما في قول الله تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ إلى أن قال: أَوْ نِسَائِهِنَّ [النور:31]. هذا هو الأقرب، والله أعلم.

ويحتمل أن تكون الإضافة للتعيين والتخصيص، ولكن نظرًا إلى أن نقل الزكاة من اليمن إلى المدينة فيه مشقة، فصار توزيعها في اليمن أرفق وأنفع، فهذا -إذن- الدليل ليس صريحًا في عدم جواز نقل الزكاة من بلد إلى آخر.

ولأن ظاهر الحال في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، هو أن الزكاة تُنقل، كما في حديث ابن اللُّتْبِيَّة وكان يقبض الزكاة من أربابها[4]، وكما في حديث قَبِيصَة[5]، وفي غيره من الأحاديث التي تدل على أن ظاهر الحال أن الزكاة كانت تُنقَل في عهد النبي .

وهذا هو القول الراجح، وإن كان القول الأول كما ذكرتُ هو قول الجمهور، والمذاهب الأربعة متفقة على المنع، إما على سبيل التحريم كما هو مذهب الحنابلة والشافعية، إلا أن الشافعية أضيق، يشددون ويقولون: إنها لا تجزئ مطلقًا، أو على سبيل الكراهة كما هو مذهب الحنفية والمالكية.

ولكن الصواب: أنه إذا وُجدت حاجة أو مصلحة راجحة فلا بأس بنقلها، كما مثَّلنا للحاجة وللمصلحة الراجحة. وعند الحنابلة أنهم يقولون: يحرم وتجزئ.

لكن الصواب: أنه إذا وُجدت حاجة أو مصلحة راجحة فلا يحرم، وربما يكون نقلها أفضل، كما لو كان الفقراء أشد، يعني: مثلًا الفقراء عندنا هنا في المملكة ليس فقرهم شديدًا، أو في الأعم الأغلب، ويوجد في بعض البلدان مَن فَقْرُهم شديدٌ وفقرٌ مُدقِع، فلا شك أن النقل هنا أفضل؛ لأن الحاجة هنا في النقل ظاهرة.

فالقول الراجح: أن النقل هنا ليس فقط يجوز، بل أفضل؛ لأنك إذا أعطيت فقيرًا فقرًا شديدًا أو مدقعًا، لا شك أن هذا أعظم لأجرك، والله تعالى يقول: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ۝ فَكُّ رَقَبَةٍ ۝ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ۝ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ۝ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:11-16].

كلما كان المسكين أو الفقير أشد فقرًا، كلما كان من يعطي هذا الفقير سواء من الزكاة أو من الصدقة، كان أعظم أجرًا وثوابًا.

حكم تعجيل الزكاة

قال:

ويصح تعجيل الزكاة لحولين فقط، إذا كَمَل النِّصاب، لا منه للحولين، فإن تَلِف النصاب أو نقص، وقع نفلًا.

 هذه مسألة تعجيل الزكاة، أفادنا المؤلف بأنه يجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل.

ويدل لذلك أن النبي تعجَّل زكاة عمِّه العباس لسنتين، فقال: هي عليَّ، ومثلها معها؛ وذلك لما جاء في الصحيحين: أن النبي بعث عمر على الصدقة، فرجع ومن معه، وقالوا: منع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس، فقال عليه الصلاة والسلام: أما خالد فإنكم تظلمون خالدًا، فقد احتبس أَدْرُعَه وعَتَادَه في سبيل الله، وأما ابن جَمِيلٍ فما يَنقِم إلا أن كان فقيرًا فأغناه الله[6].

لاحِظ! النبي عليه الصلاة والسلام كيف تعامل مع الاثنين، يعني هذا -الحقيقة- درسٌ: كيف يتعامل مع الناس؟

يعني: إذا كان الإنسان معروفًا بالصلاح وبالخير وبالاستقامة، وذُكر عنه أنه فعل أمرًا لا يليق به، فينبغي أن نعتذر عنه مباشرة، فمِثل خالد بن الوليد هذا الرجل العظيم، هذا الذي وقف أَدْرُعَه وعتاده في سبيل الله، هل سيبخل في الزكاة؟ ما يمكن؛ ولذلك اعتذر عنه النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة.

هكذا الإنسان مثلًا إذا كان صاحب خير، إذا كان طالب علم معروفًا بالخير والصلاح، فينبغي أن يُعتذَر عنه إذا نُقِل عنه أمرٌ لا يليق به.

ولكن في المقابل، ابن جَمِيل، قيل: إنه كان من المنافقين؛ ولهذا قال: وأما ابن جميل، فما ينقم إلا أن كان فقيرًا، فأغناه الله يعني: النبي عليه الصلاة والسلام ما عذر ابن جميل مباشرة؛ يعني: عَتَب عليه، وأتى بهذا الأسلوب الذي يقولون: هو من باب تأكيد الذم بما يشبه المدح: ما ينقم إلا أن كان فقيرًا، فأغناه الله.

فلاحِظْ كيف تعامَل النبيُّ عليه الصلاة والسلام مع أصحابه، فإذن لا تقل: أتعامل مع الناس بنفس الميزان، ونفس المعيار، لا فرق بين هذا وهذا.

إنسان معروف بالخير، هذا حتى لو نُقل عنه شيء فتعتذر عنه مباشرة، تقول: أبدًا، فلان ما يحصل منه هذا.

لكنْ، فلان معروف بالشر ومعروف بالسوء، معروف بكذا، فهذا إذا أظهر فسقًا أو منع حقًّا واجبًا، فيجوز ذمه لما وقع فيه؛ لأنَّ من أظهر فسقًا يجوز غِيبَتُه فيما أظهر فيه الفسق، فلا غيبة لفاسق فيما أظهر فيه الفسق، أو في منع واجب، كما منع ابن جميل، هنا تكلم النبي عليه الصلاة والسلام عن ابن جميل في غَيْبتِه وذمَّه؛ لأنه منع حقًّا واجبًا.

وأما العباس، قال: فهي عليَّ، ومثلها معها؛ وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام قد تعجَّل صدقةَ عمِّه العباس، وقال بعض العلماء: إن قوله: فهي عليَّ، ومثلها معها لأن العباس كان قريبًا للنبي عليه الصلاة والسلام، فعزَّره بأن أخذ منه الزكاة ومثلها معها، كما في قوله: إنا آخِذُوه وشطرَ ماله[7].

لكن تعجيل النبي عليه الصلاة والسلام لزكاة عمه العباس وَرَد مِن طرق متعددة يشد بعضها بعضًا؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجر: ليس ثبوت هذه القصة في تعجيل صدقة العباس ببعيدٍ بالنظر إلى مجموع هذه الطرق، فدل هذا على أنه يجوز تعجيل الزكاة لحولين.

ومن جهة النظر: أن تعجيل الزكاة من مصلحة أهل الزكاة، وتأخيرها إلى أن يتم الوجوب من باب الرفق بالمالك، وإلا لو وجب عليه أن يُخرج زكاته مِن حين ملك النصاب، كما وجب عليه إخراج الزرع مِن حين حصاده. فإذا كان هذا من باب الرفق بالمالك، ورَضِيَ لنفسه بالأشد، فلا مانع من هذا.

ولهذا نقول: إنه لا بأس بتعجيل الزكاة، لكن المؤلف اشترط لهذا شرطًا، وهو أن يكتمل النصاب، أن يكون عنده نصاب، أما إذا لم يكن عنده نصاب، فإنه لا يجزئ إخراج الزكاة في هذه الحال؛ ولهذا قال المؤلف: (لا منه)، يعني: لا من النصاب للحولين.

فإذا لم يكن عنده نصاب، وقال: “سأجعل زكاة مالي؛ لأنه سيأتيني مال في المستقبل”؛ فإن ذلك لا يجزئ؛ وذلك لأنه قدَّمها على سبب الوجوب، وهو مِلك النصاب.

وهذا مَبْنيٌّ على قاعدة فقهية ذَكَرها ابن رجب في كتابه “القواعد الفقهية”، وهي: أن تقديم الشيء على سببه مُلْغًى، وعلى شرطه جائز. انتبه لهذه القاعدة: تقديم الشيء على سببه ملغى، وعلى شرطه جائز.

فمثلًا يعني: تقديم دفع الزكاة على مِلك النصاب، ملك النصاب سبب، فتقديمها على سببها مُلغًى، لا يصح تقديم الزكاة على ملك النصاب، لكن على شرطه وهو تمام الحول، تمام الحول من شروط الزكاة، يجوز.

ومثل ذلك مثلًا: في الكفارة، أيضًا ذكروا لهذا مثالًا: لو أنَّ شخصًا كفَّر عن يمينٍ يُريد أن يحلفها قبل أن يحلف، قال: في هذه مثلًا إطعام عشرة مساكين؛ لأنني ربما أحلف في المستقبل، فهذه عن حلف في المستقبل. فهذه لا تجزئ؛ وذلك لأنه قد قدَّمها قبل السبب، وهو الحلف.

لكن لو كانت بعد السبب وقبل الشرط، يعني بعدما حلف أخرج الكفارة قبل أن يحنث أجزأ، فالحلف هو السبب، والحِنث هو الشرط.

فتقديم -إذن- الشيء على سببه مُلغًى، وعلى شرطه جائز. فإذن هنا نقول: إذا كَمَل النصاب فلا بأس بتعجيل الزكاة لعام ولعامين، أما إذا لم يكتمل النصاب فلا يجزئ تقديم الزكاة.

قال:

فإن تلف النصاب أو نقص وقع نفلًا.

يعني: لو أنه عجَّل الزكاة فنقص النصاب بعد التعجيل وقبل تمام الحول، فإن الزائد يكون نفلًا، ولا يُجزئه عن غيره من الأعوام؛ لأنه إنما نواه لذلك العام. وهكذا أيضًا لو تلف النصاب ولو كان العكس؛ لو عجل الزكاة ثم زاد النصاب، فإنه يجب عليه أن يخرج الزكاة في القدر الزائد.

فإذن؛ إذا زاد النصاب وجب أن يخرج الزكاة في القدر الزائد، وإذا نقص النصاب فالقدر الزائد الذي أخرجه يكون تطوعًا.

طيب، هنا تَرِدُ مسألة، وهي: هل يُستحب تعجيل الزكاة، أو نقول: ذلك لا يستحب، وإنما جائز؟

الطالب: …

الشيخ: نعم، المذهب عند الحنابلة أنه لا يستحب، كما نص على هذا في “الزاد”: أنه لا يستحب تعجيل الزكاة؛ قالوا: لأنه ربما ينقص النصاب، أو يتلف المال قبل تمام الحول. وقال ابن مفلح في “الفروع”: يتوجَّه اعتبار المصلحة.

قال المَرْدَاوي في “الإنصاف”: وهو توجيه حسن، وهذا هو الأظهر أن ذلك يرجع للمصلحة. مثال ذلك: رجل فقير حلَّ عليه إيجار البيت، وهدَّده صاحب البيت: إما أن تسدد الإيجار الآن، وإما أن نُخرجك. فأتى إليك وأنت تقول: ما عندي إلا الزكاة، والزكاة أخرجها في رمضان.

فهنا نقول: الأفضل أن تعجل زكاة رمضان، وتسدد بها إيجار هذا الفقير، فهنا وُجدت مصلحة في التعجيل.

ولهذا؛ ينبغي أن يُشاع هذا القول؛ لأنه في الحقيقة فيه تنفيس لكثير من الفقراء؛ بعض الفقراء تُلِمُّ به الحوائج، وكثير من الناس لا يُخرجون زكواتهم إلا في رمضان، فيأتي الإنسان يقول: والله أنا ما عندي شيء، ما عليَّ زكاة، وزكاتي في رمضان. نقول: إذن؛ عجِّل زكاة رمضان لسد حاجة هذا الفقير.

فيكون التعجيل للمصلحة، هو الأفضل إذا وُجد في ذلك مصلحة، أما إذا لم يوجد في ذلك مصلحة فيبقى الأمر على الإباحة، وهو أنه يجوز تعجيل الزكاة.

الطالب:

الشيخ: نعم، هو تأخير دفع الزكاة، تكلمنا عنه في الدرس السابق، وقلنا: الصحيح أنه يجوز إذا وجد فيه مصلحة، سواء مِن قِبَل صاحب المال، أو مِن قِبَل الوكيل، ولكن يُفْرِزها عن ماله، ويكتب عليها بأن هذه زكاة، حتى لو قدَّر الله عليه شيئًا يعرف أن هذه زكاة.

هذا قررناه في الدرس السابق: أن هذا يجوز إذا وجد في هذا مصلحة.

وذكرنا أن هذه المسألة ممكن تستفيد منها الجمعيات الخيرية، فإن الجمعيات الخيرية يأتيها في رمضان مبالغ كبيرة، وكثير من الفقراء عندهم سوء تدبير للمال، فلو أنهم أعطوهم المال كله في رمضان، لبقيت حوائج الفقراء في غير شهر رمضان.

ولذلك؛ فبالإمكان أن يعاد ترتيب أموال الزكاة هذه، فيُعطَوْن جزءًا منها في رمضان، والبقية تُرتَّب على بقية أشهر السنة؛ بناء على هذا القول.

فهذا أيضًا قول يمكن أن تستفيد منه الجمعيات الخيرية، ويكون في هذا مصلحة عظيمة للفقراء، فيقال لهذا الفقير: لك مثلًا في كل شهر كذا، فهذا أحسن للفقير، وفيه مصلحة كبيرة له.

الطالب: … حولان كاملان مِن أجل يُطلِع الزكاة.

الشيخ: لا، ليس حولين كاملين، يعني: لا بد أن يَكمُل النصاب، يعني مثلًا: إذا كان أوراقًا نقدية فلا بد أن يكتمل النصاب، إذا كان ما عنده إلا مائة ريال، فلا يخرج مثلًا الزكاة ويقول: “هذه إذا اكتمل النصاب، هذه الزكاة عن مالي إذا كَمَل النصاب فيما بعد”؛ يعني: لا بد أن يكتمل النصاب عنده.

عنده مثلًا خمسة آلاف ريال، فهنا اكتمل النصاب، ويريد أن يُعجِّل زكاتها للعام المقبل والعام الذي بعده، هنا لا بأس، أما قبل أن يكتمل النصاب فلا.

الطالب: يُعجِّل زكاتَه على نصاب العام هذا، وبعد ذلك يجيء له نصاب ثانٍ…

الشيخ: إي نعم، نعم.

الطالب:

الشيخ: نعم، إذا كان الإنسان في بلدٍ ومالُه في بلد آخر، فالأصل أن الزكاة تُخرَج في البلد الذي فيه المال؛ لأن أطماع الفقراء تتعلق بذلك المال في ذلك البلد، يمكن أنه في البلد الآخر لا يدرون الفقراء أن عنده مالًا، ولو علموا لما تعلقت أطماعهم به، بخلاف البلد الآخر فهم يرون أمواله؛ ولذلك يُخرجها في بلد المال.

وهذا بخلاف زكاة الفطر، فإنها تتعلق ببدن المزكي، بينما زكاة المال تتعلق ببلد المال.

باب أهل الزكاة

ثم قال المصنف رحمه الله:

باب: أهل الزكاة.

وهم المستحقون للزكاة.

وهم الثمانية:

أصناف على سبيل الحصر، ذكرهم الله في قوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60].

فقسمها الله بنفسه، ولم يَكِلْ قِسْمتها للنبي، وإنما قسمها بنفسه، ثم قال وصدَّر الآية بقوله: إِنَّمَا التي تُفيد الحصر، وختمها بقوله: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي: أن هذه القسمة صادرة عن علم وعن حكمة.

الأول: الفقير… الثاني: المسكين.

ويجمعهما الحاجة، يجمع الفقيرَ والمسكينَ الحاجةُ، وعرف المؤلف الفقير بأنه:

مَن لم يجد نصف كفايته.

الفقير: فعيل بمعنى مفعول، مشتقٌّ مِن فُقِرَ الظَّهْرُ فهو مفقور، وهو الذي نُزعت فِقْرةُ ظَهْرِه فانقطع صُلْبه، فكأنه قد كُسِر صلبه لشدة حاجته.

وهنا عرَّفه المؤلف بأنه: مَن لم يجد نصفَ الكفاية، أو من لم يجد شيئًا، من لم يجد شيئًا وهو المُعدَم، أو مَن وَجَد دون نصف الكفاية.

ورَبَط المسكينَ بالفقير، فقال:

مَن يجد نصفها أو أكثرها.

المسكين: مِفْعيل، من السكون، وهو الذي أسكنَتْه الحاجة، يعني أذلَّته الحاجة.

ولهذا؛ تجد أن الفقير لا يكون عنده من الحركة كما يكون عند الغني، إذا وجدتَ شخصين في مجلس: أحدهما فقير والآخر غني، تجد أن الغني أكثر حركة وحديثًا من هذا المسكين، المسكين قد أذلته الحاجة.

لكن الفقير أشد حاجةً من المسكين؛ لأنَّ مَن كُسر صلبه أشدُّ حاجةً ممن أذلته الحاجة.

هل هناك فرق بين الفقير والمسكين؟ الفقير والمسكين، مِن الألفاظ التي كما يقول العلماء: إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وهذا له نظير. مَن يذكر لنا مِن نظائر هذا الأسلوب؟

الطالب: الإسلام والإيمان.

الشيخ: الإسلام والإيمان أحسنت! إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.

فالفقير والمسكين، إذا أُطلق الفقير شَمِل المسكين، وإذا أُطلق المسكين شمل الفقير، لكن إذا أطلقا في سياق واحد، كما في الآية الكريمة، فلكل منهما معنى يختلف عن الآخر.

الفقير، المُؤلِّف فرَّق بينهما: بأن الفقير مَن لم يجد نصف كفايته، والمسكين: من يجد نصفها أو أكثرها، ويتفقان في أنهما لا يجدان تمام الكفاية، فمَن يجد تمام الكفاية ليس بفقير ولا مسكين.

فمثلًا: مَن كان عنده دخل شهري يكفيه إلى آخر الشهر، فهذا لا تحل له الزكاة، ليس فقيرًا ولا مسكينًا، بل هو مَكْفيٌّ، ومِن بابٍ أولى إذا كان يدَّخر شيئًا مِن دخله فهذا ليس فقيرًا ولا مسكينًا.

وإذا كان دخله الشهري لا يكفيه فهنا إما أن يكون فقيرًا أو مسكينًا، فإذا كان يكفيه أكثرَ الشهر، يعني يكفيه مثلًا إلى يوم عشرين من الشهر، فهذا يعتبر مسكينًا. طيب إذا كان يكفيه إلى منتصف الشهر، فهذا -ارجع لتعريف المؤلف: (مَن يجد نصف الكفاية أو أكثرها)- مسكين، وإذا كان يكفيه إلى عشرة من الشهر فهذا فقير، وإذا كان لا يجد شيئًا، ما عنده دخلٌ أصلًا، فهذا فقير.

وهذا -كما ترون- ضابط جيد للفرق بين الفقير والمسكين.

وبعض العلماء قال: إن الفقير: هو المحتاج المُتعفِّف الذي لا يسأل. والمسكين: المحتاج الذي يسأل. ورجَّح هذا ابنُ جرير الطبريُّ في “تفسيره”.

ولكن الأقرب -والله أعلم- هو ما ذكره المؤلف، ويؤيد هذا قول الله : أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79] ما وجه الدلالة؟

أثبت الله أن لهم سفينةً، ومع ذلك هم مساكين، وأنهم يعملون في البحر، فدلَّ ذلك على أن المسكين قد يكون عنده مالٌ لكن لا يكفيه؛ ولقول الله : لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الحشر:8].

فدل على أن “الفقير” يشمل مَن لا مال له أصلًا: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، ما لهم مال ولا دار. هذا دليل على أن الفقير يشمل مَن لا مال له ولا دار أصلًا، يعني: مُعدَم. فدل ذلك على صحة ما ذكره المؤلف، وهو الضابط الذي أشرنا إليه.

فالخلاصة: أن الفقير هو المعدم، أو الذي يجد دون نصف الكفاية، وأن المسكين هو الذي يجد نصف الكفاية أو أكثره.

ولذلك لو أن أحدًا مثلًا سألك الزكاة، فأردت أن تعرف هل هو مستحق أو لا؟ تسأله: كم دخلك الشهري؟ هل يكفيك لآخر الشهر؟ اسأله هذا السؤال، فإذا قال: ما يكفيني. إذن هو مستحق للزكاة، وإذا قال: يكفيني، لكن يعني أريد متطلبات الحياة وكذا. معنى ذلك أنه غير مستحق، إذا كان يكفيه إذن فهو غير مستحق، فأنت تسأله هذا السؤال، وبذلك تستطيع أن تعرف هل هو مستحق أو لا.

طيب هنا أيضًا فائدة: وهي أن النبي استعاذ بالله من الفقر، كما جاء في “صحيح البخاري”: أن النبي كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهَرَم، والمأثم والمَغْرم، ومِن فتنة القبر، وعذاب القبر، ومن فتنة النار، وعذاب النار، ومن شر فتنة الغِنَى، ومن شر فتنة الفقر[8].

فكان عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله مِن شر فتنة الغنى، ومن شر فتنة الفقر؛ وذلك لأن الإنسان إذا افتقر فربما يصده ذلك عن العلم، ربما صده عن الدعوة، وربما اشتغل بكسب المعيشة، وربما وقع أيضًا في الفقر الذي يجرُّ إلى بعض المعاصي -كما هو معلوم- من الكذب والجرائم وغير هذا؛ ولهذا استعاذ النبي عليه الصلاة والسلام من شر فتنة الفقر.

أما حديث: اللهم أَحْيِني مسكينًا، وتوفني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين. فهو حديث ضعيف، رواه الترمذي واستغربه[9]، وقال الترمذي: حديث غريب، وكذلك الحافظ ابن حجر قال: إسناده ضعيف، وإن كان الشيخ الألباني صححه، لكن الصحيح أنه ضعيف لا يثبت، جميع طرقه واهية.

والنبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا[10] يعني: يكفيهم، فسأل النبي عليه الصلاة والسلام أن يكون رزق آل محمد كفافًا، يكفيهم.

لكن إذا ابتُلي الإنسان بالفقر أو المسكنة، فإن المطلوب أن يصبر، والمساكين يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين عامًا، لكن لا يتشوف ولا يتمنى ذلك، ولا يدعو به، بل كان النبي عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله من الفقر.

الثالث: العامل عليها.

إذن الثالث هم العاملون عليها. والعاملون عليها: هم الذين يبعثهم الإمام لجمع الزكوات من أهلها، وصرفها للمستحقين، فهم ولاةٌ وليسوا أُجَراء.

وإنما ذكرنا هذا لأجل أن يُعلم أنَّ مَن أُعطي زكاةً ليوزعها، فهذا ليس من العاملين عليها، وإنما هذا وكيل عليها، إما مجانًا، وإما بأجرة.

ولهذا؛ فإن الزكاة إذا تلفت عند العاملين عليها، فإن ذمة المُزكِّي بريئة منها، أما إذا تلفت عند الوكيل، فلا تبرأ ذمة الدافع.

إذن؛ العاملون عليها لا بد أن يكون لهم ولاية من الإمام.

قال:

كجابٍ، وحافظٍ، وكاتبٍ، وقاسمٍ.

(كجابٍ)، الجابي: هو الذي يأخذ الزكاة من أهلها. والحافظ: هو الذي يقوم على حِفظها. والقاسم: هو الذي يقسمها في أهلها. والكاتب: هو الذي يكتب الزكاة.

فهؤلاء كلهم عاملون عليها، وهؤلاء يُعطَون ولو كانوا أغنياء؛ لأنهم يعملون لمصلحة الزكاة، بل قال الفقهاء: إنه ينبغي للإمام أن يبدأ بهم، فيُعطي العاملين عليها من الزكاة أولًا؛ لأن العامل يأخذ عوضًا، فكان حقُّه آكَد ممن يأخذ مواساةً.

ولكن لو أن الإمام رتَّب لهم رواتب من بيت المال، فليس لهم الأخذ من الزكاة إلا بإذن الإمام، كما هو عليه العمل في وقتنا الحاضر هنا في المملكة، فإن الدولة تعطيهم رواتب وتبعثهم، فإذا أَذِنَتْ لهم الدولة في الأخذ منها، فيأخذون بقدر الإذن، وإلا ليس لهم الأخذ.

الرابع: المُؤلَّف.

يعني: مفرد المؤلفة قلوبهم، وعرفه المؤلف، فقال:

وهو السيد المطاع في عشيرته، ممن يُرجى إسلامه، أو يُخشى شره، أو يُرجى بعطيته قوة إيمانه، أو جبايتها ممن لا يُعطيها.

إذن؛ هم الذين يُطلب تأليف قلوبهم على هذه الأمور:

  • الأمر الأول: الإسلام، أن يُرجى إسلامه، بأن يكون كافرًا، لكن يُرجى بإعطائه من الزكاة أن يُسلِم.

فهذا يُعطى من الزكاة؛ لأن هذا فيه حياة لقلبه، فإذا كان الفقير يعطى من الزكاة لإحياء بدنه، فإعطاء الكافر الذي يرجى إسلامه من باب أولى؛ لأن في ذلك إحياءً لقلبه، حتى ولو كان غنيًّا.

ولكن، هنا لا بد أن يكون يرجى إسلامه، أما إذا كان ممن لا يرجى إسلامه من الكفار، فإنه لا يُعطى من الزكاة طمعًا في إسلامه أو أملًا في إسلامه. بل لا بد أن تكون هناك قرائن تدل على أنه يرجى إسلامه؛ مثل أن نعرف أنه يميل إلى المسلمين، أو أنه يطلب كتبًا عن الإسلام، أو أشرطة عن الإسلام، أو نحو ذلك.

فالرجاء لا بد أن يكون مبنيًّا على أساس، أما الراجي للشيء بدون أساس فهذه أمانيُّ.

فإذن؛ لا بد أن يكون هذا الرجاء مبنيًّا على قرائن.

  • الثاني: (أو يُخشى شره)، يعني يرجى بإعطائه من الزكاة كفُّ شرِّه عن المسلمين.

بأن يكون شريرًا على المسلمين، أو على أموالهم، أو على أعراضهم، فإذا أُعطي من الزكاة كف شره؛ لأن الزكاة لها تأثير في النفوس، المال له تأثير في النفوس، وله تأثير في الحب والكره.

ولهذا؛ انظر كيف أن الشريعة جعلت للمؤلفة قلوبهم نصيبًا في الزكاة، ويستطيع الإنسان أن يُغيِّر عواطف غيره بإعطائه ماله، فكما يقولون: “الفلوس تغير النفوس”، يعني: لها أثر في النفوس، حبًّا وكرهًا.

هذه الأمور وهذه النواحي النفسية راعتها الشريعة، هذا يدل على عظمة الشريعة.

  • الثالث: قال: (أو يُرجَى بعطيته قوة إيمانه)؛ يعني: يرجى بإعطائه من الزكاةِ تقويةُ إسلامه.

بأن يكون هذا الإنسان ضعيف الإيمان، وضعيف الإسلام، عنده تهاون في أداء الواجبات، فإذا أعطيناه من الزكاة قوي إسلامه؛ فيعطى من الزكاة.

  • الرابع: (أو جبايتها ممن لا يعطيها)، يعني: أنه يُرجى بإعطائه من الزكاة أن يقوم بجبايتها وأخذها ممن لا يعطيها، فإنه يعطى من الزكاة.

ولكن، هنا هل يشترط أن يكون سيدًا مطاعًا في قومه أو لا يشترط؟

أما إذا كان ممن يُرجى كفُّ شره عن المسلمين، أو جبايتها ممن لا يعطيها، فهنا يشترط أن يكون سيدًا مطاعًا؛ لماذا؟ لأن الواحد الذي ليس بسيد ولا مطاع، لا نحتاج إلى أن نعطيه من الزكاة، وضرره يسير، ونستطيع أن نغلبه، يعني: ليس ضرره كبيرًا، بخلاف ما إذا كان سيدًا مطاعًا.

إذن؛ إذا كان يُرجى كفُّ شرِّه عن المسلمين، فهنا لا بد أن يكون سيدًا مطاعًا، أما إذا لم يكن سيدًا مطاعًا، فإنه لا يُعطى من الزكاة، أما إذا كان يُرجى إسلامه أو تقوية إيمانه، فظاهر كلام المؤلف أيضًا أنه لا بد أن يكون سيدًا مطاعًا.

ولكن القول الراجح -والله أعلم- هو أنه لا يشترط هذا الشرط؛ لماذا؟ لأن حِفظ الدين وإحياء القلب أولى من حفظ الصحة وإحياء البدن، فإذا كان الفقير يُعطى لحفظ بدنه، فهذا الذي يعطى لأجل حفظ قلبه ودينه من باب أولى.

ولهذا نقول: القول الراجح إذن اشتراط السيد المطاع؛ أنه إذا كان يرجى بذلك إسلامه أو تقوية إسلامه، فلا يشترط أن يكون سيدًا مطاعًا، أما إذا كان يرجى كف شره عن المسلمين، أو جباية الزكاة ممن لا يعطيها، فهنا يشترط أن يكون سيدًا مطاعًا.

وعلى ذلك مثلًا مكاتب الجاليات، يقولون مثلًا: إنه يحضر تفطيرَ الصائمين أناسٌ لو أعطيناهم من الزكاة لأسلموا، ونعرف أنهم ليسوا سادة مطاعين في عشائرهم، فهل يجوز أن نعطيهم من الزكاة؟

الطالب:

الشيخ: نعم، يجوز، على القول الراجح أنه يجوز، لا يشترط هذا الشرط بالنسبة لمن كان يرجى إسلامه، أو كان حديث عهد بإسلام ويرجى لو أعطيناه من الزكاة لقوي إسلامه، فنعطيه ولا نشترط هذا الشرط.

أما مَن كان يُرجى كف شره عن المسلمين، هذا لا بد أن يكون سيدًا له أتباع وله قوة، أما إذا كان شخصًا واحدًا فهذا لا يضر المسلمين.

قال:

الخامس: المُكاتَب.

وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: وَفِي الرِّقَابِ [البقرة:177]، وهم الذين اشتروا أنفسهم من أسيادهم، فالمكاتب مأخوذ من الكتابة؛ لأن الكتابة تقع بين السيد وبين العبد؛ وذلك بأن يتفق العبد مع سيده على أن يعطيه أقساطًا منجمة يكون حرًّا إذا دفعها كلها، ذكر الله تعالى ذلك في قوله: فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33]. فيجوز أن يُعطى المُكاتَب ما يُوفِّي به سيده.

وقاس على ذلك الفقهاءُ فكَّ الأسير المسلم، فيجوز أن يُعطى من الزكاة ما يُفك به الأسير المسلم؛ لأنه إذا جاز أن يُفك العبد من رِقِّ العبودية، ففك بدن الأسير من باب أولى؛ لأن هذا الأسير هو في محنة أشد من رق العبودية، وهي محنة الأسر؛ ولأنه مُعرَّض للقتل، لا سيما إن هدَّده الآسر بقتله إن لم يدفع إليه فدية.

ولهذا؛ فنقول: يجوز أن يدفع من الزكاة لفك الأسرى المسلمين، ويدخل ذلك في قوله: وَفِي الرِّقَابِ.

السادس: الغارم، وهو: مَن تديَّن للإصلاح بين الناس، أو تديَّن لنفسه وأعسر.

أقسام الغارمين

قسَّم المؤلف الغارمين إلى قسمين:

  • القسم الأول: الغارمين للإصلاح بين الناس.

فهؤلاء يُعطون من الزكاة تشجيعًا لهم على هذا العمل النبيل، حتى ولو كانوا أغنياء.

كأن يحصل بين جماعتين أو قبيلتين عداوة وفتنة، والغالب في الفتن التي تحصل، الغالب أن يكون سببها أمورًا دنيوية، فيأتي أحد الناس ولا يتمكن من الإصلاح بينهم إلا ببذل المال، فيلتزم لكل جماعة أو لإحدى الجماعتين ببذل مال، وربما يكون هذا المال كبيرًا.

فهذا يجوز أن يعطى من الزكاة، لكن يعطى من الزكاة إذا نوى الرجوع لأهل الزكاة، إذا دفع من ماله ونوى الرجوع على أهل الزكاة، أو أنه التزم في ذمته بأن يدفع مالًا، فذمته هنا مشغولة، فيُعطى من الزكاة.

أما إذا دفع من ماله ولم ينو الرجوع على أهل الزكاة، فإنه لا يُعطى من الزكاة، وهكذا إذا دفع من ماله بنية التقرب إلى الله ، فإنه لا يُعطى من الزكاة؛ لأنه أخرجها لله .

إذن متى يُعطَى من الزكاة؟ يعطى من الزكاة إذا نوى الرجوع على أهل الزكاة، أو أنه التزم في ذمته بدفع هذا المال، فيعطى من الزكاة. أما إذا كان دَفَع مِن ماله من غير نية الرجوع، أو نوى التقرب إلى الله بهذا، فلا يعطى من الزكاة. هذا هو القسم الأول.

  • القسم الثاني: الغارم لنفسه.

وهو الذي ذَكَره المؤلف بقوله: (أو تديَّن لنفسه وأعسر)، فهذا يعطى من الزكاة ما يُسدِّد به دَينه، بشرط أن يكون عاجزًا عن سداد الدَّين.

وانتبه لهذا الشرط: بشرط أن يكون الدَّين حالًّا، وأن يكون عاجزًا عن سداد الدين، أما إذا كان الدين ليس حالًّا، فلا يعطى من الزكاة، وهكذا لو كان ليس عاجزًا عن سداد الدين.

وإلا لو قلنا: بأن الغارم يعطى مطلقًا، لكان لكثيرٍ من الأغنياء الآن. وكثير من التجار غارمون، كثير من التجار الآن عليهم ديون، بل أمور التجارة في الوقت الحاضر قائمة على الديون، فتجد هذا التاجر يتديَّن من هذا، ويبيع هذا.

فإذن؛ لا بد أن نشترط بأن يكون عليه دَين حالٌّ وهو عاجز عن سداده، لا بد من هذا الشرط.

وبعض الناس يفهم هذه المسألة خطأ، أنا أذكر: أتاني في هذا المسجد رجل، وذكر أن عليه ديونًا، فهو من الغارمين، وأنه مستحق للزكاة، فلما سألته عن دخله، قال: إنه أكثر من عشرة آلاف. دَخْله كدخل الأغنياء، قال: لكنني من الغارمين. قلت: لا، الغارم الذي عليه دَين عاجزٌ عن سداده، وأنت غير عاجز عن سداده، أنت تستطيع جدولة الدين على مرتبك.

فانتبهوا لهذه المسألة، هذه يخطئ في فهمها بعض الناس، إذن لا بد أن يكون الغارم عاجزًا عن سداد الدين، يكون هذا الدين حَلَّ عليه وهو عاجز عن سداده.

هل يجوز أن نذهب للدائن ونعطيه مباشرة من غير أن يُسلِّم الزكاة للمدين؟

نعم، يجوز ذلك؛ وذلك لأن الله قال: وَفِي الرِّقَابِ فهنا أتى بحرف الجر “في” وعطف عليها الغارمين: وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ، بينما في الفقراء والمساكين أتى باللام الدالة على التمليك: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ هؤلاء لا بد من تمليكهم وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ [التوبة:60] هنا لا يشترط تمليكهم، وإنما تسديد الدائنين، متى ما أُعطي الدائن حصل المقصود.

هل الأفضل أن تُعطى الزكاة للدائن أو المدين؟

بل حتى يجوز أن نذهب للدائن ونُعطيه مِن غير علم المدين، ثم نخبر المدين بعد ذلك، هذا كله يجوز، لكن أيهما أفضل؟ نقول: في هذا تفصيل:

إن كان الغارم ثقة حريصًا على سداد الدين، فالأفضل أن نعطيه الزكاة، لكي يتولى الدفع عن نفسه، أما إذا كان هذا الغارم سيئ التدبير وإذا أعطيناه هذه الزكاة سوف يذهب ويسيء تدبيرها ولن يسدد الدَّين الذي عليه؛ فنذهب للدائن مباشرة ونعطيه الزكاة.

هل يُقضى دين الميت من الزكاة أو لا؟

هذه المسألة مهمة، هل يُقضى دَين الميت من الزكاة أو لا؟

اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين مشهورين:

فمِن أهل العلم مَن جوَّز قضاء ديون الأموات من الزكاة، وهو وجه عند الحنابلة، واختاره أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، واستدلوا بقول الله : وَالْغَارِمِينَ وقالوا: إن الميت أولى بإبراء الذمة من الحي.

والقول الثاني في المسألة وهو قول الجمهور، والذي عليه المذاهب الأربعة؛ الحنفية والحنابلة والمالكية والشافعية والحنابلة: أنه لا يُقضى دَين الميت من الزكاة، بل حكاه أبو عبيد في كتابه “الأموال” إجماعًا، وحكاه الحافظ ابن عبدالبر إجماعًا.

مع أن المسألة ليس فيها إجماع، لكن هذا يبين لك أن هذا هو قول أكثر علماء الأمة.

وهذا هو الأظهر: أنه لا يسدد دين الميت من الزكاة؛ وذلك لأن النبي كان لا يقضي ديون الأموات من الزكاة، كان عندما يؤتى بالميت يسأل: هل عليه دين أو لا؟ فإن كان عليه دين لم يُصلِّ عليه؛ ولمَّا فتح الله عليه وكثرت الأموال، صار يقضي الدَّين مما فتح الله عليه[11]. ولو كان قضاء الدَّين عن الميت جائزًا لفعله النبي .

ولأن الظاهر من إعطاء الغارم هو أن يُزال عنه ذُلُّ الدَّيْن؛ لأن الدَّين ذُلٌّ، وهذا غير وارد بالنسبة للميت؛ ولأنه لو فُتح هذا الباب لَتعطَّل قضاء ديونِ كثيرٍ من الأحياء؛ لأنَّ العادةَ أن الناس يَعطفون على الميت أكثرَ من الحي، والأحياء أحقُّ بالوفاء من الأموات.

ولأن ذمة الميت قد خربت بموته، فلا يسمى غارمًا؛ ولأن الميت إذا كان قد أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله تعالى عنه، وإذا أخذها يريد إتلافها، أتلفه الله ، ولم ينفعه سداد الدين عنه.

فالأقرب -والله أعلم- أنه لا يسدد دين الميت من الزكاة، هذا هو الذي عليه أكثر أهل العلم.

قال:

السابع: الغازي في سبيل الله.

يعني: المجاهدون في سبيل الله، فهؤلاء يُعطون من الزكاة، والمقصود بهم: الغزاة في سبيل الله الذين لا ديوان لهم، يعني: ليس لهم رواتب مستمرة، وإنما متطوعون في جيش المسلمين.

وفي الوقت الحاضر أصبحت الدول الإسلامية تعطي أفراد جيوشها مرتبات مستمرة، فهؤلاء الجنود لا يدخلون في مصرف “في سبيل الله”، ولا تحل لهم الزكاة لأجل ذلك.

هل يشمل مفهوم في سبيل الله وجوه البر؟

لكن هل ينحصر مفهوم “في سبيل الله” في الجهاد في سبيل الله، أو يشمل ذلك جميع وجوه البر؟

اختلف العلماء في ذلك، فمِنهم مَن قال: إن المصرف في سبيل الله يشمل جميع وجوه البر، فكل أعمال البر تدخل في هذا المصرف، فيشمل عندهم بناء المساجد، وإصلاح الطرق، وبناء المدارس، وطباعة الكتب، ونحو ذلك مما يُقرِّب إلى الله .

لكن هذا القول قول ضعيف؛ لماذا؟ لأننا لو فسرنا الآية بهذا المعنى لم يكن للحصر المذكور في قول الله : إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.. الآية، لم يكن له فائدة، ولقال الله : إنما الصدقات في سبيل الله، وشمل ذلك جميع الأصناف: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60].

ولهذا؛ قال المباركفوري عن هذا القول: هذا القول هو أبعد الأقوال؛ لأنه لا دليل عليه من كتابٍ ولا من سنة صحيحة أو سقيمة، ولا من إجماع، ولا من رأي صحابي، ولا من قياس صحيح أو فاسد، بل هو مخالف للحديث الصحيح الثابت، وهو حديث أبي سعيد: لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله، أو ابن سبيل، أو رجل له جارٌ مسكين تصدق عليه فأهدى له[12].

قال: ولم يذهب إلى هذا التعميم أحد من السلف، إلا ما حكى القفال في “تفسيره” عن بعض الفقهاء المجاهيل، والقاضي عياض عن بعض العلماء غير المعروفين.

وبُحثتْ هذه المسألة في مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة قديمًا، قبل أكثر من ثلاثين عامًا، وصدر فيها قرار بأن المقصود بالمصرف “في سبيل الله”: الجهاد في سبيل الله فقط، وأنه لا يشمل جميع وجوه البر.

إذن؛ هذا هو القول الراجح: أن مقصود “في سبيل الله”: الجهاد في سبيل الله، لكن أيضًا الجهاد في سبيل الله له بحث آخر: هل ينحصر مفهوم الجهاد في سبيل الله على الجهاد بالسلاح أو أنه يشمل الجهاد بالكلمة؟

مِن أهل العلم مَن حصره على الجهاد بالسلاح، وهذا هو ظاهر المذهب. ولكن قال بعض أهل العلم: إنه يشمل الجهاد بالكلمة، فيشمل جهاد الدعوة؛ لأن الجهاد بالسلاح إنما شُرع لأجل نشر الدعوة، لأجل نشر دعوة الإسلام.

ولهذا؛ لو أن الكفار عندما أردنا أن نقاتلهم أعلنوا إسلامهم، فإنه لا يجوز قتالهم، فجهاد السلاح إنما شُرع لأجل نشر الدعوة، فنشر الدعوة هو الأساس.

وهذا هو الأظهر -والله أعلم-: أن الجهاد لا ينحصر في جهاد السلاح، وإنما يشمل جهاد الدعوة كذلك.

وعلى ذلك؛ يجوز دفع الزكاة لكل ما تمحَّض في أمور الدعوة إلى الله .

وعلى ذلك؛ مكاتب الدعوة يجوز أن يُدفَع لها من الزكاة، فإنها تقوم بجهاد، لكن جهاد دعوة، والآن كما ترون معظم الجهاد الذي يملكه المسلمون في الوقت الحاضر هو جهاد دعوة.

وإذا كانت الكنائس وغير المسلمين -يعني الكفار- يبذلون أموالًا عظيمة في سبيل نشر أديانهم ومِلَلِهم، فما أحرى بالمسلمين أن يبذلوا أموالًا لنشر الدعوة، إلى نشر الإسلام، والدعوة إلى هذا الدين الصحيح، الدين الحق، الذي لا يقبل الله تعالى من العبد دينًا سواه.

وهذا، قد أفتت به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، في وقت سماحة الشيخ عبدالعزيز ابن باز رحمه الله، بأن هذا يشمل جهاد الدعوة، ولا ينحصر في الجهاد بالسلاح.

طيب، حلقات تحفيظ القرآن الكريم، هل تدخل في هذا، فيجوز دفع الزكاة إليها أو لا؟

نحن قلنا: مكاتب الدعوة يجوز؛ لأن مكاتب الدعوة تقوم بجهاد الدعوة، فيدخل ذلك في سبيل الله؛ لكونها تمحَّضت للدعوة، لكن حلقات التحفيظ؟

الطالب:

الشيخ: طيب، ما هو الدليل؟

الطالب: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52].

الشيخ: أحسنت، وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا جاهدهم بأي شيء؟ بالقرآن، فسمَّى الله الجهاد بالقرآن جهادًا كبيرًا بنص الآية، فدل ذلك على أن تعليم القرآن أنه من جهاد الدعوة بنص الآية: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ يعني: بالقرآن جِهَادًا كَبِيرًا.

وبناء على هذا؛ يجوز دفع الزكاة لحلقات تحفيظ القرآن، ولكن ينبغي أن يتمحَّض ذلك فيما هو من أمور التحفيظ، كأن يكون في دفع رواتب للمعلمين، ونحو ذلك. أما الأنشطة المصاحبة، فينبغي عدم التوسع فيها. هذا هو الأظهر، والله أعلم.

ليس من باب أن المصرف “في سبيل الله” يشمل كل وجوه البر، لا، نحن قلنا: هذا قول ضعيف، لكن من باب أن الجهاد في سبيل الله مفهومه واسع، لا ينحصر في الجهاد بالسلاح، وإنما يشمل جهاد الدعوة، ومن أعظم جهاد الدعوة: الجهاد بالقرآن: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا، فيدخل في ذلك تعليم القرآن، وتعليم أبناء المسلمين كتاب الله ، فهو من جهاد الدعوة.

طيب قال:

الثامن: ابن السبيل، وهو الغريب المنقطع بغير بلده.

( الغريب المنقطع بغير بلده)، فهذا يجوز أن يُعطى من الزكاة ما يُوصِّله إلى بلده.

فـ(ابن السبيل)، السبيل: هو الطريق، وابن السبيل: هو المسافر؛ سُمِّي بذلك لأنه مُلازِم للطريق، فإذا انقطع به السفر بأن تكون نَفِدَتْ نفقته، أو ضاعت أو سُرقت، فيُعطى من الزكاة.

كأن تجد مثلًا أحدًا في الحرم أو في مكة سُرقت نفقته، سُرقت محفظته مثلًا، ما بقي عنده شيء، فهنا يجوز أن يُعطى من الزكاة، حتى ولو كان غنيًّا في بلده يُعطى ما يوصله إلى بلده، ويكون هذا هو ابن السبيل.

هؤلاء هم أصحاب الزكاة الثمانية، قال:

فيُعطى الجميع من الزكاة بقدر الحاجة.

يعني: هؤلاء كل منهم بقدر حاجته، فالفقير والمسكين قال بعض أهل العلم: إنهم يُعطون من الزكاة بقدر ما يكونوا أغنياء، يعني يعطى الفقير والمسكين إلى أن يصبح غنيًّا ويزول عنه وصف الفقر.

وقال آخرون: إنه يعطى من الزكاة بقدر ما يكفيه لسنة. فهذا هو الصحيح: أنه يعطى من الزكاة بقدر ما يكفيه لسنة؛ لأن الزكاة تتجدد كل سنة، فهذا هو الأقرب، يعطى إذن كلٌّ منهم ما يكفيه لسنةٍ.

وهكذا أيضًا بقية أصحاب الزكاة يُعطون بقدر حاجتهم، إلا العاملين عليها، قال:

إلا العامل فيُعطى بقدر أجرته، ولو غنيًّا أو قِنًّا.

فيُعطى بقدر أجرته.

حكم دفع الزكاة للولاة من الخوارج والبغاة

ثم قال المصنف رحمه الله:

ويجزئ دفعها إلى الخوارج والبغاة.

يعني: لو كانوا ولاة، لو كان الوالي من الخوارج، أو من البغاة، فيجزئ دفعها إليهم؛ لأن هذا هو المأثور عن الصحابة ، وقد ورد عن ابن عمر، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما.

وكذا مَن أخذها من السلاطين، قهرًا أو اختيارًا، عَدَل فيها أو جارَ.

فيُعطى، بغض النظر عن حال السلطان، قال الموفق: وهو قول الصحابة من غير خلاف في عصرهم علمناه، فيكون إجماعًا.

ولهذا؛ قيل لابن عمر: إنهم يقلدون بها الكلاب، ويشربون بها الخمور؟ قال: ادفعها إليهم. وروي ذلك عن أبي هريرة وأبي سعيد وسعد بن أبي وقاص .

من الذي لا يجزئ دَفْع الزكاة إليهم؟

قال:

فصل: ولا يجزئ.

انتقل المؤلف للكلام عمن لا يجزئ دفع الزكاة إليه، وابتدأ بالكافر، قال:

ولا يجزئ دفع الزكاة للكافر.

(لا يجزئ دفع الزكاة للكافر)، وقد حكاه ابن المنذر إجماعًا، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن الذمي لا يُعطى من زكاة الأموال شيئًا، قال الموفق ابن قدامة: لا نعلم خلافًا بين أهل العلم: أن زكاة المال لا تُعطى لكافر، ولا مملوك، فالمسألة محل إجماع.

ولكن يُستثنى مِن الكافر مَن؟

طالب: المؤلفة قلوبهم.

الشيخ: المؤلفة قلوبهم، إذن نقول: ويستثنى من ذلك أن يكون الكافر من المؤلفة قلوبهم، فيجوز دفع الزكاة إليه، إذا كان يُرجى إسلامه، حتى وإن لم يكن سيدًا مطاعًا في قومه، على القول الراجح؛ لأن -كما سبق- حِفظ الدين وإحياء القلب أولى من حفظ الصحة.

لكن، إذا كان الكافر يرجى كف شره عن المسلمين، فلا بد أن يكون سيدًا مطاعًا في قومه، كما سبق.

طيب، هل يجوز أن يُعطى الكافر من صدقة التطوع؟ مثل ما لو -مثلًا- أصابت بعض الكفار فيضانات أو أعاصير أو زلازل، هل يجوز للمسلمين يقدموا لهم تبرعات ومساعدات نقدية أو لا يجوز؟

الطالب:

الشيخ: يجوز، طيب الدليل، من يذكر لنا؟

الطالب: يجوز.

الشيخ: الحكم أنه يجوز، لكن نريد دليلًا من القرآن.

الطالب:

الشيخ: لا، نريد من القرآن أولًا.

الطالب:

الشيخ: يعني: هذا صحيح، لكنه عامٌّ، لكن فيما هو أصرح منه.

الطالب: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ [الإنسان:8].

الشيخ: أحسنت، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8]، الشاهد قوله: وَأَسِيرًا، ولم يكن الأسير يومئذٍ إلا كافرًا.

وأيضًا عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: قَدِمَتْ عليَّ أمي وهي مُشرِكة، فقلتُ: يا رسول الله، إن أمي قدمت عليَّ وهي راغبة، أفأَصِلُها؟ قال: نعم، صِلِي أُمَّكِ، وهذا في الصحيحين[13].

وأيضًا، كسا عمر أخًا له مشركًا حُلَّةً كان النبي أعطاه إياها، وهذا في الصحيحين أيضًا[14].

فإذن، عند العلماء أنه يجوز إعطاء الكفار من صدقات التطوع؛ ولعموم: في كل كبد رطبةٍ أجرٌ[15]؛ فيجوز إذن إعطاؤهم من صدقة التطوع، أما الزكاة فلا يجوز إلا أن يكونوا من المؤلفة قلوبهم.

طيب، قال:

ولا للرقيق.

وذلك لأن نفقة الرقيق على سيده، فلا يُعطى من الزكاة.

ولا للغني بمالٍ أو كَسْبٍ.

فالغني لا يجوز أن يُعطى من الزكاة، سواء كان غنيًّا بماله، أو كان قويًّا مكتسبًا؛ لقول النبي : لا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب[16].

حكم دفع الزكاة للزوج

قال:

ولا للزوج.

أي: أنه لا يجزئ دفع الزكاة من المرأة لزوجها.

أولًا: دفع الزكاة من الزوج لزوجته هذا لا يجوز باتفاق العلماء، حكاه ابن المنذر إجماعًا؛ وذلك لأن نفقة الزوجة على زوجها، فتستغني به عن أخذ الزكاة، أما دفع الزوجة الزكاة لزوجها إذا كان من أهل الزكاة، فيرى المؤلف أنه لا يجوز.

وقد اختلف العلماء في هذه المسألة:

فمِن أهل العلم من قال: إنه لا يجوز ولا يجزئ؛ وذلك لأنها تنتفع بدفع الزكاة إليه، تنتفع من ذلك بأن يعطيها من الزكاة لنفقتها.

والقول الثاني في المسألة: أنه يجوز دفع الزكاة إلى الزوج إذا كان من أهل الزكاة، قال المَرْداوي في “الإنصاف”: إن هذا هو المذهب عند الحنابلة.

فيكون المؤلف قد خالف المذهب في هذه المسألة، وإن كان أيضًا صاحب “الزاد” كذلك، لكن حقَّق المرداوي في “الإنصاف”: أن المذهب عند الحنابلة هو أنه يجوز دفع الزكاة إلى الزوج.

ويدل لهذا ما جاء في “صحيح البخاري” و”مسلم”، في قصة امرأة ابن مسعود لمَّا ذهبت تستفتي النبي في دفع الزكاة إلى زوجها، وإلى أيتام في حجرها، فقال : نعم، يجوز، ولك أجران؛ أجر الصدقة، وأجر القرابة أو قال: الصلة[17] يعني: بالنسبة للأيتام الذين في حجرها، وكذلك أيضًا بالنسبة لزوجها، أجاز النبي عليه الصلاة والسلام هذا.

لكن اعتُرض على الاستدلال بهذا الحديث، بأنها إنما سألت عن الصدقة، وليس عن الزكاة.

لكن، أجاب عن هذا بعض أهل العلم كالحافظ ابن حجر، قال: إن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يُنزَّل منزلةَ العموم في المقال. فلما لم يستفصل النبيُّ : هل هي صدقة أو هي زكاة؟ دل ذلك على أنه يجزئ دفع الزكاة إلى الزوج.

ولعموم الأدلة إذا كان فقيرًا أو مسكينًا، يدخل في عموم قول الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ [التوبة:60]؛ ولأن المرأة ليست مُلزَمة بدفع النفقة إلى الزوج.

فلذلك؛ الصحيح: أنه يجوز للمرأة أن تدفع الزكاة لزوجها إذا كان من أهل الزكاة.

قال:

ولا لبني هاشم.

يعني: لا يجوز دَفع الزكاة لبني هاشم. وبنو هاشم يعني: ذرية هاشم بن عبد مناف. وهاشم منزلته بالنسبة للنبي هو الأب الثالث، محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم، فهو الجد الثاني والأب الثالث، ابن هاشم بن عبد مناف، عبد مناف له أربعة أولاد، وهم: هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس.

وبنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد في النصرة؛ وذلك لأن بني المطلب لمَّا حاصرتْ قريشٌ بني هاشم، انضم إليهم بنو المطلب، فقال عليه الصلاة والسلام: إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد[18].

لما احتجَّ بعض الناس على النبي عليه الصلاة والسلام في إعطائه من الخمس، إعطائه لبني المطلب، ولم يُعطِ بني عبد شمس وبني نوفل، فقال: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد؛ ولكن هذا إنما هو في الخمس، وأما بالنسبة في الزكاة فالصحيح أن هذا خاص ببني هاشم، وأن بني المطلب ليسوا من آل محمد ، وأما تشريكهم في الخمس فلأنه مبني على النصرة وعلى المؤازرة.

ولذلك؛ فالحكم خاصٌّ ببني هاشم فقط، الحكم خاص ببني هاشم فقط، ولا يشمل ذلك بني المطلب. لكن، لو أن بني هاشم لم يُعطَوا من الخمس وكانوا فقراء، كما هو عليه الأمر في وقتنا الحاضر، فهل يجوز لهم الأخذ من الزكاة؟

اختلف العلماء في هذه المسألة:

  • فمِن أهل العلم من أخذ بعموم الأدلة، قالوا: إنه لا يجوز لهم حتى لو كانوا فقراء.
  • والقول الثاني في المسألة: أنهم إذا كانوا فقراء ولم يُعطوا من الخمس، فيجوز لهم الأخذ من الزكاة، وهذا هو القول الراجح.

ولذلك؛ فالذين ينتسبون لآل البيت يَسألون هذا السؤال، يعني إذا كان عندنا فقراء، فهل يجوز لنا أن نأخذ من الزكاة أو لا؟

القول الراجح: أنه يجوز، إذا لم يُعطوا من الخُمس ما يكفيهم فيجوز، كما هو عليه الأمر في وقتنا الحاضر، فيجوز أن يعطوا من الزكاة. وهذا هو اختيار أبي العباس ابن تيمية رحمه الله.

أما صدقة التطوع، فإنها تُدفع لبني هاشم؛ لأنَّ صدقةَ التطوعِ كَمَالٌ، وليست أوساخَ الناس، فتُعطى صدقة التطوع لهم، لكن الكلام فقط في الزكاة.

قال المصنف:

فإن دَفَعها لغير مستحقها وهو يجهل، ثم علم، لم يُجْزِه، ويستردها منه بنمائها، وإن دفعها لمن يظنه فقيرًا فبان غنيًّا أجزأ.

إذا دفع الزكاة لغير مستحقها وهو يجهل، يعني: لم يعلم بذلك، فيقول المؤلف: إذا علم بعد ذلك، فإن هذا لا يجزئه؛ وذلك لأن الزكاة لم تصل إلى مستحقيها، كما لو أعطى رجلًا يظنه غارمًا، فتبين أنه ليس بغارم، فيجب عليه أن يُخرج الزكاة مرة أخرى؛ لأن العبرة بما في نفس الأمر، يعني: بالواقع.

واستثنى المؤلف مِن هذا: ما إذا دفع الزكاة لمن يظنه فقيرًا فبان غنيًّا، فيقولون: إن هذا يُجزئ؛ لأن الفقر أمرٌ خفيٌّ، فيجزئ ذلك.

ولقصة الرجل الذي تصدَّقَ ليلةً مِن الليالي، فأصبح الناس يتحدثون بصدقته، فتصدق على غنيٍّ، فأصبح الناس يتحدثون: تُصُدِّق الليلةَ على غنيٍّ. فقال: الحمد لله على غني. ثم خرج فتصدَّق على بغيٍّ زانية، فأصبح الناس يتحدثون، فقال: الحمد لله على بغي. ثم تصدق مرة ثالثة، فوقعت بيد سارق، قال: الحمد لله على يد سارق. فقال: الحمد لله على غني، وبغي، وسارق.

فقيل له: أمَّا صدقتك فقد قُبلت، أما الغني فلعله يتذكر ويتصدق، وأما البغي فلعلها تستعف، وأما السارق فلعله يكتفي بما أعطيته من السرقة. وهذا الحديث في الصحيحين[19].

فقالوا: إن الفقر أمر خفي، فقد يخفى؛ ولذلك إذا دفع الزكاة لمن يظنه فقيرًا فبان غنيًّا أجزأ.

وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا دفع الزكاة إلى من يظنه من أهل الزكاة، فبان أنه ليس من أهلها، فإنه يُجزئ، سواء كان فقيرًا أو غارمًا، أو أي صنف من أصناف الزكاة؛ وذلك لأنه قد اتقى الله تعالى ما استطاع، فالله تعالى يقول: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]؛ ولأن العبرة في العبادات بما في ظن المكلف؛ ولأنه يجوز دفع الزكاة لمن قَبِلها ولم يظهر عليه غِنًى؛ لقول النبي : إن شئتما أعطيتكما، ولا حظَّ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب[20].

لكن، هل يُطالب مَن يطلب الزكاة أو مَن يدعي أنه من أهل الزكاة، هل يطالب بالبينة، أو لا يلزم مطالبته بالبينة؟

الطالب:

الشيخ: طيب، مسألة الظهور قد يعني ما تنضبط.

الطالب: … لا يطالب بالبينة، بدليل قول النبي : إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب.

الشيخ: نعم، الصحيح أنه لا يطالب بالبينة؛ لهذا الحديث؛ لأن رجلين جَلْدين أتيا النبي يسألانِه كما عند أبي داود، فقال: إن شئتما أعطيتكما، ولا حظَّ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب.

وعلل ذلك ابن تيمية رحمه الله فقال: لأن مطالبة الفقير بالبينة يُفضي إلى حرمان كثير من الفقراء من الزكاة، كثير من الفقراء ما يجدون بينة تدل على أنهم فقراء، بينما إعطاء من طلب الزكاة أو من سألها من غير بينة، يترتب عليه أيضًا مفسدة، وهي: أن الزكاة تصل إلى غير مستحقيها. لكن مفسدة حرمان الفقير المستحِق أشد من مفسدة إعطاء الزكاة من لا يستحقها.

انتبه لهذه الفائدة؛ ولذلك يُعطَى الزكاةَ كلُّ مَن سألها إذا لم يظهر عليه غِنًى.

أتاك إنسان، قال: والله أنا مستحق للزكاة. يعني ما ظهر عليه غنى، فيجوز أن تعطيه، ولا تقل: أعطني البينة.

وهذا في الحقيقة يريح الإنسان كثيرًا؛ فأحيانًا الإنسان يشتبه عليه الأمر: ما يدري هل هذا مستحق للزكاة أو لا؟ فمَن قَبِل الزكاة أو سألها، ولم يظهر عليه غنى، فيجزئ إعطاؤه مِن غير أن يُطالَب بالبينة.

الطالب: يقول المؤلف: (ويستردها منه بنمائها).

الشيخ: نعم، يعني هذا على قول مرجوح، على قول مرجوح: أنه لا يجزئه، ويستردها منه بنماء لو كان لها نماء، يعني: يسترد الزكاة بنمائها في المتصل والمنفصل، لكن هذا قول مرجوح كما ذكرنا، والصواب أنها تجزئ.

طيب، ننهي كلام المؤلف، ثم نتيح الفرصة للأسئلة.

حكم إعطاء الزكاة للأقارب

قال:

وسُن أن يُفرِّق الزكاة على أقاربه الذين لا تلزمه نفقتهم، على قدر حاجتهم، وعلى ذوي الأرحام؛ كعمته وبنت أخيه.

يعني: الأفضل في الزكاة أن يُعطيها لأقاربه المستحقين؛ وذلك لأنه إذا أعطاها أقاربه يجمع بين الزكاة وصلة الرحم؛ لقول النبي كما في حديث سلمان بن عامر: الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة[21]. رواه النسائي، والترمذي وقال: “حديثٌ حسنٌ”، وقال الحاكم: “صحيح الإسناد”.

فإذن؛ ينبغي أن يتحرى المسلم أقاربه الفقراء، فإعطاؤهم من الزكاة أفضل من الأباعد.

قال:

وتُجزئ إن دفعها لمن تبرَّع.

وهنا يعني قال المؤلف: أقاربه الذين لا تلزمه نفقتهم، يُفهم من هذا أن أقاربه الذين تلزمه النفقة عليهم لا يجوز دفع الزكاة إليهم؛ وذلك كأولاده ووالديه، وهو ما يُعبِّر عنه الفقهاء بعمودَيِ النسب، فهؤلاء لا تُدفع لهم الزكاة؛ لأنه مُطالَبٌ بنفقتهم.

قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الزكاة لا يجوز دفعها إلى الوالدين في الحال التي يُجبر الدافع إليهم على النفقة عليهم؛ ولأن دفع الزكاة إليهم يُغنيهم عن نفقته ويُسقطها عنهم فيعود نفعها إليه، فكأنه دفعها عن نفسه؛ فلم يجز.

لكن في الحالة التي لا تجب نفقته عليه، كولد البنت مثلًا، ولد البنت لا يجب على الإنسان أن ينفق عليه، هل يجوز دفع الزكاة إليه؟

نقول: نعم، ولد البنت هو داخل في الولد، لكنه لا يجب النفقة عليه، فيجوز لك الزكاة إليه إذا كان فقيرًا.

طيب، بالنسبة للوالدين والأولاد إذا كانوا غارمين، فيجوز دفع الزكاة إليهم في أظهر قولي العلماء، واختاره أبو العباس ابن تيمية رحمه الله؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إذا كان على الولد دَين، ولا وفاء له، جاز أن يأخذ من زكاة أبيه في أظهر قولي العلماء.

لأنه لا يجب على الإنسان أن يسدد دين والده، ولا يجب عليه أن يسدد دين ولده، وحينئذٍ فيجوز له أن يعطيه من الزكاة ما يسدد به الدين.

فإذن؛ يجوز إذا كان على أبيك دين، يجوز أن تعطيه من الزكاة ما يسدد به الدين، أو على ولدك دين، فيجوز أن تعطيه من الزكاة ما يسدد به الدين، أما ما عدا ذلك فلا يجوز.

الإخوة والأخوات، هل يجوز دفع الزكاة إليهم؟

هذا فيه تفصيل، اختلف العلماء في هذه المسألة، والأقرب أنه إذا لم يكن بين القريبين توارث، فيجوز دفع الزكاة إليهم، إذا كانوا من أهل الزكاة، أما إذا كان بينهم توارث فلا يجوز.

ونُوضِّح هذا بمثالٍ؛ مثلًا: إذا كان يوجد أخوك وأبوك، أبوك موجود فليس بينك وبين أخيك توارث، إذا كان أخوك محتاجًا يعني فقيرًا أو مسكينًا، فيجوز أن تعطيه من الزكاة، لكن لو كان أخوك ترثه لو مات، إذا كان الأب ليس موجودًا، وليس لأخيك أبناء، فهنا لا يجزئ أن تدفع الزكاة إليه؛ لأنك ترثه لو مات، فإذا كنت ترثه لو مات فيجب عليك أن تُنفق عليه أصلًا؛ لقول الله : وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233].

وهذه قاعدة: أنه إذا كان أحد القريبين يرث الآخر، فلا يجوز دفع الزكاة إليه، أما إذا كان لا يرثه فيجوز دفع الزكاة إليه إذا كان من أهل الزكاة، طبعًا باستثناء مسألة الدَّين كما ذكرنا.

قال:

وتجزئ إن دفعها لمن تبرَّع بنفقته بضمه إلى عياله.

يعني: لو أنه تبرع بنفقة أيتام مثلًا، وضمَّهم إلى عياله، فدَفَع الزكاة إليهم، جاز ذلك؛ لدخوله في عموم الأدلة، ولا نص ولا إجماع يُخرجهم عن العموم؛ ولقصة امرأة ابن مسعود لما قالت: يا رسول الله، أيجزئ عني أن أنفق على ابن مسعود، وعلى أيتام في حجري من الصدقة؟ قال: نعم، لها أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة[22].

فكونه قد تبرع بنفقة هؤلاء الأيتام، لا يمنع ذلك من دفع الزكاة إليهم؛ فإذا كان عندك مثلًا يتيم تنفق عليه وتَكفُله، فلا مانع من أن تعطيه من الزكاة.

صدقة التطوع

قال:

فصل: وتسن صدقة التطوع في كل وقت.

فضل صدقة التطوع

صدقة التطوع يعني ورد في فضلها نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، في قول الله : مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245]، مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].

وقد جاء في الحديث الصحيح: أن النبي قال: إنَّ الصدقة تُطفئ غضب الرب. رواه الترمذي[23]، وهو بهذا اللفظ صحيح، وأما زيادة: وتدفع ميتة السوء فلا تصح، المحفوظ: إن الصدقة تطفئ غضب الرب.

والصدقة لها شأن عظيم في دفع البلاء عن الإنسان، وفي -أيضًا- رفعة درجاته، وفي عظيم أجره وثوابه، وكما قال عليه الصلاة والسلام في قصة المرأة التي أعطتها عائشة ثلاث تمرات، أكلت ابنتاها تمرتين، ثم استطعمتها، ثم لما رفعت التمرة إلى فيها استطعمتها ابنتاها، فأخذت التمرة، وشقتها نصفين بين ابنتيها، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله قد أوجب لها بها الجنة[24].

هذا يدل على أن مِثل هذا الإحسان قد يكون بشيء يسير، لكن يكون أجره وثوابه عند الله عظيمًا.

ولهذا أثر عن أحد التابعين أنه كان لا يَمضي عليه يوم إلا وتصدَّق فيه لله بصدقة، وذات يوم لم يجد شيئًا إلا بصلًا، فأخذ البصل وحمله على رأسه يريد أن يتصدق به، فلقيه أحد الناس في الطريق، قال: رحمك الله، لم يكلفك الله بهذا، لم تجد ما تتصدق به. قال: إني أردت ألا يمضي عليَّ يوم إلا تصدقت فيه لله بصدقة، إنه بلغني أن رسول الله يقول: إن المؤمن يكون في ظل صدقته يوم القيامة[25].

فينبغي إذن أن يُعوِّد المسلمُ نفسَه على البذل والإحسان، وعلى الصدقة، والنبي عليه الصلاة والسلام لما سأله أزواجه عن أسرعهن لحوقًا به، قال: أسرعكن أطولكن يدًا، فأخذن قَصَبًا وذَرَعْنَ أيديَهن فوجدن أن أطولهن يدًا سَودة، ثم إن أول امرأة ماتت من نسائه بعد النبي عليه الصلاة والسلام زينب، فعلمن أن المقصود بطول اليد الصدقة، وليس المقصود بها اليد الجارحة اليد الحسية؛ وذلك لأن زينب كانت تكثر من الصدقة[26].

ثم إن الصدقةَ إحسانٌ، فالله يقول: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، تكرَّرت هذه الآية في القرآن خمسَ مراتٍ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.

قال:

لا سيما سرًّا.

لقول الله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271]؛ ولقول النبي عليه الصلاة والسلام في حديث السبعة الذي يُظلهم تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه[27].

وفي الزمان والمكان الفاضل.

الزمان: كشهر رمضان وعشر ذي الحجة، والمكان: كالحرمين، فأجر الصدقة فيها أفضل، أجر الصدقة فيها أعظم.

وعلى جاره.

لقول الله : وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ [النساء:36]؛ ولقول النبي عليه الصلاة والسلام: ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه[28].

وذوي رحمه.

لأنها تكون صلة رحم، وصلة الرحم ورد في فضلها النصوص الكثيرة: مَن أحب أن يُبسَط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أثره، فليصل رحمه[29].

قال:

فهي صدقة وصلة.

ومن تصدَّق بما يَنقُص مُؤْنةً تلزمه، أو أضر بنفسه، أو غريمه، أَثِم بذلك.

فإذا كان عنده من المال ما يكفي فقط لنفقة نفسه وعياله، فحينئذٍ لا يجوز له أن يتصدق، فإن فعل ذلك أثم؛ لقول النبي : وابدأ بمَن تعول[30]؛ ولقوله: كفى بالمرء إثمًا أن يُضيع مَن يقوت[31].

وهكذا لو أضر بنفسه؛ لقول النبي : لا ضرر ولا ضرار[32]، أو أضر بغريمه؛ ولذلك من كان عليه ديون، فليس له أن يتصدق.

فانتبه لهذه المسألة: من كان عليه دين في ذمته، ليس له أن يتصدق صدقة التطوع.

واختلف العلماء في الشيء اليسير، فأجاز بعض العلماء له أن يتصدق بالشيء اليسير، ومثلوا لذلك بكِسْرة خبز، ونحو ذلك، وروي هذا عن الإمام أحمد رحمه الله.

وقال بعض العلماء: إنه ليس للمدين أن يتصدق حتى بالشيء اليسير، ورجح هذا الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله، قالوا: لأن القليل مع القليل يكون كثيرًا؛ ولأنا إذا ألزمنا هذا الإنسان بألا يتصدق حتى بالشيء اليسير، فإن هذا يكون حافزًا له لكي يسدد ما في ذمته من الديون.

وتجد بعض المدينين يكون عليهم الديون كثيرة، وعندهم كرم في دعوة الناس، وتجد أن هذا الإنسان مدين، وهو يقيم الولائم الكبيرة، ويدعو الناس، وربما يتبرع للمشروعات الخيرية، ويتصدق.

هذا كله لا يجوز، ولا يحل له ذلك، لا يحل له أن يتبرع وفي ذمته دين، حتى يسدد الدَّين الذي في ذمته.

العلماء اختلفوا فقط في الشيء اليسير، ومثلوا لذلك بكسرة الخبز، هذه هي التي اختلفوا فيها هل تجوز أو ما تجوز؟ أما كونه يقيم الولائم ويتبرع للمشروعات الخيرية، ويتصدق على الفقراء والمساكين، وهو لم يسدد الدين الواجب في ذمته، فإن ذلك لا يجوز.

ولهذا قال المؤلف: أثم بذلك.

وكُره لمن لا صبر له، أو لا عادة له على الضيق: أن يَنقُص نفسه عن الكفاية التامة.

وذلك لأن هذا نوعُ إضرار؛ ولحديث سعد : أن النبي قال: إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس[33]، وإذا كان ذلك في شأن الورثة، فهو كذلك في شأن النفس.

لكن يُفهم من كلام المؤلف: أنَّ مَن كان له صبر وقوة إيمان ويقين، فيجوز له ذلك، بدليل أن أبا بكر تصدَّق بجميع ماله، فلما أتى عمر بنصف ماله، قال: ماذا أبقيت لهم؟. قال: مثله. فأتى أبو بكر بجميع ماله، فقال: ماذا أبقيت لأهلك؟. قال: أبقيت لهم الله ورسوله[34].

فدلَّ ذلك على أنه يجوز الصدقة بجميع المال، لكن إذا كانت حاله مثل حال أبي بكر.

أما مَن كانت حاله ليست كحال أبي بكر، كحالنا وحال أكثر الناس اليوم، فهذا نقول: يُكره له أن يتصدق بجميع ماله، أو كما قال المؤلف: (أن ينقص عن الكفاية التامة).

حكم المَنِّ

قال:

والمَنُّ بالصدقة كبيرةٌ، ويَبطل به الثواب.

ما معنى المن أولًا؟ ما معنى المن؟ نعم؟

الطالب: … أنا الذي أعطيتك كذا، أنا الذي فعلت لك كذا.

الشيخ: نعم، يعني: يتحدَّث بالمعروف الذي فعله، يتحدث به عند مَن فعله، فيقول: أنا أعطيته كذا، أنا فعلت كذا.

المَنُّ خَصْلة ذميمة وخُلُقٌ دنيء، وإذا كان ذلك في الصدقات فإنه يُبطلها، ويأثم به، بل هو من كبائر الذنوب، كما قال المصنف: هو كبيرة؛ لقول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [البقرة:264].

فدل ذلك على أن المن أنه يبطل الصدقة؛ ولقوله: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263].

طيب، ما الدليل على أن المن من الكبائر؟ الدليل على ذلك هو حديث أبي ذر : أن النبي قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم وذكر منهم: المنان رواه مسلم[35]؛ فدلَّ ذلك على أن المَنَّ من كبائر الذنوب.

فهذه خصلة قد يقع فيها بعض الناس مِن حيث لا يشعر، فتجد بعضَ الناسِ طَبْعُه إذا فعل معروفًا يمتن به على الآخرين، هذا لا يجوز، وإذا كثر ذلك منه فإن هذا يوقعه في كبيرة من كبائر الذنوب، وإذا كان ذلك في معروف أحبطه، وفي صدقة أبطل أجرها، وليس فقط يبطل أجرها، بل يأثم بذلك؛ لأن المن من كبائر الذنوب.

ولذلك؛ ينبغي للإنسان أن يُعوِّد نفسه إذا فعل معروفًا أن ينسى هذا المعروف، حتى قال بعض الفقهاء: إذا أعطيت فقيرًا صدقةً وعلمت بأن سلامك عليه يضايقه، فلا تسلم عليه.

ولذلك؛ هذا الخلق، وهو أن الإنسان لا يمتن بالمعروف، ينبغي أن يُعوِّد الإنسانُ نفسَه عليه؛ لأن كثيرًا من العامة تجد أنه إذا فعلوا معروفًا يبدؤون يمتنون به، والشيطان للإنسان بالمرصاد، إذا تصدق بصدقة يبدأ يتحدث بها بشكل مباشر أو غير مباشر، فيمتن بها على هذا الفقير، فعل معروفًا يمتن به على هذا الفقير، يتحدث به بطريق مباشر أو غير مباشر.

هذا يبطل هذا المعروف، ويبطل أجر الصدقة تمامًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [البقرة:264]، بل قال كما قال المؤلف: هذا ذم، ومن الذنوب الكبار، يعني يوقع صاحبه في كبيرة؛ لقوله: لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم.

لكن، ينبغي مناصحة مَن يفعل هذا؛ لأن كثيرًا مِن الذين يقعون في المن، يقعون فيه بغير قصد، بسبب الطبع، طبعه أنه دائمًا يمتن بالشيء، دائمًا منان بالعطية، منان بالصدقة، منان بالهدية.

فهذا ينبغي أن يُناصَح، وأن يُبيَّن له أن هذا المن أنه من كبائر الذنوب.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907.
^2 رواه البخاري: 2311.
^3 رواه البخاري: 1395، ومسلم: 19.
^4 رواه البخاري: 6979، ومسلم: 1832.
^5 رواه مسلم: 1044.
^6 رواه البخاري: 1468، ومسلم: 983.
^7 رواه أحمد: 20041، وأبو داود: 1575.
^8 رواه البخاري: 6368، ومسلم: 589.
^9 رواه الترمذي: 2352، وابن ماجه: 4126.
^10 رواه البخاري: 6460، ومسلم: 1055.
^11 رواه أحمد: 14159، وأبو داود: 3343، والنسائي: 1962.
^12 رواه مالك: 29، وأحمد: 11268، أبو داود: 1635، وابن ماجه: 1841.
^13 رواه البخاري: 2620، ومسلم: 1003.
^14 رواه البخاري: 886، ومسلم: 2068.
^15 رواه البخاري: 2363، ومسلم: 2244.
^16 رواه أحمد: 17972، وأبو داود: 1633، والنسائي: 2598.
^17 رواه البخاري: 1466، ومسلم: 1000.
^18 رواه البخاري: 3140.
^19 رواه البخاري: 1421، ومسلم: 1022.
^20, ^22 سبق تخريجه.
^21 رواه أحمد: 16226، والترمذي: 658، والنسائي: 2582، وابن ماجه: 1844.
^23 رواه الترمذي: 664.
^24 رواه مسلم: 2630.
^25 رواه أحمد: 17333.
^26 رواه البخاري: 1420، ومسلم: 2452.
^27 رواه البخاري: 1423، ومسلم: 1031.
^28 رواه البخاري: 6014، ومسلم: 2624.
^29 رواه البخاري: 2067، ومسلم: 2557.
^30 رواه البخاري: 1426، ومسلم: 1042.
^31 رواه أحمد: 6495، وأبو داود: 1692.
^32 رواه مالك 31، وأحمد: 2865، وابن ماجه: 2341.
^33 رواه البخاري: 1295، ومسلم: 1628.
^34 رواه أبو داود: 1678، والترمذي: 3675.
^35 رواه مسلم: 106.
zh