عناصر المادة
كنا قد وصلنا إلى باب “زكاة الفطر”، ولعلنا في هذا الدرس أو الدرس القادم -إن شاء الله- ننتهي من كتاب “الزكاة”، ثم ننتقل بعد ذلك إلى كتاب “الصيام”، ثم إلى أبواب المعاملات، إن شاء الله تعالى.
باب زكاة الفطر
قال المصنف رحمه الله:
باب: زكاة الفطر.
“زكاة الفطر” الإضافة هنا: أضاف “الزكاة” إلى “الفطر”؛ لأن الفطر هو سبب وجوبها، وقد جاء في حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما، بل قبله -وهو أصحُّ- من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: “فرض رسول الله زكاة الفطر من رمضان صاعًا من تمرٍ ..” الحديث، وهو في الصحيحين [1]، فأضاف “الزكاة” إلى “الفطر”، قال: “فرض رسول الله زكاة الفطر”.
وجاء في حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: “فرض رسول الله زكاة الفطر طُهْرَةً للصائم من اللَّغْوِ والرَّفَث، وطُعْمَةً للمساكين”. رواه أبو داود وابن ماجه والدارقطني، وقال الدارقطني عن رواته: “ليس فيهم مجروحٌ”، إسناده حسنٌ أو صحيحٌ [2].
فأُضيفت “الزكاة” في هذين الحديثين إلى “الفطر”؛ وذلك لأنه سبب وجوبها.
الحكمة من مشروعيتها
في حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما إشارةٌ إلى الحكمة من مشروعيتها؛ قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “طُهْرَةً للصائم من اللَّغْوِ والرَّفَث”، وهذه أول الأمور التي تُلْتَمَس في الحكمة من مشروعيتها: أنها طُهْرَةٌ للصائم مما قد يقع في صيامه من اللغو والرَّفَث، فتكون هذه الزكاة بمثابة الجبران في ذلك النَّقص والخلل.
ولكن قد يَرِدُ على هذا إشكالٌ هو: أن زكاة الفطر تُخْرَج أيضًا عن الطفل غير المُمَيِّز؛ كطفلٍ عُمُره سنة أو شهر أو سنتان، ومعلومٌ أن مثل هذا لا يصوم، ولا يصح منه الصوم أيضًا، فكيف تكون إذن طُهْرَةً للصائم من اللغو والرَّفَث عن هذا الطفل الذي لا يصوم ولا يصح منه الصيام؟
فما الجواب؟
طالب: …….
الشيخ: نعم، أحسنتَ.
نقول: إن هذا الحديث خَرَجَ مَخْرَجَ الغالب؛ يعني: طُهْرَةً للصائم من اللَّغو والرَّفَث في الأعم الأغلب، وإلا فإن الأطفال غير المُمَيِّزين لا يجب عليهم الصيام ولا يصح منهم، لكن هذا إنما خرج مخرج الغالب.
قال: “وطُعْمَةً للمساكين”، وهذا هو الأمر الثاني من الحِكَم المُستنبطة من مشروعية زكاة الفطر: أنها طُعْمَةٌ للمساكين في يوم العيد الذي هو يوم فرحٍ وسرورٍ؛ حتى يُشاركوا الأغنياء في فرحهم وسرورهم بالعيد، ويكون يوم العيد عيدًا للجميع.
وأضاف بعض العلماء أيضًا أمرًا ثالثًا هو: أن فيها شكرًا، أو أن في إخراجها شكرًا لنعمة الله على إتمام شهر رمضان بصيامه وقيامه، وفِعْل ما تيسَّر من الأعمال الصالحة.
فهذه ثلاثة أمورٍ:
الأمر الأول: طُهْرَةٌ للصائم من اللَّغو والرَّفَث.
الثاني: طُعْمَةٌ للمساكين.
الثالث: شكرٌ لنعمة الله .
حكم زكاة الفطر ووقتها
قال:
تجب بأول ليلة العيد.
فأفادنا المؤلف رحمه الله: أن زكاة الفطر واجبةٌ، وهذا محل اتفاقٍ بين أهل العلم: أن زكاة الفطر واجبةٌ.
وبيَّن وقت وجوبها قال: “بأول ليلة العيد”، فما أول ليلة العيد؟
هو غروب شمس ليلة العيد.
معنى ذلك: أنه غروب شمس يوم الثلاثين من رمضان إن كان الشهر تامًّا، أو التاسع والعشرين من رمضان إن كان الشهر ناقصًا.
والدليل لما قرَّره المؤلف من أن زكاة الفطر تجب بغروب شمس ليلة العيد: قول ابن عمر رضي الله عنهما: “فرض رسول الله زكاة الفطر من رمضان”، وقول ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “فرض رسول الله صدقة الفطر طُهْرَةً للصائم”، فأضافها للفطر -أضاف الزكاة للفطر- والفطر يكون بأول ليلة العيد؛ ولأنها تُسمى: زكاة الفطر، وصدقة الفطر، فتُضاف إليه، والفطر من رمضان إنما يتحقق بغروب الشمس ليلة العيد.
إذن وقت وجوب زكاة الفطر هو غروب شمس ليلة العيد.
وعلى ذلك تتفرع مسائل أشار المؤلف إلى بعضها:
المسألة الأولى:
حكم زكاة الفطر على مَن مات أو أَعْسَرَ قبل غروب الشمس
قال:
فمَن مات أو أَعْسَرَ قبل الغروب فلا زكاة عليه، وبعده تستقر في ذِمَّته.
إذن ما ذكره المؤلف مسألتان:
الأولى: مَن مات قبل الغروب، يعني: قبل غروب الشمس ليلة العيد؛ لم يجب إخراج زكاة الفطر عنه، كما قال المصنف: “فلا زكاة عليه”، حتى لو مات قبل غروب الشمس بدقيقةٍ واحدةٍ لم يجب إخراج زكاة الفطر عنه، وإن مات بعد غروب الشمس ولو بدقيقةٍ واحدةٍ يجب إخراج زكاة الفطر عنه.
فإذا أردنا أن نُحدِّد وقتَ الغروب، يعني: الآن قلنا: حتى ولو بدقيقةٍ، فإذا كان مات قبل الغروب ولو بدقيقةٍ فلا يجب إخراج زكاة الفطر عنه.
نعم، إذا كان قبل الغروب لا يجب إخراج زكاة الفطر عنه، وإذا كان بعد الغروب يجب إخراج زكاة الفطر عنه.
إذن مَن مات قبل غروب الشمس ليلة العيد لم يجب إخراج زكاة الفطر عنه؛ لأنه لم يُدْرِك وقت الوجوب، أما إن مات بعد غروب الشمس ليلة العيد وجب إخراج زكاة الفطر عنه.
فكيف نُحدِّد وقتَ الغروب؟ هل نُحدده -مثلًا- بالتَّقاويم؟ يعني: يذكرون أنه يموت في الدقيقة الواحدة -يعني: على وجه الأرض- عددٌ من الأشخاص، ويُولد في الدقيقة الواحدة عددٌ، فإذا أردنا أن نُحدد بدقةٍ وقت الغروب فما هو؟
طالب: …….
الشيخ: نعم، سقوط قُرْص الشمس، هذا هو وقت الغروب، بسقوط قرص الشمس كاملًا، فإذا سقط كاملًا فهذا هو وقت الغروب.
التَّقاويم دقيقةٌ في هذا إلا أنها تحتاط، يُضيفون أحيانًا دقيقةً، وأحيانًا دقيقتين إلى سقوط القُرْص، ويُسمونها: دقائق التَّمكين، لكن العبرة بسقوط القُرْص.
إذن هذه المسألة الأولى مُتفرعةٌ عن هذا الحكم.
المسألة الثانية هي التي أشار لها المؤلف: مَن أَعْسَرَ قبل غروب الشمس ليلة العيد، يعني: أفلس وأَعْسَر، فما عنده شيءٌ؛ لم يجب عليه إخراج زكاة الفطر، ومَن أَعْسَرَ بعد غروب الشمس ليلة العيد يجب عليه إخراج زكاة الفطر؛ لأنها قد استقرَّتْ في ذِمَّته.
مَن عُقِدَ عليها قبل الغروب على مَن تجب فِطْرَتُها؟
أيضًا من المسائل التي لم يذكرها المؤلف: مَن عقد على امرأةٍ قبل غروب الشمس، أو نعكسها أولًا؛ لأن فيها تفصيلًا: مَن عقد على امرأةٍ بعد غروب الشمس ليلة العيد، هل يجب عليه أن يُخْرِج فِطْرَتها أم لا يجب عليه؟
لا يجب عليه.
أما إن عقد عليها قبل غروب الشمس ليلة العيد، فهل يجب عليه إخراج الفِطْرَة عنها؟
عقد عليها -مثلًا- في أول رمضان، أو في أول العشر الأواخر، فهو الآن قد تملَّك وعقد عليها، لكن لم يدخل بها، فهل يجب عليه أن يُخْرِج فِطْرَتها؟
هنا تفصيلٌ: إن كان قد دخل بها فعليه فِطْرَتها ولا إشكال، أما إن كان لم يدخل بها فلا تجب عليه فِطْرَتها، لماذا؟
لأنه لا تجب عليه نفقتها حتى يتسلَّمها، وما دامتْ عند أهلها فلا نفقة لها عليه، والفِطْرَة تابعةٌ للنَّفقة.
إذن مَن عقد على امرأةٍ بعد غروب الشمس ليلة العيد، هنا لا يجب عليه إخراج الفِطْرَة، أما قبل غروب الشمس ليلة العيد:
- فإن كان دخل بها فلا إشكال في وجوب إخراج الفِطْرة عنها.
- وإذا لم يدخل بها فإنه لا يجب عليه إخراج الفِطْرة عنها؛ لأنه لا تجب عليه نفقتها؛ وذلك لأنه لا يجب عليه أن يُنفق عليها حتى يتسلَّمها؛ لأن النَّفقة إنما تجب مقابل الاستمتاع، فما دامتْ عند أهلها لا يجب عليه أن يُنفق عليها، والفِطْرَة تابعةٌ للنفقة، إذن ما دامتْ عند أهلها لا يجب عليه إخراج فِطْرَتها.
ومن المسائل المُتفرعة: لو وُلِدَ إنسانٌ بعد غروب الشمس ليلة العيد لم يجب إخراج زكاة الفطر عنه، لكن يُستحب كما سيأتي، أما لو وُلِدَ قبل غروب الشمس ليلة العيد وجب إخراج زكاة الفطر عنه.
كل هذه المسائل مُتفرعةٌ عن هذا الحكم، وهو أنه تجب زكاة الفطر بغروب الشمس ليلة العيد.
على مَن تجب زكاة الفطر؟
نعود بعد ذلك إلى عبارة المؤلف، قال:
وهي واجبةٌ على كل مسلمٍ.
“وهي واجبةٌ” كما ذكرنا، ووجوبها محل اتِّفاقٍ بين أهل العلم.
“على كل مسلمٍ” فأفادنا المؤلف أنها إنما تجب على المسلمين، ولا تجب على غير المسلمين؛ ويدل لذلك قول ابن عمر رضي الله عنهما: “فرض رسول الله زكاة الفطر صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من شعيرٍ، على العبد والحُرِّ، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين”. متفقٌ عليه [3].
فقوله: “من المسلمين” إشارةٌ إلى أنها إنما تجب على المسلم، فغير المسلم لا تجب عليه زكاة الفطر؛ لأن زكاة الفطر طُهْرَةٌ، والكافر ليس أهلًا للتَّطهير، ولا يطهر إلا بالإسلام، لا يُطهره إلا الإسلام.
حكم إخراج الزكاة عن العمال
بناءً على ذلك: العمال من الخدم والسائقين وغيرهم من غير المسلمين لا تُخْرَج عنهم زكاة الفطر.
فهل يجب إخراج زكاة الفطر عمَّن تحت كفالة الإنسان من العمال المسلمين أو لا يجب؟
يعني: نحن قلنا: إذا كانوا غير مسلمين هنا لا يجب، أما إذا كانوا مسلمين؛ كإنسانٍ -مثلًا- تحت كفالته عاملٌ يعمل عنده سائقًا، أو يعمل عنده أي عملٍ من الأعمال، أو خادمًا، أو .. فهل يجب عليه أن يُخْرِج زكاة الفطر عنه أو لا يجب؟
طالب: …….
الشيخ: نعم، الظاهر هو التَّفصيل في هذا: أنه إذا كان مُلْزَمًا بنفقتهم بمُوجَب العقد، وهو الذي يتكفَّل بطعامهم وشرابهم؛ فيلزمه أن يُخْرِج زكاة الفطر عنهم، مثل: الخدم في البيوت.
أما إذا كان ليس مُلزمًا بنفقتهم، بحيث إنهم مُستقلون بتوفير طعامهم وشرابهم؛ فلا يلزمه إخراج زكاة الفطر عنهم؛ لأنه كما قلنا: زكاة الفطر تابعةٌ للنفقة، فهي فرعٌ عن النَّفقة، لكن لو تبرَّع بإخراج زكاة الفطر عنهم برضاهم كان ذلك من الإحسان.
قال:
وهي واجبةٌ على كل مسلمٍ يجد ما يفضل عن قُوتِه وقُوتِ عياله يوم العيد وليلته.
يعني: زكاة الفطر حكمها أنها واجبةٌ على كلِّ مَن يجد فاضلًا -يعني: زائدًا- عن قُوتِه وقُوت عياله يوم العيد وليلته، يعني: يومًا وليلةً، أربعًا وعشرين ساعةً.
ومعنى ذلك: أن كثيرًا من الفقراء والمساكين اليوم يجوز لهم أَخْذ زكاة الفطر، ويجب عليهم دفع زكاة الفطر عن أنفسهم، فكثيرٌ من المساكين في الوقت الحاضر يجدون الفاضل عن قُوت يوم العيد وليلته، فلا مانع من أن يأخذوا زكاة الفطر باعتبارهم مساكين، ويدفعوها عن أنفسهم باعتبارهم يملكون فاضلًا عن قُوت يوم العيد وليلته.
طالب: …….
الشيخ: نعم، يأخذ باعتباره مسكينًا، ويُعْطِي باعتباره يملك فاضلًا عن قُوت يوم العيد وليلته، يعني: ما هناك شيءٌ يمنع من هذا، فالجهة مُنْفَكَّةٌ.
قال:
بعدما يحتاجه من مسكنٍ، وخادمٍ، ودابَّةٍ، وثيابِ بِذْلَةٍ، وكتب علمٍ.
يعني: أنها إنما تجب “بعدما يحتاجه” يعني: بعد حوائجه الأصلية، وحوائجه الأصلية سبق أن تكلمنا عنها لما تكلمنا عن مسألة وجوب الحج.
وهنا أشار المؤلف لأبرز الحوائج الأصلية فقال:
“من مسكنٍ” فالمسكن من الحوائج الأصلية.
“وخادمٍ” إذا كان مثله يُخْدَم، فهذا يُعتبر من الحوائج الأصلية.
“ودابةٍ” يعني: مركوبًا، وفي وقتنا الحاضر تُمثِّلها السيارة.
“وثيابِ بِذْلَةٍ” الثياب التي يلبسها.
“وكتب علمٍ” إذا كان طالب علمٍ.
فعلى كلام المؤلف: لا تجب زكاة الفطر إلا بعدما يجد فاضلًا عن قُوت يوم العيد وليلته، وعن حوائجه الأصلية التي أشار إلى أبرزها.
وقال بعض أهل العلم: إنه يجب إخراج زكاة الفطر على مَن مَلَكَ فاضلًا عن قُوته وقُوت عياله يوم العيد وليلته مطلقًا، يعني: من غير هذا التَّقييد الذي أشار إليه المصنف، فيجب الإخراج على مَن ملك فاضلًا عن قُوته وقُوت عياله يوم العيد وليلته مطلقًا.
وهذا القول نقل المِرْدَاويُّ في “الإنصاف” أنه قدَّمه ابن حمدان في “الرعايتين”، وكذلك صاحب “الفائق”.
وهذا هو الأظهر -والله أعلم- أنَّ مَن ملك فاضلًا عن قُوت يوم العيد وليلته تجب عليه زكاة الفطر من غير مُراعاةٍ لما ذكره المؤلف من هذه الحوائج، وإلا لو قلنا بقول المؤلف لأسقطنا زكاة الفطر عن كثيرٍ من الناس اليوم.
إذا قلنا: لا بد أن يُحَصِّل أولًا أجرة المسكن، ولا بد أن يُحَصِّل أيضًا أجرة الخادم، ولا بد أيضًا أن يُحَصِّل سيارةً، ولا بد أن يُحَصِّل أيضًا الثياب والكسوة التي يحتاجها، وإذا كان طالب علمٍ فلا بد أن يُحصِّل كتب علمٍ، فمعنى ذلك: أننا سنُسقط زكاة الفطر عن كثيرٍ من الناس اليوم.
يعني: هذا محل نظرٍ، والأقرب -والله أعلم- أنها تجب عليه بمجرد أن يملك فاضلًا عن قُوت يوم العيد وليلته -عن حاجته- يعني: فاضلًا عن قُوته وقُوت عياله.
هذا هو القول الأقرب والأظهر في هذه المسألة، والله تعالى أعلم.
طالب: …….
الشيخ: نعم، يمكن لو أخذ زكاةً، فيجوز له أن يُخْرِجها عن نفسه، لماذا؟
لأنه لمَّا أَخَذَها أخذها باعتباره مسكينًا وتملَّكها، وما دام أنه تملَّكها فهو حرٌّ فيها، فله أن يأكلها، أو أن يبيعها، أو أن يتصدق بها، فهو حُرُّ فيها، وقد أصبحتْ مِلْكًا له.
ولهذا لما أُهْدِيتْ للنبي هديةٌ قيل: يا رسول الله، إنه تُصُدِّق به على بريرة. قال: هو لها صدقةٌ، ولنا هديةٌ [4].
وعند العلماء قاعدةٌ هي: تغيُّر المِلْك يَلْزم منه تغيُّر الذات، أو سببٌ لتغير الذات: تغيُّر المِلْك سببٌ لتغير الذات، فما دام أنه الآن تَملَّك هذا الفقير أو المسكين هذه الزكاة، فهو حرٌّ فيها، لو أراد أن يُخْرِجها عن نفسه فلا مانع؛ لأنها قد دخلتْ في مِلْكه، وأصبحتْ مِلْكًا له.
طالب: …….
الشيخ: إذا ملك فاضلًا عن قُوت يوم العيد وليلته فيجب عليه إخراج زكاة الفطر.
طالب: ….. يقول: أنا مسكين …….
الشيخ: لا، لا بد من دَفْع الزكاة، يدفعها لغيره، ولا يدفعها لنفسه.
قال:
وتلزمه عن نفسه، وعمَّن يَمُونُه من المسلمين.
أما كونها تلزمه عن نفسه فهذا بالاتفاق، لكن قوله: “وعمَّن يَمُونُه من المسلمين” يعني: عمَّن تلزمه نفقته من المسلمين، وذلك كالزوجة والأولاد، فيجب عليه أن يُخْرِج زكاة الفطر عنهم.
وقد نقل ابن بَطَّال رحمه الله الإجماع على أن الرجل تلزمه زكاة الفطر عن زوجته الفقيرة.
ونقل ابنُ القَطَّان الإجماع على أنه يجب أداء زكاة الفطر عن أطفاله الذين لا مال لهم.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يُخْرِج زكاة الفطر عن نفسه وعن أهل بيته، حتى إنه يُخْرِجها عن نافعٍ مولاه.
وقال بعض العلماء: إن زكاة الفطر واجبةٌ على الإنسان بنفسه، ولا تجب زكاة الفطر عمَّن تلزمه نفقته.
وعلى هذا فالزوجة يجب عليها أن تُخْرِج زكاةَ الفطر عن نفسها، والولد يُخْرِج زكاة الفطر عن نفسه، والبنت تُخْرِج زكاة الفطر عن نفسها، وهكذا.
وهذا القول رجَّحه الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، واستدلوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: “فرض رسول الله زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعيرٍ ..” الحديث.
قالوا: والأصل في الفرض أنه يجب على كلِّ واحدٍ بعينه دون غيره؛ ولقول الله : وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، ولو أوجبنا على الإنسان أن يُخْرِج زكاة الفطر عن غيره ممن يَمُونُه فإنه سوف تَزِر وازرةٌ وِزْرَ أخرى.
قالوا: وأما مَن لا يجد ما يُخْرِج منه زكاة الفطر من الزوجة أو الأولاد فإنها لا تجب عليهم، ولا يأثمون بها.
هذه وجهة أصحاب هذا القول، والقول الراجح -والله أعلم- هو القول الأول، هو قول جمهور العلماء، وهو: أنه تجب زكاة الفطر عن نفسه، وعمَّن تلزمه نفقته من الزوجة والأولاد ونحوهم؛ وذلك لما ذكرنا من الإجماع الذي نقله ابن القطَّان، وكذلك ابن بَطَّال، وأيضًا الأثر عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ ولأن زكاة الفطر تابعةٌ للنفقة وفرعٌ عنها؛ فما دام أنه يجب عليه أن يُنفق على هؤلاء، فيجب عليه أن يُخْرِج زكاة الفطر عنهم.
وأما القول بأن الأصل في الفرض أنه يجب على كلِّ واحدٍ بعينه، فنقول: هذا في التكاليف الشرعية من غير النفقات، أما النفقات فلها شأنٌ آخر؛ فإن الرجل يجب عليه أن يُنفق على زوجته ولو كانت غنيةً، وكذلك أيضًا يجب عليه أن يُنفق على أولاده، وعلى أبيه وأمه إذا احتاجَا إليه، فالنفقة لها بابٌ آخر غير باب التَّكاليف الشرعية.
ثم أيضًا يَرِدُ على هذا: الأولاد إذا كانوا صغارًا ولا مال لهم، فكيف نقول بوجوبها عليهم؟
وأصحاب هذا القول لا يقولون بوجوبها عليهم، وإنما يستثنون هذه المسألة فيقولون: الأطفال الذين لا مال لهم تجب زكاة الفطر على آبائهم. فرجعوا واستَثْنَوا هذه المسألة.
ولذلك الشيخ محمد رحمه الله لما ذكر هذا القول قال: لكن الأولاد الصغار الذين لا مال لهم قد نقول بوجوبها على آبائهم. وهذا مما يُبين أن هذا القول مرجوحٌ.
ولذلك فالصواب أن الفطرة تابعةٌ للنفقة، فما دام أنه يجب عليه أن يُنْفِق عليهم؛ فيجب عليه أن يُخْرِج زكاة الفطر عنهم، لكن لو أن الزوجة أرادتْ أن تُخْرِجها عن نفسها فهذا هو الأفضل والأكمل، والولد -خاصةً إذا كان كبيرًا- إذا أراد أن يُخْرِج الزكاة عن نفسه فهذا هو الأكمل والأفضل، لكن من حيث الحكم الشرعي يجب على أبيه، ويجب على الزوج أن يُخْرِج زكاة الفطر عن هؤلاء ما دام أنه المُلزم بالنَّفقة عليهم.
ترتيب مَن تُخرج زكاة الفطر عنهم
قال:
فإن لم يجد لجميعهم.
يعني: المؤلف يتكلم عن بعض الأحوال التي يكون فيها فقرٌ شديدٌ، وهذا قد مرَّ به المسلمون في بعض الأقطار، وفي بعض الأعصار، فإنه أحيانًا تكون هناك مجاعةٌ شديدةٌ، وقد ذكرتْ كتبُ السير والتراجم قصصًا عجيبةً في هذا، حتى إن ابن كثيرٍ ذكر أنه أصابتْ مصر مجاعةٌ شديدةٌ، فأصبح الناس يأكل بعضهم بعضًا، قال: حتى إن الناس يستدعون الطبيب ليُعالجهم، ثم إذا تفرَّدوا به في البيت أكلوه. يعني: أصابت الناسَ مجاعةٌ شديدةٌ.
يعني: عندما يتكلم الفقهاء ويذكرون هذه الأحكام؛ لأنه -كما ذكرتُ- يَعْتَرِي المسلمين مجاعةٌ شديدةٌ في بعض الأعصار، وفي بعض الأمصار.
قال:
فإن لم يجد لجميعهم بدأ بنفسه.
يعني: إن لم يجد فِطْرَةً تكفي لجميع مَن تلزمه نفقتهم بدأ بنفسه؛ لقول النبي : ابدأ بنفسك. رواه مسلم [5].
قال:
فزوجته.
يعني: يلي نفسَه الزوجة، والزوجة هنا مُقدَّمةٌ على الأم والأب؛ وذلك لأن الإنفاق عليها على سبيل المُعاوضة.
ما معنى هذا الكلام؟
ما معنى الإنفاق على الزوجة على سبيل المُعاوضة؟
مَن يشرح لنا هذه العبارة؟
تَرِدُ على ألسنة الفقهاء.
طالب: …….
الشيخ: نعم، مقابل الاستمتاع؛ ولذلك إذا كانت الزوجة ناشزًا فلا تجب النَّفقة عليها، فالنفقة مقابل الاستمتاع بها.
إذن لأن الإنفاق على الزوجة على سبيل المُعاوضة لذلك تجب في حال اليسار والإعسار، بخلاف نفقة الوالدين، فإنها إنما تجب في حال اليسار فقط دون الإعسار.
قال:
فَرَقِيقِه.
يعني: يلي الزوجةَ الرَّقيقُ المملوك؛ وذلك لأنها تجب في حال اليسار والإعسار، حتى إنها مُقدَّمةٌ على والديه؛ لأن النَّفقة على الوالدين إنما تجب في حال اليسار فقط.
قال:
فَأُمِّه، فأبيه.
وقدَّم المؤلف الأمَّ على الأب؛ وذلك لأن حقَّ الأم آكَدُ من حقِّ الأب؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام لمَّا أتاه رجلٌ فقال: يا رسول الله، مَن أحقُّ الناس بِحُسْن صحابتي؟ قال: أُمُّك، قال: ثم مَن؟ قال: أُمُّكَ، قال: ثم مَن؟ قال: أُمُّك، قال: ثم مَن؟ قال: أبوك [6]، فجعل للأم ثلاثة حقوقٍ، وللأب حقًّا واحدًا.
قال:
فَوَلَدِه.
يعني: يليهم الولد؛ لوجوب نفقته عليه.
فأقرب في الميراث.
يعني: فالأقرب في الميراث، ولكن كلام المؤلف هنا يُقيَّد بما إذا كان يجب عليه الإنفاق عليهم، إذا كان يجب عليه الإنفاق على هؤلاء الأقارب، أما إذا كان لا يجب عليه الإنفاق عليهم فإنه لا يلزمه إخراج زكاة الفطر عنهم.
مثلًا: لو كان أخاه، فمتى يجب عليه الإنفاق عليه؟
ذكرنا قاعدةً في درسٍ سابقٍ: متى يجب عليك أن تُنْفِق على أخيك؟
طالب: …….
الشيخ: إذا كنت وارثًا له، أحسنتَ: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233]، فإذا كنت وارثًا له يجب عليك أن تُنفق عليه؛ لأنك ترثه لو مات، فهنا يجب أن تُخْرِج زكاة الفطر عنه، لكن لو كنتَ لا ترثه لو مات، فإنه لا يجب عليك أن تُنفق عليه، وبالتالي فلا يجب عليك إخراج زكاة الفطر عنه.
فمثلًا: رجلٌ وأخوه، يعني: أباه ليس موجودًا، وأمه ليست موجودةً، وهذا الأخ ليس له أولاد، فهنا يرثه لو مات؛ فيجب عليه أن يُنفق عليه، ويجب إخراج زكاة الفطر عنه.
لكن لو كان الأب موجودًا فإن الأب يَمنع من الميراث هنا، والأخوان ليس بينهما توارثٌ في هذه الحال، فإذا كان أبوك موجودًا فلستَ ترث من أخيك بالإجماع، وهكذا لو كان للأخ أبناء ذكور فَيَمْنَعُون من الميراث.
وللفَرْضِيِّين قاعدةٌ هي: لا إِرْثَ للحواشي مع ذِكْر الفروع، ولا مع الأب. وعلى القول الراجح: ولا مع ذِكْر الأصول، فإرث الحواشي ..، الحواشي هم الإخوة والأعمام، ولا إرث للحواشي مع ذِكْر الفروع، ولا مع الأب، هذا بالإجماع، وعلى القول الراجح: ولا مع ذِكْر الأصول.
طالب: …….
الشيخ: لماذا قدَّم؟
الطالب: …….
الشيخ: قدَّم مَن؟
الطالب: الأم والأب.
الشيخ: الأم والأب هنا مُقدَّمان على الولد، يقولون: إنه -يعني- على المذهب: أن الأم والأب في النَّفقة هنا مُقدَّمان على الولد؛ لأن الأم والأب آكد حقًّا من حقِّ الولد على المذهب.
أما إن كانت المسألة في الميراث، ففي الميراث الولد أقرب؛ ولذلك لو أن هالكًا عن ابنٍ وأبٍ، فكيف نقسم المسألة؟ ابنٌ وأبٌ فقط، الأب كم يأخذ؟
السدس، والباقي كله للابن.
لاحظ: أن الابن يأخذ الحظَّ الأوفر، النَّصيب الأكبر؛ لأن الابن أقرب في الميراث، لكن هنا في باب “النفقات” قدَّموا الأم والأب على الولد.
قال:
وتجب على مَن تبرع بمؤونة شخصٍ شهر رمضان.
يعني: تجب زكاة الفطر على مَن تبرع بمؤونة شخصٍ شهر رمضان.
فلو أن أحدًا تكفَّل بنفقة شخصٍ شهر رمضان، أو نزل عنده ضيفٌ طيلة شهر رمضان، وأصبح هو الذي يقوم بطعامه وشرابه، فيقولون هنا: يجب عليه أن يُخْرِج زكاة الفطر عنه؛ وذلك لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي أمر بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحرِّ والعبد ممن تمونون. وهذا الحديث أخرجه الدارقطني والبيهقي، وقال البيهقي: إسناده غير قويٍّ. وقال الدارقطني: الصواب أنه موقوفٌ [7].
وهذا هو الصحيح: أنه موقوفٌ على ابن عمر رضي الله عنهما، ولا يصح مرفوعًا.
وقالوا: والفِطْرَة تابعةٌ للنفقة؛ لهذا الحديث.
والقول الثاني في المسألة: أنه لا يجب عليه إخراج الفِطْرة في هذه الحال، وقد نَسَبَ هذا القولَ المُوفقُ ابن قُدامة لأكثر أهل العلم، واختاره -يعني: اختار هذا القول- المُوفق ابن قُدامة رحمه الله.
وهذا هو القول الراجح؛ وذلك لأنه لا تلزمه نفقته، فلا تلزمه فِطْرَته، فهو مُتبرعٌ بنفقته أصلًا، فلا تجب عليه، فكيف نُوجب عليه الفِطْرَة؟
إذن القول الراجح: أنه لا يجب عليه إخراج الفطرة عنه؛ لأنه لا تلزمه نفقته، فلا تلزمه فِطْرَته.
قال:
لا على مَن استأجر أجيرًا بطعامه.
يعني: لا يجب عليه إخراج الفطرة عنه، وهذا ظاهرٌ.
حكم زكاة الفطر عن الجنين
قال:
وتُسَنُّ.
يعني: زكاة الفطر.
عن الجنين.
لما رُوِيَ عن عثمان أنه أخرج زكاة الفطر عن الجنين. رواه ابن أبي شيبة [8]، ولكن هذا الأثر ضعيفٌ، لا يصح عن عثمان مع شُهرته.
ولكن روى ابن أبي شيبة عن أبي قلابة قال: “كانوا يُعطون صدقة الفطر، حتى يُعطوا عن الحبل” [9]، يعني: عن الحمل.
فهذا يدل على أن إخراج زكاة الفطر عن الجنين من عمل السلف.
ولهذا نقول: الأولى إخراج زكاة الفطر عن الجنين، ولكن ينبغي أن يُقيَّد الجنين بالجنين الذي نُفختْ فيه الروح فأصبح إنسانًا، والجنين إنما تُنفخ فيه الروح متى؟
إذا مضتْ عليه أربعة أشهرٍ: مئةٌ وعشرون يومًا؛ لحديث ابن مسعودٍ : أن النبي قال: إن أحدكم يُجْمَع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مُضْغَةً مثل ذلك، ثم يبعث الله مَلَكًا فينفخ فيه الروح، ويُؤْمَر بأربع كلماتٍ: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد [10].
فهنا قال: أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثل ذلك فأصبحتْ ثمانين، ثم يكون مُضْغَةً مثل ذلك فأصبحتْ مئةً وعشرين، ثم يأتيه المَلَك فَيُؤْمَر بنفخ الروح فيه.
وهذا دليلٌ على أن نفخ الروح إنما يكون بعد مُضي مئةٍ وعشرين يومًا، يعني: أربعة أشهرٍ.
وعلى هذا فزكاة الفطر إنما تُخْرَج عن الجنين إذا كان عمره أربعة أشهرٍ فأكثر، أما إذا كان عمره دون أربعة أشهرٍ فلا تُخْرَج زكاة الفطر عنه؛ لأنه ليس بإنسانٍ؛ ولذلك لا يُغَسَّل، ولا يُكَفَّن، ولا يُصلَّى عليه، ولا يُدْفَن في مقابر المسلمين، فليس بإنسانٍ؛ لأن الإنسان مُكونٌ من جسدٍ وروحٍ، وهذا جسدٌ بلا روحٍ، فليس بإنسانٍ؛ ولذلك قال الله : كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ [البقرة:28]، وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا يعني: قبل نفخ الروح، فالإنسان ميتٌ، ليس فيه روحٌ.
وقت إخراج زكاة الفطر
قال:
فصلٌ:
والأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة.
“الأفضل” يعني: الوقت الذي يُستحب إخراج زكاة الفطر فيه هو يوم العيد قبل الصلاة؛ وذلك لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي أمر بزكاة الفطر أن تُؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة [11]؛ ولأن المقصود منها إغناء الفقراء في يوم العيد عن السؤال من أجل أن يُشاركوا المُوسِرين فرحتهم بالعيد.
وتُكْرَه بعدها.
يعني: يُكْرَه إخراج زكاة الفطر بعد صلاة العيد.
وهذا هو المذهب عند الحنابلة؛ وذلك لأنه يُفَوِّت بعضَ المقصود من إغناء الفقراء في هذا اليوم، فإن الفقير إذا وصلتْ إليه الزكاة قبل الصلاة انتفع بها أكثر، وشارك الغنيَّ فرحته بالعيد، بخلاف ما إذا وصلتْ إليه بعد صلاة العيد.
والمذهب: أن إخراجها بعد الصلاة في يوم العيد مكروهٌ.
وقال بعض أهل العلم: يَحْرُم تأخير إخراجها إلى ما بعد صلاة العيد؛ وذلك لأن النبي أمر بها أن تُؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة، فإذا أخَّرها حتى يَخْرُج الناس من الصلاة فقد عمل عملًا ليس عليه أمر الله ورسوله ، فهو مردودٌ، كما قال عليه الصلاة والسلام: مَن عَمِلَ عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ [12]؛ ولقول ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “مَن أدَّاها قبل الصلاة فهي زكاةٌ مقبولةٌ، ومَن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقةٌ من الصدقات” [13].
وهذا هو القول الراجح -والله أعلم-: أن إخراجها بعد صلاة العيد مُحرَّمٌ، وأنه غير مُجزئٍ، وإنما تكون صدقةً من الصدقات، كما قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما.
قال:
ويَحْرُم تأخيرها عن يوم العيد مع القُدرة.
للأدلة السابقة التي ذكرناها في القول الراجح.
ويقضيها.
يعني: لو أنه أخَّرها وجب عليه أن يقضيها فَيُخرجها قضاءً.
وأما إذا أخَّرها عن يوم العيد أو عن صلاة العيد -على القول الراجح- نسيانًا أو خطأً -وأكثر ما تقع المسألة بطريق الخطأ أو النسيان- وذلك بأن يُوكل غيره، ثم ينسى الوكيل، فيقول: يا فلان، إنني -مثلًا- مُسافرٌ، وأريد منك هذا العام أن تُخْرج عني زكاة الفطر. فينسى الوكيل أن يُخْرجها عنه، فهنا متى علم أو ذَكَرَ المُوكَّلُ فإنه يقضيها ولو بعد يوم العيد.
قال:
وتُجزئ قبل العيد بيومين.
وذلك لما جاء في “صحيح البخاري” عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يُعطي صدقةَ الفِطر الذين يقبلونها، وكانوا يُعطون قبل الفطر بيومٍ أو يومين [14].
قال المُوفق ابن قُدامة: “وفي هذا إشارةٌ إلى جميعهم” يعني: في قوله: كانوا “فيكون إجماعًا؛ ولأن تعجيلها بهذا القدر لا يُخِلُّ بالمقصود منها، فإن الظاهر أنها تبقى أو يبقى بعضها إلى يوم العيد، فيُستغنى بها عن الطواف والطلب فيه”.
وعلى هذا فمتى يبتدئ وقت جواز إخراج زكاة الفطر؟ إذا أردنا أن نضبطها بوقتٍ دقيقٍ متى يبتدئ؟
يعني: هل -مثلًا- في اليوم الثامن والعشرين، أو في اليوم التاسع والعشرين، أو في اليوم السابع والعشرين؟
نعم.
طالب: …….
الشيخ: يعني: غروب شمس اليوم الثامن والعشرين، يعني: ليله، أول ليلةٍ في التاسع والعشرين.
نعم، إذن هذا صحيحٌ.
إذن يبتدئ وقتُ إخراجها بغروب شمس اليوم الثامن والعشرين من شهر رمضان؛ لأننا إذا قلنا: قبل العيد بيومٍ أو يومين، فمعنى ذلك: أنه بغروب شمس اليوم الثامن والعشرين.
فلو أخرجها في اليوم الثامن والعشرين نفسه، أو ليلة الثامن والعشرين، فهل تُجزئ؟
طالب: …….
الشيخ: ننظر: إذا تمَّ الشهر ثلاثين يومًا فلا تُجزئ؛ لأنه يكون قد أخرجها قبل العيد بكم يومٍ؟
بثلاثة أيامٍ، أما إذا كان الشهر ناقصًا فإنها تُجزئ.
ولذلك في هذا العام حصل أن بعض الناس أخرجوا زكاة الفطر في اليوم الثامن والعشرين نفسه، وبعضهم في ليلة الثامن والعشرين، فسألوا: هل تُجزئ؟
فقلنا: انتظروا: إن أتممنا الشهر ثلاثين يومًا فَيَلْزَمكم أن تُعيدوا إخراجها، فلا تُجزئ، وإن كان نَقْصٌ فيُجزئ. فَنَقَصَ الشهر -يعني- من هذا العام.
طالب: …….
الشيخ: يقضيها حتى بعد يومين، نعم.
طالب: …….
الشيخ: نعم، لكن النَّاسي ليس عليه إثمٌ، أما غير النَّاسي فيأثم.
مقدار زكاة الفطر والأصناف التي تُخْرَج منها
قال:
والواجب عن كل شخصٍ: صاعُ تَمْرٍ، أو زبيبٍ، أو بُرٍّ، أو شعيرٍ، أو أَقِطٍ.
وذلك لحديث أبي سعيدٍ قال: “كنا نُخْرِج زكاة الفطر ورسول الله فينا صاعًا من طعامٍ، أو صاعًا من شعيرٍ، أو صاعًا من تمرٍ، أو صاعًا من زبيبٍ، أو صاعًا من أَقِطٍ”. متفقٌ عليه [15]، فذكر هذه الأصناف الخمسة.
قال:
ويُجزئ دقيقُ البُرِّ والشعير إذا كان وزن الحَبِّ.
“يُجزئ دقيق البُرِّ والشعير” يعني: إذا طُحِنَ البُرُّ فإنه يُجزئ.
وعلى ذلك فالطحين -طحين البُرِّ- يُجزئ في زكاة الفطر، وقد جاء في حديثِ أبي سعيدٍ السابق زيادة “أو صاعًا من دقيقٍ” [16]، ولكن هذه الزيادة تفرَّد بها ابنُ عُيَيْنَة عن سائر الرواة، وحَكَم المُحدِّثون بأنها شاذَّةٌ غير محفوظةٍ، ولكن من حيث المعنى: الدقيق هو أجزاء للحَبِّ، يمكن كيله وادِّخاره، ويكفي الفقير مُؤْنَتَه، يعني: طحنه يكفي الفقير مُؤنته، أشبه ما لو نَزَع نَوَى التمر فأخرجه فإنه يُجزئ.
إذن لا بأس بإخراج طحين البُرِّ، ولكن بالشرط الذي ذكره المصنف: “إذا كان وزن الحَبِّ”؛ وذلك لأن الحَبَّ إذا طُحِنَ انتشرتْ أجزاؤه، فعندما نَزِنُه ينقص وزنه، فالصاع من الدقيق يكون صاعًا إلا سدسًا تقريبًا من الحَبِّ.
ولذلك نقول: لا بأس بإخراج زكاة الفطر دقيقًا بشرط أن يكون صاعًا، فيزنه صاعًا من دقيقٍ، ولا يزنه صاعًا من الحَبِّ قبل طحنه.
إذن لو قال شخصٌ: أنا أريد أن أُخرج زكاة الفطر من هذا العام -مثلًا- دقيقًا، طحين بُرٍّ.
نقول: لا بأس، بشرط أن يكون صاعًا، يعني: أن يكون الطحين نفسه -الدقيق- صاعًا، ولا يُنْظَر إلى أصله قبل طحنه.
قال:
ويُخْرِج مع عدم ذلك ما يقوم مقامه من حَبٍّ يُقْتَاتُ: كَذُرَةٍ، ودُخْنٍ، وبَاقِلَّاء.
يعني: إذا عَدِمَ هذه الخمسة يُخرج ما يقوم مقامها من الحبوب التي تُقْتَات: كالذرة، والدُّخْن، ونحوه.
وقال بعض أهل العلم: إن الواجب في زكاة الفطر هو إخراجها طعامًا مما يقتاته أهل البلد، سواء كان من هذه الخمسة أو من غيرها.
وهذا هو القول الصحيح في المسألة؛ وذلك لقول أبي سعيدٍ : “كنا نُخرج في عهد رسول الله يوم الفطر صاعًا من طعامٍ، وكان طعامُنا الشعير والزَّبيب والأَقِط والتمر” [17].
فالصواب إذن أن الواجب إخراجها طعامًا مما يقتاته أهل البلد.
وعلى هذا فلا بأس بإخراجها من الأرز في وقتنا الحاضر؛ لأنه طعامٌ يقتاته الناسُ اليوم.
فما رأيكم: هل يجوز إخراجها في وقتنا الحاضر شعيرًا؟
طالب: …….
الشيخ: طيب، أليس منصوصًا عليه؟
قد يقول قائلٌ: كيف يُخالف النصّ وهو منصوصٌ عليه في حديث أبي سعيدٍ وحديث ابن عمر رضي الله عنهما، فيخرج الشعير على عهد رسول الله ؟!
طالب: …….
الشيخ: نعم، نقول: الشعير كان في عهد النبي طعامًا للآدميين، أما في وقتنا الحاضر فقد أصبح الشعير عندنا هنا في مجتمعنا طعامًا للبهائم، وعَلَفًا للبهائم؛ ولذلك لا يُجزئ إخراج زكاة الفطر شعيرًا في وقتنا الحاضر.
أما الأَقِطُ: فهل يجوز إخراجها أَقِطًا في وقتنا الحاضر؟
لو قال رجلٌ: أنا في هذه السنة سوف أُخرج زكاة الفطر من الأقط.
طالب: …….
الشيخ: هل الأَقِطُ طعامٌ عندنا يُقْتَاتُ ويعتمد الناسُ عليه؟
طالب: …….
الشيخ: نعم، ليس قُوتًا، ليس طعامًا يُقتات؛ ولذلك الظاهر أيضًا أنه لا يجوز إخراجها من الأَقِطِ بالنسبة للناس في وقتنا الحاضر، فالناس يعتبرون الأَقِطَ الآن من الأشياء الكمالية، وليس من الأشياء التي يعتمدون عليها ويقتاتونها.
ولذلك لا بد أن نفهم مقاصد الشارع، فلا نأخذ بظاهر النص.
على أن هذا ليس من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما من كلام الرواة.
فننظر إلى مقصود الشريعة: المقصود هو إخراجها من طعامٍ يقتاته أهل البلد.
وقوله : “صاعًا”، الصاع من مقاييس الكيل أو الوزن؟
طالب: الكيل.
الشيخ: الكيل.
الفرق بين الكيل والوزن
طيب، نريد أن نُفرق بين الكيل والوزن، يعني: يَرِدُ معنا هذا المصطلح كثيرًا: الكيل، والوزن، فما الفرق بينهما؟
طالب: …….
الشيخ: نعم.
الكيل: تقدير الشيء بالحجم.
والوزن: تقدير الشيء بالثِّقَل.
فعندما أقول: صاعًا، يعني: مِلْء هذا الصاع -مثلًا- أو مُدًّا: مِلْء هذا المُدّ، مِلْؤُه بِغَضِّ النظر عن وَزْنِه، فقد يكون ثقيلًا، وقد يكون خفيفًا، فأنا أملؤه تمرًا، أو أملؤه بُرًّا، ويُسمَّى: صاعًا، لكن إذا كان بالثِّقَل يُسمَّى: وزنًا.
أيُّهما أدقُّ: الكيل أم الوزن؟
الوزن، الوزن أدقُّ من الكيل، لماذا؟
لأنه في الكيل يمكن في هذا الصاع أن أملأه تمرًا من النوع الخفيف، أملأه تمرًا -مثلًا- بالحشى، فهو من النوع الخفيف، أو تمرًا من النوع الثَّقيل، فهذا صاعٌ، وهذا صاعٌ.
والبُرُّ يختلف: فهناك بُرٌّ من النوع الثَّقيل، وبُرٌّ من النوع الخفيف، ومع ذلك إذا ملأت هذا الصاع بُرًّا من النوع الخفيف، أو من النوع الثَّقيل، فهذا يُسمى: صاعًا، وهذا يُسمى: صاعًا.
ولذلك هجر الناس في الوقت الحاضر الكيل، وأصبحوا يعتمدون على الوزن، فالوزن أدقُّ من الكيل، حتى إن الناس الآن يَزِنُون كلَّ شيءٍ ويُسمونه: كيلو جرام، وهو -في الحقيقة- وزنٌ.
إذن زكاة الفطر وَرَدَتْ بالكيل، ولم تَرِدْ بالوزن، والناس الآن يتعاملون بالوزن، فإذا أردنا أن نُحوِّل هذا الصاع إلى كيلو جرامات؛ حتى يعرف الناس هذا، فالناس يقولون: كم تُساوي زكاة الفطر بالكيلو؟
طالب: …….
الشيخ: هذه اختلف فيها العلماء المعاصرون اختلافًا كبيرًا، فأكثر ما قيل في التحويل: أنها ثلاثة كيلو جرامات، والشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله ذكر في “الشرح الممتع” أنها كيلوان وأربعون جرامًا.
ولكن الشيخ رحمه الله ذكر أنه إنما استند على صاعٍ وُجِدَ في خَرِبَةٍ في عُنَيْزَة، وأنه اشتراه ممن وجده بثمنٍ غالٍ -ذكر هذا في “الشرح الممتع”- وأنه وجده مُسلسلًا إلى زيد بن ثابت .
لكن مثل هذا قد يُقال: إنه لا يُعتمد عليه، ولا يُوثق به تمام الثقة.
يعني: مثل هذا الذي قد وُجِدَ، ما الذي يُثْبِتُ فعلًا أن هذا هو صاع زيد بن ثابت ، أو تقدير زيد بن ثابت ؟
وذَكَرَ أحد المعاصرين أنه وَزَنَ هذا الصاع ذهبًا، أخذ الصاع وقدَّره بكيلوين ونصف تقريبًا.
وقد قابلتُه وسألتُه عن الطريقة التي قدَّر بها هذا التقدير، فقال: إنه أخذ بُرًّا وملأ كَفَّيْه أربع مراتٍ، ثم ذهب إلى ميزان الذهب -ميزان الذَّهب دقيقٌ- ووزنه فوجده بهذا القدر؛ لأن أهل اللغة يقولون: إن المُدَّ هو مِلْءُ كَفَّيِ الإنسان المُعْتَدِل الخِلْقَة، فهذا هو المُدّ، بقدر هذا مُدٌّ، والصاعُ أربعة أمدادٍ.
لكن هذا التقدير يبقى أيضًا محلّ نظرٍ، وليس دقيقًا؛ ولذلك فالمسألة تحتاج إلى تحريرٍ، والمسألة عندي لم تُحرر بعد إلى الآن.
يعني: لاحظت الفرق الكبير بين كيلوين وأربعين جرامًا، وثلاثة كيلو جرامات، كم الفرق بينهما؟
طالب: …….
الشيخ: لا، أكثر من ستين، 40- 1000، 1000- 40 كم؟
960 جرامًا، هذا الفرق كبيرٌ حقيقةً، 960، وأيضًا لو كان عدد أفراد الأسرة كثيرًا، مع ما ترون الآن من موجات الغلاء.
فالمسألة تحتاج إلى مزيد تحريرٍ، وعندي أنها لم تُحرر إلى الآن.
وقد اقترحتُ على المجمع الفقهي أن يدرس هذا بعنايةٍ ودقةٍ؛ لأن هذا مما يحتاج له المسلمون في جميع الأقطار، وفي جميع الأعصار، والناس الآن -كما ترون- تركوا وهجروا الكيل، وأصبحوا لا يتعاملون إلا بالوزن.
لكن إذا أردنا أن نحتاط فبأيِّ تقديرٍ نأخذ؟
بثلاثة كيلو جرامات في زكاة الفطر، لكن لو أردنا في زكاة الزروع والثمار، لو أخذنا بثلاثة كيلو جرامات، فَنِصَاب زكاة الزروع والثمار كم؟
قلنا زكاة الزروع والثمار، مَرَّتْ معنا.
طالب: 60 صاعًا.
الشيخ: 60 صاعًا، 5 أوسق، والوَسْقُ: 60 صاعًا، فـ 60× 5 كم؟
300 صاع، لو قلنا: نضربها في 3؛ 300× 3 كم؟
900 صاع.
إذن هنا لا يأتي الاحتياط، فالاحتياط يكون بأي شيءٍ؟
بالأخذ بالأقل.
في زكاة الزروع والثمار الاحتياط يكون بالأقل؛ ولذلك قيل: إنها 612 كيلو جرامًا إذا أخذنا بأقلّ ما قيل في تقدير الصاع.
إذن ليس الاحتياط دائمًا هو: أن نأخذ ثلاثة كيلو جرامات؛ ففي زكاة الفطر نأخذ بتحويل الصاع إلى ثلاثة كيلو جرامات، بينما في الزروع والثمار نأخذ بكيلوين وأربعين جرامًا، وبعضهم قال: أيضًا بكيلوين وعشرين جرامًا.
فالمسألة لا تزال محلَّ إشكالٍ، وتحتاج إلى مزيد تحريرٍ وعنايةٍ، ولكن حتى تُحرر وتُضْبَط يُقال للناس بالنسبة لزكاة الفطر: التقدير بثلاثة كيلو جرامات؛ لأن هذا هو الذي تبرأ به الذمة؛ ولأنه هو الأحوط، وأخذتْ به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
هناك أيضًا مَلْحَظٌ عند التَّحويل، وهو يُلاحَظ: اختلاف ما يُوضَع في هذا الصاع، يعني: هذا الصاع يمكن أن تَضَعَ فيه -مثلًا- بُرًّا من النوع الثقيل، ثم تضع فيه بُرًّا من النوع الخفيف، فيختلف الميزان.
ويمكن هنا أن تقول: كيلوان وأربعون جرامًا إذا كان من النوع الخفيف، وإذا وضعتَ فيه بُرًّا من النوع الثقيل فكيلوان -مثلًا- وستون جرامًا، أو كيلوان ومئة جرامٍ.
فتجد أيضًا أن هذا الصاع بحسب ما يُوضع فيه، وهذا أيضًا يُلاحَظ عند التَّحويل؛ ولذلك فهذه المسألة تحتاج إلى مزيد عنايةٍ.
وسمعتُ أن هيئة كبار العلماء أصدرتْ قرارًا في هذا -فهل من أحدٍ عنده علمٌ؟- لكني لم أطلع على هذا القرار، اطلعتُ على القرارات المُعلنة، ولم أجد قرارَ تقدير الصاع فيها.
طالب: …….
الشيخ: طيب، مَن يتكفَّل بأن يأتي لنا به؟
لو تأتي لنا بصورةٍ منه.
طالب: …….
الشيخ: لا، الشيخ سيُعطيك التقدير العام، وهو ثلاثة كيلو جرامات، وهذا معروفٌ، ولن تأتي بشيءٍ جديدٍ، لكن لو أعطيتنا الصورة حتى نضعه.
طالب: …….
الشيخ: … اطلعتُ عليه، ما فيه شيءٌ.
طالب: …….
الشيخ: على كل حالٍ إذا أمكن أن تأتي بصورةٍ من قرار هيئة كبار العلماء في تقدير الصاع فهذا يكون طيبًا، ومَن عنده أيضًا فائدةٌ في هذه المسألة المهمة فَلْيُفِدْنَا بها، فهذه من المسائل التي يُحتاج لها كثيرًا، خاصةً في زكاة الفطر، فيحتاج لها جميع الناس أو أكثر الناس.
طالب: لماذا لا يَرُدُّ الناسُ إلى الصاع؟
الشيخ: ما الصاع؟ أين الصاع؟
الصاع الآن -كما تَرَى- هجروه، الصاع ما تجده.
طالب: …….
الشيخ: أَكُفُّ الناسِ تختلف على كلِّ حالٍ.
ثم أيضًا بأيِّ ميزانٍ؟
فيها إشكالاتٌ.
طالب: …….
الشيخ: هو على كل حالٍ الفقهاء السابقون لهم تقديراتٌ، فيُقدرون بحبة الشعير، ويُقدرون ..، يعني: لهم تقديراتٌ في هذا دقيقةٌ؛ لذا قدَّروا مسافة القصر، وقدَّروا بِحَبَّات الشعير، فعندهم تقديراتٌ، وربما يوجد هذا في بعض الكتب المُتخصصة في المكاييل، مثل: كتاب الكردي وغيره، لكن حتى الآن بالنسبة للصاع لم أجد مَن استوفى البحث فيه.
طالب: …….
الشيخ: اطلعتُ عليه، وما أتى بشيءٍ جديدٍ في هذا.
طالب: …….
الشيخ: على الأقل نأخذ بشيءٍ تقريبيٍّ، يعني: هناك فَرْقٌ شاسعٌ بين كيلوين وأربعين جرامًا وثلاثة كيلو جرامات، فرقٌ كبيرٌ، 960 جرامًا، لا شكَّ أنه فرقٌ كبيرٌ.
طالب: …….
الشيخ: لكن الاحتياط يكون في حدودٍ معينةٍ، ولا يكون بهذا الفرق الكبير، يعني: يمكن أن نقول: رقم كذا، ويُحتاط لكذا، ونضع لأجل الاحتياط.
لكن هذا التفاوت الكبير -حقيقةً- يُثير إشكالًا؛ لأن بعض الناس يقول: كيف نُخرج ثلاثة كيلو جرامات مع غلاء الأرز؟! وبعض الناس يكون أفراد عائلته كثيرين، فمثل هذا الفرق مُؤثرٌ حقيقةً.
ثم تجد الفتاوى أيضًا فيها اختلافٌ؛ يعني: تجد بعض المشايخ يُفْتِي بكيلوين وأربعين جرامًا، وبعضهم بكيلوين ونصفٍ، وبعضهم بثلاثة كيلو جرامات.
فتحرير هذه المسألة ربما يُقلل من هذا الاختلاف، خاصةً أن المسألةَ مسألةُ تقديرٍ، يعني: ليست مسألةَ رأيٍ علميٍّ، إنما مجرد تقديرٍ وتحويل الصاع إلى الوزن.
نعود لعبارة المؤلف، قال:
ويجوز أن تُعطي الجماعةُ فِطْرَتَهم لواحدٍ، وأن يُعطي الواحد فِطْرَتَه لجماعةٍ.
“يجوز أن تُعطي الجماعةُ فِطْرَتَهم لواحدٍ” يعني: يجوز لأكثر من شخصٍ أن يُعطوا زكاة الفطر لمسكينٍ واحدٍ ولفقيرٍ واحدٍ، ونُقِلَ الاتِّفاق على هذا، نُقِلَ اتِّفاق العلماء على ذلك، وأن يُعْطِي الواحدُ فِطْرَته لجماعةٍ؛ وذلك لأن النبي قدَّر المُعْطَى، ولم يُقدِّر الآخذ؛ فدلَّ ذلك على جواز الأمرين: على جواز أن تُعْطِي الجماعةُ فِطْرَتَهم للواحد، وأن يُعطي الواحد فِطْرَتَه لجماعةٍ.
حكم إخراج القيمة في زكاة الفطر
قال:
ولا يُجزئ إخراج القيمة في الزكاة مطلقًا.
“لا يُجزئ إخراج القيمة” وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على قولين مشهورين:
- القول الأول: أنه لا يُجزئ إخراج القيمة في زكاة الفطر.
وهذا هو قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، قالوا: لأن السُّنة إنما وردتْ بإخراجها من طعامٍ؛ ولأن النبي وأصحابه إنما كانوا يُخْرِجونها طعامًا، ولم يُخْرِجوها نقدًا، مع أن النقود موجودةٌ في عهد النبي ، وكان الناس يتعاملون بالدراهم والدنانير.
ولأن هذه شعيرةٌ؛ لأن زكاة الفطر شعيرةٌ، ولا تظهر هذه الشعيرة إلا بإخراجها طعامًا، فإنها لو أُخرجتْ نقودًا لأصبحتْ كالصدقة الخفية، بينما إذا أُخرجتْ طعامًا ظهرتْ هذه الشعيرة فرآها الناس: الصغير والكبير، وجميع طبقات المجتمع، وهذا أمرٌ مقصودٌ شرعًا.
ولأنها لو جاز إخراجها نقدًا لم يكن هناك فرقٌ بينها وبين زكاة المال، ومعلومٌ أن الشريعة فَرَّقَتْ بين زكاة المال وزكاة الفطر.
هذا هو القول الأول في المسألة.
- القول الثاني: أنه يجوز إخراجها نقدًا.
وهذا هو مذهب الحنفية، وعلَّلوا لذلك بأن المقصود من زكاة الفطر هو إغناء الفقراء يوم العيد، وإعطاؤها نقدًا أبلغ في الإغناء من إعطائها طعامًا؛ لأن الفقير يشتري بهذا النَّقد ما يحتاج إليه من طعامٍ أو كسوةٍ أو غيره، بخلاف الطعام.
والقول الراجح -والله أعلم- هو القول الأول، وهو قول الجمهور؛ وذلك لأن زكاة الفطر عبادةٌ، والأصل في العبادات التوقيف؛ ولأنها شعيرةٌ، وإخراجها نقدًا يُؤدي إلى خفاء هذه الشعيرة، فالأقرب -والله أعلم- هو قول الجمهور في هذه المسألة.
وفي الحقيقة: إنه حتى عند التَّطبيق رأيتُ بعض المجتمعات التي تُخرجها نقدًا لا تُسلمها للفقراء يوم العيد أو ليلته، فيحصل فيها تساهلٌ، ويحصل فيها تأخيرٌ، وتختلط بزكاة المال؛ ولذلك لا تُؤدِّي الغرض منها في الحقيقة، بخلاف إخراجها طعامًا؛ فإنه معلومٌ أن هذه زكاة فطرٍ، واضحةٌ وظاهرةٌ، وتُسلَّم للفقير قبل صلاة العيد، أما إخراجها نقدًا فيُؤدي إلى اختلاطها بزكاة المال، ويُؤدي إلى عدم وضوحها، وعدم تميزها.
حكم شراء الشخص لزكاته وصدقته
قال:
ويحرم على الشخص شراء زكاته وصدقته، ولو اشتراها من غير مَن أخذها منه.
والأصل في هذا هو قول النبي لعمر لمَّا أراد أن يشتري فرسًا تصدَّق به: لا تَشْتَرِهِ، ولا تَعُدْ في صدقتك وإن أعطاكه بدرهمٍ، فإن العائد في صدقته كالعائد في قَيْئِه. متفقٌ عليه [18].
قد يقول قائلٌ: العائد في الهبة واضحٌ أنه يَمْتَنُّ، والمِنَّة ظاهرةٌ، لكنْ إنسانٌ يريد أن يشتري صدقته أو زكاته، تصدَّق -مثلًا- بسيارةٍ على فقيرٍ، ثم وجد هذا الفقير يبيعها في الحراج، وأراد أن يشتريها، فقلنا: هذا لا يجوز. فلماذا؟ لماذا لا يجوز مع أن هذا بيعٌ وشراء؟ فلماذا نمنع هذا المُتصدق من شراء صدقته من هذا الفقير؟
طالب: …….
الشيخ: لأن الغالب أن هذا الفقير يُحْرَج من هذا المُتصدق ويبيعها بأقلّ من قيمتها، وربما يلحقه أيضًا شيءٌ من المِنَّة والأذى؛ ولذلك حَسْمًا لهذا منع النبي عليه الصلاة والسلام من شراء الإنسان صدقته، فهذا الفقير لو قال له المُتصدق: بِعْنِيها بكذا. بأقل من قيمتها، سوف يبيعه إياها؛ لأنه هو المُتصدق بها، وهو المُتبرع بها.
ولذلك نقول في التَّبرعات عمومًا: إذا تبرعتَ بشيءٍ فلا يجوز لك أن تشتريه، لا يجوز لك أن ترجع فيه بعد أن يقبضه المُتبرَّع له، ولا يجوز لك حتى أن تشتريه أصلًا؛ لأن الغالب أن هذا المُتبرَّع له سوف يَخْجَل ويستحي ويبيعك إياه بأقلّ من قيمته، فتكون كأنك عُدْتَ في بعض صدقتك.
طالب: …….
الشيخ: حتى لو انتقلتْ منه لا؛ لأنهم يقولون: هذا هو المُتصدق، هذا هو المُتبرع بهذا الشيء.
طالب: …….
الشيخ: على اعتبار أنه معروفٌ، أنه قد عُرف أن هذا هو المُتصدق، وأنه قد عرض سلعته.
طيب، نأخذ الفصل الأول من باب “إخراج الزكاة” حتى ننتهي في الدرس القادم من كتاب “الزكاة”.
باب إخراج الزكاة
قال:
باب إخراج الزكاة.
يجب إخراجها فورًا كالنذر والكفَّارة.
الأصل في الأوامر أنها تقتضي الفورية، وهذه مسألةٌ يبحثها علماء أصول الفقه: هل الأصل في الأمر أنه يقتضي الفور أو على التَّراخي؟
الجمهور على أنه على الفور، وقال بعضهم: إنه على التَّراخي. لكن الصحيح أن الأصل في الأمر أنه يقتضي الفورية.
وبناءً على ذلك نقول: يجب إخراج الزكاة عمومًا على الفور، كالنذر والكفارة، هذا هو الأصل في هذا.
قال:
وله تأخيرها لزمن الحاجة.
يعني: يجوز لصاحب المال أن يُؤخِّر إخراج الزكاة لزمن الحاجة.
ولقريبٍ وجارٍ.
ويُفْهَم من كلام المؤلف: أنه يجوز تأخير إخراج الزكاة للمصلحة؛ وذلك كأن يُؤخرها لوقت احتياج هذا الفقير، أو يُؤخرها لكي يُعطيها قريبًا، أو لكي يُعطيها جارًا.
وهذا القول الذي مشى عليه المصنف هو القول الأظهر في هذه المسألة، وإن كانت المسألة محلَّ خلافٍ بين أهل العلم، فبعض أهل العلم يقول: إنه لا يجوز تأخيرها مطلقًا. ولكن القول الصحيح هو القول الذي مشى عليه المؤلف، وهو: أنه يجوز تأخيرها لمصلحةٍ، وذلك -كما مثَّل المؤلف- بأن يُؤخرها لزمن الحاجة؛ وذلك كأن يجد فقيرًا، وهذا الفقير لو أعطاه زكاة ماله كلها لأنفقها، ولَمَا تيسَّر له مالٌ بعد ذلك، فأعطاه جزءًا منها، وأخَّر بقية زكاة ماله؛ لكي يُعطيه إياه في وقتٍ آخر.
فمثلًا: عندنا هنا في المملكة أكثر الناس يُخْرِجون زكاة المال متى؟
في شهر رمضان، فيُخرجون زكاة المال في شهر رمضان، وأما بعد شهر رمضان فلا يُخرجونها باعتبار أنهم قد أخرجوها في شهر رمضان، وحوائج الفقراء على مدار العام، وكثيرٌ من الفقراء عندهم سوء تدبيرٍ للمال، يعني: إذا أخذ الزكاة في شهر رمضان أنفقها، ولم يَبْقَ عنده شيءٌ.
فهنا نقول: لا بأس بأن يُؤخر بعضُ الأغنياء زكاة أموالهم؛ لكي يُعطوها الفقراء في أوقاتٍ أخرى.
فمثلًا: تعرف أن فلانًا الفقير عنده إيجارٌ، وأن هذا الإيجار سوف يَحُلُّ -مثلًا- في شهر مُحرَّمٍ، وزكاة مالك تجب عليك في شهر رمضان؛ فهنا لا بأس بأن تُؤخِّر إخراج زكاة مالك أو تُؤخر إخراج بعضها إلى شهر مُحرم؛ لكي تَرْصُدَها لسداد إيجار هذا الفقير، ولكن هذا بشرط: أن تَفْرِزَها عن مالك، وأن تكتب عليها وثيقةً وتقول: إن الزكاة قد حلَّتْ في شهر كذا، وإنني قد أخَّرتُها للفقير الفلاني؛ لأجل مصلحته. فهذا لا بأس به.
مثلًا: إذا كان يجب عليك إخراج الزكاة عشرة آلاف ريالٍ، وأنت تعرف أن هذا الفقير إيجار منزله يَحُلُّ في شهر مُحرم، فأخرجتَ هذه العشرة الآلاف ريالٍ وفرزتَها من مالك، وكتبتَ عليها: أن هذه زكاةٌ، وأنها تُعْطَى لفلان ابن فلان في شهر مُحرم. فهذا لا بأس به.
والحقيقة أننا بتقرير هذا القول نحل مشكلاتٍ كثيرةً لكثيرٍ من الفقراء؛ لأن الواقع الآن عندنا في إخراج الزكاة يحتاج إلى إعادة نظرٍ، فأكثر الناس يُخرجون الزكاة في رمضان، ويُسلمونها نقدًا للفقراء في رمضان، ثم يبقى هؤلاء الفقراء بقية شهور السنة ما عندهم شيءٌ، فهنا تأتي هذه الإشكالية؛ ولذلك لو أُبْرِزَ هذا القول واشتهر فإنه يحلّ مشكلاتٍ كثيرةً، خاصةً في الجمعيات الخيرية؛ فلو أن الجمعيات الخيرية استقبلت الزكوات في رمضان، وما أنفقتْ هذه الأموال مباشرةً: فجزءٌ منها أنفقوه في رمضان، وجزءٌ جعلوه في شهر شوال، وجزءٌ في ذي القعدة، وجزءٌ في ذي الحجة، وجزءٌ في مُحرم، يعني: جعلوها على مدار السنة.
إذا أتاهم -مثلًا- مبلغ مليون في شهر رمضان، فأخذوا هذا المليون ووزَّعوه على أشهر السنة، فأعطوا الفقراء جزءًا منه في رمضان، وجزءًا منه في بقية شهور العام، فهذا -في الحقيقة- يُحقق مصالح الفقراء، وفيه مصلحةٌ عظيمةٌ لهؤلاء الفقراء والمساكين.
فهذا القول ينبغي أن يُبرز، خاصةً للقائمين على الجمعيات الخيرية، فإن في هذا مصلحةً كبيرةً وظاهرةً.
إذن يجوز تأخير إخراج الزكاة -كما ذكرنا- لمصلحةٍ: إما لزمن الحاجة -حاجة الفقير- أو لقريبٍ أو لجارٍ.
وكذلك أيضًا:
ولِتَعَذُّر إخراجها من النِّصاب، ولو قَدَر أن يُخْرِجَها من غيره.
“لِتَعَذُّر إخراجها من النِّصاب” يعني: أن ربَّ المال أو صاحب المال وجب عليه إخراج الزكاة، لكن ليس عنده سيولةٌ نقديةٌ، إنما عنده عروضٌ، أو عنده أرضٌ -مثلًا- أو نحو ذلك، فتعذَّر إخراجها منه، فيجوز أن يُؤخِّر إخراجها حتى يتحصَّل على هذه السيولة، حتى لو كان قادرًا على أن يُخْرِجَها من غيره.
ومن ذلك أيضًا: زكاة الدَّين، فإنه لا يجب أن يُخْرِج زكاة الدَّين ولو كان المَدِينُ مُوسِرًا إلا إذا قبض هذا الدَّين واستلمه.
مثال ذلك: تطلب من زيدٍ من الناس مئة ألف ريالٍ، وزيدٌ تعرف أنه مُوسِرٌ، لكن بقيتْ هذه المئة ألفٍ عنده خمس سنوات، فلا يجب عليك أن تُخْرِج هذه الزكاة عن كل سنةٍ حتى تستلم هذا الدَّين منه.
حكم إنكار وجوب الزكاة
قال:
ومَن جحد وجوبها عالِمًا كفر ولو أخرجها.
وذلك لأنه إذا جحد وجوبها فهو مُكذِّبٌ لله ولرسوله ؛ فيكفر بالإجماع.
وقوله: “عالِمًا” احترازٌ مما إذا جحد وجوبها جاهلًا؛ كأن يكون حديثَ عهدٍ بالإسلام.
قال: “كفر ولو أخرجها” يعني: مَن جحد أمرًا معلومًا من الدين بالضرورة فإنه يكفر، حتى لو جحد الأذان، أو جحد الإقامة، أو جحد -مثلًا- السواك -يعني: سُنِّيَّةَ السواك- أو أيَّ أمرٍ معلومٍ بالضرورة؛ فإنه يكفر، فكيف إذا جحد ركنًا من أركان الإسلام؟
حكم مَن منع الزكاة بُخلًا أو تهاونًا
ومَن منعها بُخلًا أو تهاونًا أُخِذَتْ منه وعُزِّر.
إذا منع الزكاة بُخلًا أو تُهاونًا فقد أشرنا في بداية كتاب “الزكاة” إلى خلاف العلماء في كفره:
- فجمهور العلماء على أنَّ مَن منع الزكاة بُخلًا أو تهاونًا لا يكفر.
- والقول الثاني في المسألة: أنه يكفر، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد.
والقول الصحيح: أنه لا يكفر؛ والدليل لذلك ما جاء في “صحيح مسلم” عن أبي هريرة : أن النبي قال: ما من صاحب ذهبٍ ولا فضةٍ لا يُؤدِّي منها حقَّها إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّحَتْ له صفائِحُ من نارٍ، فَأُحْمِيَ عليها .. فَيُكْوَى بها جنبه وجبينه وظهره .. في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة إلى قوله عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث: فَيَرَى سبيله: إما إلى الجنة، وإما إلى النار [19].
ما وجه دلالة هذا الحديث على عدم كفر مانع الزكاة بُخلًا أو تهاونًا؟
طالب: …….
الشيخ: وجه الدلالة: أنه لو كان كافرًا لم يكن له سبيلٌ إلى الجنة، هذا هو وجه الدلالة.
قوله: فَيَرَى سبيله: إما إلى الجنة، وإما إلى النار فلو كان كافرًا لم يكن له سبيلٌ إلى الجنة؛ لأن الجنة مُحرَّمةٌ على الكفار: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40].
إذن القول الصحيح: أنه لا يكفر، لكن يكون مُرتكبًا لكبيرةٍ من كبائر الذنوب، ويجب على الإمام أن يأخذها منه قهرًا، وأن يُعَزِّره.
قال: “أُخِذَتْ منه وعُزِّر” وأطلق المؤلف التَّعزير؛ وذلك لأنه يرى أن التَّعزير يكون بما يراه الإمام، ولكن الصحيح أن التَّعزير يكون بما ورد في السنة، فقد صحَّ عن النبي أنه قال في شأن مانع الزكاة في حديث بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جدِّه: إِنَّا آخِذُوها وشَطْرَ ماله، عَزْمَةً من عَزَمَاتِ ربِّنا [20]، فَيَغْرَم بأخذ نصف ماله الذي وجبتْ فيه الزكاة؛ تعزيرًا له، وهذا مما استدلَّ به العلماء على جواز التَّعزير بأخذ المال.
قال:
ومَن ادَّعى إخراجها، أو بقاء الحول، أو نَقْصَ النِّصاب، أو زوالَ المِلْك؛ صُدِّق بلا يمينٍ.
لأنها عبادةٌ وحقٌّ لله ، فلا يُحلَّف عليه كالصلاة، والمسلم مُؤْتَمَنٌ على عباداته؛ ولذلك فلا يُحلَّف، فلو قال: إنه أخرج الزكاة، أو قال: إن الحول لم يتم، أو قال: إنها دون النِّصاب، أو قال: إنه زال مِلْكه عنها؛ فإنه يُصدَّق، ولا يُطالب باليمين، ما لم تَقُم القرينةُ على كَذِبِه.
حكم إخراج الزكاة عن الصغير والمجنون
قال:
ويُلْزَم أن يُخْرِج عن الصغير والمجنون وليُّهما.
سبق أن أشرنا إلى هذه المسألة، وهي حكم إخراج الزكاة عن الصغير والمجنون، فذكرنا أن القول الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور من أنه تجب الزكاة في مال الصغير والمجنون، وأنه يجب على وليِّهما إخراجُ زكاة أموالهما، وأنه لا يُشترط لوجوب الزكاة: العقل، ولا البلوغ؛ وذلك لأن الزكاة تتعلق بالمال: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة:103]، ويقول عليه الصلاة والسلام: فَأَعْلِمْهم أن الله افترض عليهم صدقةً في أموالهم، تُؤْخَذ من أغنيائهم، وتُرَدُّ على فُقرائهم [21].
فالصدقة تتعلق بالمال؛ ولذلك يجب إخراجها من مال الصغير والمجنون.
ولقول عمر : “ابتغوا بأموال اليتامى؛ لا تأكلها الصدقة” [22].
ولهذا فعلى ولي الصغير والمجنون أن يستثمر أموالهما، أو أن يضعها في أصلٍ لا تجب فيه الزكاة، فإذا وضعها في أصلٍ لا تجب فيه الزكاة كان هذا أيضًا من التَّصرف بالتي هي أحسن، لكن الأكمل والأفضل هو أن يستثمر أموالهما؛ كي لا تأكلها الزكاة.
ويُسَنُّ إظهارها.
وذلك لأجل أن تَنْتَفي التُّهمة عنه، فإن الإنسان إذا أخرجها ولم يُظْهِرها قد يُتَّهَم بأنه لا يُخْرِج الزكاة.
وأن يُفَرِّقها رَبُّها بنفسه.
السُّنة أن يتولَّى تفريقَها بنفسه؛ ليتيقن وصولها لمُسْتَحِقِّيها، ولو وكَّل غيره فلا بأس بذلك.
ويقول عند دَفْعِها: اللهم اجعلها مَغْنَمًا، ولا تجعلها مَغْرَمًا.
لحديث أبي هريرة : أن النبي قال: إذا أعطيتم الزكاة فلا تَنْسَوا ثوابها أن تقولوا: اللهم اجعلها مَغْنَمًا، ولا تجعلها مَغْرَمًا [23]، وهذا الحديث أخرجه ابن ماجه، لكنه ضعيفٌ جدًّا، بل قيل: إنه موضوعٌ.
فالقول بأن هذا يُسَنُّ محل نظرٍ؛ لأن السُّنِّيَّة إنما تَثْبُت بدليلٍ، وكما ذكرنا لا يصح هذا الحديث.
ويقول الآخذ: آجرك الله فيما أعطيتَ، وبارك لك فيما أبقيتَ، وجعله لك طهورًا.
وهذا الدعاء لم يرد بخصوصه، ولكن نقول: ينبغي للآخذ أن يدعو لباذل الزكاة؛ لقول الله : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة:103]، ما معنى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ؟
ادْعُ لهم، فأمر الله نبيَّه عليه الصلاة والسلام بأن يدعو لهم عند أَخْذ الصَّدقة منهم.
ولأن النبيَّ كان إذا أتاه أحدٌ بزكاة ماله قال: اللهم صَلِّ عليه، فلما أتاه أبو أوفى بزكاة ماله قال: اللهم صَلِّ على آل أبي أوفى [24].
فدلَّ هذا على أنه ينبغي لآخذ الزكاة أن يدعو لباذل الزكاة؛ ولأن دعاءه له تشجيعٌ له على دفع الزكاة.
هذه أبرز الأحكام المتعلقة بهذا الفصل، وما تبقى من أحكام الزكاة نُكمله -إن شاء الله- في الدرس القادم.
والله أعلم.
وصلى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ.
الحاشية السفلية
^1, ^3 | رواه البخاري: 1503، ومسلم: 984. |
---|---|
^2 | رواه أبو داود: 1609، وابن ماجه: 1827، والدارقطني: 2067. |
^4 | رواه البخاري: 1493، ومسلم: 1504. |
^5 | رواه مسلم: 997. |
^6 | رواه البخاري: 5971، ومسلم: 2548. |
^7 | رواه الدارقطني في “سننه”: 2078، والبيهقي في “السنن الكبرى”: 7685. |
^8 | رواه ابن أبي شيبة في “مصنفه”: 10737. |
^9 | رواه ابن أبي شيبة في “مصنفه”: 10738. |
^10 | رواه البخاري: 3208، ومسلم: 2643. |
^11 | رواه البخاري: 1509، ومسلم: 986. |
^12 | رواه مسلم: 1718. |
^13 | رواه أبو داود: 1609، وابن ماجه: 1827. |
^14 | رواه البخاري: 1511. |
^15 | رواه البخاري: 1506، ومسلم: 985. |
^16 | رواه أبو داود: 1618، والنسائي: 2514. |
^17 | رواه البخاري: 1510. |
^18 | رواه البخاري: 1490، ومسلم: 1620. |
^19 | رواه مسلم: 987. |
^20 | رواه أبو داود: 1575، وأحمد: 20041. |
^21 | رواه البخاري: 1395، ومسلم: 19. |
^22 | رواه الدارقطني في “سننه”: 1973. |
^23 | رواه ابن ماجه: 1797. |
^24 | رواه البخاري: 6359، ومسلم: 1078. |