عناصر المادة
كتاب الزكاة
ننتقل بعد ذلك لدرس الفقه، وكنا قد وصلنا إلى كتاب “الزكاة”.
نفتتح هذا الدرس بكتاب “الزكاة”.
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله:
كتاب الزكاة.
تعريف الزكاة
الزكاة لغةً تُطْلَق على النَّماء والزيادة، يُقال: “زكا الزرع” إذا نما وزاد.
وتُطْلَق على التَّطهير والصلاح، ومنه قول الله : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9].
وتُطْلَق على المدح والثناء، ومنه قول الله : فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم:32].
وشرعًا: هي التَّعبُّد لله بإخراج جزءٍ واجبٍ شرعًا في مالٍ مُعيَّنٍ لجهةٍ مخصوصةٍ.
“التَّعبد لله ” يعني: لا بد أن يقصد المسلم التَّعبد لله بإخراج الزكاة.
“بإخراج جزءٍ واجبٍ شرعًا” وهو إما العُشْر، أو نصف العُشْر، أو ربع العُشْر، على ما يأتي تفصيله، إن شاء الله.
“في مالٍ مُعينٍ” وهي الأموال التي تجب فيها الزكاة، وسيأتي الكلام عنها.
“لجهةٍ مخصوصةٍ” وهم الأصناف الثمانية.
وقت فرضية الزكاة
اختلف العلماء في وقت فرضية الزكاة، فقيل: إنها فُرضتْ في مكة قبل الهجرة.
وقيل: إنها فُرضتْ في المدينة بعد الهجرة.
وإذا نظرنا إلى بعض الآيات نجد أنها مكيةٌ قد وردتْ في شأن الزكاة، ومنها قول الله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، وهذه الآية في سورة الأنعام، وهي مكيةٌ.
وكذلك قول الله تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24- 25]، على تفسير مَن فسَّر ذلك بالزكاة.
وقول الله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [المؤمنون:4].
فهذه تدل على أنها فُرضتْ في مكة.
وإذا تأمَّلنا السُّنة نجد أن السُّنَّة إنما بَيَّنَتْ مقادير الزكاة وأنصباءها في المدينة؛ ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى قولٍ ثالثٍ بالتَّفصيل -ولعله الأقرب والله أعلم- وهو: أن أصل فرض الزكاة كان في مكة، ولكن تفاصيل أحكامها في المدينة من: تقدير أنصبائها، وتقدير الأموال الزكوية، وتبيان أهلها كان في المدينة.
وهذا القول هو الذي تجتمع به الأدلة، وقد رجَّحه الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله في “تفسيره”.
إذن كان المسلم في مكة مأمورًا بإخراج شيءٍ من غير تحديدٍ: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ أي شيءٍ، لكن بُيِّنَ هذا الشيء وبُيِّنَ المُخْرَج في المدينة على وجه التَّحديد.
ولذلك قال ابن كثيرٍ: وقد كان يجب إخراج شيءٍ في الأصل في مكة، ثم في السنة الثانية من الهجرة فُصِّلَ بيانه وبُيِّنَ مقدار المُخْرَج وكميته.
والزكاة ركنٌ من أركان الإسلام، وفريضةٌ من فرائض الدين، قد أجمع المسلمون على وجوبها، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام، ومَن تركها جاحدًا لوجوبها فقد كفر، وإن كان بُخْلًا وتهاونًا لم يكفر.
وسيأتي الكلام عن هذه المسألة بالتفصيل -إن شاء الله- في باب “إخراج الزكاة”.
الحنابلة يذكرون هذه المسائل مُتأخرةً، ليس في أول كتاب “الزكاة”، وإنما في باب “إخراج الزكاة”.
شروط وجوب الزكاة
قال المصنف رحمه الله:
شروط وجوبها خمسة أشياء:
أحدها: الإسلام.
الشرط الأول من شروط وجوب الزكاة: الإسلام، فلا تجب الزكاة على الكافر بالإجماع؛ لقول الله تعالى: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة:54]، فالكافر لا تُقْبَل منه نفقته من زكاةٍ أو غيرها؛ ولقول النبي : إنك تأتي قومًا أهل كتابٍ، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلى قوله: فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً تُؤخذ من أغنيائهم فَتُردّ في فقرائهم [1]، فجعل النبي الإسلامَ شرطًا لوجوب الزكاة.
قال المصنف:
ولو مُرتدًّا.
يعني: ولو كان كافرًا مُرتدًّا فلا تجب عليه الزكاة؛ لأن المُرتد كافرٌ.
حكم الزكاة على الشركات غير المسلمة
يتفرَّع عن هذا مسألةٌ من المسائل المعاصرة، وهي مسألة الشركات غير المسلمة التي تستثمر في البلاد الإسلامية.
تعرفون عندنا -مثلًا- في المملكة فُتِحَ باب الاستثمار، وربما أحيانًا تأتي شركاتٌ غير مسلمةٍ، القائمون عليها غير مسلمين، والدولة تجبي الزكوات من الشركات، وعندنا جميع الشركات المُساهمة مُلزَمةٌ بدفع الزكوات إلى مصلحة الزكاة والدَّخل، فهل نُلْزِم الشركات غير المسلمة؟ هل نُلزمها بدفع الزكوات أُسْوةً بالشركات المسلمة، أو نُعفيها باعتبار أن الكافر لا تجب عليه الزكاة؟
طالب: …….
الشيخ: لا، مسألة الضريبة شيءٌ آخر، لكن هل نُلزمه بإخراج الزكاة؟
نقول: هذه الشركات غير المسلمة لا تُلزَم بالزكاة؛ لأن الزكاة لا تجب على الكافر، فلا تُلزم بالزكاة، ولا تُطالَب هذه الشركات التي تستثمر في البلاد الإسلامية بدفع الزكاة، ولكن يرى بعض العلماء أن لولي الأمر أن يُطالب هذه الشركات بدفع ضريبةٍ للدولة، فتُؤخذ منهم ضرائب، فإن هذا لا بأس به، على الأقل مُعاملةً بالمثل؛ لأن الشركات المسلمة لو ذهبتْ إلى البلاد الكافرة تستثمر فيها لَأُخِذَتْ منها ضرائب كثيرةٌ، فعلى الأقل من باب المعاملة بالمثل.
هذا قولٌ لا بأس به، ويدخل ذلك في باب السياسة الشرعية التي يراها ولي الأمر، وباب السياسة الشرعية بابٌ واسعٌ.
إذن نقول: الشركات غير المسلمة لا تُلزَم بدفع الزكاة باعتبار أن الكافر لا تجب عليه الزكاة، لكن لولي الأمر أن يأخذ منها ضرائب، وأن هذا يدخل في باب السياسة الشرعية.
طالب: …….
الشيخ: لا، العبرة بِمُلَّاك الشركة هل هم مسلمون أو غير مسلمين؟
إذا كانوا مسلمين تجب عليهم الزكاة، وإذا كانوا غير مسلمين فلا تجب، وإذا كان بعضهم مسلمين وبعضهم غير مسلمين؛ فتجب على المسلمين بقدر حصصهم، فتُدفع على أنها زكاةٌ، والباقي يمكن أن يُؤخذ منهم على شكل ضريبةٍ.
هل الكافر يُحاسَب على ترك الزكاة؟
لكن عدم مُطالبة الكافر بالزكاة لا يعني أنه غير مُحاسَبٍ على تَرْكها، بل هو مُحاسَبٌ عليها وعلى تَرْك الصلاة وسائر أمور الشريعة.
وهذه المسألة تكرَّرتْ معنا، وقلنا: إن القول الصحيح: أن الكفار مُحاسبون على ترك الصلاة والزكاة وسائر أمور الدين.
يعني: تقسيم الدين إلى أصولٍ وفروعٍ فيه إشكالٌ.
يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية وبعض أهل العلم يرون عدم صحة هذا التقسيم، يُقال: فروع الشريعة وأصول الشريعة.
يعني: هل الكافر يُحاسَب على تَرْك الصلاة والزكاة والحج ونحو ذلك من العبادات؟
نقول: نعم، يُحاسَب عليها.
مَن يذكر لنا الدليل على أن الكافر يُحاسَب عليها؟
طالب: …….
الشيخ: نعم، قول الله تعالى في سورة المدثر عن المجرمين: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:42- 43]، ثم قال في آخر الآيات: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر:46] يدل على أنهم كفار وحُوسِبُوا على ترك الصلاة، وإذا حُوسِبُوا على ترك الصلاة يُحاسبون على ترك الزكاة وسائر العبادات.
إذن الكافر يُحاسَب على ترك الزكاة.
طالب: …….
الشيخ: المهم أنهم حُوسِبُوا على ترك الصلاة: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ يكفي هذا، حُوسِبُوا على ترك الصلاة.
قال:
الثاني: الحرية، فلا تجب على الرقيق ولو مُكاتبًا، لكن تجب على المُبَعَّضِ بِقَدْر مِلْكِه.
“الرقيق” الرِّقُّ تعريفه عند الفقهاء: عَجْزٌ حُكميٌّ يقوم بالإنسان بسبب كفره بالله تعالى. هذا معنى الرِّق.
ومعنى ذلك: أنه لا يجوز أن يُسْتَرَقَّ إلا الكافر، والمسلم لا يجوز استرقاقه، ولكن قد يستمر الرقُّ بالتَّوالد.
والرِّقُّ مُرتبطٌ بالجهاد في سبيل الله؛ ولذلك معظم الرِّق الموجود هنا -في الجزيرة العربية والمناطق التي حولها- رِقٌّ غير شرعيٍّ؛ لأنه غير مُرتبطٍ بالجهاد في سبيل الله، فليس استرقاق أسرى، وليس بطريق التَّوالد، وإنما سَرِقاتٌ ونحو ذلك، وهذا رِقٌّ غير شرعيٍّ.
ومن ذلك أيضًا: كثيرٌ من الرقِّ الموجود الآن في بعض البلاد الإفريقية رِقٌّ غير شرعيٍّ؛ لأنه لا يُعلم أن تلك الجهات كان فيها جهادٌ في سبيل الله قريبٌ.
ثم أيضًا الآن في الوقت الحاضر الأنظمة الدولية تُجرِّم الرقَّ، جميع دول العالم بما فيها هذه الدول الإفريقية تمنع من الرقِّ؛ ولذلك لا يوجد رقٌّ شرعيٌّ اليوم على وجه الأرض، والله أعلم.
مَن كان يزعم أنه في بعض بلاد إفريقيا، لكن أشكّ في شرعيته؛ ولهذا تأمل الإعجاز القرآني في قول الله تعالى لمَّا ذكر كفارة الظِّهار: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3]، وقال في الآية التي بعدها: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [المجادلة:4]، ولم يقل: فمَن لم يجد ثمن الرقبة، قال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ وأطلق؛ لأن الله تعالى يعلم أنه سيأتي على الناس زمانٌ لا يجدون فيه الرقاب، وإن كانوا يجدون ثمنها في وقتنا الحاضر، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ يشمل مَن لم يجد ثمن الرقبة، ومَن لم يجد الرقبة أصلًا.
إذن هذا تعريف الرقّ.
قال: “فلا تجب على الرقيق ولو مُكاتَبًا”؛ لأن المُكاتَب رقيقٌ ما بقي درهمٌ، ولكن “تجب على المُبَعَّض بقدر ملكه” يعني: بقدر ما فيه من الحرية.
الثالث.
الشرط الثالث:
مِلْك النِّصاب تقريبًا في الأثمان، وتحديدًا في غيرها.
“مِلْك النِّصاب”، النِّصاب هو القدر الذي رتَّب الشارعُ وجوبَ الزكاة على بلوغه، ويختلف باختلاف الأموال.
وبناءً على ذلك: مَن كان فقيرًا ليس عنده شيءٌ، أو عنده مالٌ لكنه دون النِّصاب؛ فلا زكاة عليه.
وسيأتي -إن شاء الله تعالى- معرفة أنصباء كل مالٍ.
هل النِّصاب في الأثمان على سبيل التَّقريب أم التَّحديد؟
قول المصنف هنا: “تقريبًا في الأثمان، وتحديدًا في غيرها” يعني: النِّصاب في غير الأثمان -في غير الذهب والفضة- مُحدَّدٌ، فمثلًا: نِصَاب الإبل مُحدَّدٌ، ونِصَاب البقر، ونِصَاب الغنم، ونِصَاب الحبوب والثِّمار على وجه التَّحديد، لكن الأثمان يقول: إنها على وجه التَّقريب.
وبناءً على هذا، إذا نقص النِّصاب في الأثمان نَقْصًا يسيرًا فإنه لا يمنع من وجوب الزكاة.
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء: هل النِّصاب في الأثمان على سبيل التَّقريب، أو على سبيل التَّحديد؟
نُوضِّح هذا بمثالٍ: رجلٌ عنده أربعةٌ وثمانون جرامًا من الذهب، ونِصَاب الذهب خمسةٌ وثمانون جرامًا، فإذا قلنا: إن نِصَاب الذهب على سبيل التَّحديد؛ فليس عليه زكاةٌ، وإذا قلنا: على سبيل التَّقريب؛ فعليه زكاةٌ.
هذا مثالٌ لتتضح صورة المسألة.
نقول أولًا: إذا نقص النِّصاب في الأثمان نَقْصًا كثيرًا فلا زكاة فيه باتِّفاق العلماء، يعني: مثلًا ما عنده إلا أربعون جرامًا من الذهب، فهذا لا تجب فيه الزكاة بالإجماع.
وأما إن كان يسيرًا كما مثَّلتُ قبل قليلٍ: عنده أربعةٌ وثمانون جرامًا من الذهب، أو ثلاثةٌ وثمانون، أو اثنان وثمانون، أو واحدٌ وثمانون، أو ثمانون، أو بالنسبة للفضة، نِصَاب الفضة: خمسمئةٍ وخمسةٌ وتسعون جرامًا، فلو كان عنده خمسمئةٍ وتسعون -مثلًا- فهل تجب الزكاة فيه أم لا؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
- القول الأول: إن كان النَّقص يسيرًا وَجَبَت الزكاة فيه؛ وذلك لأنه لا ينضبط، فهو كنقص الحول ساعةً أو ساعتين.
وهذا هو القول الذي مشى عليه المؤلف، فاعتبر أن النِّصاب في الأثمان على سبيل التَّقريب، وليس على سبيل التَّحديد، وهذا القول هو الصحيح من مذهب الحنابلة: أن النِّصاب في الأثمان على سبيل التَّقريب، لا على سبيل التَّحديد. - القول الثاني في المسألة: أنه إن نقص النِّصاب في الأثمان فلا زكاة فيها مطلقًا، سواء كان النَّقص قليلًا أم كثيرًا.
وعلى هذا فيكون النِّصاب في الأثمان على سبيل التَّحديد كغيرها من الأموال.
وقال بهذا جماهير أهل العلم، وممن قال بهذا: إسحاق، وابن المنذر، ومذهب الشافعية، وروايةٌ عن الإمام أحمد.
واستدلوا بظاهر النصوص، ومنها قول النبي : ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقةٌ متفقٌ عليه [2]، وقوله : ليس في أقلّ من عشرين مثقالًا من الذهب .. صدقةٌ [3].
فنجد أن النصوص قد وردتْ بالتَّحديد، ولم ترد بالتَّقريب.
وهذا القول هو القول الراجح -والله أعلم- وقد اختاره المُوفَّق ابنُ قدامة رحمه الله في “المُغني”؛ قال: “وهذا القول ظاهر الأخبار، فينبغي ألا يُعْدَل عنه”، هذا من كلام المُوفَّق.
إذن القول الراجح: أن النِّصاب في الأثمان على سبيل التَّحديد، وليس على سبيل التَّقريب.
وبناءً على ذلك نقول في مسألتنا السابقة: مَن كان عنده أربعةٌ وثمانون جرامًا من الذهب، فعلى القول الراجح لا تجب عليه الزكاة، وعلى المذهب تجب عليه الزكاة، ومَن كان عنده خمسمئةٍ وتسعون جرامًا من الفضة على القول الراجح لا تجب عليه الزكاة، وعلى المذهب تجب عليه الزكاة، وهكذا.
الرابع: المِلْك التَّام، فلا زكاة على السيد في دَين الكتابة، ولا في حصة المُضارب قبل القسمة.
“المِلْك التام” وبعضهم يُعبِّر بـ”استقرار المِلْك”، فإذا كان المِلْك غير تامٍّ، أو كان غير مُستقرٍّ، بل عُرضةً للسقوط؛ فإنه لا زكاة فيه.
ومَثَّل المؤلف لذلك بمثالين:
المثال الأول: “لا زكاة على السيد في دَين الكتابة”؛ فإن الرقيق إذا كاتَب سيِّدَه يُكاتبه على دَفْع أقساطٍ مُنَجَّمةٍ، فيكون السيد مُسْتَحِقًّا لهذا الدَّين -دَين الكتابة- لكن هذا الدَّين عُرضةٌ للسقوط، لماذا؟
لأن هذا الرقيق يملك تعجيز نفسه، يقول: عجزتُ، ما أستطيع أن أُسدد هذا الدَّين. فيبقى رقيقًا؛ ولذلك لا تجب على السيد الزكاة في دَين الكتابة.
المثال الثاني: “ولا في حصة المُضارب قبل القسمة”، والمُضارب المقصود به العامل، فحِصَّتُه من الربح قبل القسمة لا تجب فيها الزكاة، فلو -مثلًا- اتَّفق شخصٌ مع آخر، أعطاه مئة ألف ريالٍ وقال: الرِّبح بيني وبينك نصفان. ورَبِحَا عَشَرةَ آلاف ريالٍ، فنقول: العامل لا تجب عليه الزكاة في خمسة آلاف ريالٍ إلا بعد القسمة، بعدما يستلم الخمسة الآلاف، أما قبل أن يستلمها فلا تجب عليه، لماذا؟
لأن ربح المُضاربة هنا بالنسبة للعامل غير مُستقرٍّ؛ لأن الربح وقايةٌ لرأس المال، فإنه لو خسر فلا شيء للعامل، فما دام أنه لم يُقْسَم بَعْدُ رِبْحُ التجارة -رِبْحُ المُضاربة- فلا تجب عليه الزكاة، لكن في المقابل حِصَّة المالك تجب فيها الزكاة؛ لأنها تابعةٌ للأصل المُستقر وهو رأس المال، فتجب فيها الزكاة، وتجب كذلك في نصيبه من الربح.
فمثلًا: أعطاه مئة ألفٍ، وأصبحتْ بعد العمل مئةً وعَشَرة آلاف، فالخمسة الآلاف هذه -نصيبُ العامل- ما فيها زكاةٌ، والمئة وخمسة -نصيبُ ربِّ المال- فيها الزكاة: مئة ألفٍ رأس المال، وخمسة آلافٍ نصيبُه من الربح.
إذن نصيب العامل قلنا: ليس فيه زكاةٌ؛ لأنه عُرضةٌ للسقوط؛ لأن ربح المُضاربة قبل القسمة وقايةٌ لرأس المال.
حكم الزكاة في الأموال التي تُدفع للجهات الخيرية
من المسائل المعاصرة المُتفرعة حول هذا، يعني: معظم المسائل نربطها ببعض المسائل المعاصرة وبعض المسائل الواقعة، وهذا هو الفقه النافع، هذا هو فقه السلف: أنهم يربطون العلم بالواقع الذي يعيشون فيه، وهذا من أنفع ما يكون من العلم، فنحاول في كل مسألةٍ أن نربطها بالمسائل المعاصرة أو الواقعة.
من المسائل المُتفرعة على هذا الشرط: الأموال التي تُعْطَى لجهاتٍ خيريةٍ: كمراكز الدعوة إلى الله ، وحلقات التَّحفيظ، ومكاتب توعية الجاليات، والصناديق والمؤسسات الخيرية، وجمعيات البِرّ، ونحو ذلك، فهذه لا تجب فيها الزكاة؛ لأنه لا مالك لها، ومن شروط وجوب الزكاة: تمام المِلْك، أو المِلْك التام.
وهكذا أيضًا الأوقاف التي يُصْرَف ريعها في وجوه البِرِّ والإحسان، وهكذا الأوقاف التي تكون في أَضَاحٍ عن الميت؛ فهذه لا زكاة فيها.
وبعض العامة يجهل مثل هذا الحكم، فتجد أن عنده وَقْفًا أو سبالةً ويُزكيها.
نقول: هذه لا تجب فيها الزكاة؛ لأن هذه الأشياء لا مالك لها؛ ولأنها أموالٌ رُصِدَتْ لوجوه البِرِّ والإحسان، وليست مِلْكًا لأحدٍ؛ ولذلك لا تجب فيها الزكاة.
حكم الزكاة في الصناديق العائلية ونحوها
أما الصناديق العائلية فهل تجب فيها الزكاة أو لا تجب؟
يعني: بعض الأُسر أو بعض العوائل عندها صناديق، فهل تجب فيها الزكاة أم لا؟
ربما ليس بعض الأُسر، ربما أحيانًا بعض الزملاء، وأحيانًا بعض الجيران، مثلًا: أهل القرية أو القبيلة يضعون صندوقًا خيريًّا.
فهل تجب الزكاة في هذه الصناديق؟ وأحيانًا تكون أموالًا كبيرةً.
نقول: إن كان المال الذي دُفِعَ لهذه الصناديق على سبيل التَّبرع، ولا يعود للمُشاركين في هذه الصناديق، ولا إلى ورثتهم إلا عند حصول حادثٍ -مثلًا- أو نحوه مما وُضِعَ الصندوق من أجله؛ فهذه لا زكاة فيها.
ولهذا لو انسحب هذا الإنسان من هذا الصندوق، فليس له أن يُطالِب بما دَفَعَ، فهذه الصناديق لا زكاة فيها.
أما إذا كان المال يعود إلى المشاركين بعد مدةٍ، أو يعود إلى ورثتهم، ولو أراد أن ينسحب من هذا الصندوق لَأُعْطِيَ ما دَفَعَ، فهذا تجب الزكاة فيه؛ لأنه لم يخرج عن مِلْك صاحبه، فهو في حكم القرض.
إذن هذه الصناديق فيها تفصيلٌ: إن كان المشاركون فيها مُتبرعين، لا تعود لهم هذه الأموال، ولو أن أحدهم انسحب أو سافر -مثلًا- لبلادٍ بعيدةٍ أو نحو ذلك فليس له الحق في أن يسترد ما دَفَعَه، فهذه نقول: لا تجب فيها الزكاة؛ لأنه لا مالك لها.
أما إذا كانت تعود لهم بعد مدةٍ، ولو أراد أن ينسحب من هذا الصندوق لَدُفِعَ له وأُعْطِيَ ما دَفَعَ، أو لورثته بعد موته، فهنا تجب فيها الزكاة؛ لأنها في حكم القرض.
هذه مسألةٌ من المسائل المهمة التي ينبغي أن نفهمها جيدًا؛ لأن بعض الناس تجد أنه يتولى مثل هذه الأمور، فربما دَفَعَ الزكاة.
أذكر أنه قبل أيامٍ اتَّصل بي أحد الناس وقال: إن عنده أموالًا لتحفيظ القرآن، ودَفَعَ زكاتها.
قلتُ: المُفترض أن تسأل.
وقلتُ: في مثل هذه يضمن ويغرم ما دفع؛ لأنه تصرف فيها تصرفًا غير مناسبٍ، فمثل هذه الأموال التي لا مالك لها لا تجب فيها الزكاة.
قال:
الخامس: تمام الحول.
وهذا مُجْمَعٌ عليه بين أهل العلم، والمقصود بالحول: السَّنة القمرية، وليس السَّنة الشمسية.
والسَّنة القمرية تتكون من كم يوم؟
من 354 إن كانت السنة بسيطةً، و355 إن كانت كبيرةً.
يعني: إما 354، أو 355.
الحكمة من التقدير بالحول
أن الحول مقدارٌ يكون به الربح المُطَّرد غالبًا، وهو المناسب لأرباب الأموال ولأهل الزكاة؛ لأنه لو كان التقدير بأقلّ من الحول فربما يكون فيه إضرارٌ بأرباب الأموال، ولو كان التقدير بأكثر من الحول فربما يكون فيه إضرارٌ بأهل الزكاة من الفقراء والمساكين وسائر الأصناف.
ثم إن الحول يكون فيه خروج الثِّمار والنَّماء في المواشي غالبًا.
الأموال التي لا يُشترط لها تمام الحول
يُستثنى من هذا الشرط ثلاثة أمورٍ:
- الأمر الأول: الخارج من الأرض من الحبوب والثِّمار، فإنها تكون حين الحصاد؛ لقول الله : وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]؛ ولهذا قد يزرع الإنسانُ الأرضَ ويكتمل الزرع في أربعة أشهرٍ أو في ستة أشهرٍ -مثلًا- وتجب عليه فيه الزكاة مع أنه لم يبلغ حَوْلًا.
- الثاني مما يُستثنى: نِتَاج السَّائمة؛ لأن النبي كان يبعث السُّعاة إلى أرباب المواشي، ولم يكن السُّعاة يُفرقون بين السَّائمة ونِتَاجها، وهل هذه حَالَ عليها الحول أم لا؟ فدلَّ ذلك على أن نِتَاج السَّائمة لا يُشترط له تمام الحول.
وبناءً على ذلك: لو كان عند رجلٍ ستون من الغنم، فَنَتَجَتْ كلُّ واحدةٍ واحدةً إلا واحدةً منها نَتَجَتْ اثنتين، فيكون المجموع كم؟
مئةٌ وإحدى وعشرون، فهذه فيها شاتان، مع أن واحدةً وستين منها لم يَحُلْ عليها الحول، لكن التي حال عليها الحول هي أمهاتها الستون.
إذن نِتَاج السَّائمة لا يُشترط له تمام الحول.
- الأمر الثالث: ربح التجارة؛ لأن الربح تابعٌ للأصل، فلا يُشترط له تمام الحول.
فهذه المسائل الثلاث تُستثنى من هذا الشرط.
طالب: الإيجار؟
الشيخ: بعض العلماء ألحق بذلك الأجرة، وأنها لا يُشترط لها تمام الحول.
وقد نُسِبَ هذا القول لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولكن الأظهر -والله أعلم- أن الأجرة كغيرها يُشترط لها تمام الحول؛ إذ لا دليل يدل على هذا الاستثناء.
طالب: والراتب؟
الشيخ: الراتب كذلك يُشترط له تمام الحول، لكن الإشكال في الراتب أن أكثر الناس يَعْسُر عليه أن يعرف ما الذي ادَّخر وما الذي أنفق؛ فلذلك لو اتَّخذ يومًا واحدًا في السنة، وزكَّى فيه جميع رصيده، سواء حال عليه الحول أو لم يَحُلْ، وينوي فيما لم يَحُلْ عليه الحول: تعجيل الزكاة، فإن هذا يكون حسنًا وأَضْبَطَ وأحوط، وإلا فالأصل أنه يُشترط له تمام الحول.
قال المصنف:
ولا يضرُّ لو نقص نصف يومٍ.
يعني: نقص أقلّ من يومٍ لا يضرُّ.
وهذه المسألة مُؤثرةٌ، خاصةً بالنسبة للأسهم والصناديق الاستثمارية ونحو ذلك؛ لأن أسعارها تتفاوت بالساعة.
فنقول: أقلّ من يومٍ لا يُؤثر، فالمُعتبر هو اليوم -يعني- أربعٌ وعشرون ساعةً، فيحسبها بهذا، أما بالنسبة لأقلّ من يومٍ فإنه لا يُعتبر في الحساب، يعني: لا يحسبها -مثلًا- فيقول: إذا تمَّتْ على هذا المال سنةٌ، إذا وصل لساعة كذا فقد تمَّتْ سنةٌ، لا، لا يكون الحساب هكذا، وإنما يكون يوم كذا، فأقلّ من يومٍ إذن لا يُؤثر.
حكم الزكاة في مال الصغير والمجنون
قال:
وتجب في مال الصغير والمجنون.
أي: أن الزكاة تجب في مال الصغير والمجنون؛ وذلك لعموم الأدلة الدالة على وجوب الزكاة في الأموال من غير تفريقٍ بين أموال الصغار والمجانين وغيرها؛ ولأن الزكاة تتعلق بعين المال، تجب في عين المال، وإن كان لها تعلُّقٌ بالذمة.
ولذلك اختلف العلماء: هل الزكاة تتعلق بعين المال أو بالذمة؟
قال بعضهم: إنها تتعلق بعين المال.
وقال آخرون: تتعلق بالذمة.
والقول الثالث -وهو الذي نصَّ عليه صاحب “الزاد”-: أنها تجب في عين المال، ولها تعلقٌ بالذمة، وهذا هو أرجح الأقوال، يقول صاحب “الزاد”: “وتجب الزكاة في عين المال، ولها تعلقٌ بالذمة”.
فهي في الأصل تجب في عين المال، لكن أيضًا لها تعلُّقٌ بالذمة؛ لأننا لو قلنا: إنها لا تجب في عين المال، لكان في هذا إشكالٌ، لو قلنا: إنها تتعلق بالذمة، لكان في هذا إشكالٌ؛ وذلك أن الإنسان لو وجبتْ عليه الزكاة وتلفتْ من غير تَعَدٍّ منه ولا تفريطٍ، فلو قلنا: إنها تتعلق بالذمة، لوجب عليه أن يُخْرِج الزكاة، وهذا محل نظرٍ.
ولو قلنا: إنها تتعلق بعين المال، وليس لها تعلقٌ بالذمة؛ لكان تعلقها بعين المال كتعلق الرهن بالعين المرهونة، وهذا محل نظرٍ؛ لأن الإنسان لا يلزمه أن يُخْرِج الزكاة من عين المال نفسه، بل له أن يُخرجها من مالٍ آخر.
ولذلك فالأقرب هو: أنها تتعلق بعين المال، ولها تعلقٌ بالذمة.
“وتجب” الزكاة “في مال الصغير والمجنون” في قول جماهير أهل العلم، ويدل لذلك قول عمر : “ابتغوا بأموال اليتامى؛ لا تستغرقها الصدقة”، رواه ابن أبي شيبة بسندٍ صحيحٍ [4]، ورواه الترمذي مرفوعًا إلى النبي وقال: “في إسناده مقالٌ” [5]، فالصحيح أنه لا يصح مرفوعًا، وإنما موقوفًا على عمر .
ولذلك فمَن وَلِيَ مالًا لأيتامٍ أو مجانين ينبغي له أن يستثمره، ويجب عليه أن يُزكيه، لكن لو تركه بدون استثمارٍ فإن الزكاة تأكله.
فمثلًا: لو أن رجلًا خلَّف أربعين ألف ريالٍ، وخلَّف طفلًا عمره سنة واحدة، فزكاة أربعين ألفًا كم؟
ألف ريالٍ، في السنة الأولى سيُخرج ألفًا، وألفًا في السنة الثانية، فبعد عشرين سنة -مثلًا- لو افترضنا أن هذا الطفل بلغ رُشده وعمره عشرون سنةً، أو إحدى وعشرين -مثلًا- فمعنى ذلك: أنه قد صرف ما يُقارب نصف هذا المال في الزكاة.
وهذا ليس من الإحسان لهذا اليتيم، فكان ينبغي له أن يستثمر هذا المال أو يجعله في أصلٍ، فإذا جعله في أصلٍ لم تجب فيه الزكاة، فيشتري -مثلًا- له به عقارًا يُؤجره، وأصل هذا العقار لا تجب فيه الزكاة.
المقصود أنه يفعل بهذا المال ما يتجنب به أن تأكله الزكاة؛ ولهذا قال عمر : “اتَّجروا بأموال اليتامى؛ لا تأكلها الزكاة”.
طالب: …….
الشيخ: لكن ماذا يريد بهذه الأرض؟
الطالب: …….
الشيخ: نعم، هذه محلُّ خلافٍ بين أهل العلم: إذا اشترى أرضًا وقَصَدَ بها حفظ المال، هل تجب فيها الزكاة أم لا؟
والأقرب أنه تجب فيها الزكاة، لماذا؟
لأنها لو كانت نقدًا لوجبتْ فيها الزكاة، وهكذا لو كانت أرضًا، كأنها الآن نَقْدٌ على شكل أرضٍ.
الطالب: العقار؟
الشيخ: لا، إذا كان عقارًا لا يريد بيعه، وإنما يريد تأجيره، فهذا لا تجب فيه الزكاة؛ ولذلك الأرض لو أنه أراد تأجيرها ولم يُرد بيعها لا تجب فيها الزكاة.
الأموال التي تجب فيها الزكاة
قال:
وهي.
يعني: الزكاة.
في خمسة أشياء.
يعني: الأموال التي تجب فيها الزكاة خمسة أشياء:
– في سائمة بهيمة الأنعام.
– وفي الخارج من الأرض.
– وفي العسل.
– وفي الأثمان.
– وفي عروض التجارة.
وهذه -إن شاء الله – سنتكلم عنها -عن كلِّ واحدةٍ منها- بالتفصيل.
قال:
ويمنع وجوبها دَينٌ ينقص النِّصاب.
“يَنْقُص به النِّصابُ”، أو “يَنقُص النِّصابَ”، فإما أن نقول: ينقص به النِّصابُ، فتكون “النِّصابُ” فاعلًا، أو ينقص النِّصابَ، فتكون: يَنقُص الدَّينُ النِّصابَ.
هل الدَّين الذي ينقص به النِّصاب يمنع وجوب الزكاة؟
هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم: هل الدَّين الذي ينقص به النِّصاب يمنع وجوب الزكاة أم لا؟
كما لو كان عند رجلٍ مئة ألفٍ، وحال عليها الحول، وعليه دَينٌ بمئة ألفٍ أو أكثر، هل تجب عليه الزكاة أم لا تجب؟
اختلف العلماء في هذه المسألة:
أولًا: إذا كان الدَّين لا ينقص به النِّصاب، فإن هذا الدَّين لا يمنع الزكاة بالإجماع، كما لو كان عند رجلٍ مئة ألفٍ، وعليه دَينٌ -مثلًا- خمسة آلاف ريالٍ، فهنا لا أثر لهذا الدَّين على وجوب الزكاة باتِّفاق العلماء، لكن الكلام فيما إذا كان الدَّين يَنْقُص به النِّصاب كما مثَّلنا: عنده مئة ألفٍ، وعليه دَينٌ مئة ألفٍ، أو عليه دَينٌ ثلاثمئة ألفٍ، فهل تجب عليه الزكاة أم لا؟
المؤلف يرى أن هذا الدَّين يمنع وجوب الزكاة، فلا تجب عليه الزكاة في هذه الحال.
وهذا هو القول الأول في المسألة: أن الدَّين يمنع وجوب الزكاة، هذا القول الأول، وهو المذهب عند الحنابلة.
واستدلوا بقول عثمان : “هذا شهر زكاتكم، فمَن كان عليه دَينٌ فَلْيُؤَدِّ دَيْنَه؛ حتى تحصل أموالكم فتُؤدوا منها الزكاة”، رواه مالكٌ بسندٍ صحيحٍ [6].
قالوا: وكان هذا بمحضرٍ من الصحابة، فكان إجماعًا.
قالوا: ولأن الزكاة إنما وجبتْ مُواساةً للفقراء والمساكين، وشكرًا لنعمة الغِنَى، والمَدِين مُحتاجٌ إلى قضاء دَينه كحاجة الفقير أو أشدّ، وليس من الحكمة تعطيل حاجة المالك لدفع حاجة غيره.
هذا هو القول الأول في المسألة.
القول الثاني في المسألة: أن الدَّين لا يمنع وجوب الزكاة، فلو كان على الإنسان -مثلًا- مليون ريال، وعنده مئة ألفٍ، وحال عليها الحول، فيجب عليه أن يُزكيها.
وهذا القول هو الصحيح من مذهب الشافعية، وروايةٌ عند الحنابلة.
ومن العلماء مَن فرَّق بين الأموال الظاهرة والأموال الباطنة، فقال: إن الدَّين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة دون الأموال الظاهرة.
وهذا هو مذهب المالكية.
والقول الراجح -والله أعلم- هو القول الثاني، وهو أن الدَّين لا يمنع وجوب الزكاة مطلقًا، وهذا هو اختيار شيخنا عبدالعزيز بن باز، وكذلك الشيخ محمد بن عثيمين، رحمهما الله تعالى.
هذا هو القول الراجح -والله أعلم-: أن الدَّين لا يمنع وجوب الزكاة؛ وذلك لأنه ليس هناك دليلٌ ظاهرٌ يدل على أن الدَّين يمنع الزكاة، والأصل هو وجوب الزكاة في كل ما بلغ النِّصاب.
ثم إن النبي كان يبعث العُمَّال لقبض الزكوات من أرباب المواشي وأصحاب الثِّمار والزروع، ولا يأمرهم بالاستفصال: هل عليهم ديونٌ أم لا؟ مع أن الغالب أن عليهم ديونًا، أم ليس عليهم ديونٌ؟
الغالب أن عليهم ديونًا، خاصةً أهل الثمار، فأهل الثمار كانوا يُسْلِفون في الثمار السنة والسنتين، فالغالب أن عليهم ديونًا، ومع ذلك كان النبي يَخْرُص عليهم ثمارهم ويُزَكُّونها.
ولأن الزكاة إنما تتعلق بعين المال؛ ولهذا قال : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة:103]، ولم يقل: خُذْ منهم، وقال النبي لمعاذٍ : فَأَعْلِمْهم أن الله افترض عليهم صدقةً في أموالهم، تُؤخذ من أغنيائهم، وتُرد على فُقرائهم [7].
ثم إن الدَّين إنما يجب في الذمة، لا في المال، فالزكاة تتعلق بعين المال، والدَّين يتعلق بالذمة، وحينئذٍ كما يقول الأصوليون: الجهة مُنْفَكَّةٌ، ولا تَعَارُضَ بين وجوب الزكاة على الإنسان مع ترتب الديون في ذمته.
وأما أثر عثمان فليس بصريحٍ في أن الدَّين يمنع الزكاة، وإنما يَحُثُّ عثمان الناسَ على المُبادرة بإخراج الديون، ويُخْبِرهم بأن الزكاة قد قَرُبَ وقت إخراجها، وهذا ليس بصريحٍ في أن عثمان يرى أن الدَّين يمنع الزكاة.
وأما قولهم: “إنها مُواساةٌ للفقراء والمساكين”، فنقول: إن هذا المال لمَّا بقي عند صاحبه سنةً كاملةً فقد تعلق به حقُّ الفقراء والمساكين، ومن حِكَم مشروعية الزكاة: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [الحشر:7]، فلا بد من تحريك المال، فكونه يبقى عند صاحبه سنةً كاملةً هنا يتعلق به حقُّ أصحاب الزكاة.
إذن هذا هو القول الأقرب، والله أعلم.
وبهذا نقول: إن القول الراجح أن الدَّين لا أثر له على وجوب الزكاة، فمَن كان عنده مالٌ بلغ النِّصاب يجب عليه أن يُزكِّيه، بِغَضِّ النظر عما ترتب في ذمته من الديون.
حكم زكاة الدَّين الذي في ذِمة الآخرين
هناك مسألةٌ أخرى نذكرها من باب الفائدة، لم يذكرها المؤلف، أو نُشير لها إشارةً، وهي: زكاة الدَّين الذي يكون للإنسان في ذِمة الآخرين.
يعني: نحن تكلَّمنا في المسألة السابقة عن أثر الدَّين على منع الزكاة، الدَّين الذي عليك، في ذِمتك، لكن الدَّين الذي لك في ذِمَم الآخرين.
مثال ذلك: تطلب رجلًا بمئة ألف ريالٍ، أقرضتَه قرضًا بمئة ألف ريالٍ، وبقيتْ عنده هذه المئة ألف ريالٍ سنةً أو سنتين أو ثلاثًا، فهل يجب عليك أن تُزكِّي أنت أيها الدائن؟ هل يجب عليك أن تُزكي هذا الدَّين أم لا؟
هذه المسألة اختلف فيها العلماء اختلافًا كبيرًا:
– فمنهم مَن قال: إنها تجب عليه زكاة هذا الدَّين مطلقًا.
– ومنهم مَن قال: إنها لا تجب.
– ومنهم مَن قال: يجب أن يُزكِّي لسنةٍ واحدةٍ.
وقد بُحِثَتْ هذه المسألة في مجمع الفقه الإسلامي الدولي، وأصدر فيها قرارًا، وجاء في القرار: إنه لم يرد نصٌّ من كتاب الله وسنة رسول الله يُفَصِّل زكاةَ الديون، وأما الآثار عن الصحابة فإنها قد تعدَّدتْ.
وعلى ذلك اختلفت المذاهب الإسلامية اختلافًا بَيِّنًا، وأن سبب الخلاف في هذه المسألة إنما بُنِيَ على الاختلاف في قاعدةٍ، وهي: هل يُعْطَى المال الذي يمكن الحصول عليه صفة الحاصل؟
هذا هو سبب الخلاف في المسألة: هل يُعْطَى المال الذي يمكن الحصول عليه صفة الحاصل أم لا؟
وقرر المجمع الفقهي: أنه إذا كان المدين مليئًا باذلًا فيجب على الدائن أن يُزكِّيه عن كلِّ سنةٍ، ذلك إذا كان المدين مليئًا باذلًا.
مليئًا يعني: ليس مُعْسِرًا.
باذلًا يعني: غير مُماطلٍ، فمتى طلبتَ الدَّين الذي لك أعطاك إياه، فهذا -كأن المال موجودٌ عندك- يجب عليك أن تُزكيه كلَّ سنةٍ.
أما إذا كان المَدين مُعْسِرًا، أو كان مُماطلًا؛ فلا زكاة على ربِّ الدَّين.
وهذا هو القول الراجح، وهو أيضًا الذي كان يُفْتِي به شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله.
إذن القول الراجح في زكاة الدَّين: إذا كان المدين مليئًا باذلًا يجب على الدائن أن يُزكِّي كل سنةٍ، وإذا كان المدين مُعْسِرًا ومُماطلًا فلا زكاة فيه.
حكم مَن مات وعليه زكاة
قال المصنف رحمه الله:
ومَن مات وعليه زكاةٌ أُخذتْ من تركته.
وذلك لأنها دَينٌ لله ، فقد قال الله لما ذَكَرَ المواريث: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]، والزكاة دَينٌ لله ، قال عليه الصلاة والسلام: اقضوا الله، فالله أحقُّ بالوفاء متفقٌ عليه [8]، فلما كانت الزكاة دَينًا لله وجب إخراجها قبل قسمة التركة.
باب زكاة السَّائمة
ثم قال المصنف رحمه الله:
باب زكاة السَّائمة.
“السائمة” المقصود بها: الراعية، ومنه قول الله : وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النحل:10] أي: تَرْعَوْن دوابَّكم.
والمراد بالسائمة هنا: التي ترعى العُشْب والكَلَأ أكثر السنة.
شروط زكاة السائمة
قال:
تجب فيها بثلاثة شروطٍ:
أحدها: أن تُتَّخَذ للدَّرِّ والنَّسْل والتَّسمين، لا للعمل.
أما إذا كانت قد اتُّخذتْ للعمل، وهي التي كان يُعْمَل عليها قديمًا: كاستخراج الماء، أو في الحَرْث، أو في الحمل عليها، أو في تأجيرها للحمل عليها، وهذه كانت موجودةً قديمًا؛ فهذه لا زكاة فيها.
الشرط الثاني:
أن تَسُوم.
يعني: أن تكون سائمةً.
قال:
أي: ترعى المباح أكثر الحول.
يعني: أن ترعى العُشْب والكَلَأ أكثر السنة؛ وذلك لقول النبي كما في حديث بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جدِّه: في كلِّ إبلٍ سائمةٍ: في كلِّ أربعين بنتُ لَبُونٍ، أخرجه أبو داود والنسائي، وصححه الإمام أحمد [9].
وأيضًا في كتاب أبي بكر الذي كتبه لأنسٍ ، وهو في “صحيح البخاري”، قال: “وفي صدقة الغنم، في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومئة شاةٌ” [10].
ولا بد في اعتبار السائمة: أن ترعى العُشْب والكَلَأ ونحو ذلك مما يَنْبُت من غير زرع آدمي، أما إذا كان يزرعه الآدمي فإن هذه لا تُعتبر سائمةً.
فلو كانت مزرعةٌ للإنسان وترعى فيها الإبل أو البقر أو الغنم، فهذه لا تُعتبر سائمةً، ولو قال: إنها ترعى المباح أكثر السنة؛ لأنها ترعى ما يُنْبِته الآدمي.
فلا بد لكونها سائمةً: أن ترعى العُشْب والكَلَأ الذي لم يزرعه آدمي، ولا بد أن يكون ذلك أكثر الحول، يعني: أكثر السنة، أما التي ترعى أقلّ الحول فهذه ليس فيها زكاةٌ، كما لو كانت ترعى خمسة أشهرٍ، ويعلفها صاحبها سبعة أشهرٍ؛ فهذه لا زكاة فيها.
قال:
الثالث: أن تبلغ نِصَابًا.
نِصَاب الإبل
ثم بيَّن المؤلف النِّصاب فقال:
فأقلُّ نِصَاب الإبل خمسٌ.
“أقلّ نِصَاب الإبل خمسٌ”، فما دون الخمس لا تجب فيه الزكاة إلا أن يَعُدَّها صاحبها للتجارة؛ فَتُزَكَّى زكاة عُرُوض التجارة.
قال:
وفيها.
أي: وفي الخمس.
شاةٌ، ثم في كلِّ خمسٍ: شاةٌ.
يعني: في العشر كم؟
شاتان، وفي خمسة عشر: ثلاثُ شِيَاهٍ، وفي عشرين: أربع شِيَاهٍ، حتى تبلغ خمسًا وعشرين.
قال:
إلى خمسٍ وعشرين، فتجب.
فيها.
بنتُ مَخَاضٍ.
وفسَّرها المؤلف قال:
وهي ما تمَّ لها سنةٌ.
و”بنتُ مَخَاضٍ” ما تمَّ لها سَنَةٌ ودخلتْ في الثانية؛ سُمِّيَتْ بذلك لأن أُمَّها -في الغالب- مَاخِضٌ، يعني: حاملًا، فالمَاخِض هي الحامل.
قال:
وفي ستٍّ وثلاثين: بنتُ لَبُونٍ.
يعني: إلى أن تبلغ ستًّا وثلاثين، فما بين خمسٍ وعشرين إلى ستٍّ وثلاثين هذا يُسميه الفقهاء بأي شيءٍ؟
بالوَقْص، فهذه لا زكاة فيها؛ وذلك رِفْقًا بالمالك.
يعني: في خمسٍ وعشرين: بنت مَخَاضٍ، وفي ستٍّ وعشرين: بنت مَخَاضٍ أيضًا، وفي سبعٍ وعشرين: بنت مَخَاضٍ، وفي ثمانٍ وعشرين وتسعٍ وعشرين وثلاثين كلها بنت مَخَاضٍ إلى خمسٍ وثلاثين: بنت مَخَاضٍ، وفي ستٍّ وثلاثين هنا تتغير الفريضة، فتكون فيها بنت لَبُونٍ.
قال:
وفي ستٍّ وثلاثين بنت لَبُونٍ لها سنتان.
بنت اللَّبُون: ما تَمَّتْ لها سنتان ودخلتْ في الثالثة، سُمِّيتْ بذلك لأن أُمَّها قد وضعتْ في الغالب، فهي ذات لبنٍ.
قال:
وفي ستٍّ وأربعين حِقَّةٌ.
فما بين ستٍّ وثلاثين إلى ستٍّ وأربعين هذا أيضًا وَقْصٌ، وفي ستٍّ وأربعين: حِقَّةٌ.
والحِقَّة قال:
لها ثلاث سنين.
ودخلتْ في الرابعة؛ سُمِّيتْ بذلك لأنها استحقَّتْ أن يَطْرُقَها الفحل، وكذلك أن يُحْمَل عليها وتُرْكَب؛ ولهذا جاء في حديث أبي بكرٍ : “حِقَّةٌ طَرُوقَة الفحل” [11].
قال:
وفي إحدى وستين: جَذَعَةٌ لها أربع سنين.
ودخلتْ في الخامسة؛ سُمِّيتْ بذلك لأنها تَجْذَعُ إذا سَقَطَ سِنُّها.
والجَذَعَة هي أعلى سنٍّ في الزكاة، وما بعد الجَذَعَة يُسمَّى: ثَنِيَّة، وهي ما لها خمس سنواتٍ.
قال المُوفَّق ابن قُدَامة: إن رَضِيَ ربُّ المال أن يُخْرِجَ مكان الجَذَعَة ثَنِيَّةً جاز ذلك.
ولَاحِظْ هذه السنّ: بنتُ مَخَاضٍ، بنت لَبُونٍ، حِقَّة، جَذَعَة، هل هذه تُجْزئ في الهَدْي والأُضحية أو لا تُجزئ؟
طالب: …….
الشيخ: لا تُجزئ.
لاحِظْ: هذه كلها في الزكاة.
إذن ما الذي يُجزئ في الهَدْي والأُضحية؟
الثَّنِيَّة: ما لها خمس سنوات.
فَلَاحِظْ هذه الأسنان: بنت مَخَاضٍ، وبنت لَبُونٍ، وحِقَّة، وجَذَعَة، هذه في الزكاة.
أما في الأُضحية والهَدْي فلا تُجزئ، إنما يُجزئ في الهَدْي والأُضحية ما كانت ثنيَّةً فأعلى، يعني: ما لها خمس سنوات فأعلى.
قال:
وفي ستٍّ وسبعين: بِنْتَا لَبُونٍ.
وهذه الأنصبة قد جاءتْ في كتاب أبي بكرٍ الذي كتبه لأنسٍ ، وهو في “صحيح البخاري” [12]، وهي ليست محلَّ خلافٍ، هي محل اتِّفاقٍ بين أهل العلم.
وفي ستٍّ وسبعين: بِنْتَا لَبُونٍ، وفي إحدى وتسعين: حِقَّتان، وفي مئةٍ وإحدى وعشرين: ثلاثُ بناتِ لَبُونٍ، إلى مئةٍ وثلاثين فيستقر.
الفريضة.
قال:
في كلِّ أربعين: بنتُ لَبُونٍ، وفي كل خمسين: حِقَّةٌ.
فإذا أردنا أن نأخذ أمثلةً على استقرار الفريضة: في مئةٍ وثلاثين كم؟
لَاحِظْ: في كل خمسين حِقَّةٌ، وفي كل أربعين بنت لَبُونٍ، فالمئة والثلاثون؟
نعم.
طالب: …….
الشيخ: حِقَّةٌ وبِنْتَا لَبُونٍ، أحسنتَ.
وفي مئةٍ وأربعين مَن يُجيب؟ في مئةٍ وأربعين؟
نعم.
طالب: …….
الشيخ: حِقَّتان وبنت لبونٍ.
حِقَّتان: خمسون وخمسون بمئةٍ، وبنت لَبُونٍ واحدةٌ بأربعين، مئةٌ وأربعون.
وفي مئةٍ وخمسين: ثلاث حِقَاقٍ.
وفي مئةٍ وستين: أربع بنات لَبُونٍ.
وفي مئةٍ وسبعين: حِقَّةٌ وثلاث بنات لَبُونٍ.
وفي مئةٍ وثمانين: حِقَّتان وبِنْتَا لَبُونٍ.
وفي مئةٍ وتسعين: ثلاث حِقَاقٍ وبنت لَبُونٍ.
وفي مئتين: أربع حِقَاقٍ، أو خمس بنات لَبُونٍ، وهكذا.
إذن تستقر الفريضة في كلِّ أربعين: بنتُ لَبُونٍ، وفي كل خمسين: حِقَّةٌ.
نودُّ أن ننتهي من الأنصبة؛ حتى تكون هناك فرصةٌ للأسئلة.
نِصَاب البقر
قال:
فصلٌ:
وأقلُّ نِصَاب البقر -أهليةً كانت أو وَحْشِيَّةً- ثلاثون.
انتقل المؤلف لزكاة البقر، وقال: “أهليةً كانت أو وحشيةً” يعني: البقر بأنواعه تجب فيه الزكاة.
وسُمِّي البقر بقرًا؛ لأنها تَبْقُر الأرضَ بالحِرَاثة، أي: تَشُقُّها.
والبقر تشمل البقر أهليةً كانت أو وحشيةً، وتشمل كذلك الجواميس، فإن الجواميس هي نوعٌ من البقر.
وقد حكى ابنُ المُنذر الإجماعَ على ذلك.
لَاحِظْ هنا: أن الفرق بين الإبل والبقر في الزكاة فَرْقٌ عظيمٌ؛ فَنِصَاب الإبل يبدأ بكم؟
بخمسٍ، وفي البقر: بثلاثين.
لَاحِظِ الفرق بين خمسٍ وبين ثلاثين، بينما في الهَدْي والأُضحية: البَدَنَة تُجزئ عن كم؟
عن سبعةٍ، والبقرة عن سبعةٍ، يعني: هذه ورد بها النص، ولا مجال للرأي فيها، لكن لَاحِظِ الفرقَ العظيم بينها في الزكاة، وبين تساويها في الهَدْي والأُضحية.
وأجمع العلماء على وجوب الزكاة في البقر إذا بلغتْ نِصَابًا، ويدل لذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي ذَرٍّ : أن النبي قال: ما من صاحبِ إبلٍ ولا بقرٍ ولا غنمٍ لا يُؤدي زكاتها إلا جاءتْ يوم القيامة أَعْظَمَ ما كانتْ وأَسْمَنَه، تَنْطَحُه بقرونها، وتَطَؤُه بأظلافها الحديث [13].
وأيضًا جاء في حديث معاذٍ : أن النبي أمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر: تَبِيعًا أو تَبِيعةً، ومن كل أربعين: مُسِنَّةً. أخرجه مالكٌ وأصحاب السنن من طرقٍ يُقوي بعضها بعضًا [14].
قال: “أقل نِصَاب البقر ثلاثون” ويدل لذلك حديث معاذٍ السابق.
وفيها: تَبِيعٌ، وهو ما له سنة.
تَبِيعٌ أو تَبِيعةٌ، وهو ما له سنة، وسُمِّي بذلك لأنه يتبع أُمَّه في المَسْرَح وفي نحو ذلك.
قال:
وفي أربعين.
يعني: من البقر.
مُسِنَّة.
أفاد المؤلف وقال:
لها سنتان.
مُسِنَّة: هي ما لها سنتان، ويُقال لها: ثَنِيَّة.
وفي ستين: تَبِيعَانِ.
أو تبيعتان، وفي ستين: تَبِيعان أو تَبِيعتان.
ثم.
تستقر الفريضة:
في كلِّ ثلاثين: تَبِيعٌ، وفي كل أربعين: مُسِنَّةٌ.
ففي سبعين: تَبِيعٌ ومُسِنَّةٌ، وفي ثمانين: مُسِنَّتان، وفي تسعين: ثلاثة أَتْبِعَةٍ، وهكذا.
نِصَاب الغنم
قال:
وأقلُّ نِصَاب الغنم -أهليةً كانت أو وحشيةً- أربعون.
ويدلُّ لذلك كتابُ أبي بكرٍ الذي كتبه لأنسٍ ، وهو في الصحيحين، وهذا أيضًا محل اتِّفاقٍ بين أهل العلم، فما دون الأربعين لا تجب فيه الزكاة إلا أن يَعُدّها للتجارة.
قال:
وفيها شاةٌ لها سنةٌ، أو جَذَعَة ضأنٍ لها ستة أشهرٍ.
يعني: أن السنَّ هنا مُعتبرٌ، فلا بد إذا كانت من الضَّأن أن تكون لها ستة أشهرٍ، وإذا كانت من الماعز لها سنةٌ؛ لحديث سَعْر بن دَيْسَم قال: أتاني رجلان على بعيرٍ، فقالا: إنا رسولا رسول الله إليك؛ لتُؤدي صدقة غنمك. قلتُ: فأي شيءٍ تأخذان؟ قالا: عَنَاقًا جَذَعَةً، أو ثنيَّةً. أخرجه أبو داود والنسائي، لكن في سنده مقالٌ [15].
وجاء في حديث سويد بن غفلة، قال: أتانا مُصَدِّق النبي وقال: “أُمِرْنَا أن نأخذ الجَذَعَة من الضَّأن، والثَّنية من المعز”. أخرجه أبو داود والنسائي.
يعني: هذه الأحاديث في سندها مقالٌ، لكن يُقوي بعضها بعضًا.
وفي مئةٍ وإحدى وعشرين شاتان.
يعني: من أربعين إلى مئةٍ وعشرين شاةٌ واحدةٌ، فإذا بلغتْ مئةً وإحدى وعشرين ففيها شاتان.
وفي مئتين وواحدةٍ ثلاث شِيَاهٍ.
وفي أربعمئةٍ أربع شِيَاهٍ، وفي كل مئةٍ شاةٌ.
ثم في كل مئةٍ شاةٌ.
لاحظ الفرق بين مئتين وواحدٍ إلى أربعمئةٍ، كم الفرق؟
مئةٌ وثمانيةٌ وتسعون، هذا هو أعلى وَقْصٍ في زكاة بهيمة الأنعام، أعلى وَقْصٍ في زكاة بهيمة الأنعام ما بين مئتين وواحدٍ إلى أربعمئةٍ.
ولذلك نقول: في أربعمئةٍ من الغنم كم؟
أربع شِيَاهٍ، وفي خمسمئةٍ خمس شِيَاهٍ، وفي ستمئةٍ سِتُّ شِيَاهٍ، وفي ألفٍ عشر شِيَاهٍ، وهكذا، وهذه قد ورد فيها النص، يعني: هذه الأنصبة قد ورد فيها النص؛ ولذلك ليس فيها خلافٌ بين أهل العلم.
جاء في كتاب أبي بكرٍ الذي كتبه لأنسٍ : “ولا يُخْرَج في الصدقة هَرِمَةٌ، ولا ذات عَوَارٍ، ولا تَيْسٌ إلا ما شاء المُصَّدِّق” [16].
“الهَرِمَة” معناها: الكبيرة التي سقطتْ أسنانها.
و”ذات العَوَار”: المَعِيبة.
فلا تُؤخذ في الزكاة: المَعِيبة والهَرِمَة، لا تُؤخذان في الزكاة؛ لكونهما من رديء المال، وقد قال الله : وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ [البقرة:267].
وَلَا تَيَمَّمُوا يعني: لا تَقْصدوا.
والْخَبِيثَ معناه: الرديء من المال.
إذن لا يجوز إخراج الرديء من المال، ولا يجب إخراج النَّفيس من المال، وإنما الواجب الوسط؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: فإياك وكرائم أموالهم، واتَّقِ دعوةَ المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجابٌ [17].
فالواجب هو الوسط إلا إذا شاء صاحب المال أن يُخْرِج من النَّفيس، فهذا يُؤْجَر عليه، له أجرٌ، لكن لا يجب عليه ذلك، ولا يجوز إخراج الرديء، إذن الواجب هو الوسط.
وقوله هنا: “ولا تَيْس” في هذا الحديث، قيل: لا يُؤخذ التَّيس لنقصه وفساد لحمه إلا أن يشاء المُصَّدِّق.
هل: المُصَّدِّق أو المُصَدِّق؟
قولان؛ فقيل: بتخفيف الصاد: المُصَدِّق، يعني: الساعي، بأن يكون جميع المال من جنسه فيأخذه.
وقيل: المراد بالتيس: فحل الغنم، فلا يُؤخَذ في الزكاة إلا برضا صاحبه.
وعلى هذا تكون “المُصَّدِّق” بتشديد الصاد، وليس “المُصَدِّق”، فـ”المُصَّدِّق” بتشديد الصاد، وليس بتخفيفها، أي: المالك، إلا أن يشاء المُصَّدِّق، يعني: المالك.
فيكون معنى الحديث: أنه لا يُؤخذ التَّيس -الذي هو فحل الغنم- إلا برضا المالك؛ لكون المالك يحتاج إليه، وفي أَخْذِه بغير اختياره إضرارٌ به.
وهذا القول هو الأقرب -والله أعلم-: أن المقصود به المالك، وليس المقصود به الساعي، وأنه بتشديد الصاد، وليس بتخفيفها.
ولهذا قال الحافظ ابن حجر: “اختُلف في ضبط “المُصدق”، فالأكثر على أنه بالتَّشديد، والمراد به المالك، وهو اختيار أبي عُبَيدٍ، وتقدير الحديث: لا تُؤخذ هَرِمَةٌ ولا ذات عيبٍ أصلًا، ولا يُؤخذ التَّيس -وهو فحل الغنم- إلا برضا المالك؛ لكونه يحتاج إليه”.
هذه أبرز المسائل المتعلقة بأحكام الزكاة التي أردنا شرحها في هذا الدرس.
نقف عند “أحكام مسائل الخُلْطَة”، فالكلام فيها يطول، فَنُرْجِؤُه إلى الدرس القادم -إن شاء الله تعالى- ونُجيب عما تيسر من الأسئلة.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 1458، ومسلم: 19. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 1405، ومسلم: 979. |
^3 | رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في “الأموال”: 1113. |
^4 | رواه ابن أبي شيبة في “مصنفه”: 10399. |
^5 | رواه الترمذي: 641 بلفظ: ألا مَن وَلِيَ يتيمًا له مالٌ فَلْيَتَّجِرْ فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة. |
^6 | رواه مالك في “الموطأ” رواية يحيى: 17. |
^7 | رواه البخاري: 1395، ومسلم: 19. |
^8 | رواه البخاري: 1852، ومسلم: 1334. |
^9 | رواه أبو داود: 1575، والنسائي: 2444، وأحمد: 20016. |
^10, ^12 | رواه البخاري: 1454. |
^11 | رواه أبو داود: 1567، والنسائي: 2447، وأحمد: 72. |
^13 | رواه البخاري: 1460، ومسلم: 990. |
^14 | رواه أبو داود: 1576، والترمذي: 623 وقال: حسنٌ، والنسائي: 2450، وابن ماجه: 1803، ومالك في “الموطأ” رواية محمد بن الحسن: 340. |
^15 | رواه أبو داود: 1581، والنسائي: 2462. |
^16 | رواه البخاري: 1455. |
^17 | رواه البخاري: 1496، ومسلم: 19. |