logo
الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(38) فصل فيمن جامع في نهار رمضان- من قوله: “ومن جامع..”

(38) فصل فيمن جامع في نهار رمضان- من قوله: “ومن جامع..”

مشاهدة من الموقع

عناصر المادة

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

حياكم الله جميعًا في هذا الدرس الخامس والعشرين من هذا العام في يوم الاثنين السادس عشر من شهر شعبان من عام 1442 للهجرة.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا، اللهم ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.

ننتقل بعد ذلك للتعليق على “السلسبيل بشرح الدليل”، فقط في البداية نُوضِّح الخطة إن شاء الله، بقي هذا الدرس، سننتهي من (كتاب: الصيام) إلى (كتاب: الاعتكاف)، والدرس القادم سيكون إن شاء الله في شرح كتاب الاعتكاف وزكاة الفطر، وبهذا نكون قد انتهينا من (كتاب: الصيام) بإذن الله ​​​​​​​.

الجماع في نهار رمضان

قال المصنف رحمه الله:

فصل: فيمن جامع في نهار رمضان.

الجماع في نهار رمضان هو من مفسدات الصيام، لكن الفقهاء يُفردونه بالذكر؛ لأنه هو أعظم المُفطِّرات، كما أنه أيضًا في الحج أعظم المحظورات؛ ولهذا يَفسُد النسك إذا وقع قبل التحلل الأول.

قال:

ومن جامع نهارَ رمضان.

نهار رمضان يبدأ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

في قُبل.

يشمل ذلك القُبل الحلال والقُبل الحرام، فيشمل الزوجة ومِلْكَ اليمين والزنا، كل هذه تدخل في عبارة المؤلف.

أو دُبُر.

يشمل عمل قوم لوط.

ولو لميت.

يعني: حتى لو كان الجِماع لميت في نهار رمضان، فإن هذا موجب للكفارة.

طبعًا هذه مسألة مفترضة، الفقهاء يفترضون بعض المسائل لأجل أن يكون الكلام شاملًا لجميع المسائل، ولو كانت المسألة محتملة من وجه بعيد، وإلا فمثل هذه يعني مسألة مفترضة.

أو بهيمة.

يعني: حتى لو كان الوطء لبهيمة في نهار رمضان، فهذه كلها موجبة للكفارة.

قال:

في حالةٍ يلزمه فيها الإمساك، مُكرَهًا كان أو ناسيًا.

(في حالة يلزمه فيها الإمساك) احترازًا ممن لا يلزمه الإمساك، وهو المسافر والمريض ونحوهما.

وعلى ذلك؛ فمن لا يلزمه الإمساك -كالمسافر- إذا جامع في نهار رمضان فليس عليه شيء؛ لأنه يباح له الفطر.

جِماع المُكرَه في نهار رمضان

وقول المؤلف: (مكرهًا كان) المؤلف لا يفرق بين المكره وغير المكره، وهذا بالنسبة للرجل، أما إكراه المرأة فإكراه المرأة ظاهر؛ وذلك بأن يُكرِه الزوج زوجته على الجماع في نهار رمضان.

إكراه المرأة

ولكن لا بد أن نوضح المقصود بإكراه المرأة؛ لأن بعض النساء تستفتي وتَدَّعي أنها مكرهة، وعندما يستفسر منها يتبين أنها لا يتحقق عليها وصف الإكراه، وأن الزوج إنما فقط رفع صوته عليها، ونحو ذلك لا يعد إكراهًا.

الإكراه معناه: أنه لا يصبح لها خيار بأن يقيدها الزوج أو يضربها ونحو ذلك، فلا يصبح لها خيار.

ولذلك فالواجب على المرأة إذا دعاها زوجها في نهار رمضان أن تمتنع منه، تقوم من المكان الذي هو فيه، تقوم من الفراش، تقوم من المكان وتمتنع منه، في الغالب أن الزوج لن يستطيع أن يواقعها بهذه الطريقة، لكن عندما تكون قريبة منه، وتمكنه من نفسها، وتدعي الإكراه باعتبار أنها غير راغبة، وتقصد بالإكراه أنها غير راغبة في هذا الجماع، هذا لا يعد إكراهًا، وعليها الكفارة المغلظة، عليها مثل ما على الرجل من صيام شهرين متتابعين.

فإذن، الإكراه بالنسبة للمرأة معناه أنه لا يكون لها خيار.

ولذلك؛ عند وقوع الجماع في نهار رمضان؛ يعني المتسبب الأكبر هو المرأة، تتزين له وتكون بجانبه ثم أيضًا لا تمانع عندما يطلبها، فتكون هي المتسببة في ذلك، فالمفترض أن الزوج إذا طلبها تنهره وتمتنع منه، وتقوم من المكان الذي هو فيه، بحيث لا يتمكن من فعل هذه المعصية.

إكراه الرجل

من الفقهاء من قال: إن الرجل لا يُمكن في حقه الإكراه؛ لأنه لا يمكن أن يطأ إلا بانتشار الآلة، وانتشار الآلة إنما يكون باختياره، فلا يكون مُكرَهًا، ولكن الراجح أن الإكراه يمكن بالنسبة للرجل، الرجل قد يستثار رغمًا عنه، فتنتشر آلته بغير اختياره، فيكره على الوطء.

المؤلف إذن لا يفرق بين المكره وغير المكره، قال: مكرهًا كان يعني أو غير مكره.

وذهب بعض العلماء إلى أن المُكرَه ليس عليه كفارة؛ لقول النبي : إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه[1]، وهذا هو القول الراجح في المسألة أن المكره ليس عليه كفارة.

جماع الناسي في نهار رمضان

وقول المصنف: (أو ناسيًا) يعني: أنه يستوي في ذلك الناسي والذاكر، فتجب عليه الكفارة، قالوا: لأنه يبعد النسيان في هذا الأمر، يعني لأن الجماع مكون من طرفين، حتى لو نسي الرجل تُذكِّره المرأة أو العكس، كيف ينسى؟! هذه وجهتهم.

وذهب بعض العلماء إلى أن الناسي لا شيء عليه، والقول بأنه يبعد النسيان في هذا الأمر نقول: هو قليل، لكنه قد يقع، خاصة في أول رمضان، قد يحصل أن الزوج والزوجة ينسيان جميعًا، ربما في أول رمضان وفي بعض البلدان قد يقع، لكنه قليل، أو قليل جدًّا أن يكون في ذلك نسيان.

والقول الراجح: أن الناسي لا شيء عليه؛ لأنه لو أكل أو شرب ناسيًا فصومه صحيح، فكذلك أيضًا بالنسبة للجماع؛ لعموم الأدلة، ومنها: قول الله تعالى عن المؤمنين: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، قال الله: قد فعلت[2]. وحديث: إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه[3].

حكم من جامع في نهار رمضان

لزمه القضاء والكفارة.

قضاء يوم مكانه

يعني: أنه يلزم الذي جامع في نهار رمضان: القضاءُ وهذا بالإجماع.

كفارة الجماع

والكفارة وهي الكفارة المغلظة، وسيأتي الكلام عنها.

الإمساك بقية اليوم

ويلزمه أيضًا إمساكُ بقيةِ يومه، يلزمه كذلك إمساك بقية يومه، ولم يذكره المؤلف ربما لأنه معلوم.

وكذا من جُومع إذا طاوع غيرَ جاهلٍ وناس.

وهذا بالنسبة للمرأة إذا طاوعت الرجل فعليها ما على الرجل، لكن استثنى المؤلفُ الجاهلَ والناسي بالنسبة للمرأة، يعني قالوا: لأن هذا يَرِد بالنسبة للمرأة أكثر من الرجل، ولكن الصحيح أنه لا فرق بينهما، وأن الجاهل والمُكرَه لا شيء عليه، رجلًا كان أو امرأة.

الحِكمة من الكَفَّارة

ثم انتقل المؤلف رحمه الله لبيان الكفارة، والحِكمة من وجوب الكفارة هي أن الجماع في نهار رمضان فيه انتهاكٌ لحرمة شهر رمضان؛ ولذلك لو أنه جامع في غير رمضان لم تجب عليه الكفارة، وهذه المعصية من كبائر الذنوب، ولا تتم التوبة منها إلا بالإتيان بهذه الكفارة المغلظة.

وقد جاء في الصحيحين: أن رجلًا جاء النبي فقال: يا رسول الله، هلكتُ. قال: ما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم. وفي لفظ: في رمضان. فقال: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا. قال: هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: هل تجد إطعام ستين مسكينًا؟ قال: لا. فمكث النبي ثم أُتِيَ بعِرْق فيها تمرٌ، والعرق هو المِكْتَل، فقال: أين السائل؟ قال: أنا. قال: خذ هذا فتصدق به قال: أعلى أَفْقَرَ منا يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابَتَيْها أهلُ بيتٍ أفقرُ من أهل بيتي. فضحك النبي حتى بدت نواجذه، ثم قال: أطعمه أهلك[4].

وجاء في بعض الروايات لما قال: صم شهرين متتابعين قال: وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام؟[5]، وفي لفظ: وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام؟[6].

وذلك أن هذا الرجل كان عنده مشكلة، يعني ما يسمى بالشَّبَق، فلما قرب دخول شهر رمضان ظاهَر مِن امرأته؛ لكي يمنع نفسه من مواقعتها، لكنه لم يصبر فوقع عليها في نهار رمضان، فلما فعل ذلك خوَّفه الناس، وقالوا: إنك قد ارتكبت كبيرة وذنبًا عظيمًا؛ ولذلك قال: هلكتُ، فقوله: “هلكت” يُشعر بأنه يعرف بأنها معصية كبيرة، فأتى النبي خائفًا وَجِلًا مشفقًا، ورجع من عند النبي ومعه طعام يطعمه أهله؛ ولهذا جاء في بعض الروايات أنه لما رجع لأصحابه قال: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند النبي السَّعَة وحسن الرأي[7].

وهذا من كريم خُلق النبي عليه الصلاة والسلام، وقد كان عليه الصلاة والسلام مِن هَدْيه أنه كان يَترفَّق بالتائب ويتلطف معه، ولا يلومه، ولا يعنفه ولا يوبخه. هذا هو هدي النبي ، وهذا بخلاف من كان مُصِرًّا على الذنب والمعصية.

فالتائب ينبغي أن يُعامَل معاملة خاصة، لا يعنف ولا يوبخ، وإنما يُتلطف معه ويُرفق به، ويشجع على التوبة، هذا هو هدي النبي في جميع الذين أتوه تائبين.

الكفارة بين الرجل والمرأة

هنا قد يرد سؤال: لماذا أمر النبي الرجل بالكفارة، ولم يأمر زوجته؟ فلهذا أجوبة:

قيل: إنها لم تسأل، ولم يعلم النبي عن حالها، هل هي جاهلة أو غير جاهلة، مكرهة أو غير مكرهة؟ إنما أفتى الذي سأله.

وربما أيضًا أن هذا الرجل سينقل الفتوى لزوجته، وربما أن النبي لما رأى فقر هذا الرجل وفقر زوجته رأى أن الكفارة سقطت عنه، ومن بابٍ أولى أنها ستسقط عن زوجته، وربما أنه أمرها بالكفارة ولم ينقل.

فعلى ذلك نقول: إن الكفارة كما تلزم الرجل فتلزم المرأة إذا كانت مُطاوِعةً مختارة.

والأصل في الأحكام الشرعية أنها تشمل الرجال والنساء: النساء شقائق الرجال[8]، إلا ما ورد الدليل بتخصيصه بالرجل، أو بتخصيصه بالمرأة.

كفارات الجماع نهار رمضان

ثم بعد ذلك انتقل المؤلف رحمه الله للكلام عن الكفارة، فقال:

والكفارة عتق رقبة مؤمنة.

كفارة الجماع في نهار رمضان هي كفارة الظِّهار التي ذكرها الله ​​​​​​​ في سورة (المجادلة): وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3].

عتق رقبة مؤمنة

واشترط المؤلف أن تكون مؤمنة؛ لأن الله شَرَط الإيمان في عتق الرقبة في كفارة القتل، في سورة (النساء)، فحَمَل الجمهورُ المُطلَقَ على المُقيَّد، واشترطوا الإيمان في عتق الرقبة في كفارة الظِّهار والجماع في نهار رمضان.

لكن أين هي الرقبة الآن؟

الرق الآن انقرض وانقطع في العالم، وأصبح مُجرَّمًا في جميع دول العالم بلا استثناء، أصبح الرق مُجرَّمًا رسميًّا في جميع دول العالم، ومُجرَّمًا في الأنظمة الدولية، ويُلاحَق مَن يتعامل بالرق. فالرق في الوقت الحاضر انقطع وانقرض، فلا توجد رقاب في الوقت الحاضر.

صيام شهرين متتابعين

ولذلك؛ فينتقل للأمر الثاني، وهذا يعني من إعجاز القرآن أن الله ​​​​​​​ لمَّا ذكر الرقبة، قال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ وما قال: “فمن لم يجد ثمن الرقبة”، وإنما قال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ لأن الله يعلم بأنه سيأتي على الناس زمان لا يجدون الرقاب أصلًا، فهذا من إعجاز القرآن: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [المجادلة:4]، فينتقل مَن لم يجد الرقبة. والآن، الرق قد انقطع وانقرض، فينتقل مباشرة لصيام شهرين متتابعين.

التتابع شرط لصحة صيام الكفارة

والتتابع شرط لصحة الصيام لا بد منه، فلو أنه صام ثمانية أو تسعة وخمسين يومًا ثم أفطر لزمه أن يعيد الصيام من جديد.

لكن كيف يحسب الشهرين المتتابعين؟ إذا صام من أول الشهر يَحسِبه على الهلال: إن كان الشهر تامًّا حَسَبه ثلاثين يومًا، وإن كان ناقصًا حسبه تسعة وعشرين يومًا؛ ولذلك إذا كان الشهران ناقصين فيصوم ثمانية وخمسين يومًا.

لكن إذا صام في أثناء الشهر؛ فبعض أهل العلم يرى أنه يصوم ثلاثين يومًا، وقال آخرون: إنه يصوم في الشهر الأول ثلاثين، وفي الثاني حسب الرؤية.

وقال ابن تيمية رحمه الله: إنه يكون على حسب رؤية الهلال، فيصوم على حسب نقصان الشهر وتمامه، فلو بدأ مثلًا منتصف الشهر فإنه ينتهي من الصوم منتصف الشهر الذي بعده، بدأ مثلًا في الخامس عشر من محرم ينتهي في الخامس عشر من ربيع الأول؛ لأن الله ​​​​​​​ قال: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189].

وأكثر الناسِ صيامُهم يكون في أثناء الشهر، أما صيامهم في أول الشهر فهو قليل بالنسبة لوسط الشهر أو أثناء الشهر، فلا تُعلَّق الأحكام على حالة قليلة. وهذا هو القول الراجح.

لكن هذا في الأشهر التي تعتمد في إثباتها على رؤية الأهلة، فيعتمد على الهلال، لكن إذا كان في أشهرٍ يُعتمَد فيها على الحساب، وليس على إثبات الأهلة، فإنه يُكمل ثلاثين يومًا.

طيب، هنا أيضًا مسألة متعلقة بصيام الشهرين المتتابعين: إذا سافر أثناء صيام كفارة الجماع، فأفطر لأجل السفر؛ لا ينقطع التتابع؛ لكونه قد أفطر معذورًا، لكن يُشترط لذلك ألا يكون هذا حيلةً على قطع التتابع، فإن كان حيلة فيُعامل بنقيض قَصْده.

لكن، لو أنه لما أراد أن يصوم شهرين متتابعين ابتدأ من منتصف شهر ذي القعدة لأجل أن يستريح من الصيام أربعة أيام: يوم العيد، وثلاثة أيام وهي أيام التشريق، فما الحكم؟ نقول: هذا لا بأس به، هذه تدخل في الحِيل المشروعة، ولا ينقطع التتابع بذلك.

هنا تنبيه: بعض الناس إذا أُفتي بأن عليه صيامَ شهرين متتابعين يقول: ما أستطيع. وبعض العامة يريد بهذه الكلمة أن عليَّ مشقة.

والمشقة لا بد منها؛ لأن صيام شهرين متتابعين فيه مشقة على أيِّ أحدٍ، ولا بد مِن تحمُّل هذه المشقة؛ لأن المعصية كبيرة، والذنب كبير، فالمشقة لا بد منها، أي إنسان حتى لو كان شابًّا صحيحًا يقال له: صم شهرين متتابعين، سيجد مشقة. فالمشقة لا بد منها.

ولذلك؛ إذا كان قد صام شهر رمضان، فهو مستطيع فيجب عليه أن يصوم شهرين متتابعين.

لكن، من كان له عذر كأن يكون مثلًا مريضًا أو كبيرًا في السن، ونحو ذلك، فإنه ينتقل منه إلى الإطعام الذي بيَّنه المؤلف في قوله:

إطعام ستين مسكينًا

فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا.

ولا بد من استيعاب العدد، فالعدد هنا مقصود، يعني ليس له أن يُطعم ثلاثين مسكينًا مرتين، يكرر عليهم الإطعام مرتين، أو عشرة مساكين يكرر عليهم الإطعام ست مرات.

فهنا العدد لا بد منه، بخلاف الإطعام عن صيام رمضان، فإنه لا يُشترط العدد، وإنما يشترط في الإطعام أن يكون إطعام ثلاثين مسكينًا؛ ولذلك في الإطعام عن صيام شهر رمضان لو أنه أتى بإطعام ثلاثين مسكينًا وأعطاه مسكينًا واحدًا أجزأ، أو أعطاه مسكينين أو ثلاثة أجزأ.

إلا أن الفقهاء استثنوا مسألة: وهي أنه إذا لم يجد مساكين بالعدد المطلوب، يعني في بعض الدول قد يصعب على الإنسان أن يجد ستين مسكينًا، يعني مثلًا عندهم توفير رواتب للعاطلين عن العمل، قد لا يجد، فهنا إذا لم يجد مساكين بالعدد المطلوب فيكرر عليهم الإطعام في عدة أيام، يعني إذا لم يجد في البلد إلا مثلًا عشرين مسكينًا، فيطعمهم ثلاثة أيام.

طيب، ما مقدار الإطعام؟ قيل: نصف صاع. وقيل: مُدٌّ مِن بُرٍّ ونصفُ صاعٍ من غيره. وقيل وهو الأقرب: أن المرجع فيه إلى العرف؛ لأن الإطعام قد ورد في النصوص مطلقًا.

والأصل فيما ورد مطلقًا ولم يُقيَّد بالشرع ولا باللغة أن المرجع فيه إلى العرف، وهذه قاعدة مفيدة لطالب العلم: أن كل ما ورد في الشرع مطلقًا ولم يقيد بالشرع ولا باللغة، فالمرجع فيه إلى العرف.

وعلى ذلك؛ فما عده الناس إطعامًا فهو إطعام.

وبناء على هذا؛ إذا كان أهل البلد يَأْتَدِمُون فلا بد من أن يكون مع هذا الطعام إدامٌ؛ فمثلًا يعني في دول الخليج: الإطعام بالأرز، والناس يأتدمون مع الأرز بشيء آخر، لا بد من أن يكون معه إدام، يعني يكون مثلًا أرز مع لحم، أو أرز مع دجاج، وله أن يأخذ وجبات جاهزة من مطعم، يقول: أعطني ستين وجبةَ أرز مع دجاج، ويعطيها ستين مسكينًا؛ هذا يجزئ.

وكذلك لو جمع المساكين فغدَّاهم أو عشاهم أجزأ ذلك، كما كان يفعل أَنَسٌ[9].

لكن هل يُجزئ أن يأتي بستين وجبة أرز مع لحم أو أرز مع دجاج ويُفطِّر بها الصائمين؟ نقول: إذا كان يضمن بأن هؤلاء الصائمين بأنهم كلهم فقراء أو مساكين فلا بأس ويجزئ، أما إذا كان لا يضمن أو لا يعرفهم، قد يكون منهم من ليس بفقير ولا مسكين، قد يكون منهم أيضًا غير مسلم، فهنا لا يجزئ، فلا بد من التحقق من أنهم كلهم مستحقون لهذا الإطعام.

فائدة في الطعام والمُطعَم

وهنا فائدة ذكرها بعض أهل العلم في الطعام والمُطعَم أنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

  • القسم الأول: ما قُدِّر فيه الطعام دون المُطعَم، وهو زكاة الفطر، فقد قُدِّر الطعامُ بصاعٍ، لكن لم يقدر المُطعَم، فلك أن تعطي الصاع أكثرَ من مسكين ولك أن تعطي أكثر من فِطْرةٍ لمسكين واحد.
  • القسم الثاني: ما قُدِّر فيه المُطعَم دون الطعام، كما في كفارة الظِّهار، وكفارة اليمين، وكفارة الجماع في نهار رمضان، فهذه قُدِّر فيها المُطعَم في كفارة الظهار، وكفارة القتل ستون مسكينًا، وكذلك كفارة الجماع في نهار رمضان، وكفارة اليمين عشرة مساكين، لكن لم يُقدَّر فيها الطعام، فالمرجع في ذلك للعرف.
  • القسم الثالث: ما قُدِّر فيه الطعام والمُطعَم كما في فِدْية الأذى، فقد قُدِّر فيها الطعام بنصف صاع، وقدر المُطعَم بستة مساكين، كما جاء في حديث كعب بن عُجْرة [10].

تكرار الجماع في نهار رمضان

طيب، هنا مسألة: إذا تكرر منه الجماع، لم يذكرها المؤلف صاحب “الدليل” وذكرها صاحب “الزاد”، ونحن في “السلسبيل” يعني نحاول أن نستدرك المسائل التي لم يذكرها صاحب “الدليل” حتى تتم الفائدة.

وهذه المسألة: هي ما إذا تكرر منه الجماع: إن كان جامع في يومٍ ولم يُكفِّر ثم جامع مرة أخرى في نفس اليوم، فتكفيه كفارة واحدة عند عامة الفقهاء. وإن كان في يوم وكفر ثم جامع في يوم آخر فعليه كفارة أخرى.

لكن، إذا جامع في يومين ولم يكفر: جامع في هذا اليوم ثم في اليوم الثاني، جامَع ولم يكفر: هل تكفيه كفارة واحدة، أو لا بد من كفارتين؟ جمهور الفقهاء على أن عليه كفارتين، وهذا هو المذهب عند الحنابلة؛ يقولون: لأن كلَّ يومٍ مستقلٌّ، كما أنه لو أكل أو شرب في يوم ثم أكل أو شرب في اليوم التالي، فيقضي هذا اليوم ويقضي ذاك اليوم؛ لأنه لا ارتباط بين اليومين، فكذا إذا جامع.

والقول الثاني في المسألة: أن عليه كفارة واحدة، وهذا هو مذهب الحنفية، وهو رواية عند الحنابلة؛ لأن الكفارات تتداخل، قالوا: كما لو حلف ثم حلف على شيء واحد؛ فعليه كفارة واحدة.

لو قال: والله ما أفعل كذا، ثم في اليوم الثاني قال: والله ما أفعل كذا، قال: والله ما أفعل كذا، ثم فعله، ثم في اليوم الثاني قال: والله ما أفعل كذا، ثم فعله؛ فعليه كفارة واحدة. وهكذا لو زنا ثم زنا، فعليه حدٌّ واحد.

قالوا: كما أن الكفارات والحدود تتداخل، فكذلك هنا، هنا من جنس الكفارات.

والحقيقة أن الخلاف في هذه المسألة قوي، والذي يظهر -والله أعلم- أن هذا يختلف باختلاف حال المستفتي، يعني إذا كان هذا المستفتي ليس عنده سوابق، وحصل منه هذا الأمر لأول مرة، وليس ممن يتجرأ على حرمات الله ​​​​​​​، فيمكن أن يُفتى بالقول الثاني، وهو أن عليه كفارة واحدة.

أما إذا كان ذلك من إنسان عنده سوابق وعنده تجرؤ على حرمات الله ​​​​​​​، وربما أنه إذا أُفتي بأن عليه كفارة تَكرَّر منه هذا الأمر مرة أخرى، فيُفتَى بقول الجمهور، وهو أن عليه كفارتين.

سقوط الكفارة

قال: فإن لم يجد -يعني- إطعام ستين مسكينًا سقطت الكفارة؛ لقول الله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7]؛ ولأن قاعدة الشريعة: أنه لا واجب مع العجز؛ ولأن النبي لم يأمر الرجل الذي وقع على امرأته في نهار رمضان، لم يقل له: إن الكفارة باقية في ذمتك، وإنما لمَّا اعتذر بأنه لا يستطيع عتق رقبة ولا الصيام ولا الإطعام سكت عنه النبي ، ولو كانت الكفارة باقية في ذمته لَبيَّن ذلك النبي ؛ لأن هذا الرجل أتى -يعني- جاهلًا ومستفتيًا، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

ولا يقال بأن قوله: أطعمه أهلك[11] أنه كفارة عنه؛ لأن قاعدة الشريعة: أنه لا يكون الإنسان مَصْرِفًا لكفارته ولا لزكاته، وهذا بالإجماع، ومما يدل لذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: خذ هذا أطعمه أهلك، وأهله ليسوا ستين مسكينًا، وفي الكفارة لا بد من أن يكون عددهم ستين مسكينًا كفارة الجماع، فقوله: أطعمه أهلك هذا من باب الصدقة على أهله.

وعلى هذا؛ فإذا عجز عن الإطعام فإن الكفارة تسقط عنه، قال:

بخلاف غيرها من الكفارات.

يعني: لا تسقط بالعجز عنها، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.

والقول الثاني: أن الكفارات كلها تسقط بالعجز عنها؛ لعموم الأدلة؛ ولأنه لا فرق بين كفارة الجماع في نهار رمضان، ولا غيرها. وهذا هو القول الراجح: أن جميع الكفارات تسقط بالعجز عنها؛ لعموم الأدلة، ولا وجه لتخصيص كفارة الجماع في نهار رمضان بالسقوط دون غيرها من الكفارات.

حكم الإفطار عمدًا بغير الجِماع

قوله:

ولا كفارة في رمضان بغير الجِماع.

يعني: لو أفطر في رمضان؛ كما لو أكل متعمدًا أو شرب متعمدًا، فهذا يَفسُد صومه وعليه القضاء، لكن هل يجب عليه الكفارة المغلظة؟ الجواب: أنه لا تلزمه الكفارة المغلظة، وهذا هو المذهب عند الحنابلة والشافعية.

والقول الثاني: أن الكفارة المغلظة تجب بالأكل والشرب كما تجب بالجماع، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية، قالوا: لأنه قد انتهك حرمة الشهر، ولا فرق بين أن ينتهك حرمة الشهر بالجماع أو بالأكل والشرب.

والقول الراجح هو القول الأول، وهو أن الكفارة لا تجب على مَن أكل أو شرب متعمدًا في نهار رمضان، وإنما تجب الكفارة المغلظة على من وقع منه الجماع فقط؛ لأن النص إنما ورد بالجماع، ولا دليل يدل على أن من أكل أو شرب متعمدًا تلزمه الكفارة المغلظة، والأصل براءة الذمة.

وقياس الأكل والشرب على الجماع قياس مع الفارق؛ لأن الحاجة إلى الزجر عن الجماع أشد، فإن الداعي إليه أقوى؛ ولهذا يجب به الحد إذا كان محرمًا، ويفسد الحج إذا وقع قبل التحلل الأول، فالداعي له أقوى من الداعي للأكل والشرب؛ فلذلك كانت الكفارة أغلظ وأعظم.

والجماع في غير نهار رمضان لا يوجب الكفارة، حتى وإن كان في صومٍ واجب، حتى وإن كان في صومِ القضاء، أو في صوم النذر؛ لأن الحكمة من وجوب الكفارة هي انتهاك حرمة شهر رمضان بالجماع، وهذا لا يتحقق إلا فيما إذا كان في نهار رمضان.

لكن، مَن أكل أو شرب في نهار رمضان متعمدًا من غير عذرٍ، فإنه قد ارتكب كبيرةً من كبائر الذنوب، فعليه التوبة إلى الله ​​​​​​​، وعليه إمساك بقية اليوم، وعليه قضاء هذا اليوم بعد رمضان، لكن لا تجب عليه الكفارة المغلظة. وإنما تجب الكفارة المغلظة على من جامع في نهار رمضان.

الإنزال بالمساحقة في رمضان

قال:

والإنزال بالمساحقة.

يعني: مساحقة المرأة للمرأة، يعني: أن تجامع المرأة المرأة، فإذا حصل إنزال، فيقول المؤلف: إنه تجب الكفارة المغلظة بذلك، قياسًا على الجماع؛ وذلك لأن في هذا انتهاكًا لحرمة الشهر، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.

القول الثاني في المسألة: أنه يجب بذلك القضاء فقط مع التوبة دون الكفارة، وهذا هو القول الراجح.

قال الموفق ابن قدامة: إنه أصح الوجهين عند الحنابلة؛ لأنه ليس منصوصًا عليه، ولا في معنى المنصوص، فيبقى على الأصل، وهو براءة الذمة.

وعلى ذلك نقول: المساحقة إذا حصل معها الجماع فسد الصيام، ويجب التوبة، وقضاء ذلك اليوم، لكن لا تجب الكفارة المغلظة على القول الراجح.

أحكام القضاء

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك إلى الكلام عن أحكام القضاء، فقال:

ومن فاته رمضان قضى عدد أيامه.

لقول الله ​​​​​​​: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].

تأخير القضاء إلى شعبان

ويسن القضاء على الفور، إلا إذا بقي من شعبان بقدر ما عليه؛ فيجب.

أي: مَن كان عليه أيام أفطرها من رمضان، فيُستحب له المبادرة بالقضاء بعد العيد مباشرة؛ لأن هذا أبرأ للذمة وأحوط؛ ولأن الإنسان لا يدري ما يعرض له، لكن يجوز له أن يؤخر القضاء إلى آخر شعبان، لكن إذا بقي من شعبان بقدر ما عليه فيجب عليه القضاء، يتعين عليه القضاء في هذه الحال؛ لقول عائشة رضي الله عنها: كان يكون عليَّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان[12]؛ لأنها كانت منشغلة بالنبي .

ويستحب أن يكون القضاء متتابعًا، وقد نقل الموفق ابن قدامة الاتفاقَ على ذلك، قال: لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في استحباب التتابع في قضاء رمضان؛ ولأنه أشبه بالأداء، وفيه خروج من خلاف من أوجبه.

فالأفضل في القضاء أن يكون متتابعًا، لكن لو فرقه فلا بأس.

حكم التطوع بالصوم قبل القضاء

ولا يصح ابتداءُ تطوعِ مَن عليه قضاء رمضان.

أي: ليس للإنسان أن يتطوع وعليه قضاء صوم واجب، فإن فعل ذلك لم يصح تطوعه، وهذا هو المذهب عند الحنابلة؛ لحديث: اقضوا اللهَ، فاللهُ أحق بالوفاء[13]؛ وبناء على ذلك ليس له أن يتطوع مثلًا بصيام الست من شوال، ولا بصيام عرفة، ولا عاشوراء، ولا الاثنين والخميس، وعليه القضاء.

والقول الثاني في المسألة: أنه يجوز التطوع بالصيام قبل القضاء ما لم يَضِقِ الوقت، وإليه ذهب الجمهور، وهو القول الراجح؛ لعموم قول الله ​​​: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].

وهذا يدل على أن القضاء على التراخي؛ وكما كانت عائشة رضي الله عنها تصنع، قالت: كان يكون عليَّ الصيام من رمضان، فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان[14]. وكما أيضًا في الصلاة، فإنه يجوز التنفل قبل صلاة الفريضة مع سَعة الوقت بالإجماع، فكذا هنا.

فالقول الراجح: أنه يجوز التطوع بالصوم قبل القضاء.

لكن، تَرِد هنا مسألة، وهي: حكم تقديم صيام الست من شوال على قضاء رمضان؟

فعلى القول الذي قرره المؤلف وهو المذهب عند الحنابلة، لا يصح، وعلى قول الجمهور أنه يصح، لكن يعني حتى لو قلنا بالصحة، فبعض أهل العلم يقول: إنه يصح، لكنه لا يحصل على الثواب المذكور في حديث: مَن صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر كله[15]؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: من صام رمضان يدل على أنه لا بد من استكمال صيام الشهر، ومن كانت عليه أيام من رمضان لا يصدق عليه أنه صام رمضان، وإنما صام بعضه.

وهذا هو القول الراجح، وهو اختيار شيخنا عبدالعزيز ابن باز، وابن عثيمين، رحمة الله تعالى عليهما.

ولذلك؛ من أراد أن يحصل على الثواب المذكور المُرتَّب على صيام الست من شوال فعليه أن يبادر أولًا بصيام القضاء الواجب في ذمته.

وهذه المسألة أكثرُ من يسأل عنها بعض الأخوات: يكون عليها أيامٌ من رمضان أفطرتها بسبب الحيض، وتريد أن تصوم الست من شوال، فنقول: ابدئي أولًا بالقضاء، صومي أولًا الأيام التي عليكِ، الأيامَ الواجبة، ثم صومي الست من شوال، فهذا: أولًا فيه خروج من الخلاف، وثانيًا هو الأبرأ للذمة، فالإنسان لا يدري ما يعرض له.

وكيف يبادر الإنسان بصيام نافلة ويترك فريضة؟! ليس هذا من الحكمة، ليس من الحكمة أن الإنسان يبدأ بصيام النافلة قبل الفريضة.

وهل يضمن الإنسان أن يعيش حتى يقضي هذه الأيام الواجبة عليه؟!

قال:

فإن نوى صومًا واجبًا أو قضاءً ثم قلبه نفلًا صحَّ.

لو نوى صومًا واجبًا أو قضاءً ثم غيَّر النيةَ وقَلَبَه نافلةً يصح ذلك ويكون نَفْلًا، لكن لا يجوز قَطْع الصوم الواجب إذا شَرَع فيه، إذا قلبه نفلًا فلا بأس.

صوم التطوع

ثم انتقل المؤلف إلى صيام التطوع، فقال:

ويسن صوم التطوع.

التطوع: هو غير الواجب.

والصوم عمومًا -فرضًا كان أم نفلًا- من أفضل الأعمال الصالحة، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به[16].

وذلك أن الله تعالى يَجزي عن الأعمال الصالحة من باب الحسنة بعشر أمثالها: الصلاة، الزكاة، الحج، الصدقة، الأعمالُ الصالحةُ كلُّها، الجزاءُ عليها من باب الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف كثيرة.

الصوم يجزي الله تعالى عليه جزاء خاصًّا من عنده، سواء كان فرضًا أم نفلًا، وكما يقال: العطية بقدر مُعْطيها، والله تعالى هو أكرم الأكرمين.

وأُوضِّح هذه المسألةَ بمثالٍ: لو أن معلمًا رَصَد جوائز للطلاب المتفوقين، فأعطى هذا الطالبَ المتفوق جائزة، وهذا جائزة، وهذا جائزة، ثم قال: أمَّا أنت يا فلان فلك عندي جائزةٌ خاصة، فالمُتوقَّع أن هذه الجائزةَ الخاصة أنها أفضل من جوائز زملائه.

وهكذا أيضًا الصوم؛ يجزي اللهُ عليه جزاء خاصًّا من عنده: إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، فالظنُّ أن هذا الجزاء الخاص يكون أعظم من الجزاء على بقية الأعمال الصالحة.

وهذا يدل على عظيم الأجر والثواب المرتب على الصيام، سواء كان صيام فريضة أو صيام نافلة.

ولهذا؛ ينبغي للمسلم أن يحرص بعد صوم الفريضة على صيام النافلة؛ يعني على الأقل يصوم ثلاثة أيام من الشهر؛ لأن صيام ثلاثة أيام من الشهر هذه تَعدِل صيامَ الشهر كله: الحسنة بعشر أمثالها، تعدل الشهر كله؛ كما بيَّن ذلك النبيُّ عليه الصلاة والسلام لعبدالله بن عمرو بن العاص، قال: صُم ثلاثة أيام من الشهر، فإنها تعدل الدهر كله[17].

فإن كان عنده هِمَّةٌ أعلى صام أكثر، وأعلى درجات صوم النافلة كما سيأتي صيام يوم وإفطار يوم.

المهم، أن المسلم ينبغي أن يجعل له حظًّا من صيام النافلة، يعني: لا يقتصر فقط على صوم الفريضة، بل يصوم ما تيسر من صيام النافلة.

بعض العلماء، يعني بعض طلبة العلم، يستدل بحديث: من صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا؛ يستدل به على فَضْل صيام النافلة، وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم[18].

لكن المقصود به عند أكثر أهل العلم: الصيام في الجهاد في سبيل الله؛ لأن قوله: من صام يومًا في سبيل الله يعني: في الجهاد في سبيل الله؛ لأن هذا هو الأصل في إطلاق الشارع لكلمة “في سبيل الله”، المقصود به: الجهاد في سبيل الله.

وذلك في الأوقات التي لا يكون فيها حربٌ وتلاحُمٌ بين الصفوف؛ لأن الجهاد في سبيل الله يكون في أوقاتٍ كأن يكون مرابطًا، أو يكون بعيدًا عن خط المواجهة، أو نحو ذلك، فالصيام هنا أجره عظيم: مَن صام يومًا في سبيل الله باعَد الله عن وجهه النار سبعين خريفًا

الصوم تجتمع فيه أنواع الصبر الثلاثة:

  • ففيه صبر على طاعة الله ​​​​​​​؛ لأن الإنسان يَصبِر نفسَه على فِعل هذه الطاعة.
  • وصبرٌ عن معصية الله؛ لأن الإنسان يجتنب فيه ما يَحرُم على الصائم.
  • وصبر على أقدار الله فيما يتعرض له الصائم من الجوع والعطش.

فيجمع الصوم بين أنواع الصبر الثلاثة؛ ولهذا قال الله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].

أعلى درجات صيام النافلة

قال:

وأفضله يوم ويوم.

يعني: أن يصوم يومًا، ويفطر يومًا، كما قال عليه الصلاة والسلام: أفضلُ الصيامِ صيامُ داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا[19].

وفي قصة عبدالله بن عمرو، وهي قصة عجيبة!

عمرو بن العاص زوَّج ابنَه عبدَالله امرأةً ذاتَ حسبٍ، وكان عمرو بن العاص يتعاهد كَنَّتَه، يعني: زوجةَ ابنه، فكان يأتيها ويسألها عن بعلها، فتقول له: نِعم الرجلُ لم يَطَأْ لنا فراشًا ولم يُفتِّش لنا كَنَفًا منذ أتينا. وهذا ذَمٌّ بأسلوب المدح.

ففهم عمرو بن العاص مقصودَها، وذهب للنبي عليه الصلاة والسلام وأخبره بذلك، قال: الْقَنِي به. فدعاه، قال: كيف تصوم؟ قال: كل يوم. قال: كيف تختم؟ قال: كل ليلة. فقال عليه الصلاة والسلام: لا تفعل، صم وأفطر، وقُمْ ونَمْ، فإنَّ لجسدك عليك حقًّا، ولعينك عليك حقًّا، ولزوجك عليك حقًّا، ولزَوْرِك يعني ضيفك عليك حقًّا، وإن بحَسْبك أن تصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فإنَّ لك بكلِّ حسنةٍ عَشْرَ أمثالها؛ وذلك صيام الدهر كله.

لكن عبدالله بن عمرو أَبَى، وقال: يا رسول الله، إني أُطيق أفضل من ذلك؟ قال: صم يومًا وأفطر يومين قال: أطيق أفضل من ذلك؟ قال: صم يومًا وأفطر يومًا قال: أطيق أفضل من ذلك؟ قال: لا أفضل من ذلك؛ وذلك صيام داود؛ فاقْتَصَر[20].

يعني نقله النبي عليه الصلاة والسلام حتى وصل إلى أعلى درجات صيام النافلة: وهي صيام يوم وإفطار يوم.

عبدالله بن عمرو في آخر عمره نَدِم لما كبرت سِنُّه وضَعُف بدنه، ندم، وكان يقول: يا ليتني قَبِلت رخصة رسول الله . فكان يسرد الأيام صومًا، ثم يفطر بعددها[21].

فدلت هذه القصة على أن أعلى درجات صيام النافلة صيامُ يومٍ وإفطارُ يوم.

وفي هذه القصة من الفوائد: أنه ينبغي أن يكون المسلم متوازنًا في حياته، لا يُغلِّب جانبًا على جانب.

ولهذا؛ قال عليه الصلاة والسلام: إن لجسدك عليك حقًّا، ولعينك عليك حقًّا، ولزوجك عليك حقًّا، ولزورك يعني: ضيفك عليك حقًّا، فأعطِ كلَّ ذي حق حقه.

يعني: لا بد من أن يكون الإنسان متوازنًا في حياته، فلا ينشغل بالعبادة ويُهمل أهله، فهذا خلل، ولا ينشغل بأهله ويهمل العبادة، فهذا أيضًا خلل، ولا بد من التوازن في حياة المسلم.

وجاء في قصة أبي الدرداء، لما رأى أبا الدَّرْداءِ سلمانُ يُكثِر من العبادة ويَترُك أهله، قال: إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه. فقال النبي : صدق سلمان[22].

لمَّا رأى سلمانُ الفارسي أبا الدرداء يُكثر من العبادة ويترك أهله، نصحه سلمان، وقال: إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فقال النبي : صدق سلمان، وهذا في “صحيح البخاري”[23].

فلا بد من التوازن، التوازن في حياة المسلم، وأن يعطي كلَّ ذي حق حقه.

صيام الدهر قد ورد النهي عنه، قال عليه الصلاة والسلام عمن يصوم الدهر: لا صام ولا أفطر[24].

ولذلك؛ فصيام الدهر كله دائر بين الكراهة والتحريم، وإن كان هذا قد ورد عن بعض الصحابة أنه كان يصوم الدهر، لكن لعله لم يبلغهم النهي، كما رُوي عن عبدالله بن الزبير: أنه كان يصوم الدهر كله؛ ولذلك لما قتله الحجاج وصلبه، أتاه عبدالله بن عمر وقال: السلام عليك أبا خُبَيْب، أما كُنْتُ أنهاك عن هذا؟ أما والله لقد كُنتَ صَوَّامًا قَوَّامًا[25]. فقالوا: إنه كان يصوم الدهر كله، ولعله لم يبلغه النهي.

فأعلى درجات صيام النافلة: صيام يوم وإفطار يوم.

صيام الأيام البيض

قال:

وسُنَّ صوم أيام البيض، وهي: ثلاثَ عَشْرةَ، وأربع عشرة، وخمس عشرة؛ لحديث أبي ذَرٍّ.

وهذا الحديث في سنده مقال، ولكن عليه عمل أكثر أهل العلم.

وسُمِّيت بأيام البيض لابْيِضَاضِ لياليها بنور القمر، فالوصف لليالي؛ يعني أيام الليالي البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من الشهر الهجري القمري.

ويُستثنى من ذلك شهر ذي الحجة، فإنه لا يجوز صيام الثالث عشر إلا في حق مَن لم يَجِدِ الهَدْيَ.

فعلى ذلك؛ في شهر ذي الحجة: يصوم الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر.

قيل: الحكمة من مشروعية صيام الأيام البيض أن دم الإنسان يصبح فيها أكثر فورانًا، وتهيج فيه فضلات البدن، والصوم يُذهب هذه الفضلات ويُخفِّف من ضغط الدم.

ولهذا يقول بعض الإخوة المتخصصين القائمين على رعاية المرضى النفسانيين: إن أكثر ما تكون حركتهم وهيجانهم منتصف الشهر، وإن هذا له علاقة بجاذبية القمر. وقرر ذلك ابن القيم في “الطب النبوي”، والله تعالى أعلم وأحكم.

لكن المهم أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، هذا هو الذي قد وردت به أكثر الأحاديث، كما في حديث عبدالله بن عمرو، وحديث أبي ذر، وحديث أبي هريرة؛ إن تيسَّر أن يجعلها في أيام البيض فهذا حسن، وإلا فيصومها سواء في أول الشهر أو في وسطه أو في آخره، مجتمعة أو متفرقة، فأكثر الأحاديث على صيام ثلاثة أيام من الشهر.

صوم الخميس والإثنين

قوله:

وصوم الخميس والاثنين.

لحديث أسامة بن زيد: ذَانِكَ يومان تُعرَض فيهما الأعمال على رب العالمين، وأُحِبُّ أن يُعرَض عملي وأنا صائم. هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد[26]، وفي سنده مقال، وبعض أهل العلم يضعفه.

وصيام الاثنين آكَد من صيام الخميس؛ لأن صيام الاثنين قد ورد في حديث أبي قتادة في “صحيح مسلم”: أن النبي لما سئل عن صيام يوم الإثنين قال: ذاك يومٌ وُلدت فيه، ويوم بُعثت فيه، أو أُنزِلَ عليَّ فيه[27].

لكن مع ذلك، فصيام الخميس، يعني أجمع العلماء على استحباب صيام الخميس، وإن كان الحديث فيه مقال، وبعض أهل العلم يحسنه، لكن صيام الاثنين آكد من صيام الخميس.

فصيام يومي الاثنين والخميس مستحب في حقِّ مَن تيسر له ذلك، وهو سُنة مستقلة عن صيام ثلاثة أيام من الشهر.

صيام الست من شوال

قال:

وستةٍ من شَوَّال.

لقول النبي : من صام رمضان، ثم أتبعه ستًّا من شوال، كان كصيام الدهر[28]. والمقصود بالدهر هنا أي: السَّنة؛ وذلك لأن الحسنة بعشر أمثالها، فصيام شهر رمضان يعادل عشرة أشهر، وصيام ستة أيام يعادل ستين يومًا، أي شهرين، فإذا ضممتَ شهرين إلى عشرة أشهر كان يعادل السَّنة كلها. هذا معنى قوله: كان كصيام الدهر.

ولكن، يُشترط للحصول على الفضل الوارد في صيام الست: تبييت النية من الليل؛ وذلك شرطٌ لحصول الثواب، وليس شرطًا لصحة الصيام، صيام النافلة لا يشترط له تبييت النية من الليل، لكن صيام النفل المعين يُشترط للحصول على الفضل والثواب الواردِ فيه تبييتُ النية.

طيب، هنا مسألة: مَن لم يتمكن من صيام الست لعذرٍ كمرض ونحو ذلك، فهل تُقضَى من شهر ذي القعدة؟ قولان لأهل العلم:

القول الأول: أنها لا تُقضَى؛ لأنها سُنة فات محلها.

والقول الثاني: أنه يشرع قضاؤها، فتقضى هذه الست في شهر ذي القعدة، كالفرض إذا أخَّره عن وقته لعذر، وكالسنة الراتبة إذا أخرها عن وقتها لعذر، فتُقضى متى ما زال العذر.

وهذا هو القول الراجح، وقد اختاره الشيخ ابن سعدي والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله تعالى.

ومما استُدِلَّ به لهذا القول: حديثُ عِمْران : أن النبي قال لرجلٍ: هل صُمْتَ من سُرَرِ هذا الشهر شيئًا؟ والمقصود بالسُّرَر يعني: آخر، قال: لا. قال: فإذا أفطرتَ مِن رمضان فصُم يومين مكانه[29]، وبوَّب البخاري على هذا فقال: باب الصوم من آخر الشهر. ثم ساق بسنده هذا الحديث.

يعني: هذا الرجل كان مِن عادته أنه يصوم آخِرَ ثلاثة أيام من الشهر، لكن لمَّا رأى نَهْيَ النبي عن تقدُّم رمضان بيوم أو يومين لم يصمها، فبيَّن النبي أن من كان لا يصومها بقصد الاحتياط لرمضان لا يمنعه ذلك من الصيام، وأن هذا الرجل لما كان قد اعتاد هذا العمل الصالح أرشده إلى قضاء هذه الأيام بعد رمضان.

فاستَدل بهذا بعضُ أهل العلم على مشروعية قضاء الست من شوال لمن كان له عذرٌ، وأن يقضيها في شهر ذي القعدة.

صوم شهر الله المحرم

قال:

وسُنَّ صومُ المُحرَّم.

يعني: شهر الله المحرم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم. رواه مسلم[30].

فيُسن الإكثارُ من الصيام في شهر محرم، وآكَدُه عاشوراء، وهو العاشر من مُحرَّم.

صيام يوم عاشوراء

وهو كفارةُ سنةٍ؛ لحديث أبي قتادة: صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يُكفِّر السنة التي قبله. رواه مسلم[31].

وأيضًا لحديث ابن عباس: ما رأيت النبي يتحرى صيامَ يومٍ فضَّله على غيرِه إلا هذا اليومَ، يعني يوم عاشوراء[32].

والحكمة من صيام عاشوراء: أنه يومٌ نجَّى الله فيه موسى وقومه من فرعون وقومه، فكان موسى وقومُه يصومونه شكرًا لله ​​​​​​​؛ ولمَّا رأى النبيُّ اليهودَ يصومونه قال: نحن أولى بموسى منكم فصامه وأمر الناس بصيامه[33].

وكان صيام عاشوراء في أول الأمر واجبًا، ثم نُسخ الوجوب إلى الاستحباب بفرضية صيام رمضان.

وكانت قريش تُعظِّم صيامَ عاشوراء في الجاهلية، وكما جاء في حديث عائشة: أن النبيَّ عليه الصلاة والسلام كان يصوم قبل الهجرة؛ ولما وجد اليهود تصومه صامه وأمر بصيامه[34].

طيب، النبي عليه الصلاة والسلام صام عاشوراء منذ أن هاجر إلى المدينة، لكنه لم يكن يصوم يومًا قبله ولا يومًا بعده طيلة هذه المدة، وقال في السنة التي مات فيها: لئن بقيتُ إلى قابِلٍ لأصومن التاسع[35].

طيب، لماذا في هذه السنين لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام يصوم يومًا قبله ولا يومًا بعده؟

الجواب: أنه عليه الصلاة والسلام لمَّا هاجر من مكة إلى المدينة، كان يحب موافقةَ أهل الكتاب ومخالفة المشركين من قريش؛ فلذلك اقتصر على صيام اليوم العاشر موافقةً لليهود، لكن لمَّا فُتحت مكة في السنة الثامنة من الهجرة، وقضى النبي عليه الصلاة والسلام على المشركين، لم يبق إلا أهل الكتاب، فكان بعد فتح مكة يحب مخالفة أهل الكتاب؛ ولهذا قال: لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع.

مراتب صيام عاشوراء

له أربع مراتب:

المرتبة الأولى: وهي الأكمل، أن يصوم عاشوراء ويومًا قبله ويومًا بعده. وهذه أكمل المراتب؛ لأمور:

الأمر الأول: أنه يتحقَّق من صيام عاشوراء؛ حتى مع تقدير ثبوت شهر ذي الحجة ناقصًا، فإنه إذا صام عاشوراء ويومًا قبله ويومًا بعده تيقَّن صيام عاشوراء.

الفائدة الثانية: أنه أبلغُ في مخالفة اليهود؛ فكما أن صيامَ يومٍ قبله أو يوم بعده فيه مخالفة لليهود، فصيام يوم قبله وبعده أبلغ في المخالفة.

الفائدة الثالثة: أن في ذلك استكثارًا من الصيام في شهر المحرم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم[36].

الفائدة الرابعة: أنه إذا صام عاشوراء ويومًا قبله ويومًا بعده يكون قد صام ثلاثة أيام من الشهر، وصيام ثلاثة أيام من الشهر قد حثَّ عليها النبي في عدة أحاديث، وأخبر بأنها تعادل صوم الدهر كله[37].

المرتبة الثانية: من مراتب صيام عاشوراء أن يصام التاسع مع العاشر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع[38]، وهي أفضل من صيام العاشر مع الحادي عشر.

المرتبة الثالثة: صيام العاشر مع الحادي عشر.

المرتبة الرابعة: أن يقتصر على صيام العاشر فقط.

والصحيح أن الاقتصار على صيام العاشر جائز من غير كراهة.

صوم عشر ذي الحجة

ثم قال المؤلف:

وصوم عَشْرِ ذي الحجة.

اليوم العاشر هو يوم العيد، يَحرُم صومه بالإجماع، ولكن مراد المؤلف بعشر ذي الحجة يعني تسع ذي الحجة، لكنه أتى بهذه العبارة من باب التجوز، ولو أن المصنف قال: وصوم تسع ذي الحجة، لكان أدق في العبارة.

وإنما يسن صيامها لدخولها في العمل الصالح المذكور في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ما من أيامٍ العملُ فيهن أحب إلى الله من هذه العشر قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء. أخرجه البخاري في “صحيحه”[39].

ولكن، قد يرد على هذا: أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يصومها كما قالت عائشة: ما رأيت رسول الله صائمًا في العشر قط[40]؟

والجواب عن هذا: أن النبي عليه الصلاة والسلام قد يحث على الشيء ولا يفعله؛ لانشغاله بمصالح أرجح.

طيب، النبي عليه الصلاة والسلام ذَكَر أن أفضلَ صيامِ التطوعِ صيامُ يوم وإفطار يوم، هل كان عليه الصلاة والسلام يصوم يومًا ويفطر يومًا؟

الجواب: لا، كان يصوم حتى يقول القائل: لا يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا يصوم[41]؛ وذلك لانشغاله عليه الصلاة والسلام بمصالح أرجح.

صوم يوم عرفة

وآكَدُه يومُ عرفة.

لقوله عليه الصلاة والسلام: صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده[42]، فهو كفارة سنتين لغير الحاجِّ، أما الحاجُّ فيُكره في حقِّه صيامُ عرفةَ بعرفة.

حكم إفراد شهر رجب بالصيام

وكُره إفراد رجب.

لما فيه من التشبه بأهل الجاهلية، وقد كان مِن شعارهم: أنهم يُعظِّمون شهر رجب، وجميع الأحاديث الواردة في فضل شهر رجب ضعيفة لا تصح.

وقد صنَّف الحافظ ابن حجر رسالة سماها “تبيين العجب بما ورد في فضل رجب”، وخلص إلى أنه لا يثبت في فضل شهر رجب شيء.

وعلى ذلك؛ فما يعتقده بعض الناس من الجُمُعة الرَّجَبِيَّة، ومن فضائل لشهر رجب، وفضائل للصيام في رجب، كل هذا لا أصل له.

ليس لرجب خصوصية إلا أنه فقط أحد الأشهر الحرم الأربعة، لكنه لا يختص بعبادة من العبادات، لا نقول بأنه يعني يختص بفضل العمرة ولا بفضل صيامِ أيامٍ منه، ولا بفضل الجمعة فيه، ولا بأي شيء، كل ما ورد في فضل رجب ضعيف لا يثبت منه شيء عن النبي عليه الصلاة والسلام، فرجب فقط هو أحد الأشهر الحرم الأربعة.

حكم إفراد يوم الجمعة بالصيام

قال:

والجمعة.

يعني: يكره إفرادها بالصوم؛ لحديث أبي هريرة : أن النبي قال: لا تَخُصوا ليلة الجمعة بقيامٍ من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم[43].

ولكن، هنا يعني المؤلف يرى أنه مكروه، أن هذا التخصيص مكروه، وقال بعض أهل العلم: إنه محرم؛ لأن الأصل في النهي أنه يقتضي التحريم، وهذا هو القول الراجح.

ومما يدل لذلك: وجود أحاديث أخرى أيضًا تؤكد النهي عن إفراد الجمعة، كحديث جُوَيْرِية أم المؤمنين لمَّا دخل عليها النبي عليه الصلاة والسلام وهي صائمةٌ الجُمُعَةَ، قال: صُمْتِ أمسِ؟ قالت: لا. قال: تَصُومِين غدًا؟ قالت: لا. قال: فأفطري[44]، فأمرها بالفطر.

فالقول الراجح: أنه يَحرُم إفراد الجمعة بالصيام؛ والحكمة من النهي عن إفراده: أرجح ما قيل: إن يوم الجمعة هو عيد الأسبوع، ويوم العيد لا يصام. وقد رجح هذا ابن القيم وابن رجب رحمهما الله تعالى.

وقد جاء هذا في بعض الأحاديث: أن يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا يومَ عيدِكم يومَ صيامكم، إلا أن تصوموا يومًا قبله أو يومًا بعده[45].

لكن، يَرِدُ على هذا إشكالٌ، وهو أنَّ يومَ العِيد لا يُصام مع يومٍ قبله ولا مع يوم بعده، يعني يوم العيد لا يصام مطلقًا، بينما الجمعة يجوز صيامها إذا صام قبلها يومًا أو بعدها يومًا، فما هو الجواب عن هذا؟

أجاب عنه ابن القيم قال: “لما كان يوم الجمعة مُشبَّهًا بالعيد، أُخذ من شَبَهِه النَّهْيُ عن تَحَرِّي صيامه، فإذا صام ما قبله أو ما بعده لم يكن تحرَّاه، وكان حكمه حكم الشهر أو العشر منه أو صوم يوم وإفطار يوم، أو صوم يوم عرفة وعاشوراء إذا وافق يوم جمعة، فإنه لا يُكره صومه في شيء من ذلك”.

والممنوع هو إفراد الجمعة بالصوم، أما إذا لم يقصِد تخصيصه ولا إفراده فلا بأس؛ يعني مَن كان مِن عادته مثلًا أن يصوم يومًا ويفطر يومًا، فمثلًا صام يوم الأربعاء وأفطر الخميس وصام الجمعة وأفرد السبت، فلا حرج عليه؛ لأنه لم يقصد تخصيص الجمعة.

وهكذا أيضًا لو كان موظفًا وإجازته يوم الجمعة فقط، وأراد أن يصوم يوم الجمعة؛ لأجل أنه إجازة وليس لأجل أنه يوم جمعة؛ فلا بأس بذلك؛ فالمنهي عنه هو تخصيص الجمعة لكونها جمعة، وأما تخصيصها لمعنى آخر لا بأس، ولا يدخل في النهي.

حكم إفراد يوم السبت بالصوم

قال:

والسبتِ بالصوم.

يعني: يكره إفراد السبت بالصوم؛ لحديث الصَّمَّاء بنت بُسْر: لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة فليمضغه. هذا الحديث أخرجه أصحاب السنن وأحمد[46].

وبعض العلماء أخذ بظاهر الحديث، ومنهم الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، الذي كان يضعف الحديث، ثم تراجع عن ذلك وصححه وأخذ بظاهره، قال: لا يجوز صيام يوم السبت إلا في الفرض فقط.

وقد كان هذا القول مهجورًا أو شبه مهجور، لكن لمَّا تبناه الشيخ الألباني، والشيخ الألباني إمام من أئمة العصر رحمه الله، لما تبنى هذا القول وكثيرٌ من طُلَّابه أَحْيَوا هذا القول.

ولكن القول الراجح: أنه لا بأس بصيام يوم السبت مطلقًا، وأن هذا الحديث حديث الصَّمَّاء بنت بُسْر حديث لا يصح، قال عنه الإمام مالك: كذب، وقال أبو داود: منسوخ، وقال النسائي: مضطرب، وكذا الحافظ ابن حجر، وذكر ابن تيمية أن الحديث إما شاذ غير محفوظ، وإما منسوخ.

ثم على افتراض صحة سنده فهو شاذ؛ لأنه مُعارَض بما هو أصح منه، كحديث أبي هريرة: لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يومًا قبله أو يومًا بعده[47]. واليوم الذي بعده يوم السبت، وأيضًا في حديث جُوَيرية لما قال: أتصومين غدًا؟[48]. “غدًا” هو السبت.

وطالب العلم ينبغي أن يأخذ بمجموع الأحاديث، لا يأخذ طَرَفًا من الأحاديث ويترك أحاديث أخرى.

بل جاء في حديث أم سلمة: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يُحب أن يصوم يومي السبت والأحد، ويقول: إنهما يوما عِيدٍ للمشركين، فأُحِب أن أخالفهم[49].

وعلى ذلك نقول إن صيام يوم السبت لا بأس به مطلقًا، والمؤلف يقول يُكره إفراده، لكن ظاهر الحديث ليس فيه إشارة للإفراد، نصُّ الحديث: لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم؛ فإما أن يؤخذ بظاهره كما أخذ به الشيخ الألباني، أو يقال: إنه يجوز إفراده؛ لأن الحديث ليس فيه إشارة للإفراد، قال: لا تصوموا يوم السبت.

وعلى ذلك نقول: إن الصواب أنه لا بأس بصيام يوم السبت ولا بأس بإفراده؛ لأنه لم يثبت ما يدل على المنع من ذلك، ويكون يوم السبت كغيره من الأيام.

صوم يوم الشك

قال:

وكُرِه صومُ يومِ الشَّكِّ، وهو الثلاثون من شعبان، إذا لم يكن غَيْمٌ أو قَتَرٌ.

هذه المسألة تكلمنا عنها في الدرس قبل الماضي بالتفصيل، فيُرجع إلى شرح هذه المسألة.

يحرم صوم العيدين وأيام التشريق

قال:

ويَحرُم صوم العيدين.

وهذا بالإجماع؛ كما في حديث أبي سعيد [50].

والحِكمة من ذلك: أن عِيد الفطر هو يوم الفطر من رمضان، ولا يتميز بتحديد رمضان من شوال إلا بفطر يوم العيد؛ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام قبل أن يخرج لصلاة العيد يُفطر على تَمَرات تحقيقًا للفطر[51].

وأما عيد الأضحى فلأنه يوم النحر، ولو صام الناس يوم النحر لعَدَلوا عما أمر الله تعالى به في قوله: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28].

قال:

وأيامِ التشريق.

لحديث عائشة وابن عمر: لم يُرخَّص في أيام التشريق أن يُصَمْن إلا لمن لم يجد الهَدْي[52].

فيُستثنى من ذلك مَن لم يجد الهدي؛ فيجوز له أن يصوم أيام التشريق. وهي: اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من شهر ذي الحجة.

من دخل في تطوع لم يجب إتمامه

ومن دخل في تطوع لم يجب إتمامه.

من دخل في صوم تطوع لا يلزمه إتمامه، وكما يقول الفقهاء، وقد جاء ذلك في حديثٍ لكن في سنده مقال: المُتطوِّع أمير نفسه إن شاء صام، وإن شاء أفطر [53].

والنبي ذات يوم دخل على عائشة وقال: هل عندكم شيء؟ قالت: لا. قال: فإني إذن صائم قالت: ثم أتانا يوم آخر فقلنا: يا رسول الله، أُهْدي إلينا حَيْسٌ -وهو التمر مع السَّمْن أو الأَقِطِ- فقال: أَرِنِيهِ، فلقد أصبحتُ صائمًا فأكل[54].

فالأمر واسع بالنسبة لصيام النافلة: إن شاء قطع صومه وأفطر، وإن كان لم يأكل من أول النهار شيئًا جاز له أن ينشئ نية صوم النافلة أثناء النهار، لكن الأفضل ألا يقطع صومه إلا لغرض صحيح.

وجميع النوافل لا تَلْزم بالشروع فيها، ويجوز قطعها ولا يجب قضاؤها، إلا نافلة الحج والعمرة، فيجب إتمامهما بعد الشروع فيهما.

من ابتدأ في قضاء صوم واجب لزمه إتمامه

قال:

وفي فرضٍ يجب، ما لم يقلبه نفلًا.

يعني: إذا ابتدأ صيام فرض يجب عليه إتمامه.

وعلى ذلك؛ إذا ابتدأ صيام القضاء فليس له أن يقطعه، بل يجب عليه أن يُتِمَّه، قال الموفق ابن قدامة: لا نعلم في هذا خلافًا.

مثلًا: امرأة كان عليها صيامُ أيامٍ من رمضان، ابتدأت الصوم، فيجب عليها أن تُتِم الصوم.

لا يجوز قطع الصيام الواجب، من ابتدأ في قضاء صوم واجب لزمه إتمامه، ولم يجز له أن يقطعه في قولي عامة الفقهاء.

ونكتفي بهذا القدر في التعليق على “السلسبيل في شرح الدليل”.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الآن نجيب عما تيسر من الأسئلة:

السؤال: هل يجوز للمستطيعِ: الاكتفاءُ بغَسل القدم للوضوء من خلال المَوَاضِئ الحديثة لكبار السن، دون تخليل الأصابع؛ تحرزًا من السقوط والضرر؟

الجواب: لا بأس بذلك، العبرة بأن الماء يعم جميع القدم.

وتخليل الأصابع ليس واجبًا، وإنما هو مستحب؛ إن تيسَّر دَلْكُ القدم فهذا هو الأكمل، الدَّلْكُ، سواء لمواضع الوضوء عمومًا، مستحب وليس واجبًا، فإذا تيسر أن يُدلِّك قدميه عند الوضوء عند غَسل قدميه فهذا هو الأكمل، لكن لو أنه لم يُدلِّك قدميه ووضع قدمه في مثل ما ذَكَر الأخ السائل في المواضئ الحديثة، أو حتى أتى بالشَّطَّاف وصَبَّ على قدمه بالماء فلا بأس، أو حتى غَمَس قدمه في ماء في طَسْتٍ أو في غيره، فيكفي ذلك، المهم أن يعم الماء جميع القدم، فإذا عم الماءُ جميعَ القدم أجزأ ذلك بأية طريقة.

السؤال: إذا مات إنسانٌ وعليه نَذْرٌ، ماذا يفعل أهله؟

الجواب: أولًا نسأل عن هذا النذر، ما هو هذا النذر؟ هل هو صيام؟ إذا كان صيامًا فيُستحب لأهله أن يصوموا عنه؛ لقول النبي : من مات وعليه صوم صام عنه وليه[55].

إذا كان هذا النذر في أمور مالية: فإن كان الميت خلَّف تركة فيجب وفاء النذر من تركته، وإن لم يُخلِّف تركة يستحب لأهله أن يقضوا هذا النذر عنه ولا يجب؛ لأنه لا تزر وازرة وزر أخرى.

السؤال: شخص عليه صيامٌ؛ منذ أربع عشرة سنة لم يَصُم، ماذا يفعل؟

الجواب: عليه أولًا أن يتوب إلى الله ​​​​​​​ لأنه مُقصِّر بذلك، وعليه الآن أن يبادر بالقضاء، وبعض أهل العلم يقول: إنه يطعم مع كل يوم مسكينًا، واختلف العلماء: هل هذا على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب؟ والراجح أنه على سبيل الاستحباب، إن تيسر أن يطعم مع كل يوم مسكينًا كان ذلك أكمل، وإلا فالواجب هو القضاء.

عليه أن يبادر بقضاء هذه الأيام في ذمته، وَلْيُقدِّر أنه ربما أتاه الموت فجأة، فالإنسان لا يضمن أنه يُعمَّر، ولا يضمن أن يعيش عمرًا طويلًا.

فعلى الأخ السائل الكريم، عليه أن يبادر بقضاء هذه الأيام التي في ذمته.

السؤال: هل الدعاء في دبر الصلوات النافلة مَظِنةُ إجابةٍ أو هو خاص بالمكتوبة؟

الجواب: يشمل ذلك النافلة والمكتوبة، وكما قال عليه الصلاة والسلام: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد[56]، وهذا يشمل الفريضة والمكتوبة.

لكن، الفريضة يعني ينبغي للإمام ألا يطيل السجود حتى لا يشق على المأمومين.

لكن، إذا كان الإنسان يصلي وحده صلاةَ نافلةٍ، فيدعو في السجود: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ لأن الإنسان إذا وضع أشرف أعضائه -جبهته وأنفه- على الأرض، في هذه الحال يكون أقرب ما يكون من ربه، فهذا من مواضع إجابة الدعاء.

وكذلك أيضًا في التشهد الأخير قبل السلام، بعدما يأتي بالتشهد ويصلي على النبي عليه الصلاة والسلام، هذا، ما بعد ذلك وقت دعاء، يقول عليه الصلاة والسلام: ثم ليتخيَّر من الدعاء ما أعجبه[57]. فهذا أيضًا من مواضع إجابة الدعاء.

السؤال: أيهما أفضل للوالدين: بِرُّهم في حياتهم أو بعد مماتهم؟

الجواب: الوالدان يُبَرَّان في حياتهما وبعد مماتهما، فالبِرُّ في حياتهما له فضل، وبعد مماتهما أيضًا له فضل.

لكن، مجالات البر في حياتهما أكثر، وهو الأصل؛ الله ​​​​​​​ يقول: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ۝وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء: 23-24].

البِرُّ بهما بعد مماتهما يكون بالدعاء لهما، خاصة الدعاء بالرحمة: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24].

ويكون كذلك أيضًا بالعمرة عنهما أيضًا، هذه يصل ثوابها للميت وتدخل في البر، وكذلك الحج، وكذلك أيضًا الصدقة، والأفضل أن تكون صدقة جارية، يعني وَقْفًا، هذه كلها تدخل في البر، وأيضًا يصل ثوابها إليهما بعد مماتهما.

السؤال: هل سُنة المغرب القبلية غير الراتبة تُقضَى إذا فاتت؟

الجواب: لا تقضى، هذه السنة التي قبل المغرب إذا فاتت هي سنة فات محلها، فلا تقضى، ولكن من تيسر له أن يأتي بها فهي سُنة قد حث عليها النبي ، كما في حديث عبدالله بن مُغفَّل قال: صَلُّوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب قال في الثالثة: لمن شاء[58].

وقد كان كثيرٌ من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، يبتدرون السَّواري لأجل أن يأتوا بهذه السُّنة، فينبغي الحرص على تطبيق هذه السنة: أن الإنسان يستعد قبل أذان المغرب بالوضوء، ويذهب للمسجد قبل الأذان أو مع الأذان حتى يأتي بهذه السُّنة: أن يصلي قبل المغرب، لكنها إذا فاتت تكون سنة قد فات محلها.

السؤال: إذا تعدَّدت ألفاظ الدعاء الوارد في الحديث، فبأيها نأخذ؟

الجواب: نأخذ بأصحها، كيف نعرف الأصح؟ بالرجوع لكلام المحققين من أهل العلم، فالمحققون من أهل العلم بيَّنوا الأصح من الروايات، فعند تعدد الألفاظ يؤخذ بالأصح والأرجح، ويُرجَع لكلام العلماء والأئمة والمحققين من أهل العلم.

السؤال: أنا أعمل في شركة، وهذه الشركة متعاقدة مع شركة كذا للتأمين الصحي، وأنا محتاج لهذا التأمين، هل يجوز لي الاشتراك في هذا التأمين؟ علمًا بأن قيمة التأمين على حسابي الخاص؛ لأن الشركة لا تدفع قيمة التأمين.

الجواب: إذا كانت الشركة من شركات التأمين التعاوني فلا بأس.

التأمين ينقسم إلى قسمين: تأمين تجاري لا يجوز. وتأمين تعاوني جائز.

هناك شركات تمارس التأمين التعاوني بصورته الجائزة؛ هذه لا بأس بالاشتراك في جميع مجالات التأمين بها، سواء كان التأمين صحيًّا أو كان التأمين على السيارة أو في أي مجال من المجالات.

ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه ابن ماجه: 2043.
^2 رواه مسلم: 126.
^3, ^11, ^14, ^23, ^28, ^36, ^37, ^38, ^42, ^47, ^48 سبق تخريجه.
^4 رواه البخاري: 1936، ومسلم: 1111.
^5 رواه أبو داود: 2213.
^6 رواه أحمد: 16421، والترمذي: 3299.
^7 رواه أحمد: 16421، وأبو داود: 2213، والترمذي: 3299.
^8 رواه أحمد: 26195، وأبو داود: 236، والترمذي: 113.
^9 رواه البخاري: 4504.
^10 رواه البخاري: 1814، ومسلم: 1201.
^12 رواه البخاري: 1950، ومسلم: 1146.
^13 رواه البخاري: 1852.
^15 رواه مسلم: 1164.
^16 رواه البخاري: 1894، ومسلم: 1151.
^17 رواه البخاري: 1975، ومسلم: 1159.
^18 رواه البخاري: 2840، ومسلم: 1153.
^19 رواه البخاري: 1131، ومسلم: 1159.
^20, ^21 رواه البخاري: 5052، ومسلم: 1162.
^22 رواه البخاري: 1968.
^24, ^27, ^31 رواه مسلم: 1162.
^25 رواه مسلم: 2545.
^26 رواه أحمد: 21753، وأبو داود: 2436، والترمذي: 747، والنسائي: 2358.
^29 رواه البخاري: 1983، ومسلم: 1161.
^30 رواه مسلم: 1163.
^32 رواه البخاري: 2006.
^33 رواه البخاري: 2004، ومسلم: 1130.
^34 رواه البخاري: 2001، ومسلم: 1125.
^35 رواه مسلم: 1134.
^39 رواه البخاري: 969.
^40 رواه مسلم: 1176.
^41 رواه البخاري: 1969، ومسلم: 1157.
^43 رواه مسلم: 1144.
^44 رواه البخاري: 1986.
^45 رواه أحمد: 8025.
^46 رواه أحمد: 27075، وأبو داود: 2421، والترمذي: 744، وابن ماجه: 1726.
^49 رواه أحمد: 26750.
^50 رواه البخاري: 1991، ومسلم: 1138.
^51 رواه البخاري: 953.
^52 رواه البخاري: 1998.
^53 رواه أحمد: 26893، والترمذي: 732.
^54 رواه مسلم: 1154.
^55 رواه البخاري: 1952، ومسلم: 1147.
^56 رواه مسلم: 482.
^57 رواه البخاري: 835، ومسلم: 402.
^58 رواه أحمد: 20552، وأبو داود: 1281.
zh