عناصر المادة
- معنى الصيام لغة وشرعًا
- مشروعية الصيام وفضله
- مراحل تشريع الصيام
- وجوب صوم رمضان برؤية الهلال
- صوم يوم الشك
- ثبوت رؤية هلال رمضان
- شروط قبول الشهادة في رؤية الهلال
- الشهادة في ثبوت رؤية أَهِلَّة بقية الشهور
- حكم اختلاف المطالع
- حكم الاعتماد على المناظير في رؤية الأهلة
- حكم الاعتماد على تقنية CCD في رؤية الهلال
- حكم الاعتماد على الحساب الفلكي
- حكم الاعتماد على الحساب الفلكي في النفي
- شروط وجوب الصيام
- شروط صحة الصيام
- سنن الصيام
- الأسئلة:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
حياكم الله جميعًا في هذا الدرس، في هذا اليوم الاثنين الثاني من شهر شعبان من عام 1442 للهجرة.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا، ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.
ننتقل بعد ذلك لـ”السلسبيل في شرح الدليل”، وكما في الإعلان أننا سننتقل لكتاب الصيام من “السلسبيل”؛ وذلك اغتنامًا لمناسبة الزمان، حيث إننا الآن في الثاني من شهر شعبان، ولم يتبقَّ على شهر رمضان سوى أربعة أسابيع.
ولذلك ينبغي أن نستعد له بالتفقه في مسائله وأحكامه، وقد كانت هذه طريقة كثير من مشايخنا: أنهم إذا أقبل الموسم يقرؤون عن أحكام ومسائل ذلك الموسم، كانت هذه طريقة شيخنا عبدالعزيز ابن باز رحمه الله، أنه إذا قرب دخول شهر رمضان يقرأ عليه في مسائل وأحكام شهر رمضان، كذلك في الحج يقرأ عليه في مسائل وأحكام الحج، وهكذا.
وأيضًا سماحة شيخنا عبدالعزيز آل الشيخ المفتي العام كذلك.
فهذه الطريقة طريقة نافعة، أن طالب العلم إذا قرب موسم من المواسم يقرأ عن مسائله والأحكام المتعلقة بذلك الموسم؛ لكي يستفيد منها في أموره العملية، وأيضًا حتى يفيد غيره، خاصة من يقصد بالفتيا والسؤال.
كتاب: الصيام.
معنى الصيام لغة وشرعًا
الصيام لغة: هذه المادة مادة الصاد والياء والألف والميم في اللغة العربية تدور حول معنى الإمساك، ومن قول الله تعالى عن مريم: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مريم:26]؛ “صومًا” يعني إمساكًا عن الكلام.
ومنه قوله: صام النهارُ؛ إذا وقف سير الشمس. ومنه قول الشاعر:
خيلٌ صِيَام وخيل غير صائمة | تحت العَجَاج وأخرى تَعْلُك اللُّجُمَ |
فقوله: خيل صيام، يعني ممسكة عن الصهيل.
فهذه المادة إذن مادة الصاد والياء والألف والميم تدور حول معنى الإمساك.
أما شرعًا فأفضل ما قيل في تعريفه: التعبد لله تعالى بالإمساك عن الأكل والشرب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وهو أشهر من أن يُعرَّف.
مشروعية الصيام وفضله
والأصل في وجوبه: القرآن، والسنة، والإجماع: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. والسنة فيها أحاديث كثيرة، منها: بُني الإسلام على خمس وذكر منها صوم رمضان[1]، وأجمع العلماء على صيامه.
لكن لا يجب على المسلم صيام غير رمضان، إلا أن يكون نذرًا أو كفارة.
الصيام من الأعمال الصالحة العظيمة، وقد رتب عليه الثواب العظيم، جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي قال: من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه[2].
وأيضًا في الحديث الآخر: كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، قال الله: إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي[3]؛ يعني: هذا الحديث يدل على أن الصوم له خصوصية ومزية: كل عمل ابن آدم التضعيف فيه يكون بأن الحسنة بعشر أمثالها، لكن الصوم أجره أجر خاص من الله ، والله تعالى هو أكرم الأكرمين، والعطية بقدر معطيها.
أضرب لهذا مثلًا: لو أن معلمًا وعد الطلاب المتفوقين بجوائز، فأعطى فلانًا جائزة، وأعطى فلانًا جائزة، وأعطى فلانًا جائزة، قال: وأما أنت يا فلان فلك عندي جائزة خاصة. فماذا يظن بهذه الجائزة؟ هل هي أقل من جوائز زملائه، أو أفضل؟ الجواب: أفضل، جائزة خاصة، معنى ذلك أنها تفوق جوائز زملائه.
هكذا أيضًا العبادات من الصلاة والزكاة وسائر الأعمال الصالحة، الجزاء عليها الحسنة بعشر أمثالها، والصوم يجزي الله عليه جزاء خاصًّا من عنده، وهو أكرم الأكرمين جل وعلا.
لكن لماذا اختُص الصومُ بهذه الخِصِّيصة؟
قال أهل العلم: لأن الصوم يظهر فيه أثر الإخلاص، فإن الإنسان أثناء صيامه لن يبقى أحدٌ من البشر يراقبه طيلة النهار، يستطيع أن يأكل وأن يشرب ولا أحد يراه من البشر، على الأقل يدخل دورة المياه، هل أحد يستطيع أن يراه؟ فهو إذن سر بين العبد وبين ربه، فإذا التزم بالإمساك عن جميع المفطرات طيلة النهار خوفًا من الله ؛ دل ذلك على صدقه مع ربه، وعلى إخلاصه لله ، فكان أجره عند الله عظيمًا، وثوابه جزيلًا.
مما يدل على فضل الصيام حديث أبي أُمَامة عن النبي قال: عليكم بالصوم فإنه لا مِثْلَ له[4]؛ يعني: حديث أبي أمامة هذا، لا بأس أن نستطرد قليلًا في حديث أبي أمامة: عليكم بالصوم، فإنه لا مِثْلَ له.
أبو أُمَامة صُدَيُّ بن عَجْلان الباهلي، أتى النبيَّ كما جاء عند أحمد وأبي داود بسند صحيح قال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني الشهادة! فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم سلِّمهم وغنِّمهم قال: فقاتلتُ فسلَمْنا وغنمنا، ثم جئت النبي فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني الشهادة؟ قال: اللهم سلمهم وغنمهم قال: فقاتلت فسلمنا وغنمنا، يعني غنم غنائم وسلم لم يقتل.
ثم جئت النبي فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني الشهادة. قال: اللهم سلمهم وغنمهم قال: فسلمنا وغنمنا. ثم أتى النبي فقال: يا رسول الله، مُرْني بأمرٍ أعمله يكتب لي به الخير. قال عليه الصلاة والسلام: عليك بالصوم، فإنه لا مِثْلَ له.
فما رُئي أبو أمامة إلا صائمًا هو وزوجته وخادمه، حتى إنه إذا رئي دُخَانٌ يخرج من بيته عُرف أنه قد نزل به ضيفٌ لكثرة صيام أبي أمامة.
ثم إنه جاء النبيَّ وقال: يا رسول الله، مُرني بعمل. يعني: أمرتني بالصوم، مرني بعمل آخر، قال عليه الصلاة والسلام: اعلم أنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحَطَّ عنك بها خطيئة يعني: أمره بكثرة الصلاة.
كون النبي عليه الصلاة والسلام لم يستجب لطلب أبي أمامة بأن يدعو الله أن يرزقه الشهادة؛ لأن طول العمر مع حسن العمل نعمة؛ لأن الإنسان إذا طال عمره مع حسن عمله يكسب زيادة حسنات؛ من صلاة وصيام وصدقات وأذكار ونحو ذلك.
فلذلك؛ لم يَدْعُ النبي عليه الصلاة والسلام له بالشهادة، وإنما قال: اللهم سلمه وغنمه، ثم أمره بالصيام وقال: لا مِثْل له يعني: في الأجر والثواب، ثم أمره بالإكثار أيضًا من الصلاة.
وأيضًا الصيام من خصائصه أن الصائم يؤجر طوال وقت صيامه حتى وإن كان نائمًا على فراشه؛ لأنه متلبس بعبادة؛ ولهذا قال أبو العالية: “الصائم في عبادة ما لم يغتب، وإن كان نائمًا على فراشه”.
وكانت حفصة بنت سيرين تقول: “يا حبذا عبادةٌ وأنا نائمة على فراشي”.
فهذه خِصِّيصة -يعني- لا توجد في غير الصيام، يعني: طيلة النهار وأنت في عبادة، فهذه يعني خصيصة عظيمة للصيام.
ولهذا؛ ينبغي للمسلم أن يحرص على صيام النافلة بعد الصيام الواجب، ومن ذلك أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، كما أوصى بذلك النبي عددًا من الصحابة: أوصى به عبدالله بن عمرو، وأوصى به أبا هريرة، وأوصى به أبا ذر، وأوصى به عددًا من الصحابة، وقال لعبدالله بن عمرو: فإن ذلك يعدل صيام الدهر كله[5]، لماذا؟ لأن ثلاثة أيام إذا ضَرَبْتَ ثلاثة في عشرة: ثلاثين، إذا صمت ثلاثة أيام من الشهر كأنك صمت الشهر كله.
مراحل تشريع الصيام
وقد فُرض صيام شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وصام رسول الله تسعة رمضانات.
وكان فَرْضُه على ثلاث مراحل:
- المرحلة الأولى: فرض صيام عاشوراء، فكان في أول الأمر إيجاب صيام عاشوراء، كما جاء في حديث عائشة[6].
- المرحلة الثانية: فرض صيام رمضان مع التخيير بين الصيام والإطعام، كما دل لذلك الآية الكريمة: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ يعني: الصيام خير من الإطعام إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:184]؛ يعني: التخيير بين الصيام والإطعام مع تفضيل الصيام على الإطعام.
- المرحلة الثالثة: فرض صيام رمضان على التعيين، كما دل لذلك الآية التي بعدها: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185].
والحِكمة في هذا التدريج -والله أعلم- يعني هو: أن ما كان شاقًّا فالشريعة الإسلامية توجبه بالتدريج حتى تألفه النفوس، فلم يكن الصوم مألوفًا عند الناس قبل فرضيته؛ ولذلك فرضه الله تعالى على هذه المراحل الثلاث. ونظير ذلك بالنسبة للمحرمات: تحريم الخمر، أتى تحريمه بالتدريج.
وهذا يدل على أن الإنسان ينبغي أن يسلك أيضًا هذا المسلك في الدعوة إلى الله ، وحتى في تعامله مع نفسه: إذا أراد أن يقلع عن أمر أو أراد أن يفعل أمرًا شاقًّا يكون ذلك بالتدريج.
وجوب صوم رمضان برؤية الهلال
قال المصنف رحمه الله:
يجب صوم رمضان برؤية هلاله على جميع الناس.
وهذا بالإجماع؛ لقوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ[البقرة:185]؛ ولقوله : صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته[7]. فإذا رئي الهلال يجب الصيام.
لكن المؤلف فصل في هذه المسألة:
صوم يوم الشك
وعلى مَن حال دونهم ودون مَطْلَعِه غَيْمٌ أو قَتَرٌ ليلةَ الثلاثين من شعبان، احتياطًا بنية رمضان.
يعني: إذا رُئي الهلال وجب صيام رمضان، وأيضًا هناك حالة أخرى عند المؤلف يرى أنه يجب معها الصيام، وهي إذا كان هناك غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان.
وهذه المسألة من أغرب مسائل الفقه؛ لأن الأقوال فيها متقابلة، فالمؤلف يرى وجوب صيام الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، ونصروه وصنفوا فيه التصانيف، وهو من المفردات.
والغِيْمُ والقَتَرُ، “الغيم” هو السحاب، و”القتر” جمع قَتَرة، وهو الغبار، ومنه قوله تعالى: تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ [عبس:41]، والفرق بينها وبين الغَبَرة أن القَتَرة: ما ارتفع من الغُبار فلحق بالسماء مثلما نراه اليوم، هذا الذي نراه قترة؛ لأنه غبار مرتفع. والغَبَرة: ما كان في أسفل الأرض، مثل الذي كان قبل أمس يوم السبت، هذه غبرة، اليوم الذي رأيناه يوم أمس قترة، ارتفع الغبار، وإن كان المقصود بها في الآية الظُّلمة.
طيب، ما دليل الحنابلة؟
دليلهم حديث ابن عمر: أن النبي قال: إنما الشهر تسعة وعشرون، فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له[8]. قال نافع: فكان عبدالله إذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يومًا، يبعث مَن ينظر الهلال، فإن رُئي فذلك، وإن لم يُرَ ولم يَحُلْ دون مَنْظَرِه سحابٌ ولا قَتَرٌ أصبح مُفطِرًا، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائمًا.
قالوا: فقوله: اقدروا له، يعني: ضيقوا عليه بأن يجعل الشهر تسعة وعشرين يومًا، وفسره ابن عمر بفِعله، وهو أعلم بما روى.
لكن هذا الاستدلال محل نظر؛ إذ إن معنى قوله: فاقدروا له أي: احْسِبوا له قَدْرَه ثلاثين يومًا، فهو من التقدير كما يدل لذلك الرواية الأخرى: فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين[9]، والرواية الأخرى: فإن أُغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين[10].
ومن المقرر عند العلماء: أن الروايات يفسر بعضها بعضًا.
وأما فِعل ابن عمر فهو اجتهاد منه ، وخالفه غيره من الصحابة، وابن عمر لم يفعل هذا على سبيل الوجوب، وإنما فعله احتياطًا؛ لأنه لو كان على سبيل الوجوب لأمر أهله، ولم يأمر أهله بذلك.
وابن عمر له اجتهادات خالفه الصحابة فيها: كان يتتبع آثار النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يوافقه الصحابة على هذا. وكان يغسل داخل عينيه إذا غسل وجهه، ولم يوافقه الصحابة على هذا، حتى إنه عَمِيَ في آخر حياته. فله اجتهادات انفرد بها، وهذا واحد منها.
القول الثاني: أنه إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر، فهذا هو يوم الشك، خلافًا للحنابلة الذين قالوا: إن يوم الشك هو ليلة الثلاثين من شعبان إذا كان الجو صحوًا.
والصحيح: أنه إذا كان الجو صحوًا فليس هناك شك، إنما الشك إذا كان الجو ليلة الثلاثين من شعبان: حال دون رؤية الهلالِ غَيْمٌ أو قَتَرٌ أو غَبَرة، فهذا هو يوم الشك.
واختلف العلماء في حكم صومه، فمنهم من قال: إنه مكروه، ومنهم من قال: إنه محرم، ومنهم من قال: إنه جائز، وقد ورد فيه عدة أحاديث، منها قول النبي : لا تَقَدَّمُوا رمضان بصومِ يومٍ ولا يومين، إلا رجلٌ كان يصوم صومه وهذا في الصحيحين[11].
وأيضًا قول عمار بن ياسر: “من صام اليوم الذي يُشَك فيه، فقد عصى أبا القاسم “. رواه البخاري معلقًا له بصيغة الجزم[12].
لكن، رُوي عن بعض الصحابة أنهم كانوا يصومون يوم الشك على سبيل الاحتياط، فمِن أهل العلم مَن قال: إنه يجوز صومه ويجوز فطره. هذا ذكره ابن تيمية رحمه الله.
ولكن، إذا نظرنا للنصوص الأقرب -والله أعلم- والأسعد بالدليل: قول مَن قال: إنه يحرم صوم يوم الشك، فإن قوله عليه الصلاة والسلام: لا تَقَدَّموا رمضان بصومِ يومٍ ولا يومين هذا نَهْيٌ، والأصل في النهي أنه يقتضي التحريم، وقول عمار: “مَن صام اليوم الذي يُشَك فيه فقد عصى أبا القاسم “، ومعصيته لا تكون إلا على أمر محرم، أما مَن فعله من الصحابة لعلهم لم يبلغهم النهي.
وعلى هذا؛ يكون يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر، وعلى المذهب يجب صومه، وعلى القول الراجح يحرم صومه.
وهذا من أغرب مسائل الفقه! يعني: قول: يجب صومه؛ إذا ما صُمْتَ فأنت آثم، وقول: يحرم صومه، إذا صمت فأنت آثم. فهذه من المسائل الغريبة!
ابن تيمية رحمه الله حقَّق أن الإمام أحمد لم يقل بوجوب الصوم في هذه الحال، وأن الصحيح من مذهبه أنه لا يجب صومه، وأن القول بالوجوب إنما قال به بعض المتأخرين من الحنابلة.
وعلى كلٍّ، سواءٌ ثبت هذا أو لم يثبت فالعبرة بالدليل، والله يقول: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59].
وإذا رددنا هذه المسألة إلى كتاب الله وسنة رسوله نجد أن الأحاديثَ ظاهرةٌ في المنع: لا تَقَدَّموا رمضان بصومِ يومٍ ولا يومين. أما ما ذكره ابن تيمية من أن الاحتياط في العبادة ليس منهيًّا عنه، فهذا في غير هذه المسألة؛ لأن هذه المسألة ورد فيها نصوص خاصة.
ويُجزئ إن ظهر منه.
يعني: يجزئ إن ظهر أن الثلاثين من شعبان أصبح من رمضان، إن ثبتت الرؤية في مكان آخر؛ لأن الصوم وقع بنية رمضان كما رُوي ذلك عن الإمام أحمد.
وتُصلَّى التراويح.
يعني: ليلة الثلاثين من شعبان إذا حالت دون رؤية الهلال غيم أو قتر، لكن على القول الراجح: أن ليلة الثلاثين من شعبان هنا تعتبر يومَ شكٍّ، فلا تُصلى التراويح تلك الليلة.
الأحكام المترتبة على عدم ثبوت رؤية الهلال
ولا تثبت بقية الأحكام: كوقوع الطلاق، والعتق، وحلول الأجل.
يعني: لما قال تلك الليلة تُصلَّى التراويح فيها ويعتد بها في رمضان، قال: بقية الأحكام لا تثبت، لو قال الرجل لزوجته: إذا دخل رمضان فأنتِ طالق، أو قال لمملوكه: إذا دخل رمضان فأنت حرٌّ، أو قال دائن لمَدِينه: إذا دخل شهر رمضان فقد حلَّ الدَّيْن.
فعلى رأي المؤلف؛ لا تَثْبت هذه الأحكام ليلةَ الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال غيمٌ أو قَتَرٌ عملًا بالأصل، وهو أنه المتمم لشعبان، وأنهم إنما قالوا بالصوم احتياطًا للعبادة.
وهذا في الحقيقة مما يضعف هذا القول؛ ومن علامة القول الضعيف أو المرجوح عدم اطِّراده، وكثرة الاستثناءات الواردة عليه. ومن علامات القول الراجح اطراده ووضوحه، وقلة الاستثناءات الواردة عليه.
ثبوت رؤية هلال رمضان
ثم انتقل المؤلف للكلام عن رؤية الهلال، قال:
وتثبت رؤية هلاله بخبرِ مسلمٍ مُكلَّفٍ عَدْلٍ ولو عبدًا أو أنثى.
فأفاد المؤلف بأن رؤية هلال رمضان تثبت بشهادة شاهد واحد، ثم ذكر أوصاف الشاهد.
يعني: قبل أن ننتقل لأوصاف الشاهد، نريد أن نُبيِّن خلافَ العلماء في هذه المسألة: هل يثبت دخول شهر رمضان بشهادة شاهد واحد، أو لا بد من أكثر من شاهد؟
- القول الأول: أنه يكفي شاهد واحد، هذا هو مذهب الشافعية والحنابلة.
واستدلوا بحديث ابن عمر: تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي أني رأيته، فصامه وأمر الناس بصيامه[13].
وأيضًا بحديث ابن عباس: جاء أعرابي إلى النبي فقال: إني رأيت الهلال. فقال: أتشهد أنْ لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم. قال: يا بلال، قُمْ فأَذِّن في الناس، فليصوموا غدًا[14].
حديث ابن عمر صحيح، أما حديث ابن عباس فضعيف، وفي مَتْنِه نَكَارة: كيف يأمر النبي الصحابة بالصيام اعتمادًا على شهادة أعرابيٍّ لا تُعرَف عدالته؟ بينما بقية الصحابة العدول وفيهم مَن هو حادُّ النَّظَر كابن عمر لم يَرَوُا الهلال؟ فهذا الحديث منكر سندًا ومتنًا.
- القول الثاني: أنه لا بد من شاهدين فأكثر، إذا كان في موضعٍ يُعتنى فيه برؤية الهلال، وأما إذا كان في موضع لا يعتنى فيه برؤية الهلال، يكفي بشاهد واحد. وهذا هو مذهب المالكية، لا بد من شاهدين إذا كان في موضع يعتنى فيه برؤية الهلال.
لحديث عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب: فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا[15]
أما الموضع الذي لا يعتنى فيه برؤية الهلال، فيكتفى بشاهد واحد من باب الاحتياط لرمضان؛ لأنه قد يتعذر وجود شاهدين.
- القول الثالث: مذهب الحنفية؛ أنه يُكتفى برؤية شاهدٍ واحد إذا كان في السماء عِلة من غَيْم أو غبار أو نحوه، أما إذا كانت السماء صحوًا فلا بد من جمعٍ عظيم يغلب على الظن صدقهم؛ لأن السماء إذا كانت صحوًا فتفرُّد الشاهد الواحد يورث الشك في صحة شهادته، بخلاف ما إذا كان في السماء علة فتَقْوى شهادة الشاهد ويؤخذ بها.
والقول الراجح -والله أعلم- هو مذهب المالكية، وهو أنه يكتفى بشهادة شاهد واحد إذا كان في موضع لا يعتنى فيه برؤية الهلال.
أما إذا كان في موضع واحد يعتنى فيه برؤية الهلال، فلا بد من شاهدين؛ لحديث عبدالرحمن بن زيد، وهو يشمل رمضان وغيره.
وأما حديث ابن عمر فالنبي عليه الصلاة والسلام اكتفى بشهادته؛ لأن ابن عمر أولًا لم يَرِد أن النبي عليه الصلاة والسلام اكتفى بشهادته، فيحتمل أنه شهد معه غيره.
ثانيًا: لو افترضنا افتراضًا أنه اكتفى بشهادة ابن عمر، فابن عمر معروف بضبطه وورعه الشديد وتحريه وتقواه وصدقه، فمِثله يُكتفى بشهادته، كما اكتفى النبي بشهادة خزيمة بن ثابت وهو واحد عن شهادة اثنين[16].
فأَعْطُوني رُبُع ابنِ عمر يكفينا، يكفي شهادة شاهدٍ واحد من هذا الصنف من الناس.
وأما حديث الأعرابي؛ سبق القول بأنه حديث ضعيف.
لكن، إذا كان في موضع يُعتنى فيه برؤية الهلال، مثل الوضع عندنا في المملكة، ثم يأتي شاهد واحد وينفرد برؤية الهلال، فنأمر أمة بأكملها بأن تصوم بشهادة هذا الشاهد وغيره من الشهود، وفيهم حادُّو النظرِ تراءوا بالعين المجردة، وتراءوا بالأجهزة، وتراءوا بالتلسكوبات، وتراءوا بالمراصد، ولم يروا شيئًا.
فيعني في الغالب أنَّ انفراد هذا الشاهد بالشهادة أنها وهمٌ، وخاصة أنه في وقتنا الحاضر كثرت العوالق والعوائق في الأفق، فوجد في الجو أجرام صناعية، يعني: أقمار صناعية، والأقمار الصناعية الآن موجودة تدور، ربما تكون على شكل أَهِلَّة تتشكل، وأحيانًا أيضًا الطائرة إذا مرت أحيانًا دخان الطائرة يتشكل على شكل هلال. وأيضًا بعض الكواكب والنجوم إذا اقتربت من بعض تتشكل على شكل هلال.
وأذكر أننا مرة في المجمع الفقهي، وأتى أحد الفلكيين يشرح، فأطفأ النور، وقال: يا مشايخ، أريد منكم أن تقرروا ما الذي ترون الآن؟ هل هو هلال أو لا؟ قال: ما هذا؟ قلنا: هلال. قال: لا، هذا دخان طائرة. ثم قال: ما هذا؟ قلنا: هلال. قال: لا، هذا قمر صناعي. ثم قال: ما هذا؟ قلنا: هلال.
المهم، ذكر لنا ثمانيةَ أشكال، كلها نقول: هلال، ويقول: لا، ليست هلالًا، هذا كذا، هذا كذا، هذا كذا.
يعني الآن وُجد في الجو وفي الأفق يعني أجرام تُشبه الأهلة، ما كانت الطائرات موجودة، وما كانت الصواريخ موجودة، وما كانت الأقمار الصناعية موجودة، هذه لا شك أنها ينبغي أن تؤخذ في الحُسبان.
فأحيانًا يكون الشاهد عدلًا ويكون ثقة ورأى شيئًا، لكن ما الذي رآه؟ هل هو الهلال؟ فإذا انفرد الشاهد الواحد عن بقية الشهود في موضع يعتنى فيه برؤية الهلال، هذا يُثير الشك في شهادته، وأنه ربما يكون متوهمًا.
أحد الإخوة يقول: إني مرة خرجت من المسجد، وقلت لجماعة المسجد، وكانوا أربعة أو خمسة: ما الذي ترون في الأفق؟ قالوا: ما نرى شيئًا. قلت: إلا في كذا. قالوا: ما فيه. قلت: دقِّقوا النظر. يقول: ألححت عليهم، فطلع لي واحد أو اثنان وقالوا: نعم، رأينا جِرْمًا. وما فيه شيء أصلًا، لكنني أردت أن أختبر مدى تأثير الوهم عليهم، أحيانًا يكون فيه توهم.
شروط قبول الشهادة في رؤية الهلال
ثم ذكر المؤلف شروطًا لمن تقبل شهادته برؤية الهلال:
الشرط الأول: أن يكون مسلمًا، وهذا مُجمَع عليه.
الشرط الثاني: مُكلَّفًا، وأيضًا هذا مجمع عليه.
الشرط الثالث: أن يكون عدلًا، والمقصود بالعدالة من قام بالواجبات، ولم يفعل كبيرة، وأيضًا ألا يكون معروفًا بكثرة الوهم، وأما إذا كان معروفًا بكثرة الوهم والخطأ والنسيان فلا تقبل شهادته.
(ولو عبدًا)؛ يعني: تُقبل شهادة العبد إذا جمع هذه الأوصاف؛ لأنه مسلم عاقل بالغ عدل، يشترط فيه العدالة.
(أو أنثى)؛ المرأة كالرجل تُقبل شهادتها في رؤية الهلال، وتثبت بقية الأحكام تبعًا، يعني إذا ثبت رؤية الهلال ثبتت بقية الأحكام التي سبقت الإشارة إليها.
هذا عند دخول رمضان، وأما بقية الشهور، قال المصنف:
الشهادة في ثبوت رؤية أَهِلَّة بقية الشهور
ولا يُقبَل في بقية الشهور إلا رجلان عدلان.
لحديث عبدالرحمن بن زيد: فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا[17].
حكم اختلاف المطالع
اختلاف المطالع، هذه المسألة مذكورة في كتب الفقه، وهي محلُّ خلاف، مع اتفاقهم بأن اختلاف المطالع مُؤثِّرٌ حقيقةً في رؤية الأهلة؛ لكنهم اختلفوا هل هذا الاختلاف مُعتبَر شرعًا أو أنه غير معتبر؟ والقول الراجح أنه معتبر.
فإذا رُئي الهلال في بلد، فلا بد أن يُرى في البلدان التي في غرب هذا البلد، وأما التي في شرقه، فلا يلزم.
يعني مثلًا إذا رُئي في المملكة العربية السعودية، فلا بد أن يُرى في مصر، لا بد أن يُرى في بلاد المغرب العربي، لا بد أن يرى في أوروبا، لا بد أن يرى في أمريكا، لكن إذا رُئي في المملكة لا يلزم منه أن يُرى في البلاد الواقعة في الشرق مثل إندونيسيا مثلًا، أو ماليزيا، أو نيوزلندا، فهذه بلدان قد تكون ظروف الرؤية فيها غير ممكنة، لكن في المملكة تكون ظروف الرؤية ممكنة.
فإذن، إذا رُئي في بلد، فلا بد أن يُرى في غرب ذلك البلد، ولا يلزم منه أن يُرى في شرق ذلك البلد.
والعجيبُ، الخلافُ بين المسلمين في دخول شهر رمضان، وفي خروجه، يعني: هذا الخلاف إذا كان في يوم، يعني هذا مقبول كما ذكرنا بسبب اختلاف المطالع، لكن أن يصل الخلاف في أكثر من يوم! فهذا يدل على وجود مشكلة في الموضوع.
وأذكر أنني في أحد مؤتمرات الأَهِلَّة، وقد حضر هذا المؤتمر عدد من كبار علماء العالم الإسلامي، أنا قلت: لا يُقبل هذا الاختلاف أن يكون بين بلدان العالم الإسلامي، أن يصل الاختلاف إلى ثلاثة أيام.
أحد الحاضرين قال: في سنة من السنواتِ الاختلافُ وصل إلى أربعة أيام وليس ثلاثة أيام، أربعة أيام. يعني دخل شهر رمضان يوم السبت في بلد، وفي بلد آخر ما دخل إلا يوم الأربعاء، فدخل رمضان في بلد السبت، وفي بلد آخر يوم الأربعاء، أربعة أيام!
هذا يدل على وجود إشكالية كبيرة! كيف يدخل رمضان في بلدٍ يومَ السبت، وفي بلد آخر ما يدخل إلا يوم الأربعاء؟!
لكن في السنوات الأخيرة -ولله الحمد- بدأ يتقلص ذلك الاختلاف إلى حد كبير، يعني: يصل إلى يوم، وفي أحوال نادرة يومين، لكن السنوات الأخيرة لم يصل إلى ثلاثة أيام أو أربعة، كما كان في السابق.
لكن أيضًا الخلاف بين المسلمين في دخول رمضان قد يكون مقبولًا، لكن في عيد الأضحى هذا غير مقبول؛ لأن يوم عرفة متعلق بوقوف الحجيج على صعيد عرفة، وفضله مختص بهذا اليوم بعينه، فينبغي أن يكون اليوم الذي بعده يوم عيد الأضحى.
مَن كان في بلد فينبغي له أن يصوم مع الناس، وأن يفطر مع الناس؛ لأن الاجتماع في الصوم والفطر في البلد الواحد أمر مقصود شرعًا؛ لقول النبي : الصوم يوم يصوم الناس، والفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يُضحِّي الناس[18].
فإذا كان الإنسان في بلدٍ فيتبع أهل بلده، بغض النظر عن الطريقة التي سلكها الحاكم في إثبات الشهر، ولا يُسوغ له أن يشذ عنهم في الصوم أو الفطر، وعلى هذا عمل المسلمين.
فإذا كنت في بلد، ثم أُعلن عن دخول شهر رمضان، بينما بلدك الأصلي لم يُعلن؛ تصوم معهم وتُفطر معهم، كن مع أهل البلد الذي أنت فيه، ولا تشذ عنهم، فاتفاق المسلمين في الصوم والفطر في البلد الواحد أمر مقصود شرعًا.
حكم الاعتماد على المناظير في رؤية الأهلة
ننتقل لمسألة: حكم الاعتماد على رؤية الهلال عن طريق المناظير.
الآن وُجدت أجهزة المناظير، ومثل ذلك المراصد والتلسكوبات، فرؤية الهلال عن طريقها يُعتد به، وصدر قرارٌ من هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية باعتمادها من -تقريبًا- أكثر من خمسة وثلاثين عامًا، من 1406، منذ ذلك الحين؛ لعموم قول النبي عليه الصلاة والسلام: إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا[19].
لا فرق بين أن يُرى بالعين المجردة أو يُرى بالتلسكوب أو يرى بالدربيل أو يُرى بالمراصد، فكلها معتبرة شرعًا.
هل هناك فرق بين أنني الآن أنظر لهذا الكتاب بالعين المجردة، أو أنظر إليه بالنظارة؟ لا فرق، هكذا أيضًا من يرى الهلال بالعين المجردة أو يراه بالدُّرْبِيل أو يراه بالمرصد أو يراه بالتلسكوب، لا فرق؛ هي رؤية معتبرة شرعًا.
وقد نقلتُ في “السلسبيل” صفحة 22 قرار هيئة كبار العلماء لأهميته؛ لأني أردت بهذا النقل الرد على من يقول: إن العلماء خاصة علماء المملكة لا يعتمدون الرؤية عن طريق المناظير والتلسكوبات والمكبرات.
هذا الكلام غير صحيح، يعني هيئة كبار العلماء في المملكة، لاحِظُوا هنا التاريخ، أنا قلت: من 1403 اعتمدت هيئة كبار العلماء القول باعتماد رؤية الأهلة عن طريق المناظير والمراصد، يعني منذ أكثر من تسعة وثلاثين عامًا.
فنقلت هنا نص قرار هيئة كبار العلماء لأجل هذه المسألة، وأن العلماء عندنا في المملكة من قديم الزمان يعني مما يقارب أربعين عامًا، وهم يرون جواز الاعتماد على المناظير والمراصد والتلسكوبات ونحوها في إثبات الأهلة.
حكم الاعتماد على تقنية CCD في رؤية الهلال
طيب، هنا مسألة حديثة، ويعني نازلة في الحقيقة، وهو حكم الاعتماد على رؤية الهلال عن طريق تقنية CCD؟
هذه التقنية تقنية جديدة، والمجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي سيناقشها في الدورة القادمة إن شاء الله، وقد استكتبني بأحد البحوث فكتبت فيها بحثًا، وقدمت لكم في “السلسبيل” خلاصة هذا البحث.
هذه التقنية تقنية كاميرا CCD، وهي كاميرا متطورة تُركَّب على التلسكوب، وتستخدم في التصوير الفلكي، وتتضمن التقاط عدة صور للهلال قد تصل إلى ثلاثمائة صورة، ثم يتم تجميعها عن طريق برنامج حاسوبي متخصص بصورة واحدة، ومعالجة الصورة من خلال ضبط قيم التباين، وإعدادات أخرى، وبعد ذلك يمكن أن يُرى الهلال.
وترون الآن أكثر من يستخدمها المشروع الإسلامي للأهلة، ومَقَرُّه في الإمارات، في نهاية كل شهر يُصدرون صورًا في هذا، ومنها اليوم أخرجوا صورًا عن هلال شعبان، وأيضًا عندنا في المملكة تستخدم أيضًا في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية.
لكن، الآن يأتي نظر الفقهاء: هل هي معتمدة شرعًا أو لا؟
وإن شاء الله مجمع الفقه سيصدر فيها قرارًا، وهذا الذي قدمتُ لكم هو خلاصة البحث الذي كتبتُه في الموضوع.
هذه الكاميرا تتميز بأنها قادرة على رؤية الهلال في وضح النهار، حتى وإن كانت الرؤية غير ممكنة بالعين المجردة ولا بالتلسكوب، رؤية الهلال بكاميرا CCD نهارًا لا يعتد بها؛ لأن رؤية النهار لا يعتد بها مطلقًا، سواء بالعين المجردة أو بالمناظير أو بـ”CCD”، أو بأية رؤية.
فالرؤية المعتبرة للهلال هي ما كانت بعد غروب الشمس، إذا تمت رؤية الهلال بكاميرا CCD بعد غروب الشمس فلا تخلو هذه الرؤية من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن تكون رؤية حية مباشرة. فهذه الرؤية معتبرة شرعًا، وهي كرؤية الهلال عن طريق الدُّرْبِيل أو المناظير أو التلسكوبات أو نحوها.
الحالة الثانية: أن تكون رؤية الهلال بطريقة تجميع الصور وتكديس بعضها مع بعض؛ ليظهر الهلال. فهذه غير معتبرة، وليست رؤية شرعًا، ولا في معنى الرؤية.
الحالة الثالثة: تصوير الهلال تصويرًا طبيعيًّا من غير تكديس ولا معالجة، فهذه فيها تفصيل:
إذا أمكن رؤية الهلال بعدسة الكاميرا أثناء التصوير فتكون رؤية معتبرة.
أما إذا لم يمكن رؤية الهلال بها أثناء التصوير، فلا تكون رؤية معتبرة.
وحتى الآن لا يمكن رؤية الهلال عن طريق كاميرا CCD إلا نهارًا، فرؤية الهلال نهارًا غير معتبرة شرعًا.
لكن ما ندري، ربما في المستقبل يمكن رؤية الهلال عن طريق كاميرا CCD بعد الغروب، فإذا أمكن بعد الغروب فهل هي معتبرة شرعًا أو لا؟ تكون بهذا التفصيل الذي ذكرت.
أما في الوقت الحاضر الآن، فحسَب ما أعلم بأن تصوير الهلال عن طريق هذه الكاميرا إنما يكون نهارًا، والرؤية نهارًا غير معتبرة شرعًا.
حكم الاعتماد على الحساب الفلكي
ننتقل لمسألة الاعتماد على الحساب الفلكي.
الحقيقة أني فصَّلت في هذه المسائل لأهميتها؛ ولأنني ممن اهتم بهذه الموضوعات اهتمامًا خاصًّا وكتب فيها بحوثًا، وأيضًا خالطت فيها بعض المتخصصين فأحببت أن أفيد فيها.
وهذه -الاعتماد على الحساب الفلكي- كتبتُ فيها بحثًا، وطُبع الآن في كتيب صغير اعتمادًا على الحسابات الفلكية وأثرها في إثبات الأهلة.
لا يخلو أن ذلك في الإثبات أو في النفي:
في الإثبات معناه: أن يقدر الفلكيون أن الهلال يمكن أن يُرى، فلو لم يتقدم شاهد برؤيته: هل يثبت الشهر بمُوجَب الحسابات الفلكية؟ الجواب: لا يثبت؛ لأن الأصل هو إثبات الأهلة بطريق الرؤية لا بطريق الحساب.
فمثلًا؛ لو دل الحساب الفلكي على أن رؤية الهلال هذا الشهر أنها ممكنة بالعين المجردة، لكن لم يتقدم أحد بالشهادة برؤية الهلال، إما لوجود سحاب أو غيم أو قتر أو نحو ذلك، فهنا لا يثبت الشهر، وإنما يُكمِل الشهرُ ثلاثين يومًا.
فلا يُعتمد على الحساب في إثبات الشهر في هذه الحال، ليس لأن الحساب ظني، أو أنه يقع فيه الخطأ، الحساب قطعي، ولكن لأن الله تعالى جعل رؤية الهلال سببًا للصوم.
وقد بيَّن هذا القرافيُّ رحمه الله في كتابه “الفروق”، فقال في الفرق “بين قاعدة أوقات الصلوات يجوز إثباتها بالحساب والآلات وكل ما دل عليها، وبين قاعدة الأهلة في الرمضانات لا يجوز إثباتها في الحساب”.
ثم قال بعد ذلك: “مع أن حساب الأهلة والكسوفات والخسوفات قطعي، فإن الله أجرى عادته بأن حركات الأفلاك وانتقالات الكواكب السبع السيارة على نظام واحد طول الدهر بتقدير العزيز العليم”.
ثم قال بعد ذلك: “والفرق -وهو المطلوب ها هنا- هو عمدة السلف والخلف أنَّ الله نَصَب زوال الشمس سببًا لوجوب الظهر.
يعني يقول القرافي، حاصل كلامه يقول: إن الأهلة، لا يُعتمد في إثبات الأهلة على الحساب في جانب الإثبات، بينما يُعتمد في أوقات الصلوات على الحساب.
وبيَّن الفرق، ما هو الفرق؟ يقول: الفرق أنه بالنسبة لأوقات الصلوات أن الله تعالى نصب زوال الشمس سببًا لوجوب الظهر، وكذلك بقية الصلوات، قال تعالى: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء:78] أي: لأجله. فمتى عُلم السبب بأي طريق كان لزم حكمه.
أما الأهلة فلم يَنصب صاحبُ الشرع خروجَها من الشعاع سببًا للصوم، رؤية الهلال خارجًا من الشعاع هو السبب، فإذا لم تحصل رؤيةٌ لم يحصل السبب.
هذا فيه ردٌّ على من يقول: إذا كنتم تعتمدون على الحساب في إثبات أوقات الصلوات، فاعتمِدوا عليه أيضًا في إثبات الأهلة.
أجاب عن هذا القرافي، قال: إن أوقات الصلوات نصب الشارع العلامات سببًا لدخول الوقت، الزوال سببًا لدخول وقت صلاة الظهر مثلًا، غروب الشمس سببًا لدخول وقت صلاة المغرب.
فإذا عُلم هذا السبب بأي طريق، بالحساب أو بأي طريق؛ فيؤخذ به.
أما بالنسبة لإثبات دخول الشهر، فإنَّ الله تعالى لم ينصب الحساب سببًا لدخول الشهر، وإنما نصب الرؤية، فهذا هو الفرق، يعني: هذا فيه الرد على مَن قال بأنه يُعتمد على الحساب مطلقًا في النفي والإثبات مثل الشيخ أحمد شاكر والشيخ محمد رشيد رضا، ومن قال بهذا القول.
حكم الاعتماد على الحساب الفلكي في النفي
ثانيًا: حكم الاعتماد على الحساب الفلكي في النفي.
ما معنى ذلك؟ يعني: إذا دلت الحسابات الفلكية على استحالة رؤية الهلال، بأن يكون مثلًا القمر غَرَب قبل الشمس فلكيًّا، فتقدم شهودٌ برؤيته، هل تُقبل شهادتهم أو تُرد؟
هذه المسألة محلُّ اجتهادٍ ونظر، الفقهاء السابقون جمهورهم يرون عدم الاعتماد على الحسابات الفلكية مطلقًا، لكن كان قديمًا علم الفلك مختلطًا بالتنجيم، فكان الفلكي هو المنجم، وكانت سمعة الفلكيين سيئة.
ولذلك؛ تَعرفون قصيدة أبي تمام المشهورة لمَّا أراد المعتصم أن يغزو عَمُورِيَّةَ، فقال له المنجمون: لا، إن هناك كوكبًا في الغرب سيطلع وربما تنهزم. لكنه لم يسمع لقولهم، وذهب وغزا وانتصر، فقال أبو تمام قصيدته المشهورة:
السيف أصدقُ إنباءً من الكتب | في حَدِّه الحَدُّ بين الجِدِّ واللعب |
إلى أن قال:
وخَوَّفوا الناسَ مِن دَهْيَاء مُظْلِمة | إذا بدا الكوكب الغَرْبيُّ ذو الذَّنَب |
الكوكب الغربي ذو الذنب هو مُذنَّب “هَالِي”، لكن العرب لم يُسَمُّوه، أتى الغرب واكتشفوه بعد اكتشاف العرب بثمانمائة سنة، وسماه الذي اكتشفه “هالي”.
فلاحِظ هنا أن هؤلاء فلكيون لكنهم منجمون، اختلط علم الفلك بالتنجيم، فكانوا منبوذين في المجتمعات الإسلامية، وقولهم ليس له محل اعتبار.
أما في الوقت الحاضر، فقد انفصل علم الفلك عن التنجيم انفصالًا تامًّا، فليس له به علاقة، لا من قريب ولا من بعيد.
بعض الفقهاء السابقين، مَن لهم عناية بالفَلَك، ومنهم الإمام مالك، وله رسالة في منازل النجوم، وابن تيمية وابن القيم وابن السبكي، وأُثر عن مُطرِّف من التابعين، وابن السبكي، وبعض فقهاء الشافعية، أنهم قالوا: إنه يُعتمَد على الحساب الفلكي في النفي دون الإثبات.
يعني هذا القولُ: أنه يُعتمَد على الحساب الفلكي القطعي في النفي دون الإثبات، وهو اختيار الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله.
وهذا هو القول الراجح -والله أعلم- أن الحساب الفلكي القطعي يُعتمَد عليه في النفي دون الإثبات؛ يعني: إذا دلَّت الحسابات الفلكية على أن القمر غَرَب قبل الشمس، فأتى شاهد وقال: إني رأيتُ الهلالَ بعد غروب الشمس، فرُؤية هذا الشاهد وَهْمٌ؛ لأننا رأينا أن هذه الحسابات الفلكية بالنسبة لغروب الشمس حسابات صحيحة، يعني: لم تنخرم، إذا تتبعناها من أول الشهر إلى آخره وجدناها صحيحة، مثل شروق وغروب الشمس، بل إن معادلة شروق وغروب القمر هي نفسها معادلة شروق وغروب الشمس، إلا أنَّ الخلاف فقط في المُدخَلات والمُخرَجات.
فإذا كنت ستشك في حساب غروب القمر الفلكي، فشُكَّ أيضًا في حساب غروب الشمس الفلكي، ولا تُفطر في نهار رمضان حتى تصعد السطح، وترى هل غربت الشمس بالفعل أو لا؟ والناس يعتمدون الآن على الحسابات في غروب الشمس، وفي أوقات الصلوات؛ لأنهم وجدوا أن هذه الحساباتِ حساباتٌ دقيقة.
وكذلك أيضًا في غروب القمر، فإذا غرب القمر قبل الشمس، ثم أتى الشاهد وشهد بأنه قد رأى الهلال بعد غروب الشمس، لا نقبل شهادته؛ لأنه يُشترط لصحة الشهادة أن تنفك عما يُكذِّبها.
فإن قال قائل: إذا كان الشاهد عدلًا، فلماذا لا نقبل شهادته؟ الجواب: نقول: الشهادة لا بد أن تنفك عما يكذبها، أرأيتَ لو أتى شاهدان عدلان أو أكثر في يوم السابع والعشرين من شهر رمضان أو يوم السادس والعشرين، وقالوا: إنا رأينا الهلال غرب بعد الشمس، هل نقبل شهادتهم؟ ما نقبلها، حتى وإن كانوا عدولًا، نعرف بأنهم قطعًا متوهمون، فكذلك أيضًا هنا.
فإذن؛ القول الراجح: أنه يُعتمَد على الحساب الفلكي القطعي في النفي دون الإثبات.
ابن تيمية رحمه الله هو مِن أبرز العلماء الذين قالوا: لا يُعتمَد على الحساب. لكن مع ذلك لاحِظ في صفحة 31، في آخرها له كلامٌ يقول: “إذا كان بعد الهلال عشرين درجة، فهذا يُرى”.
ما معنى عشرين درجة؟ يعني: اضرِب عشرين في أربعةٍ، الدرجةُ أربعُ دقائق، يعني: إذا كان يَغرُب القمر بعد الشمس بثمانين دقيقة، يعني: هذا وقت طويل.
“فهذا يُرَى ما لم يَحُل حائلٌ، وإذا كان على درجةٍ واحدة فهذا لا يُرَى”؛ يعني إذا كان القمرُ يَغرُب بعد الشمس بأربعِ دقائق فهذا لا يُرى.
“وأما ما حول العشرة”، مثل -مثلًا- هلال شهر شعبان، في هلال شهر شعبان كان القمر يغرب بعد الشمس بنحو درجة، ما تقدَّم للرؤية أحد، وأما ما حول العشرة؛ يعني إذا كان القمر يغرب بعد الشمس بنحو أربعين دقيقة، “فالأمر يختلف فيه باختلاف أسباب الرؤية”.
فتأمل قول الشيخ: “إذا كان على درجة واحدة، هذا لا يرى”، مع أن شيخ الإسلام لا يرى أصلًا الاعتماد على الحساب، لكنه في هذه المسألة يظهر أنه يرى الاعتماد على ذلك؛ لأنه قال: إذا كان على درجة واحدة فهذا لا يُرى؛ لأنه ينافي ما هو معلوم من سنن الله .
طيب، إذن نخلص من هذه المسألة إلى أن القول الراجح: أن الحسابات الفلكية القطعية يُعتمد عليها في النفي دون الإثبات.
وبهذه المناسبة، يعني علم الفلك الشرعي يلاحَظ قلةُ اعتناءِ كثيرٍ من طلاب العلم به، وربما أنهم لم يدرسوه في المدارس لا في الابتدائية ولا متوسط ولا الثانوية ولا الجامعة، ولا حتى الدراسات العليا، ولا في المساجد، كثير منهم خالي الذهن عن هذا العلم؛ ولذلك؛ يكثر فيه الخطأ والتوهم والجهل.
ولذلك؛ فنحن في حاجة لإبراز على الأقل المسائل التي يُحتاج إليها في جانب علم الفلك الشرعي العملي والتوعية بها.
شروط وجوب الصيام
ننتقل بعد ذلك لقول المصنف:
فصل: وشرط وجوب الصوم أربعة أشياء.
قسَّم المؤلف شروط وجوب الصوم إلى: شروط وجوب، وإلى شروط صحة.
ابتدأ أولًا بشروط الوجوب:
أولًا: الإسلام.
وهو شرطٌ لجميع العبادات؛ لأن الصوم يُشترط له النية، والنية لا تصح من كافر.
الثاني: البلوغ.
فلا يجب الصوم على غير البالغ؛ لأنه مرفوعٌ عنه القلم.
الثالث: العقل.
لا يجب الصوم على المجنون أيضًا؛ لأنه مرفوعٌ عنه القلم.
حكم العجز عن الصوم
الرابع: القدرة عليه.
ثم وضَّح المؤلف هذا الشرط، فقال:
فمَن عجز عنه لكِبَر أو مرضٍ لا يُرجى زواله، أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينًا.
فإذا كان يُشترط لوجوب الصوم أن يكون قادرًا على الصوم، إذا لم يكن قادرًا فلا يجب عليه، لكن إذا كان عجزه لكبرٍ أو مرض لا يُرجى بُرْؤه أطعم عن كلِّ يوم مسكينًا، أما إذا كان عَجْزه لمرضٍ يُرجى برؤه قضى، فإن مات من يلزمه الإطعام ولم يُطعَم عنه فيُطعَم عنه مِن تَرِكَتِه، فإن لم يكن له تركة وتبرَّع عنه بعضُ ورثته بالإطعام برئت بذلك ذمته إن شاء الله.
طيب، هذا الإطعام يجوز أن يُفرَّق على ثلاثين مسكينًا، ويجوز أن يُعطى مسكينًا واحدًا، أو مسكينين أو ثلاثة. فلا يشترط استيعاب العدد، وإنما لا بد من أن يكون الإطعام بمقدار إطعام ثلاثين مسكينًا.
هل يجوز إخراج الإطعام مُقدَّمًا في أول الشهر، أو يجب إخراجُ كلِّ يومٍ بيومه؟ هذا محلُّ خلافٍ، طبعًا المالكية أصلًا لا يرون وجوب الإطعام، وإنما هو مستحب، بينما المذاهب الثلاثة اختلفوا على قولين:
- القول الأول: يجوز إخراج الطعام عن الشهر كاملًا أول رمضان، كما يجوز تأخيره إلى آخر الشهر، هذا هو مذهب الحنفية، قالوا: لأن صيام شهر رمضان عبادة واحدة، فهو كاليوم الواحد.
- القول الثاني: أنه لا يجوز الإطعام عن الشهر كاملًا في أول شهر رمضان، بل يُطعَم عنه في كل يوم بيومه، أو يؤخر الإطعام إلى آخر الشهر أو ما بعده.
وهذا هو مذهب الشافعية والحنابلة، وقالوا: بأن صيام كل يوم عبادة مستقلة عما قبلها وعما بعدها، بدليل: أنه لو فسد صيام يوم لم يفسد اليوم الذي قبله، ولا اليوم الذي بعده.
وللقاعدة الشرعية وهي: أن العبادات لا يجوز تقديمها على سبب وجوبها، ويجوز تقديمها بعد سبب الوجوب وقبل شرط الوجوب. هذه قاعدة ذكرها ابن رجب رحمه الله تعالى.
أعيد القاعدة مرة أخرى: أن العبادة لا يجوز تقديمها على سبب الوجوب، ويجوز تقديمها بعد سبب الوجوب وقبل شرط الوجوب.
فلا يجوز تقديم مثلًا الكفارة قبل سببها، يعني: يقول: أنا الآن سأدفع كفارة يمين، حتى إذا حلفت تكون هذه الكفارة عما سأحلف؛ هذا لا يصح. لكنه لو حلف وقبل أن يحنث كفَّر فيصح في هذه الحال؛ لأنه أخرج الكفارة بعد سبب الوجوب وقبل شرط الوجوب.
والقول الراجح -والله أعلم- هو القول الثاني، وهو أنه لا يجوز تقديم الإطعام في أول شهر رمضان، وأن الإطعام إنما يكون عن كل يوم بيومه، أو يؤخر الإطعام إلى آخر رمضان، أو إلى ما بعد رمضان.
ومما يدل لذلك: أننا نطرح سؤالًا على القائلين بجواز تقديم الإطعام في أول رمضان، نقول: طيب، ما الفرق بين واحد رمضان وبين ثلاثين شعبان؟ هل يجوز تقديم الإطعام لثلاثين شعبان؟ يقولون: لا.
طيب، ما الفرق؟ لا فرق في الحقيقة، إذا أجزت تقديم الإطعام إلى أول رمضان فأجزه -طيب- إلى ثلاثين شعبان، فلا فرق في الحقيقة بينها.
ولذلك؛ فالقول الراجح: أن الإطعام يُخرَج عن كلِّ يوم بيومه، أو يؤخر الإطعام ويخرج كله في آخر رمضان أو بعد رمضان.
حدد المؤلف مقدار الإطعام، قال:
مُدَّ بُرٍّ أو نصفَ صاعٍ من غيره.
لآثار وردت عن الصحابة.
والقول الراجح: أن الإطعام يكون بكل ما يسمى إطعامًا عُرفًا، كما اختار ذلك ابن تيمية رحمه الله؛ لعموم النصوص؛ لأن التحديدَ بابُه التوقيف، ويحتاج إلى دليل.
وعلى ذلك، فعلى القول الراجح: أن المرجع للعُرف؛ فلو جمع ثلاثين مسكينًا فغدَّاهم أو عشَّاهم أجزأ كما كان أنس بن مالك يفعل.
إذن، هذه هي شروط الوجوب.
شروط صحة الصيام
ثم انتقل المؤلف إلى شروط الصحة، وهي التي إذا تخلَّف واحد منها لم يصح الصوم، قال:
وشروط صحته ستة: الإسلام.
لما سبق من أن الصوم يحتاج إلى نية، والنية لا تصح من كافر.
وانقطاع دم الحيض والنِّفاس.
وهذا بالإجماع.
والرابع: التمييز.
هنا ذكر المؤلف التمييز من شروط الصحة، ولم يذكر من شروطه الوجوب؛ لأن الصوم يصح من المميِّز لأنه يعقل النية، فيصح الصوم منه كما تصح الصلاة، لكنه لا يجب عليه لأنه مرفوعٌ عنه القَلَمُ.
لكن، هل يجب على وليه أن يأمره؟ هذا محل خلاف، المؤلف قال:
قياسًا على الصلاة؛ لقول النبي : مُرُوا أولادَكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضرِبوهم عليها وهم أبناء عشر[20].
القول الثاني: أنه يُستحب للولي أن يأمر الصبي المميز، ولا يجب. وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء، وهو القول الراجح؛ لأن القول بإيجابه على الولي مع عدم وجوب الصوم على المميز لا يستقيم.
الخامس: العقل.
فلا يصح الصوم من المجنون باتفاق العلماء؛ لأن الصوم يحتاج إلى نية، فهو إمساك بنية، والنية لا تصح من المجنون.
وكذلك المُغْمَى عليه جميعَ النهار لا يصح منه الصوم؛ لأنه إمساك بنية، والنية لا تكون من المغمى عليه جميع النهار.
قال المؤلف:
لكن لو نوى ليلًا ثم جُنَّ، أو أُغمِيَ عليه جميعَ النهار وأفاق منه قليلًا؛ صحَّ.
إذا أفاق المجنون أو المُغْمَى عليه ولو لحظةً صحَّ الصوم.
فلو نوى الصومَ ليلًا، وصام ثم صرع مثلًا أو جُنَّ، أو أُغمي عليه جميعَ النهار إلا أنه أفاق قليلًا؛ صحَّ صومه؛ لأنه يصح إضافة الإمساك إليه في ذلك الوقت؛ لوجود الإمساك بنيةٍ منه في الجملة.
أما المُغْمى عليه جميعَ النهار، أو المغمى عليه أيامًا؛ فلا يصح صومه. لكن، هل يلزمه القضاء؟ نعم، يلزمه القضاء عند المذاهب الأربعة.
إذن، المغمى عليه إذا أفاق يجب عليه قضاء ما فاته من الصيام، وأما الصلاة فقد سبق القول بأن القول الراجح أن المدة إذا كانت قصيرة في حدود ثلاثة أيام فأقل فيجب عليه قضاء تلك الصلوات، وإذا كانت طويلة فلا يجب.
هذا رجل كان مثلًا في المستشفى مُغمًى عليه مدةَ شهرٍ أو شهرين أو ثلاثة أو أكثر، ولم يصم معها شهر رمضان، ثم أفاق، هل يؤمر بقضاء الصلوات في هذه المدة وبقضاء صيام شهر رمضان الذي مر عليه في هذه المدة؟
نقول: أما الصيام فيؤمر بقضائه، وأما الصلوات فلا يؤمر بقضائها.
فإن قال قائل: لماذا فرَّقتم بين الصوم والصلاة؟ نقول: الشريعة فرقت بين قضاء الصوم والصلاة، فالحائض تؤمر بقضاء الصوم، ولا تؤمر بقضاء الصلاة، ولعل الحكمة -والله أعلم- هي أن الصلاة تتكرر فيشق قضاؤها، بينما الصوم لا يشق قضاؤه في الغالب.
هل يقاس مَن نام جميع النهار على المغمى عليه؟ الجواب: لا يقاس عليه، مَن نام جميع النهار يصح صومه؛ لأن النوم لا يزول به الإحساس بالكلية، فإنه إذا نُبِّه انتبه، بخلاف المغمى عليه إذا نُبِّه لم ينتبه، فقياس النائم على المغمى عليه قياس مع الفارق.
إذن، خلاصة الكلام في المسائل السابقة:
- المغمى عليه جميع النهار لا يصح صومه، ويؤمر بالقضاء، فإذا أُغمي عليه أكثر النهار وأفاق جزءًا منه صح صومه.
- النائمُ جميعَ النهار يصح صومه.
- المجنون إذا جُنَّ جميعَ النهار لا يصح صومه، وإذا جُنَّ أكثر النهار أو أفاق جزءًا من النهار صحَّ صومه.
قال المصنف رحمه الله:
السادس: النية من الليل لكل يوم واجب.
لقول النبي : من لم يجمع صيامه قبل الفجر فلا صيام له[21].
وهذا وإن رجَّح بعضُ الحُفَّاظ وَقْفه، إلا أن العمل عليه عند أهل العلم، ومن جهة النظر أن الصوم الواجب لا بد فيه من أن تكون النية شاملة لجميع النهار؛ لأن الصوم إمساك بنية، فحتى تكون النية شاملة لجميع النهار لا بد من أن ينوي الصيام قبل طلوع الفجر.
ثم وضَّح المؤلف المقصود بتبييت النية، فقال:
فمَن خطر بقلبه ليلًا أنه صائم فقد نوى.
هذا معنى تبييت النية: أن يَخطِرَ بقلبه أنه صائم، وإذا علم أن غدًا من رمضان فقد نوى، كما قال ابن تيمية رحمه الله: “إن النية تتبع العلم”.
وكذا الأكل والشرب بنية الصوم.
يُعتبر هذا نية؛ ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: “مَن يعلم أن غدًا من رمضان، وهو مسلم يعتقد وجوب الصوم، وهو مريد للصوم، فهذه نية الصوم، وهو حين يتعشَّى يتعشى عَشاءَ مَن يريد الصوم؛ ولهذا يُفرِّق بين عشاء ليلة العيد وعشاء ليالي شهر رمضان، فليلة العيد يعلم أنه لا يصوم فلا يريد الصوم ولا ينويه، ولا يتعشى عشاء من يريد الصوم”.
وهذا المسألة، بعض الناس يبالغ فيها إلى درجة الوسوسة! نقول: النية تتبع العلم، فإذا علمت أن غدًا من رمضان فقد نويت، فلا تُشدِّد في هذه النية؛ لأن هذا التشديد يؤدي إلى الوسواس.
ولا يضر إن أتى بعد النية بمُنافٍ للصوم.
يعني: إذا نوى أنه يصوم غدًا، ثم إنه أكل أو شرب فهذا لا يضر.
أو قال: إن شاء الله.
قال: سأصوم غدًا إن شاء الله.
وإنما من باب التبرك، فلا يضر، أما لو قالها مترددًا فإن الصوم لا يصح.
وكذا لو قال ليلة الثلاثين من رمضان: إن كان غدًا من رمضان ففَرْضي، وإلا فمُفطِر.
يعني: إذا قال ليلة الثلاثين من رمضان: إن كان غدًا من رمضان فأنا صائم، وإلا فأنا مفطر، فيصح صومه مع أن فيه ترددًا؛ لأن الأصل بقاء الشهر.
لكن، هذا! لاحِظ ليلة الثلاثين من رمضان. طيب، ماذا إذا كان العكس؟!
ويضر إن قاله في أوله.
يعني: إن قال ليلة الثلاثين من شعبان: إن كان غدًا من رمضان فأنا صائم وإلا فأنا مفطر؛ فلا يصح صومه.
ففرَّقوا بين مسألتين، قالوا: لأنه تردَّد في النية، والنية لا بد فيها من الجزم، لكن فرَّقوا بين أن يقول ذلك ليلة الثلاثين من رمضان، وأن يقول ذلك ليلة الثلاثين من شعبان؛ لأنه لو قال ذلك ليلة الثلاثين من رمضان فالأصل هو الصوم وبقاء الشهر فلا يضر، أما إذا قال ذلك ليلة الثلاثين من شعبان فالأصل هو الفطر وبقاء شعبان فلا يصح صومه.
والقول الثاني في المسألة: أنه حتى لو قال ذلك ليلة الثلاثين من شعبان فصومه صحيح، وهذا هو القول الراجح؛ لأن تردده ليس ترددًا في النية، وإنما هو تردد في ثبوت الشهر.
وهذا، كان الناس في السابق يحتاجون لمثل هذه المسائل؛ لأن الإعلان عن دخول الشهر كان يتأخر، بعض الناس ينام بعد صلاة العشاء ويقول: إن كان غدًا من رمضان فأنا صائم، ثم لا يستيقظ إلا بعد طلوع الفجر، فعلى المذهب صومه غير صحيح، وعلى القول الراجح صومه صحيح.
هل يُشترط تبييت النية لكل يومٍ أو يكفي أن ينوي أولَ الشهر؟
المذهب عند الحنابلة أنه لا بد من نية لكل يوم، والقول الثاني: أنه يكفي أن ينوي الصيام أول شهر رمضان، وهذا هو القول الراجح، إلا إذا قَطَع الصوم لعذرٍ فلا بد من تجديد النية.
كامرأة أتتها الدورة الشهرية مثلًا، فقطعت الصوم لأجل الدورة الشهرية، ثم بعد ذلك أرادت أن تصوم، هنا لا بد أن تُبيِّت النية مرة أخرى وتجدد النية.
أو مثلًا إنسان سافر أثناء رمضان وأفطر، ثم بعد ذلك أراد أن يصوم، فهنا لا بد من تجديد النية.
قال:
وفَرْضُه الإمساك عن المُفطِّرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس.
إنما قال المؤلف ذلك احترازًا عن السنن، فَرْض الصوم (الإمساك عن المفطرات) التي سيأتي الكلام عنها بالتفصيل (من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس)؛ لقول الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، وقول النبي : لا يَغُرَّنَّكم مِن سَحُوركم أذانُ بلالٍ ولا بياضُ الأُفُقِ المستطيلُ هكذا، حتى يستطير هكذا[22]. المستطيل يعني: الفجر الكاذب، والمستطير بالراء الفجر الصادق.
فالفجر الكاذب هذا لا يترتب عليه حكم شرعي، هذا يكون على شكلٍ هرمي، لكنه يخدع مَن لا يعرفه، سواء في دخول وقت الفجر، أو بالنسبة للصيام؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: لا يَغُرَّنَّكم الساطِعُ المُصْعِد حتى يعترض لكم الأحمر[23].
أما المستطير: المنتشر في الأفق، وهو الفجر الصادق المُعترِض من الشمال إلى الجنوب، ويكون واضحًا ومعترضًا، ويزداد نوره شيئًا فشيئًا، وينفجر، وهو الذي يكون عنده الإمساك، ويكون عنده.. يعني يبتدئ عنده وقت صلاة الفجر.
سنن الصيام
ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن سنن الصيام، قال:
وسننه ستة: تعجيل الفطر.
لقول النبي : لا يزال الناس بخيرٍ ما عجَّلوا الفِطر[24]، فالسنة أن الصائم يبادر بالفطر من حين غروب الشمس.
جاء في رواية أحمد: وأَخَّروا السُّحور[25]، لكنها رواية ضعيفة لا تثبت، وإن كان صاحب “منار السبيل” ذَكَرها لكنها لا تَثبُت؛ المحفوظ هو رواية الصحيحين: لا تزال أمتي بخير أو لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر[26].
وتأخير السُّحور.
تأخير السحور سُنة، كان النبي عليه الصلاة والسلام مِن هَدْيِه أنه كان يؤخر السُّحور، كما قال زيد بن ثابت، حدث به أنسٌ عن زيد بن ثابت قال: تسحَّرنا مع النبي ، ثم قام إلى الصلاة، قلت: كم كان بين الأذان والسُّحور؟ قال: قَدْرُ خمسين آية[27].
وجاء في رواية الطبراني: قَدْر قراءة سورة الحاقة، الحاقة اثنان وخمسون آية[28]، وقدَّرها ابن حجر بثُلُثِ خُمس ساعة، يعني: في حدود أربع دقائق، مقدار ما يتوضأ الرجل.
وهذا يدل على أنه لم يكن في عهد النبي الفاصلُ بين الأذان والإقامة طويلًا، وإنما كان في حدود أربع أو خمس دقائق، وهكذا أيضًا بقية الصلوات، هذا هو الأقرب للسُّنة.
هنا استطراد عن الكلام في وقت صلاة الفجر موجود أمامكم، لا يحتاج أن نقف عنده.
إذن، السنة تأخير السُّحور، هذا من السنن. وأيضًا من السنن، قال:
والزيادة في أعمال الخير.
يُستحب أن يزيد المسلم ويضاعف من أعمال الخير في رمضان؛ لأن العبادة كما تَشْرف بشرف المكان، فهي أيضًا تشرف بشرف الزمان، فينبغي أن تكون حال المسلم في رمضان خيرًا من حاله قبل رمضان؛ فقد كان النبي أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان[29].
وقولُه جَهْرًا إذا شُتِمَ: “إني صائم”.
لقول النبي : فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم[30].
لكن، قول المؤلف هنا (جهرًا)؛ يعني: يستحب أن يقول هذا، (جهرًا) هذه فيها ثلاثة أقوال:
- القول الأول: أنه يقول جهرًا بلسانه في الصوم والنفل.
- القول الثاني: أنه يقول ذلك في نفسه خوفًا من الرياء.
- القول الثالث: أنه في الفرض يجهر بلسانه، وفي النفل يقول ذلك في نفسه.
والراجح هو القول الأول، واختاره ابن تيمية رحمه الله، وكذلك ابن القيم رحمة الله على الجميع؛ لعموم الحديث؛ فإن النبي لم يفرق بين الفرض والنفل؛ ولأن القول المطلق لا يكون إلا باللسان.
ثم إذا قال بلسانه: “إني صائم” يبين عذره في إمساكه عن الرد؛ ليكون في هذا زجر وردع لمن بدأه بالعدوان.
وأيضًا من السنن، قال:
وقولُه عند فِطره: اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، سبحانك وبحمدك، اللهم تقبَّل مني إنك أنت السميع العليم.
هذا قد جاء في حديث، لكنه ضعيف، جميع طرقه معلولة؛ ولذلك لا يُؤتى بهذا الدعاء على أنه سُنة، لكن جاء في حديث ابن عمر وهو حديث حسن بمجموع طرقه: أن النبي كان إذا أفطر، قال: ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله[31]، لكن يقول ذلك إذا ظمئ بالفعل، أما إذا كان لم يظمأ فلا يقول “ذهب الظمأ”؛ لأنه يكون غير صادق في ذلك.
وجاء في حديث عبدالله بن عمرو: أن النبي قال: إنَّ للصائم عند فِطْره دعوةً ما تُرَدُّ [32]، وجاء في حديث أبي هريرة: ثلاثة لا تُرَد دعوتهم وذكر منهم: الصائم حتى يفطر[33].
ولهذا؛ ينبغي للمسلم عندما يريد أن يُفطر أن يغتنم اللحظات التي تسبق فطره بالدعاء؛ لأن الفطر في هذا الوقت حَرِيٌّ بالإجابة، ولا يتقيد بدعاء: اللهم لك صمت؛ لأن الحديث كما ذكرنا ضعيف، لكن يدعو بما يَحضُره من خيري الدنيا والآخرة.
فهذا الموضع من مواضع إجابة الدعاء، اللحظات التي تسبق الإفطار، استقبِل القبلة، وارفع يديك، وادع الله ؛ فإن للصائم عند فطره دعوة ما ترد.
نختم بهذه المسألة، قال:
وفِطْرُه على رُطَبٍ، فإن عُدِمَ فتَمْرٍ، فإن عُدِم فماءٍ.
لحديث سلمان بن عامر: إذا أفطر أحدكم فَلْيُفطر على تمر، فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور. أخرجه أحمد وأبو داود[34]، وهو ثابت بمجموع الطرق؛ ولهذا قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وجاء في حديث أنس قال: كان رسول الله يُفطر على رُطَبات قبل أن يُصلِّي، فإن لم تكن رُطَبات فعلى تَمَرات، فإن لم تكن حَسَا حَسَوَات من ماءٍ. أخرجه أحمد[35]، وهو أيضًا ثابت بمجموع طرقه.
فالسنة أن يكون الإفطار على رُطَب، فإن عُدِم فتمرٍ، فإن عدم فماءٍ.
ونقف عند قول المصنف: (يَحرُم على مَن لا عذر له الفطر برمضان).
نكتفي بهذا القدر من التعليق على “السلسبيل”.
والآن نجيب عما تيسر من الأسئلة.
الأسئلة:
السؤال: يقول: ما صحة حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : إذا سمع أحدكم النداءَ والإناءُ في يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه[36]؟
الجواب: الحديث في سنده مقال، لكنه ثابت بمجموع طرقه، وله ستة طرق، هو بمجموع الطرق ثابت، وإن كان في طريقه عند أبي داود، في سنده مقال كما قال أبو حاتم، لكن بمجموع الطرق ثابت.
السؤال: مِن حق المسلم على المسلم أن يسلم عليه، هل هو واجب أو سُنة؟
الجواب: ابتداء السلام سُنة، وردُّ السلام واجب، فابتداء السلام سنة يثاب عليها المسلم ويؤجر عليها، ولكن إذا سلم عليك أحد فيجب عليك أن ترد عليه السلام، فإن لم ترد عليه السلام فتأثم بذلك.
السؤال: يقول: هناك بعض الهاشتاجات يقول: أتمنى توجيه نصيحة؛ لأننا نرى بعض الهاشتاجات والمقاطع تنشر الكراهية والبغضاء بين المسلمين؟
الجواب: من يضع وسمًا أو هاشتاج، فكل من يكتب في هذا الهاشتاج: إن كتب أمرًا فيه معصية لله فإن الذي وضع هذا الهاشتاج يتحمل مثل أوزار جميع من كتبوا في هذا الهاشتاج؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور مَن تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومَن دعا إلى ضلالة كان عليه أوزار مثل أوزار من تبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا[37].
وكذلك، إذا كان الهاشتاج فيه دعوة إلى الخير، ودعوة للفضيلة، فكتب الناسُ فيه نصائح؛ يكون له أجور، فإذا وضع هاشتاج يكتب فيه ما يُغضب الله ، فإن الذي وضع هذا الهاشتاج يكون عليه ذنوب مثل جميع ذنوب الذين كتبوا فيه كتابات سيئة.
فعلى مَن يضع الهاشتاج أن يتقي الله ، وبخاصة الهاشتاجات التي تكون متعلقة بأعراض المسلمين، فالتي تكون متعلقة بأعراض المسلمين، عندما يضع إنسان هاشتاج عن مسلم، فيقع الناس في عرضه، فما أعظم مصيبته عند الله ، يتحمل مثل ذنوب وآثام جميع من كتب في هذا الهاشتاج. فالمسألة خطيرة.
فعلى المسلم أن يتقي الله ، وأن يستحضر بأن مُقَامَه في هذه الدنيا قصير، وأن هذه الدنيا دار ممر وعبور، وأن الله قد وكَّل به مَلكَيْن يكتبان كل شيء: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
السؤال: سيد الاستغفار، مَن قالها وهو موقن به ومات دخل الجنة، هل دخوله الجنة بالفطرة بدون حساب، أو بماذا؟
الجواب: هذا مِن نصوص الوعد، ويُمَرر على ظاهره؛ يعني مَن قاله وأتى بالشروط، لكن من أتى بهذا الذكر لكنه مثلًا لا يصلي ولا يصوم، لا يقال: إنه يدخل الجنة مثل هذا.
فمعنى ذلك: مَن أتى به وأتى أيضًا بالشروط الأخرى، وأتى بالأسباب واجتنب الموانع، هذا مِن نصوص الوعد.
لا بد مِن أن يُنظَر للنصوص مجتمعةً، لا يؤخذ بطَرَفٍ ويُترك طرف آخر، هذه طريقة أهل البدع المرجئة، أخذوا بنصوص الوعد وتركوا نصوص الوعيد. والخوارج والمعتزلة أخذوا نصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد. وأهل السنة والجماعة وفَّقهم الله للجمع بين نصوص الوعد والوعيد.
فمعنى ذلك: أن من قال سيد الاستغفار ومات دخل الجنة، يعني: إذا حقق بقية الشروط دخل الجنة.
السؤال: ما الراجح في الدواجن المستوردة من بلاد غير المسلمين؟
الجواب: إذا كانت مستوردة من بلدان أهل الكتاب فلا بأس بها؛ لأن الأصل في ذبائح أهل الكتاب الحل، وقد جاء في “صحيح البخاري” من حديث عائشة: أن قومًا أتوا النبي فقالوا: يا رسول الله، إن قومًا يأتوننا بلحم ولا ندري: أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ قال: سَمُّوا أنتم وكلوا[38].
يعني: ابنوا على الأصل، والأصل هو الحل، وافعلوا ما يُطلَب منكم، وهو أن تُسَمُّوا أنتم على الأكل، فإذا أتى مِن أمة من أهل الكتاب اليهود أو النصارى فالأصل فيه الحل.
فمثلًا الدواجن المستوردة من البرازيل أو من فرنسا، الأصل فيها الحل والإباحة، ما لم تعلم بأن هذه الدواجن بعينها، أنها مثلًا ذُبحت بالصعق، أو نحو ذلك، أو ذبحها غير مسلم، وغير كتابي، لكن إذا كنت لا تعلم فتبني على الأصل، وهو أن الأصل في ذلك الحل والإباحة.
كون الإنسان يتورَّع لنفسه، ولا يأكل إلا من الذبائح المحلية التي يذبحها مسلمون، هذا من باب الورع، لكن كحكم شرعي فالأصل في ذبائح أهل الكتاب الحل؛ لأن الله تعالى أباح لنا ذبائحهم، وهذا خاص بأهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى دون غيرهم من الكفار.
السؤال: رجل من ذوي الإعاقة، يجد أحيانًا صعوبة في الدخول والخروج لدورة المياه، هل يجوز له التيمم في هذه الحالة إذا لم يجد من يساعده على ذلك؟
الجواب: القاعدة في هذا هي قول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، وقول النبي : وما أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم[39].
فنقول لهذا: يتقي الله تعالى ما استطاع، من استطاع أن يَدخل دورة المياه ويتوضأ أو يجد من يساعده فعل، وإن لم يستطع فإنه يتيمم، والله تعالى يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].
السؤال: من كان يذهب إلى بلد آخر مدة خمسة عشر يومًا، ثم يرجع وقد حدد زمن إقامته مدة سنة كاملة، هل يقصر أو لا يقصر؟
الجواب: مسائل القصر يكثر فيها الكلام، ويكثر فيها الخلاف:
أولًا: إذا كانت المسافة أقل من ثمانين كيلو فطبعًا هذا لا يقصر، وإذا كانت أكثر من ثمانين كيلو: فإذا كان سيذهب ويعود فهذا يقصر، لكن إذا كانت إقامته أقل من عشرين يومًا فإنه أيضًا يترخص برخص السفر على القول الراجح، وإذا كانت إقامته أكثر من عشرين يومًا فلا يترخص برخص السفر.
لكن، مَن كان عنده مِلْك مِن بيت أو مزرعة أو استراحة، فهل يترخص برخص السفر أو لا؟ هذه المسألة ترجع إلى مسألة تحقيق المناط، يعني: هل هو في العُرف يعتبر مسافرًا أو مقيمًا؟ هل يُغلَّب جانب السفر أو جانب الإقامة؟ الأصل في الإنسان هو الإقامة وليس السفر، ولا نَصِفُه بأنه مسافر إلا بشيء واضح.
طيب، هذا الإنسان عنده بيت في بلد آخر، بيتٌ مِلْكٌ أو مزرعة ملك في بلد آخر. طيب هل هو في عُرف الناس يعتبر مسافرًا أو مقيمًا؟ طيب، ننظر لبعض المُحدِّدات للعُرف، منها مثلًا: إذا أفطر في نهار رمضان أمام الناس، هل الناس يَعتبرونه مسافرًا في عرفهم، أو ينكرون عليه؟ لو أنه بعد صلاة الظهر أتى أمام الناس وقام يتغدى في نهار رمضان، فهل الناس ينكرون عليه أو يُقِرونه ويقولون: أنت معذور وأنت مسافر؟
الواقع أن الناس يُنكرون عليه، لا يعتبرونه مسافرًا وهو في بيتٍ مِلْكٍ أو في مزرعته وهي مزرعة يملكها، يُنكرون عليه.
وأيضًا من المُحدِّدات أن الإنسان يتبسط فيما يملكه ويدعو الناس ويعزمهم، وهذا واقع في الشيء الذي هو مِلك له، إذا كان عنده بيتٌ مِلْكٌ تجد أنه يدعو الناس للقهوة، للشاي، للوليمة، وكذلك إذا كان له مزرعة ملك، بينما لو لم يكن له ملك ما فعل هذا.
فهذا يرجح القول بأنه لا يترخص برخص السفر، وقد رُوي نحو هذا عن ابن عباس ، وهو المذهب عند الحنابلة: أنه لا يترخص برُخَص السفر، فهو أشبه بمن له زوجتان: زوجة في بلد، وزوجة في بلد آخر؛ لا يترخص برخص السفر، لا في هذا البلد، ولا في البلد الآخر.
ثم أيضًا عند الشك وعند الاختلاف: هل هو مسافر أو مقيم؟ نرجع للأصل، وهو أن الأصل الإقامة.
ثم أيضًا إذا أتمَّ ولم يَقصُر فقد برئت ذمته عند جميع العلماء، إذا قصر فعند طائفة من أهل العلم أن صلاته لا تصح؛ فالأحوط والأبرأ للذمة أنه لا يترخص برُخَص السفر في هذه الحال.
ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 8، ومسلم: 16. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 37، ومسلم: 759. |
^3, ^30 | رواه البخاري: 1904، ومسلم: 1151. |
^4 | رواه أحمد: 22195، والنسائي: 2220. |
^5 | رواه البخاري: 1975، ومسلم: 1159. |
^6 | رواه البخاري: 1592، ومسلم: 1125. |
^7 | رواه البخاري: 1909، ومسلم: 1081. |
^8 | رواه البخاري: 1906، ومسلم: 1080. |
^9 | رواه البخاري: 1907، ومسلم: 1080. |
^10 | رواه مسلم: 1080. |
^11 | رواه البخاري: 1914، ومسلم: 1082. |
^12 | رواه البخاري معلقًا: 3/ 27، وأبو داود: 2334، والترمذي: 686، والنسائي: 2188، وابن ماجه: 1645. |
^13 | رواه أبو داود: 2342. |
^14 | رواه أبو داود: 2340، والترمذي: 691، والنسائي: 2113. |
^15 | رواه أحمد: 18895، والنسائي: 2116. |
^16 | رواه البخاري: 2807، |
^17, ^26 | سبق تخريجه. |
^18 | رواه الترمذي: 802. |
^19 | رواه البخاري: 1900، ومسلم: 1080. |
^20 | رواه أحمد: 6756، وأبو داود: 495. |
^21 | رواه أحمد: 26457، وأبو داود: 2454، والترمذي: 730، والنسائي: 2333. |
^22 | رواه مسلم: 1094. |
^23 | رواه أبو داود: 2348، والترمذي: 705. |
^24 | رواه البخاري: 1957، ومسلم: 1098. |
^25 | رواه أحمد: 21312. |
^27 | رواه البخاري: 1921، ومسلم: 1097. |
^28 | رواه الطبراني في “الكبير”: 4792. |
^29 | رواه البخاري: 6، ومسلم: 2308. |
^31 | رواه أبو داود: 2357. |
^32 | رواه ابن ماجه: 1753. |
^33 | رواه أحمد: 8043، والترمذي: 3598، وابن ماجه: 1752. |
^34 | رواه أحمد: 16226، والترمذي: 658، وابن ماجه: 1699. |
^35 | رواه أحمد: 12676، وأبو داود: 2356، والترمذي: 696. |
^36 | رواه أحمد: 10629، وأبو داود: 2350. |
^37 | رواه مسلم: 2674. |
^38 | رواه البخاري: 2057. |
^39 | رواه البخاري: 7288، ومسلم: 1337. |