logo
الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(37) كتاب الصيام- من قوله: “يحرم على من لا عذر له الفطر برمضان..”

(37) كتاب الصيام- من قوله: “يحرم على من لا عذر له الفطر برمضان..”

مشاهدة من الموقع

عناصر المادة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

حياكم الله جميعًا في هذا الدرس الرابع والعشرين من هذا العام، في هذا اليوم الاثنين التاسع من شهر شعبان من عام 1442 للهجرة.

اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، نسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا، ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.

طيب، ننتقل بعد ذلك إلى السلسبيل في شرح الدليل، وكنا قد وصلنا إلى قول المصنف رحمه الله:

حكم الفطر برمضان بلا عذر

يحرم على من لا عذر له الفطر برمضان.

يحرم على من لا عذر له الفطر برمضان، هذا محل إجماع.

حكم مَن أفطر متعمدًا في نهار رمضان

والفطر متعمدًا في نهار رمضان من الكبائر، عدَّه العلماء من كبائر الذنوب، وإذا أفطر متعمدًا يجب عليه أيضًا أن يُمسك بقية يومه، ويلزمه القضاء مع التوبة إلى الله .

  • هناك من العلماء من قال: إن من أفطر متعمدًا ليس عليه القضاء.
  • ولكن أكثر أهل العلم على أن عليه القضاء، وهو القول الراجح.

ويدل لذلك حديث أبي هريرة : أن النبي قال: مَن ذرعه القيء، فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض. وهذا الحديث أخرجه أصحاب السنن وأحمد[1]، والمُرجَّح عند كثير من الحفاظ وَقْفه على أبي هريرة، لكن كما قال الترمذي: “العمل عليه عند أهل العلم”، يعني: عند عامة أهل العلم العمل على هذا الحديث.

فقوله: ومن استقاء فليقض دليل على أن من أفطر متعمدًا يلزمه القضاء، ثم أيضًا إنه قيل: إن القول بالقضاء محل إجماع، كما قال الموفق ابن قدامة: لا نعلم في ذلك -يعني في وجوب القضاء- خلافًا؛ لأن الصوم كان ثابتًا في الذمة فلا تبرأ منه إلا بأدائه، ولم يؤده.

فيكون الخلاف في هذه المسألة مخالفًا للإجماع السابق عليه، يكون القول بعدم القضاء مخالفًا للإجماع السابق عليه.

من يجب عليه الفطر في رمضان

ثم قال المصنف رحمه الله:

ويجب الفطر على الحائض والنُّفَساء.

الحائض والنفساء لا يصح منهما الصيام، بل ولا يجوز، ويجب عليهما الفطر. وهذا أيضًا بالإجماع؛ ويدل لذلك قول النبي عن المرأة: أليس إذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ[2].

ولكن بعض الفتيات تخجل من أن تأكل أمام أهلها، فتُمسك عن الأكل والشرب حياءً، فنقول: إذا لم تنوِ الصيام، فلا حرج عليها، لكن إذا نوت الصيام، وتعبدت لله بالصيام، فإنها تأثم. أما إذا لم تنو الصيام، يعني: نوت الفطر لأجل الحيض أو النِّفاس لكنها لم تأكل ولم تشرب، فلا حرج.

قال المصنف رحمه الله:

وعلى مَن يحتاجه لإنقاذ معصومٍ مِن مَهْلكة.

أي: يجب الفطر على من يحتاجه؛ لإنقاذ معصوم.

و”المعصوم” من العِصمة، والعصمة تكون بالإسلام، وبالذمة وبالعهد، فالمسلم معصوم. وبالذمة بأن يكون قد عُقِد له عقد ذمة، وهذا إنما يكون لمن يعيش في بلاد المسلمين من غير المسلمين، ويُقَرُّون على دينهم ويُحْمَون نظير بَذْلهم الجزية، هذا هو الذمي، وهو معصوم.

وكذلك المعاهد الذي بينه وبين المسلمين عهدٌ، فهؤلاء معصومو الدم والمال والعِرض، فإذا وقعوا في مهلكة يجب إنقاذهم كالمسلم.

فيجب الفطر على من يحتاجه لإنقاذ معصوم من مهلكة كغرق مثلًا؛ لو غرق معصوم واحتاج الصائم لإنقاذه إلى أن يفطر لأجل أن يتقوى؛ فلا بأس.

ومن ذلك أيضًا ما يحصل لبعض رجال الدفاع المدني عندما يُطلب منهم إنقاذ بعض الناس، سواء كان إنقاذهم من غرق أو من حريق أو نحو ذلك، ويكونون صائمين، فيفطرون لأجل أن يتقوَّوْا على الإنقاذ؛ لا بأس بذلك.

لكن القول بوجوب الفطر إنما يكون إذا كان الفطر سببًا في إنقاذ المعصوم من هَلَكةٍ، أما إذا لم يكن سببًا فلا يقال بوجوب الفطر؛ لأنه في كثير من الأحيان يستطيع رجال الدفاع المدني أن يُنقذوا هؤلاء المعصومين من غير حاجةٍ للفطر في نهار رمضان.

حكم الترخص بالفطر للمسافر

قول المصنف رحمه الله:

ويُسن لمُسافِرٍ يُباح له القَصْر.

أي: يسن الفطر لمسافر إذا كانت مسافةُ السفرِ مسافةَ قَصْرٍ، وهذه تكلمنا عنها في دروس سابقة، وقلنا: إن أقل مسافة للقصر ثمانون كيلومترًا، وهذا هو قول الجمهور، يعني: كانت بالتقديرات السابقة أربعة برد، ستة عشر فرسخًا، ثمانية وأربعين ميلًا، وبالتقديرات المعاصرة ثمانين كيلومترًا.

فإذا كانت مسافة السفر تعادل ثمانين كيلومترًا فأكثر، وتُحسب الثمانون من مُفارَقة العُمْران، تحسب ثمانين كيلومترًا، فإذا كانت ثمانين كيلومترًا فأكثر، فالمؤلف هنا يقول: إنه يسن الفطر لهذا المسافر؛ لقول الله : فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].

ولكن ذكر بعض أهل العلم أن المسافر له ثلاث حالات:

  • الحالة الأولى: يحرم عليه الصوم إذا شق عليه مشقة شديدة؛ لأن النبي كان في سفر، وكان صائمًا، فأفطر وأمر الناس بالفطر؛ ولمَّا بَلَغه أن بعض الناس قد صام أنكر عليهم ووصفهم بالعُصاة[3].
    ولذلك؛ كما جاء في “صحيح مسلم” من حديث جابر: أن النبي خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، حتى بلغ كُرَاعَ الغَمِيمِ، فصام الناسُ، فدعا بقَدَحٍ من ماءٍ فرفعه، حتى نظر إليه الناس، ثم شَرِبَ، فقيل له: إن بعض الناس قد صام؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أولئك العصاة، أولئك العصاة[4]. والمعصية لا تكون إلا على ارتكاب أمرٍ محرم.
  • الحال الثانية: أن يشق عليه الصوم مشقة غير شديدة، والفطر أرفق في حقه، فيُكره الصوم في حقِّه، ويُسن له الفِطر؛ لأنها رخصة من الله ؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام: ليس من البرِّ الصوم في السفر[5]؛ ولحديث حمزة بن عمرو الأسلمي: هي رخصة من الله، فمَن أخذ بها فحَسَنٌ، ومَن أحبَّ أن يصوم فلا جُناح عليه. رواه البخاري ومسلم[6].
    قوله: فمن أخذ بها فحسن دليل على أن الفطر أفضل من الصوم، واللهُ يحب أن تُؤتى رُخَصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.
  • الحال الثالثة: أن يتساوى عنده الأمران فيختار الأيسر، هذا يحصل خاصة في الوقت الحاضر، مع وجود أجهزة التكييف، ووجود وسائل الراحة، ووسائل المواصلات المريحة.

فكثيرٌ من الناس إذا سافَر يتساوى عنده الصوم والفطر، فنقول: يختار ما هو الأيسر، والأيسر عند كثيرٍ من الناس هو الصوم؛ لأنه الأبرأ للذمة.

وبعض الناس يقول: إنه قد يشق عليَّ القضاء، فأنا أريد أن أصوم؟ فنقول: الأفضل أن يختار ما هو الأرفق به والأيسر؛ لقول الله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر [البقرة:185]، فإن تساوى عنده الأمران قلنا له: اختَرْ ما هو الأيسر. قال: والله كلاهما يُسْر، الأمور عندي ميسرة، فالصوم أفضل؛ لأنه فِعل النبي ؛ ولأنه أسرع في إبراء الذمة؛ لما جاء في الصحيحين من حديث أبي الدرداء  قال: خرجنا مع النبي في بعض أسفاره في يوم حار، حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا النبي وعبدالله بن رواحة[7]

ويبدو في هذه القصة: أن النبي لم يكن يشق عليه الصوم؛ لأنه كان الصحابة يقومون بشؤونه ويخدمونه ويظللون عليه، فلم يجد مشقة في الصوم؛ فلذلك كان صائمًا. ويبدو أيضًا كذلك أن عبدالله بن رواحة كان مثله، يعني: لم يجد مشقة.

والناس يتفاوتون في هذا، يتفاوتون في تحمل الأجسام للصوم، يعني: بعض الناس يفتح الله عليه في هذا الباب ولا يكاد يجد مشقة كبيرة في الصوم؛ ولذلك تجد أنه يُكثر من صيام النوافل، وبعض الناس يشق عليه الصوم مشقة كبيرة. فالأجسام تتفاوت في هذا.

فنقول إذن: إذا تساوى عنده الأمران، فالصوم في حقه أفضل؛ لأنه فِعل النبي .

إذن يكون الحكم في صوم المسافر بهذا التفصيل:

  • إما أن يَحرم إذا شق عليه مشقة شديدة.
  • وإما أنه يُكره إذا شق عليه مشقة غير شديدة.
  • وإذا تساوى الأمران، فيختار ما هو الأيسر والأرفق به.

وإذا -أيضًا- تساوى عنده الأمران في اليُسر، فالصوم أفضل.

حكم صوم النافلة في السفر

نقول: إنه لا يستحب، إذا كان الصوم الواجب لا يستحب في حق الصائم، بل هو دائر بين التحريم والكراهة والإباحة، فكيف بصيام النافلة؟ فلا يستحب صيام النافلة في السفر؛ لما فيه من العدول عن رخصة الله .

وإذا كان من عادة الإنسان أنه يصوم في الحَضَر، فإنه إذا سافر ولم يَصُم يكتب له الأجر كاملًا؛ لقول النبي : إذا مرض العبد أو سافر، كتب الله له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا[8].

مثلًا: إنسان من عادته أنه يصوم الاثنين والخميس، ثم سافر فلم يصم الاثنين والخميس في ذلك الأسبوع، يكتب له الأجر كاملًا، كأنه صام الاثنين والخميس.

قوله:

ولِمَريضٍ يخاف الضرر.

أي: يسن الفطر للمريض الذي يخاف الضرر بصومه، والله تعالى قد بدأ بالمريض في الرخصة، فقال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].

وذكر المُؤلِّفُ الضابطَ للمرض الذي يُبيح الفِطر، قال: “يخاف الضرر”، ومخافة الضرر تكون إما بزيادة المرض أو بتأخُّر البُرْء، والذي يقرر ذلك هو الطبيب المختص، ولا يقرر الإنسان هذا بنفسه وإنما الطبيب، إذا قال الطبيب: إنه يلحقك الضرر بالصوم، إما بزيادة المرض أو بتأخر البرء، ونصحه بالفطر؛ فهنا يباح له الفطر.

وقد يجب الفطر على المريض إذا أخبره الطبيب بأنه لو صام فقد يُفضي صيامه مع هذا المرض إلى الهلاك، فهنا يجب عليه الفطر؛ لأن صومه في هذه الحال يَدخل في إلقائه نفسَه إلى التهلكة.

ومن أمثلة ذلك مثلًا: المُصاب بالسكر من النوع الأول، فهذا يقول بعض الأطباء المختصين: إنه لو صام فقد يُؤدِّي ذلك إلى الوفاة، فإذا كان الصوم قد يتسبَّب في تفاقُم المرض إلى درجةِ أنه قد يؤدي للوفاة، فنقول حينئذٍ: يجب على هذا المريض أن يُفطر؛ لأنَّ صومه فيه إلقاءٌ بالنفس إلى التهلكة.

من يباح له الفِطر في رمضان

قوله:

ويباح لحاضرٍ سافَرَ في أثناء النهار.

أي: يباح الفطر لحاضر سافر في أثناء النهار.

يعني: مثلًا: إنسان صائم، وبعد صلاة الظهر سافر؛ يباح له الفطر؛ لعموم الأدلة: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].

وجمهور الفقهاء على أنه ليس له الفطر حتى يفارق العُمْران.

وهناك قول آخر: بأنه يباح له الفطر وهو لم يفارق العمران، واستدلوا لذلك بأثرٍ رُوي عن أبي بصرة الغِفَاري، صاحب النبي أنه كان في سفينة من الفُسْطاط في رمضان، فرُفع ثم قُرِّب إليه غداؤه، فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسُّفرة، فقال لمن معه: اقترِب. قال: ألست ترى البيوت؟ قال: أترغب عن سنة النبي ؟ فأكل[9]. ورُوي نحو هذا عن أنس بن مالك[10].

والقول الراجح هو قول الجمهور، وهو أنه ليس له الفطر حتى يفارق العمران، وحتى ينشئ السفر.

وأما ما روي عن أبي بصرة، وعن أنس بن مالك، فيُحمل ذلك على أنه فارق العمران، على أن أبا بصرة وكذا أنس فارَقَا العُمْران، لكنهما يريان العمران؛ يعني مثلًا إذا كنت في مدينة الرياض فارقت عمران الرياض بكيلومتر، هنا يباح لك أن تفطر إذا كانت مسافة السفر أكثر من ثمانين.

طيب، لو أنك بعد مفارقة الرياض بكيلومتر أوقفت سيارتك وأفطرت، هنا يجوز مع أنك ترى عمران الرياض؛ لأن مسافة السفر لأكثر من ثمانين، هكذا المروي عن أبي بصرة وأنس.

ولو لم يُسلَّم بهذا الجواب فيقال: إنه اجتهاد منهما لم يوافقهما عليه بقية الصحابة، والأصل أن المسافر لا يترخص برخص السفر إلا بعد مفارقة العمران.

ولذلك؛ فالنبي في حجة الوداع تجهز للسفر، ولبس لباس السفر، ومع ذلك لما صلى بالمدينة صلى أربعًا؛ لكونه لم يفارق العمران؛ ولما وصل إلى ذي الحليفة صلى العصر ركعتين[11].

قوله:

ولحامل ومرضع خافتا على أنفسهما أو على الولد.

الحامل والمرضع يُباح لهما الفِطر في نهار رمضان إذا خافتا على أنفسهما، أو على ولديهما، أو على أنفسهما وولديهما، يعني: إذا احتاجتا إلى الفطر.

كأن تكون مثلًا الحامل بِنْيتُها ضعيفة، أو يكون معها أمراض مصاحبة، أو نحو ذلك، الحمل بحد ذاته يعني فيه مشقة: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا [الأحقاف:15]، إذا كان يشق عليها الصوم حتى لو لم تكن بنيتها ضعيفة، إذا كان الصوم يشق على الحامل جاز لها الفطر.

وهكذا المرضع، خاصة في الأزمنة السابقة؛ لما كان الطفل يعتمد على حليب أمه المرضع اعتمادًا كاملًا، لم يكن هناك ما هو موجود في الوقت الحاضر من البودرة المجففة، بودرة الحليب المجففة؛ فهنا يباح للحامل وللمرضع الفطر.

ويدل لذلك حديث أنس بن مالك الكعبي: أنه أتى النبي بالمدينة وهو يتغدى، فقال له النبي : هَلُمَّ إلى الغَدَاء قال: إني صائم. قال عليه الصلاة والسلام: إن الله وضع عن المسافرِ الصومَ وشطر الصلاة، وعن الحُبْلى والمرضع. وهذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد بسند صحيح[12]، وهو نصٌّ في أن الحامل والمرضع يجوز لهما الفطر في نهار رمضان.

لكن، ما الذي يترتب على فِطر الحامل والمرضع؟

الواجب على الحامل والمرضع إذا أفطرتا

قال:

لكن لو أفطرتا للخوف على الولد فقط؛ لَزِمَ وليَّه إطعامُ مسكين لكل يوم.

يعني: أن الحامل والمرضع، المؤلف يُفصِّل فيهما، يقول: (إذا خافتا على أنفسهما فعليهما القضاء فقط، وإذا خافتا على الولد فعليهما القضاء والإطعام)، والإطعام على الولي، ولي هذا الحمل.

هناك حالة ثالثة: إذا خافتا على أنفسهما وولديهما أيضًا، فالمذهب عند الحنابلة أنه يلزم القضاء فقط، وهناك من قال: يلزم القضاء والإطعام، هذا هو القول الأول في المسألة.

القول الثاني: أن الحامل والمرضع عليهما القضاء فقط في جميع الأحوال، عليهما القضاء دون الإطعام في جميع الأحوال، يعني: سواء خافتا على أنفسهما، أو على ولديهما، أو على أنفسهما وولديهما.

وذلك لحديث أنس بن مالك السابق، فإن النبي ذكر الحُبلى والمرضع مع المسافر، قال: إن الله وضع للمسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحبلى والمرضع[13].

ومعلوم أن المسافر إنما يلزمه القضاء، فكذلك أيضًا الحبلى والمرضع إذا أفطرتا إنما يلزمهما القضاء فقط، وكذلك أيضًا قياسًا على المسافر والمريض، المسافر والمريض يلزمهما القضاء فقط دون إطعام.

ثم إن القول بالإطعام، إلزامهما بالإطعام يحتاج إلى دليل، وليس هناك دليل ظاهر يدل لهذا، والأصل براءة ذمة المكلف، الأصل براءة الذمة. وهذا هو القول الراجح في المسألة، وهو اختيار شيخنا عبدالعزيز ابن باز، ومحمد ابن عثيمين، رحمة الله تعالى عليهما.

لكن أصحاب القول الأول الذين قالوا: بأن الحامل والمرضع عليهما الإطعام، على تفاصيل بينهم في ذلك، يستدلون بأثر ابن عباس: أنه قال في قول الله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، قال: والحبلى والمرضع إذا خافتا، قال: كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينًا، والحبلى والمرضع إذا خافتا يعني: أفطرتا وأطعمتا.

ويُناقَش هذا الاستدلال بأنه اجتهادٌ من ابن عباس رضي الله عنهما، ثم أيضًا قد يقال: بأن ابن عباس لم يذكر القضاء؛ لأنه كان معلومًا.

ومما يدل لذلك ما أخرجه عبدالرزاق في “مصنفه” عن ابن عباس قال: تُفطر الحامل والمرضع في رمضان، وتقضيان صيامًا، ولا تطعمان.

والعجيب أن بعض العلماء أخذ بظاهر أثر ابن عباس، قال: ليس على الحامل والمرضع سوى الإطعام في جميع الأحوال، وليس عليهما القضاء. وهذا القول قول ضعيف مخالف للنصوص الصحيحة الصريحة المُحكَمة الدالة على وجوب القضاء في حقِّ مَن أفطر لعذر وهو قادر على القضاء.

حكم الإفطار بسبب العمل

هنا مسألة يكثر السؤال عنها؛ ولذلك أفردتها في “السلسبيل” مع أنها لم ترد في “دليل الطالب”، لكن أفردتها بالذكر لكثرة الأسئلة عنها، وهي: حكم الإفطار بسبب العمل.

بعض الناس قد يكون عمله فيه مشقة، ويقول: إنه يحس بالعطش وبالجوع، فهل يجوز له الفطر لأجل العمل؟

نقول: لا يجوز، الفطر في نهار رمضان بسبب العمل أمر منكر لا يجوز، والعمل ليس عذرًا يبيح الفطر، إلا أن يكون هناك أمر آخر غير العمل، يكون مثلًا مريضًا، فيجوز له الفطر لأجل المرض، يكون مثلًا كبيرًا في السن فيجوز له الفطر لأجل ذلك، أو تكون التي تعمل مثلًا امرأة حاملًا فيجوز لها الفطر لأجل الحمل، أو تكون مرضعًا فيجوز لها الفطر لأجل الرضاع.

أما لأجل العمل فقط، يعني: إنسان شاب صحيح قادر، ومع ذلك يريد أن يفطر بسبب العمل، نقول: هذا لا يجوز، ويمكن أن يُحوِّل عمله إلى الليل، أو يعمل أول النهار. والناس قديمًا كانوا يعملون في نهار رمضان، ويجدون مشقة كبيرة، ولم يقل أحد من أهل العلم: إن العمل يبيح الفطر.

لكن، على الصائم الصبر، وكما يقولون: إن جسم الإنسان يستطيع أن يتحمل الجوع لعدة أيام، على اختلاف بينهم في مدى قدرة الجسم على تحمل الجوع والعطش، هذا يظهر أنه يختلف باختلاف الأجسام، لكن بكل حال فإنه يستطيع أن يتحمل الجوع والعطش عدة أيام.

وقد وقعت زلازل في بعض البلدان، فوجد تحت الأنقاض أناس بعد أسبوع، بل بعضهم حتى بعد أسبوعين وجدوا أحياء وأمكن إنقاذهم مع انقطاعهم التام عن الطعام والشراب.

والنبي كان ربما وجد مشقة أثناء الصيام، فكان يصب على رأسه الماء من شدة العطش، وكان الناس قديمًا قبل مجيء المكيفات في رمضان يصبون على رؤوسهم القِرَب، وينغمسون في بِرَك الماء من شدة العطش، ولكن بعض الناس يؤتى من جهة الجَزَع وقلة الصبر والتحمل، وكونه قد عوَّد نفسه على الرفاهية، فإذا ناله عطش أو جوع بسبب الصيام جزع وبدأ يبحث عن فتوى تجيز له الفطر.

إذن، مَن كان صحيحًا مُعافًى لا يجوز له الفطر بسبب العمل، لكن إذا كان هناك سبب آخر: من مرض، من كِبَرٍ في السن، مثلًا امرأة حامل، مرضع، ونحو ذلك، فهنا يجوز له الفطر لأجل تلك الأسباب.

حكم الإمساك بقية اليوم لمن زال عذر الفطر

قوله:

وإن أسلم الكافر، وطهرت الحائض، وبرئ المريض، وقدم المسافر، وبلغ الصغير، وعقل المجنون في أثناء النهار، وهم مفطرون لزمهم الإمساك والقضاء.

أما لزوم الإمساك فلزوال المانع، ووجوب القضاء لأنهم لم يُنشئوا نية الصيام من أول النهار، فلزمهم القضاء. وهذا هو القول الأول في المسألة، وهو قول الجمهور.

القول الثاني: أنه لا يلزمهم الإمساك؛ لقول ابن مسعود: من أكل أول النهار، فليأكل آخره. ولأنهم أفطروا لعذر، فأشبهوا المسافر والمريض، ولا يستفيدون من الإمساك شيئًا، وهذا هو مذهب الشافعية، وأيضًا قول عند المالكية، واختيار ابن تيمية رحمه الله.

والأقرب -والله أعلم- القول الأول، وهو أنه يجب عليهم الإمساك، كما لو قامت البينة على رؤية الهلال في أثناء رمضان فيلزمهم الإمساك، وكذلك إذا أسلم الكافر، وطهرت الحائض، وبرئ المريض، وقَدِم المسافر، وبلغ الصغير، وعَقَل المجنون، يلزمهم جميعًا الإمساك، ولا يقال بأنهم لا يستفيدون شيئًا، بل يستفيدون؛ فإنهم يُؤجَرون ويثابون على هذا الإمساك، وإن كان ليس صيامًا.

وهذا الخلاف فيما أُذِنَ له بالفطر، وأما مَن أفطر متعمدًا كالمجامع في نهار رمضان، فهذا يجب عليه الإمساك باتفاق العلماء.

قال:

وليس لمن جاز له الفطر برمضان أن يصوم غيره فيه.

يعني: مَن كان صاحب عذر وجاز له الفطر في رمضان، فليس له أن يصوم فيه غير رمضان.

مثال ذلك: رجل مسافر وعليه صيامُ نذرٍ، فقال: أجعل صوم هذا النذر في هذا اليوم من رمضان، نقول: لا يصح، لا يصح الصيام في رمضان إلا لرمضان فقط.

مفطرات الصيام

ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن المُفطِّرات.

وهذا الباب من أهم أبواب (كتاب: الصيام)، فينبغي العناية به، وضبط أصوله، قال:

فصل: في المُفطِّرات.

المفطرات هي مفسدات الصيام التي تُفطِّر الصائم وتُفسِد الصوم.

ضابط الجوف الذي يحصل به الفطر

والضابط فيما يحصل به الفطر في نهار رمضان: هو محل خلاف بين أهل العلم، اختلفوا في هذا اختلافًا كثيرًا، وكثير من الفقهاء جعل الضابط هو الوصول إلى الجوف، يعني ما وصل إلى الجوف حصل به التفطير، وما لا فلا، ثم اختلفوا في المراد بالجوف اختلافًا كثيرًا.

وذهب بعض العلماء المحققين كالإمام ابن تيمية رحمه الله إلى أن الضابط فيما يحصل به التفطير للصائم هو ما كان منصوصًا عليه أو في معنى المنصوص، فالأكل والشرب منصوص عليهما، فيقاس عليهما ما كان في معناهما، مثل: الإبر المغذية مثلًا، فهي في معنى المنصوص، ومثلًا الحجامة منصوص عليها فيقاس عليها تحليل الدم إذا كان الدم المُستخرَج كثيرًا. أما ما لم يكن منصوصًا عليه وليس في معنى المنصوص فليس بمُفطِّر.

والأصل هو صحة الصيام، وتصحيح عبادة المسلمين ما أمكن، الأصل هو أن الصوم صحيح، لا نقول: إن هذا الصوم قد فسد إلا بأمر واضح، وإلا فالأصل أن الصوم صحيح.

والصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته، يحتاج إلى معرفته الجميع: العام والخاص، وقد بيَّن النبي أصول هذه المُفطِّرات، ويقاس عليها ما كان في معناها.

الأول: خروج دم الحيض والنفاس

المصنف رحمه الله حصر المفطرات في اثني عشر:

الأول: خروج دم الحيض والنِّفاس.

وهذا بالإجماع.

الثاني: الموت

الثاني: الموت.

لأن الإنسان إذا مات انقطع عمله. ولكن اعتبار الموت من المُفطِّرات -يعني- هذا محلُّ إشكال، وفيه نوع من التكلف؛ لأن من مات انقطع عمله وانتقل من الدنيا إلى الآخرة، ولا يقال: إنه مفطر.

لكن المؤلف أراد أن يجمع هذه المفطرات وأن يحصرها؛ ولذلك فقهاء الحنابلة لم يذكروا هذا من المفطرات، وإنما انفرد المؤلف بذكره واعتبره مفطرًا من باب التجوز في العبارة.

مَن كان عليه صيام وفرَّط في قضائه فمات فلا يَلزم ورثتَه القضاءُ عنه، ولا يأثمون بتَرْكِهم الصيامَ عنه؛ لقول الله تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، ولكن يستحب لورثته الصيام عنه؛ لقول النبي : من مات وعليه صوم صام عنه وليُّه. متفق عليه[14].

فإن لم يتيسر أن يصوم عنه أحدٌ من ورثته، فينتقل إلى الإطعام، فيُطعَم عنه مِن تركته عن كل يوم مسكينًا.

الثالث: الردة

قوله:

والرِّدَّة.

وهذا أيضًا من المُفطِّرات؛ لقول الله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، لكن يشترط لحبوط العمل بالردة أن يموت عليها؛ لقول الله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [البقرة:217].

فاشترط الله ​​​​​​​ لحبوط العمل بالردة الموت على الردة: فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ؛ ولهذا لو أن رجلًا حج ثم ارتد ثم تاب، فلا يؤمر بالحج مرة أخرى، حجه الأول صحيح؛ لأن الردة لا تُحبط العمل إلا إذا مات مرتدًّا.

الرابع: العزم على الفطر

والعزم على الفطر.

أي: من المفسدات للصوم؛ لأن الصوم حقيقته أنه إمساك بنية، فإذا عزم على الفطر فقد قطع نيته، كما لو قطع نية الصلاة.

وعند بعض الفقهاء قاعدة: أنَّ مَن نوى الإفطار أفطر، يقولون: مَن نوى الإفطار أفطر، النية في الصوم لها شأن كبير، النية في الصوم هي من أركان الصوم، وهي مِن آكَد أركانه.

الصوم، ما هو الصوم؟ الصوم إمساك بنية؛ فلذلك النية أَمْرها كبير بالنسبة للصيام. يعني: أركان الحج، آكَد أركان الحج الوقوف بعرفة، وآكد أركان الصلاة السجود، وآكد أركان الصومِ النيةُ.

الخامس: التردد في نية الفطر

والتردُّدُ فيه.

أي: التردد في نية الفطر، إنسان مثلًا مسافر، وتردد: هل يفطر أو لا يفطر؟ فهل يَفسُد صومه بهذا التردد؟ المؤلف يرى أنه يفسد، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.

والقول الثاني: وهو رواية عن الإمام أحمد، أن التردد لا يُفسد الصوم؛ لأنه لم يجزم بنية الفطر.

والراجح هو القول الثاني: وهو أن صومه صحيح؛ لأن هذا التردد ليس فيه قطعٌ لنية الصيام، وإنما غايةُ ما فيه أنه فكَّر بما يريد أن يفعله، والأصل صحة الصوم.

طيب، إذا نوى أنه سيفطر؛ يعني ما تردَّد، لكن نوى أنه سيفطر بعد ساعة أو بعد ساعتين، أو عندما يصل إلى المكان الفلاني، أو قال: إذا وصلت إلى الفندق أو الشقة سأفطر، فهل يَفسُد صومه بهذه النية؟ قال ابن عقيل من الحنابلة: هو كَنِيَّة الفِطر في وقته، يعني: أنه يَفسُد صومه؛ لأن هذا يؤثر على نية الصيام. وهذا هو المذهب عند الحنابلة.

والقول الثاني: أن صومه صحيح؛ لأنه لم يجزم بنية الفطر، ولم يحصل منه قطعٌ لنية الصوم؛ ولأن المحظور بالعبادة لا تَفسُد العبادة إلا بفعله، ولا تفسد بنية فعله. وهذا هو القول الراجح.

وعلى ذلك؛ لو أن رجلًا مسافرٌ، وقال: سأفطر إذا وصلت إلى الفندق. فلما وصل إلى الفندق غيَّر نيته وقال: سأستمر صائمًا. فالقول الراجح أن صومه صحيح.

السادس: القيء عمدًا

والقيء عمدًا.

لحديث أبي هريرة : أن النبي قال: مَن ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض. مر معنا هذا الحديث[15]، وقلنا: إن الصواب: أنه موقوف على أبي هريرة، لكن قال الترمذي: إن العمل عليه عند أهل العلم، وبه يقول سفيان والشافعي وأحمد وإسحاق.

من تعمد القيء فسد صومه، وأما مَن ذرعه وغلبه القيء فلا شيء عليه، وصومه صحيح.

السابع: الاحتقان من الدُّبُر

والاحتقان من الدبر.

الاحتقان معناه وضع الحقنة من الدبر، ولا يزال عمل بعض الناس على هذا بما يسمى بالتحاميل، فهذه تُفسِد الصوم بناء على المذهب عند الحنابلة؛ لأنها عندهم في معنى الأكل والشرب، ويجد الصائم لها أثرًا.

والقول الثاني في المسألة: أن الاحتقان لا يُفسِد الصيام؛ لأنه ليس أكلًا ولا شربًا، ولا بمعنى الأكل والشرب، وليس هناك دليل يدل على أنه يُفسِد الصيام. وهذا هو القول الراجح، واختاره ابن تيمية وجَمْعٌ من المحققين من أهل العلم.

وبناء على ذلك: فوضع التحاميل في الدُّبُر لا يُفسِد الصيامَ على القول الراجح.

الثامن: بَلْعُ النُّخامة إذا وصلت إلى الفم

قوله:

وبَلْعُ النُّخَامة إذا وصلت إلى الفم.

أي: تُفسِد الصوم، وأما إذا لم تصل إلى الفم فلا تفسد الصوم.

وهذه المسألة -أعني مسألة بلع النخامة للصائم- اختلف فيها العلماء على قولين:

  • القول الأول: أن بلع النخامة يُفسِد الصوم، وهذا هو القول الذي مشى عليه المؤلف، وهو المذهب عند الحنابلة، قالوا: لأنه قد أدخل شيئًا إلى جوفه، أشبه ما لو أدخل مأكولًا أو مشروبًا.
  • القول الثاني: أن بلع النخامة لا يُفسد الصوم، قالوا: لأنها ليست بأكلٍ ولا شرب، وليست بمعنى الأكل والشرب؛ ولأن الغالب أن هذا يحصل من الإنسان بغير اختياره، وهذا هو القول الراجح في المسألة: أنها لا تفسد الصوم مطلقًا.

وغالب مَن يَسأل مثل هذه الأسئلة: هل بَلْع النخامة يفسد الصوم أو لا؟ يعني: مَن عندهم وسواس، لاحظت أن عامة من يستفتي ويسأل عن هذا السؤال مَن عندهم وسواس في هذا، وإلا فالنخامة يَلْفِظُها الإنسان، وإذا ذهبت رغمًا عنه فصومه صحيح.

التاسع: الحجامة

التاسع: الحجامة خاصة، حاجمًا كان أو محجومًا.

قول المؤلف (خاصة) دون غيرها كالفَصْد، والدليل على أن الحجامة تُفطِّر الصائمَ: قول النبي : أفطَرَ الحاجم والمحجوم، وهذا حديثُ رافِعِ بن خَدِيجٍ [16].

هذا الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي[17]، وصحَّحه البخاري، وابن المَدِيني، وصحَّحه أيضًا الإمام أحمد، وسنده صحيح، وقد رُوي بأسانيد كثيرة، أوصلها بعضهم إلى ثمانية وعشرين صحابيًّا.

قال الترمذي: “وقد كره قومٌ من أهل العلم من أصحاب النبي وغيرِهم الحجامةَ للصائم، حتى إن بعض أصحاب النبي احتجم بالليل، منهم أبو موسى الأشعري، وابن عمر”.

والقول بأن الحجامة تُفسِد الصيام هو المذهب عند الحنابلة، وهو من المُفرَدَات.

القول الثاني: أن الحجامة لا تُفطِّر الصائم، وإلى هذا ذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو رواية عند الحنابلة.

واستدلوا بأن النبي احتجم وهو صائم مُحرِم[18]، وقالوا: إن حديث: أفطر الحاجم والمحجوم منهم من قال: إنه ضعيف، ومنهم من قال: إنه منسوخ.

والقول الراجح -والله أعلم- هو القول الأول، وهو أن الحجامة تُفسِد الصيام؛ لأن الحديث الوارد في ذلك: أفطر الحاجم والمحجوم حديث صحيح صريح.

قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: “القول بأن الحجامة تُفطِّر مذهب أكثر فقهاء الحديث، كأحمد بن حنبل وإٍسحاق وابن المبارك وابن مهدي وابن خزيمة وابن المنذر، وغيرهم. وأهلُ الحديثِ الفقهاءُ فيه العاملون به، أخصُّ الناس باتباع محمد “.

والقول بأن الفطر بالحجامة، أو القول بأن الحجامة، تُفسِد الصوم، هذا على وفق الأصول والقياس؛ لأنها من جنس الفطر بدم الحيض والاستقاءة والاستمناء، وإذا كان كذلك فبأيِّ وجهٍ أراد إخراج الدم أفطر، كما أنه بأي وجه أخرج القيء أفطر.

وأما قول الجمهور بأنَّ حديث: أفطر الحاجم والمحجوم أنه منسوخ، فدعوى النسخ غير صحيحة؛ لأنه لم يُعلَم المتقدم من المتأخر.

وأما ما رُوي عن أنس أنه إنما كُرهت الحجامة لأجل الضعف، فهذا اجتهاد من أنس ، لعله لم يبلغه حديث: أفطر الحاجم والمحجوم.

وأما حديث أن النبي احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم، فالمحفوظ من الروايةِ الروايةُ التي اتفق عليها البخاري ومسلم، وهو: أنه احتجم وهو مُحرِم[19]، وأما وهو صائم فهذه غير محفوظة، وإن كانت في البخاري[20] لكنها غير محفوظة، فالصوابُ من الرواية القَدْرُ الذي اتفق عليه البخاري ومسلم: أن النبي احتجم وهو محرم.

ثم على تقدير صحة رواية: احتجم وهو صائم، فكما ذكر ابن القيم أن هذا يحتمل أمورًا:

– يحتمل أنه فعل ذلك في السفر، وكان عليه الصلاة والسلام غالبًا يُفطر في أسفاره.

– ويحتمل أنه فعل ذلك لمرض، والمريض يجوز له الفطر.

– ويحتمل أن ذلك الصيام كان صيام نافلة. وغير ذلك من الاحتمالات.

وإذا تعارضت دلالة القول والفعل، فالقول أقوى وأصرح من الفعل.

وعلى هذا نقول: إن القول الراجح أن الحجامة تُفطِّر الصائم.

أثر سحب الدم لأجل التحليل على الصيام

ويقاس على الحجامة ما كان في معناها، ومن ذلك سحب الدم الكثير لأجل التحليل، فإذا كان الدم المُستخرَج كثيرًا، فإنه يُفسِد الصيام، أما إذا كان الدم المستخرج للتحليل يسيرًا كالدم المستخرج لقياس السكر؛ فهذا لا يفسد الصوم.

لكن، إذا كان الدم المستخرج كثيرًا؛ مثلًا حدود أربعة براويز أو خمسة براويز، يعني: أربعة أنابيب، بعض الناس لمَّا ذكرت في الدرس وقلت: براويز، قال: ما معنى براويز؟ يعني: أربعة أنابيب أو خمسة، فهذا دم كثير في معنى دم الحجامة؛ يُفسِد الصوم.

لكن، لو كان الدم يسيرًا لأجل معرفة مثلًا مستوى السكر أو نحو ذلك؛ فهذا لا يفسد الصوم.

والتبرع بالدم يفسد الصوم، التبرع بالدم هو في معنى دم الحجامة.

والدم الذي يَخرج عند قَلْع السن لا يُفسد الصوم؛ لأنه دم يسير.

فالدم إذن؛ إذا كان الدم المستخرج لأجل التحليل ونحوه، أو قلع السن ونحوه، إذا كان دمًا يسيرًا فهذا لا يفسد الصوم، أما إذا كان دمًا كثيرًا في معنى دم الحجامة، فإنه يُفسد الصوم.

أما خروج الدم الكثير من غير اختيار الإنسان، كما لو رَعَفَ وخرج منه دمٌ كثير، أو أصيب بحادث سيارة، فخرج دم كثير، فلا يُفسد الصوم؛ لأنه بغير اختياره.

الحكمة من كون الحجامة تفطر الصائم

والحكمة من كون الحجامة تُفطِّر الصائم أنه يصاب بالضعف، كما جاء في بعض الروايات، هذا بالنسبة للمحجوم.

وأما بالنسبة للحاجم، فكما قال ابن تيمية رحمه الله: إن الحجامة كانت قديمًا بالمَصِّ، وكان الحاجم يجتذب الهواء في القارورة بامتصاصه، فربما صعد مع الهواء شيء من الدم ودخل في حلقه وهو لا يشعر. فالحاجم عندما يمص الدم تَنفُذ أجزاءٌ لطيفة من الدم إلى جوفه.

وبناء على ذلك؛ لو كانت الحجامة بغير المص، كما هي عليه الآن في الوقت الحاضر بتفريغ الهواء، فإن الحاجم لا يَفسُد صومه، وأما إذا كانت بالطريقة القديمة الموجودة على عهد النبي عليه الصلاة والسلام بأن الحاجم يمص الدم من المحجوم؛ فيفسد الصوم.

العاشر: إنزال المني بتكرار النظر

العاشر: إنزال المني بتكرار النظر.

فإذا أنزل المني بتكرار النظر فسد صومه؛ لأنه فَعَل ذلك باختياره.

لا بنَظْرةٍ.

يعني: لو أنزل بسبب نظرة واحدة فإن صومه لا يفسد؛ لماذا؟ لأن النظرة الواحدة مَعْفوٌّ عنها؛ لقول النبي : لا تُتْبِعِ النظرةَ النظرة، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة[21]، ولما سئل عليه الصلاة والسلام عن نظر الفجأة قال: اصرِفْ بصرك[22].

فالنظرة الأولى التي تقع من الإنسان هذه معفو عنها.

لو افترضنا أن رجلًا نظر إلى امرأة أجنبية نظرة أولى ثم أنزل فصومه صحيح؛ لأن هذا بغير اختياره.

ولا بالتفكر.

لو تفكر وأنزل فلا يفسد صومه؛ لأن التفكر معفو عنه؛ لقول النبي : إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم[23].

والاحتلامِ.

الاحتلام لا يُفسد الصوم، وحُكي الإجماع على ذلك؛ لأن خروج المني حالَ الاحتلام بغير اختياره.

ولا بالمَذْيِ.

مقصود المؤلف بهذه العبارة أنه لا يَفسُد الصوم بخروج المذي إذا كان بتكرار النظر أو بالتفكر؛ لأنه ليس بمباشرة، وليس مقصوده أن خروج المذي لا يُفسد الصوم؛ فخروج المذي مُفسِد للصوم كما سيأتي عند المؤلف، لكن مقصوده أنه لا يَفسُد بخروج المذي إذا كان بتكرار النظر أو بالتفكر؛ لأنه ليس بمباشرةٍ.

الحادي عشر: خروج المني أو المذي بتقبيل أو لمس

الحادي عشر: خروج المني أو المَذْي.

ورجع المؤلف للمذي.

بتقبيلٍ أو لمسٍ أو استمناء أو مباشرة دون الفرج.

فالمؤلف فرَّق في هذا المُفطِّر والذي قبله بين خروج المني وإنزال المني، وكذلك المذي، يعني هذا التشقيق من المؤلف بهذه الطريقة غير مناسب، لو أنه جمع الكلام عن المني والمذي في مكان واحد لكان أحسن.

وقوله: (خروج المني أو المذي بتقبيل أو لمس أو استمناء أو مباشرة دون الفرج) يعني: لو قبَّل أو لمس أو استمنى أو باشر دون الفرج، فأنزل منيًّا أو مَذْيًا؛ فسد صومه.

أما بالنسبة للمني فبالاتفاق؛ لقول النبي عن الرب : كلُّ عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يَدَع شهوته وطعامه لأجلي[24].

فقوله: يدع شهوته دليلٌ على أنه إذا لم يدع شهوته فإن صومه يفسد، وعلى هذا تعمُّد إخراج المني مُفسِد للصوم.

أما المذي فقد اختلف العلماء، طبعًا “المذي”: هو سائل رقيق يخرج عند اشتداد الشهوة من غير دَفْقٍ، وهو يخرج من الرجل ومن المرأة أيضًا، لكنه مرتبط بالشهوة، والغالب أنه يخرج عند اشتداد الشهوة ثم انكسارها.

هل خروج المذي يفسد الصوم؟

اختلف العلماء في كونه مفسدًا للصيام على قولين:

  • القول الأول: أن الصوم يفسد بخروج المذي قياسًا على المني، وهذا هو المذهب عند المالكية والحنابلة، واستدلوا بالحديث السابق: يدع شهوته وطعامه من أجلي قالوا: وهذا لم يدع شهوته.
  • القول الثاني: أن خروج المذي لا يُفسد الصوم، وهو مذهب الحنفية والشافعية، ورواية عند الحنابلة، قالوا: لأن الأصل صحة الصوم، وليس هناك دليل يدل على أن المذي يفسد الصوم.

وأيضًا لِمَا جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي كان يُقبِّل وهو صائم، وكان يباشر وهو صائم، ولكن كان أملككم لإِرْبِه[25].

والتقبيل والمباشرة مَظِنةٌ لخروج المذي؛ لأن المذي يخرج أيضًا بغير اختيار الإنسان، وأحيانًا بغير شعوره.

والقول الراجح -والله أعلم- هو القول الثاني، وهو أن المذي لا يُفسد الصوم. وهو اختيار ابن تيمية، واختيار شيخنا عبدالعزيز ابن باز، والشيخ محمد ابن عثيمين، رحمة الله تعالى على الجميع.

وأما حديث: يدع شهوته فالمقصود بذلك الجماع وما يتعلق به.

وأما قياس المذي على المني فقياس مع الفارق؛ لأن بينهما فرقًا كبيرًا، فخروج المني موجب للغسل، بينما خروج المذي لا يوجب الغسل، والمني طاهر بينما المَذْي نَجَسٌ، وإن كانت نجاسته مُخفَّفة.

ولأن هذه المسألة -أعني خروج المذي- من المسائل الكبيرة التي تحتاج الأمة إلى بيانها، وتَعُمُّ البلوى بها: لو كان خروج المذي يُفسد الصوم لَبيَّن هذا النبيُّ للأمة كما بيَّن لهم أن خروج المني يُفسد الصوم، وأجمع العلماء على ذلك، وتأخيرُ البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

الثاني عشر: كل ما وصل إلى الجوف أو الحلق أو الدماغ من ماء وغيره

الثاني عشر من المفطرات: كل ما وصل إلى الجوف أو الحلق أو الدماغ من مائع وغيره.

فيشمل ذلك الأكلَ والشرب، وهذا بالإجماع، وكذلك أيضًا كل ما وصل إلى الجوف أو الحلق أو الدماغ من غير الأكل والشرب.

أما بالنسبة لما وصل إلى الحلق؛ فقد جاء في حديث لَقِيط بن صَبْرة: أن النبي قال: وبالِغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا. وهذا الحديث أخرجه أبو داود بسند صحيح، وأخرجه أصحاب السنن[26]، وإسناده صحيح.

وجاء في قصة لقيط بن صبرة: أنه أتى النبي فوجده مع الراعي ومعه أغنام يسوقها الراعي، فسلَّم لقيطٌ على النبي عليه الصلاة والسلام، فرد عليه السلام، وقال للراعي: اذْبَحْ لنا شاة. ثم قال للقيط: إنا لم نذبحها لأجلك، إن عندنا مائة من الغنم، فإذا نتجت واحدة ذبحنا مكانها أخرى، لا نريد أن تزيد على مائة[27].

قال لقيط: وسألته عن زوجةٍ لي، قلتُ: يا رسول الله، إن في لسانها بذاءة؟ فقال: طلِّقها. قال: إن لي منها ولدًا؟ قال: عِظْها، فإن يكن فيها خيرٌ تفعل[28]. قال: وسألته عن الوضوء، فقال: بالغ في الاستنشاق بين له النبي عليه الصلاة والسلام بعض مسائل الوضوء ثم قال له: وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا[29].

فأخذ العلماء من هذا أن الصائم لا يبالغ في الاستنشاق، ولا في المضمضة أيضًا؛ لأن هذه المبالغة ربما تتسبب في وصول الماء إلى جوفه؛ ولذلك تُكره المبالغة في المضمضة والاستنشاق بالنسبة للصائم.

وعلى هذا؛ قطرة الأنف تُفسد الصومَ إذا كان يصل ماؤها إلى الحلق عن طريق الفم أو الأنف؛ لأنه لا فرق بين وصول ماء الوضوء وقطرة الأنف.

أما قطرة العين والأذن إذا وصل ماؤها إلى الحلق: هل تفسد الصوم؟ محل خلاف.

قواعد المذهب عند الحنابلة أنها تُفسد الصوم. والقول الثاني أنها لا تُفسده، وهو القول الراجح؛ لأن العين والأذن ليستا بمَنْفَذٍ معتادٍ للأكل والشرب، بينما الأنف قد يكون منفذًا للأكل والشرب عند الحاجة.

ولذلك؛ فالمريض عندما يتعذر إعطاؤه الطعام عن طريق فمه، فإنه يُعطى عن طريق أنفه، فالأنف منفذ للجوف، بينما العين والأذن ليستا بمنفذ معتاد للجوف؛ هل رأيتَ أحدًا من المرضى يُعطى الطعام والشراب عن طريق عينه أو عن طريق أذنه أبدًا؟! بينما نجد بعض المرضى يُعطى الطعام والشراب عن طريق أنفه.

فلذلك؛ قطرة الأنف إذا وصل ماؤها إلى الجوف تُفسد الصوم، بينما قطرة العين والأذن لا تفسدان الصيام حتى ولو أحس بطعمهما في حلقه؛ لأن هذا الطعم الذي يشعر به إنما هو رطوبة، وإلا فإن العين والأذن ليستا بمنفذ معتاد للطعام ولا للشراب.

ثم فصَّل المؤلف بعد هذا الإجمال.

حكم قطرة الأذن للصائم

قال:

فيُفطِر إن قَطَّر في أذنه ما وصل إلى دماغه.

فالمؤلف يرى أن قطرة الأذن تُفطِّر الصائم إذا وصلت إلى الدماغ، وكذلك إذا وصلت إلى الحلق من بابٍ أولى.

أو داوَى الجائفةَ فوصلت إلى جوفه.

ما معنى الجائفة؟

الجائفة هي الطَّعنة التي تَنفُذ إلى الجوف، كانوا في السابق يضعون الدواء فيها مباشرة، فإذا وُضع فيها دواء فوصل هذا الدواء إلى الجوف، فإن الصائم يُفطِر بذلك. وهذا هو المذهب عند الحنابلة.

القول الثاني في المسألة: أن هذا لا يُفسد الصوم؛ لأنها ليست بأكل ولا شرب، وليست بمعنى الأكل والشرب، حتى لو وصل إلى الجوف عن طريق الجائفة. وهذا هو القول الراجح، وهو اختيار ابن تيمية وجَمْعٍ من المحققين من أهل العلم.

حكم الكحل للصائم

قال:

أو اكتحل بما عَلِمَ وصولَه إلى حَلْقِه.

يعني: إذا اكتحل الصائم، ووصل طعم الكحل إلى جوفه، فسد صومه، بناء على كلام المؤلف، وهذا هو مذهب المالكية والحنابلة.

قال الإمام أحمد: “حدثني إنسان أنه اكتحل بالليل فتنخعه بالنهار”.

واستدلوا ببعض الأحاديث التي جاء فيها الأمر باجتناب الكحل للصائم؛ كحديث: لِيَتَّقِهِ الصائمُ[30].

والقول الثاني: أن الكحل لا يُفسد الصيام، وهذا هو مذهب الحنفية والشافعية، واختاره جمعٌ من المحققين من أهل العلم، كابن تيمية، واختاره أيضًا من مشايخنا شيخنا ابن باز وابن عثيمين، رحمة الله تعالى عليهما.

قالوا: لأن العين ليست منفذًا معتادًا للجوف؛ ولأن الكحل ليس أكلًا ولا شربًا، وليس بمعنى الأكل والشرب، وما قد يجده مَن يكتحل في حَلْقه إنما هو مجرد رطوبة، والأصل صحة الصيام، ولا يُعدَل عن هذا الأصل إلا بشيءٍ واضح.

وهذا هو القول الراجح: أن الكُحْل لا يُفسد الصوم مطلقًا.

وأما الأحاديث الواردة في الكحل فكلها ضعيفة؛ ولهذا قال الترمذي: لا يصح عن النبي في هذا الباب شيء.

وعلى هذا نقول: لا بأس بالاكتحال للصائم، ولا يُفسِد الصيام.

قال:

أو مَضَغَ عِلْكًا، أو ذاق طعامًا ووجد الطَّعْمَ بحَلْقِه.

(أو مضغ علكًا)، العلك عند الفقهاء المقصود به اللِّبَان، ولا يُقصَد به العِلْك المعروف الآن، فإذا مضغ العلك أو ذاق طعامًا ولم يجد الطعم في حلقه لم يفسد صومه، لكن لو وجد الطعم في حلقه وكان ذلك باختياره فسد صومه.

وأيضًا لو ذاق الطعام ثم لَفَظَه، لكنه وجد بعد ذلك أثر الطعم في حلقه، فعلى رأي المؤلف يفسد صومه، وهو المذهب عند الحنابلة.

والقول الراجح أن صومه صحيح؛ لأن هذا القَدْرَ مَعْفوٌّ عنه، وهو أشبه بمُلُوحةِ الماء التي يجدها الصائم بعدما يتمضمض، فإن الصائم عندما يتوضأ لصلاة الظهر والعصر، لا بد من أن يتمضمض، فإذا تمضمض يبقى لملوحة الماء أثرٌ في فمه، وتختلط هذه الملوحة بالرِّيق، ويبتلع هذا الريقَ الصائمُ، وهو معفو عنه بالإجماع.

فكذلك أيضًا إذا ذاق طعامًا ثم لَفَظَه وبقي أثره في فمه، فإن ذلك لا يضر، المهم أن من يذوق الطعام يَلْفِظُه. يعني طبَّاخ يَطبُخ، يذوق الطعام ليعرف مقدار ملوحته، يَلْفِظه، امرأة تطبخ، ذاقت الطعام لتعرف مقدار الملوحة، تَلْفِظه، وما قد يوجد من أثر الطعام بعد لَفْظِه لا يضر على القول الراجح.

أو بَلَعَ رِيقَه بعد أن وصل إلى ما بين شَفَتَيْه.

يعني: فسد صومه، والكلام في بلع الريق سيأتي في آخر الفصل، سنؤجل الكلام عنه.

حكم من فعل شيئًا من المفطرات ناسيًا أو مكرهًا

قال:

ولا يُفطِر إن فعل شيئًا من جميع المُفطِّرات ناسيًا أو مُكرَهًا.

والناسي قد ورد فيه النص في قول النبي عليه الصلاة والسلام: مَن نسي وهو صائم فأكل أو شرب فَلْيُتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه. متفق عليه[31]، وفي رواية الحاكم: فلا قضاء عليه، ولا كفارة[32]. فنص على الأكل والشرب، وقِيسَ عليهما بقيةُ المُفطِّرات.

وأما المُكرَه فيقاس على مَن ذرعه القيء في قول النبي : مَن ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقضِ [33].

وسبق أن قلنا: إن هذا الحديثَ موقوفٌ على أبي هريرة، لكن العمل عليه عند أهل العلم.

ومَن ذرعه القيء فهو مكره، وكذلك أيضًا من أُكرِه على فِعل مُفطِّر من المفطرات، فصومه صحيح.

ولا إن دَخَلَ الغُبَارُ حَلْقَه، أو الذُّباب بغير قَصْده.

يعني: فصومه صحيح؛ لأنه لا يمكن التحرز منه، ولا يُكلِّف الله نفسًا إلا وُسْعَها.

ولا إن جَمَع رِيقَه وابتلعه.

بَلْع الريق لا يُفطِّر الصائم، وقد حُكي الإجماع على ذلك، لكن قالوا: يُكره أن يجمع ريقه فيبتلعه.

وسبق قول المؤلف: إنه إذا بلع ريقه بعد أن وصل إلى شفتيه فسد صومه.

والقول الراجح: أن بلع الريق لا يفسد الصيام مطلقًا؛ لأنه لا دليل يدل لذلك؛ ولأنه ليس بأكل ولا شرب، وليس بمعنى الأكل والشرب، والأصل صحة الصوم.

طيب، ضابط ما يحصل به تفطير الصائم.

مسائل في المُفطِّرات المعاصرة للصائم

تكلمت عنها في أول المفطرات، وهنا في “السلسبيل” أضفت مسائل في المفطرات المعاصرة للصائم:

بخاخ الربو

أولًا: استعمال بخاخ الربو:

بخاخ الربو المعروف، هو مجرد هواء أو رذاذ، هذا لا يُفطِّر الصائم؛ لأن معظمه يذهب للرئة، وليس إلى المعدة، وإن كان يذهب إلى المعدة منه شيء يسير، لكن يقول المختصون: إن الذي يذهب من بخاخ الربو إلى المعدة شيء يسير جدًّا، وهو أقل مما يذهب إلى المعدة من أثر ملوحة الماء التي تبقى بعد المضمضة في الوضوء.

فإذا كان أثر ملوحة الماء عندما تختلط بالريق معفوًّا عنها بالإجماع، فكذلك أيضًا هذا الشيء اليسير الذي قد يذهب إلى المعدة من بخاخ الربو معفو عنه من بابٍ أولى؛ لأنه أقل.

وعلى ذلك نقول: إن بخاخ الربو لا بأس به للصائم.

ولكن استجدت أنواعٌ أخرى من علاج الربو، من ذلك علاجه على شكل كبسولات تُوضَع في الفم ثم تنفجر ويختلط الدقيق بالريق ثم يبتلعه؛ فهذا يُفسد الصوم.

الأقراص التي توضع تحت اللسان للمصابين بالأزمات القلبية

الأقراص التي تكون تحت اللسان، ويستعملها المصابون بالأزمات القلبية، على أصول المذهب أنها تُفطِّر الصائم، لكن على القول الراجح أنها لا تفطر لأنها ليست بأكل ولا شرب، وليست في معنى الأكل والشرب، بل هي أشبه بالحقن التي تؤخذ عن طريق الدبر.

لاصقات النيكوتين

هي لاصقات تحتوي على مادة مُركَّزة من النيكوتين يمتصها الجلد، ويستخدمها المدمنون على شرب الدخان؛ لأنهم لا يستطيعون الإقلاع عنه مرة واحدة، وإنما بالتدريج.

فعلى أصول المذهب أنها تفطر الصائم، قالوا: لأن الدم يمتصها عن طريق الجلد. وعلى القول الراجح: لا تفطر الصائم؛ لأنها ليست بأكل ولا شرب، وليست بمعنى الأكل والشرب.

فالقول الراجح إذن: أن لاصقات النيكوتين، أنها لا تفسد الصوم.

غسيل الكلى

غسيل الكُلَى هل يفسد الصوم؟ غسيل الكلى على نوعين:

  • النوع الأول: الغسيل الكُلَويُّ الدَّمَويُّ الذي يكون معه استخراجٌ للدم ثم إعادته للجسم، الطريقة المعروفة المشهورة، هذه تُفسد الصوم، وصدر فيها فتوى من اللجنة الدائمة برئاسة سماحة شيخنا عبدالعزيز ابن باز رحمه الله.

ويمكن تخريجها على الحجامة؛ لأن فيها استخراجًا للدم، والحجامة تفطر الصائم على القول الراجح، وحتى لو لم يُسلَّم بتخريجها على الحجامة، فهناك مأخذ آخر للتفطير، وهو أنه عندما يراد غسيل الدم يضاف -يعني: للدم- أدوية وأملاح وجلوكوز ونحو ذلك؛ ولهذا نجد أن من تُغسل كُلْيَتاه يرتفع عنده مستوى السكر ويجد خفة ونشاطًا.

وعلى هذا؛ فالغسيل الكلوي الدموي يُفسد الصوم.

النوع الثاني: الغسيل الكلوي البريتوني، وهو مُرشِّح يُوضَع على غشاء البطن حول السرة يمتص ما في الدم من شوائب بطريقة معينة.

مِن العلماء المعاصرين من قال: إنه لا يفسد الصوم؛ لأنه ليس في معنى الغسيل الكلوي الدموي. ومنهم من قال: إنه يفسد الصوم، وهذا هو القول الراجح؛ لأنه في الغسيل البريتوني عندما يوضع المرشح الذي عند السرة، تضاف أملاح وأدوية وجلوكوز، ويمتصها الدم؛ ولذلك نجد أن الذي يغسل الغسيل البريتوني يجد خفة ونشاطًا، ويرتفع عنده مستوى السكر، فمعنى ذلك أن هذه التي توضع لها أثر، ومعنى ذلك أنه قد استفاد من هذا الغسيل؛ ولهذا فالأقرب أن صومه أيضًا يفسد.

وعلى هذا نقول: الغسيل الكلوي بنوعيه: الغسيل الكلوي الدموي والغسيل الكلوي البريتوني، كلاهما مفسد للصوم، مَن احتاج إليه فإنه يفعل ويقضي بعد رمضان إن استطاع القضاء، فإن لم يستطع فيطعم عن كل يوم مسكينًا.

البَخُور

البَخُور لا يُفسد الصوم؛ لأنه ليس بأكلٍ ولا شرب ولا بمعنى الأكل والشرب، لكن كَرِه بعض أهل العلم أن يتعمَّد الصائمُ استنشاقه؛ لأنه يخشى أن يكون له جِرْمٌ فيذهب إلى المعدة.

التدخين

شرب سجائر التدخين المزوَّد بالنيكوتين هذا يفسد الصوم؛ لأن نسبة النيكوتين تكون فيه مُركَّزة، وهو كثير وله جِرْم، ومعه مواد أخرى؛ ولهذا يكون له أثر على الجوف وعلى المعدة.

فإن قال قائل: لماذا فرَّقتم بين البَخُور وبين الدخان؛ تقولون: البخور لا يفسد الصوم، بينما الدخان يفسد الصوم؟ نقول: إن تَعَاطي سجائر التدخين هي ليست مجرد دخان يدخل للجوف، وإنما هذه السجائر تشتمل على مادة النيكوتين، وتشتمل على مواد أخرى، فمجموعها يَحصُل به تفطير الصائم، بينما البَخُور فهو مجرد دخان ذي رائحة زَكِيَّة، وليس معه موادُّ أخرى، فلا يفسد الصوم باستنشاقه.

الإبر العلاجية

الإبر إن كانت مغذية، فإنها تُفسد الصوم؛ لأنها في معنى الأكل والشرب، أما إذا كانت غير مغذية، يعني: أنها إبر علاجية، فقياس المذهب أنها تفسد الصوم، وعلى القول الراجح: أنها لا تفسد؛ لأنها ليست بأكل ولا شرب، وليست بمعنى الأكل والشرب.

عندما نذكر الآن الإبر وأثرها على الصوم، تَرِد الآن مسألة معاصرة ونازلة، وهي: لقاح الكورونا، هل يفسد الصوم؟ مَن أخذ جرعة لقاح كرونا في نهار رمضان هل يفسد صومه؟

الجواب: لا يفسد صومه؛ لأن لقاح كورونا هو من جنس الإبر العلاجية، والإبر العلاجية لا تفسد الصوم على القول الراجح؛ لأنها ليست أكلًا ولا شربًا، وليست في معنى الأكل والشرب، والأصل هو صحة الصيام، ولا نعدل عن هذا الأصل، فنقول بإفساد الصوم إلا بأمر واضح.

ولهذا؛ فالقول الراجح أن الإبر العلاجية، أنها لا تُفسد الصوم، وعلى ذلك نقول: إن لقاح كورونا لا بأس به للصائم، ولا يفسد معه الصوم.

بخار الأكسجين

بخار الأكسجين هو كبخاخ الربو، لا يُفسد الصوم، بناء على القول الراجح.

المنظار

لا يخلو أن يكون هذا المنظار للمعدة أو غيرها، الذي ليس للمعدة هذا لا يفسد الصوم، أما منظار المعدة فإذا كان بواقعه الحالي أنه يُدهَن ويكون معه أنبوبة فيها ماء لتنظيف ما قد يقف أمام كاميرا التصوير التي في المنظار فيُفسِد الصوم؛ لأجل هذه الأمور المصاحبة للمنظار.

لكن لو قُدِّر أنَّ المنظار أُدخِل للمعدة من غير أن يصحبه شيء لا من دُهْن ولا ماء ولا غيره، فلا يَفسُد الصوم، لو أدخل المنظار بمجرده لا يَفسُد الصوم؛ لأنه مجرد أدخل ثم أخرج.

لكن الواقع أن هذا المنظار يصحبه دِهان يُدهَن بهذا المنظار حتى لا يجرح ما بداخل الفم من المَرِيء ونحوه، فيُدهن هذا المنظار، وأيضًا هذا المنظار يكون مصحوبًا بكاميرات، والكاميرات هذه حتى لا يعيق التصويرَ أمامها شيءٌ تكون مصحوبةً بأنبوبة فيها ماء لتنظيف ما قد يقف أمام الكاميرا.

فإذن، منظار المعدة يصحبه ماء ويصحبه دُهْن؛ فلأجل هذا الماء والدهن نقول: إن هذا المنظار يُفسِد الصوم، لكن لو قُدِّر أنه أُدخل منظارٌ مُجرَّدٌ ولا يصحبه لا ماء ولا دهن ولا غير ذلك، فهذا المنظار لا يُفسِد الصوم.

طيب، نريد فقط ننتهي من المُفطِّرات المعاصرة.

الفُرْشاة والمعجون للصائم

استخدام الفرشاة والمعجون لا يُفسِد الصوم، لكن يجب عليه أن يَلْفِظَ المعجون بعد استخدامه، وهو أشبه بالمضمضة، وهي لا تُفطِّر الصائم بالإجماع.

خلع السن

خلع السن لا يفسد الصوم؛ لكن يجب عليه أن يَلْفِظ ما يخرج منه من الدم ونحوه مما يصاحب القلع، والدم الذي يخرج مع قلع السن في الغالب أنه دم يسير لا يضر.

وقد سبق القول بأن خروج الدم اليسير لا يفسد الصوم، إنما الذي يُفسد الصومَ الدمُ الكثير الذي هو في معنى دم الحجامة.

لَصْقَات الحمل

لصقات الحمل ليس لها أثر على الصوم، وإنما أثرها على الطهارة عند الغُسل الواجب، كالغسل من الحيض، ومن الجنابة، وهذه اللصقات لو نُزعت أثناء الغُسل بطل مفعولها.

والذي يظهر أن حكمها حكم الجبيرة: يُمسَح عليها، ويجوز استخدامها، وتَمْسح عليها المرأة أثناء الغسل، وأما الصوم فلا علاقة لها بالصوم، يعني الصوم معها صحيح.

أثر البَنْجِ على الصوم

البَنْجُ لا يُفطِّر الصائمَ إلا إذا أُغمي عليه.

وقد سبق أن ذكرنا أثر الإغماء على الصوم، وقلنا: إنه إذا أغمي عليه جميع النهار ولم يُفِقْ جزءًا منه لم يصح صومه ويلزمه القضاء، أما إن أفاق المغمى عليه جزءًا من النهار ولو دقيقة واحدة، فإن صومه صحيح.

وكذلك يقال بالنسبة للبَنْج، فإذا كان التبنيج مثلًا ساعة أو ساعتين أو ثلاثًا ثم أفاق، فصومه صحيح، لكن لو افترضنا أن هذا الذي قد أُعطي البَنْجَ، استمر التبنيج وفقد الوعي من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فصومه غير صحيح، ويلزمه القضاء.

السواك المعطر

السِّوَاك المُعطَّر، أولًا السواك غير المعطر لا يفسد الصوم، وهذا بالإجماع.

أما السواك المعطر: فإن كان سيَلْفِظ رِيقَه بعد سِوَاكِه فلا يُفسِد صومه، هو كمعجون الأسنان. أما إذا كان سيبتلع الريق بعد تنظيف الأسنان بالسواك المعطر فيفسد صومه؛ لأن هذا العطر مادة لها طعم وتشبه بعض المأكولات والمشروبات.

ولهذا؛ من أراد أن يستاك فينبغي أن يستاك بسواك غير معطر، وإذا استاك بسواك معطر فإنه يَلْفِظ ريقه ولا يبتلعه لأجل اختلاطه بهذا العطر.

بخاخ تغيير رائحة الفم

بخاخ تغيير رائحة الفم، هو مجرد رذاذ، أشبه ببخاخ الربو، فلا يفسد الصوم، وإن كان الأَوْلى اجتنابُه، وإذا كان فيه طعمٌ فلا بد من أن يَلْفِظ الرِّيقَ كما سبق، فإنْ بَلَعه فسد صومه، فهو كالمعجون والسواك المعطر.

حقن الدم

حقن الدم يفسد الصوم؛ لأن الدم هو غاية الغذاء، لكن لو احتاج أحدٌ إلى أن يُحقَن بدم فلا بأس أن يحقن ويقضي ذلك اليوم بعد رمضان.

ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

والآن نجيب عما تيسر من الأسئلة.

الأسئلة

السؤال: هل مَيَامِنُ الصف في الصلاة أفضل من مياسره؟

الجواب: الأفضل مَن كان أقرب إلى الإمام، لكن عندما يتساوى اليمين مع اليسار، رُوي في ذلك حديثٌ في فضل ميامن الصفوف[34]، وفي سنده مقال.

ولكن كثيرًا من أهل العلم يقول: إنه عند التساوي، يمين الصف أفضل من يساره، هذا عند التساوي، وإلا إذا كان الأقرب إلى الإمام من كان عن يسار الصف، فالأفضل اليسار في هذه الحال، فالأقرب للإمام هو الأفضل.

على أن الذي ينبغي أن يحرص عليه المسلم: أن يحرص على أن يصلي في الصف الأول، سواء كان في اليمين أو في اليسار؛ لأن الصف الأول ورد فيه أحاديث صحيحة، يقول النبي : لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا[35]؛ يعني: لو يعلمون ما في الصف الأول من الفضل والأجر والثواب لتنافسوا على الصف الأول، وربما أدى هذا التنافس إلى أن يقترعوا فيما بينهم فيمن يصلي في الصف الأول. وهذا يدل على أفضلية الصف الأول.

ونرى بعض الناس يأتي للمسجد مبكرًا، ويزهد في الصف الأول، تجده أنه يصلي متأخرًا في الصفوف المتأخرة، وهذا من قلة التوفيق؛ إذا أتيت مبكرًا فاحرص على الصف الأول، الصف الأول له فضل عظيم، ولو يعلم الناس ما ورد فيه من الفضل لتنافسوا عليه، ولربما أدى ذلك إلى أن يستهموا -يعني: يقترعوا- عليه.

السؤال: هل يُشترط في صرف النقود التقابض قبل التفرق؟

الجواب: نعم، في صرف النقود لا بد من التقابض، عندما تصرف مثلًا ريالات بريالات، لا بد من التقابض، عندما تصرف ريالات بدولارات لا بد من التقابض؛ لأن العلة واحدة، وهي الثَّمَنِيَّة.

وإذا كانت العلة واحدة فلا بد من التقابض، وإذا كان الجنس واحدًا فلا بد من التقابض والتماثل. أما إذا اختلف الجنس فيُشترط التقابض دون التماثل؛ لقول النبي : فإذا اختلفت الأجناس، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد[36].

هنا أنبه على مسألة متعلقة بالصرف:

عندما يأتي إنسان إلى تموينات أو محلِّ تسوق، ويعطيهم مثلًا خمسمائة، ولا يجد صاحبُ التموينات صرفًا، يعني: اشترى هذا مثلًا بمائة ريال أو بمائتين، ولم يجد صاحب التموينات الباقي، قال: أعطيك الباقي غدًا، هذا لا بأس به، يُعتبر دينًا، يعتبر الباقي دينًا في ذمة صاحب التموينات.

وهذه المسألة ليست من قبيل الصرف أصلًا، هي ليست من قبيل الصرف، هو أتى واشترى بضاعة وأعطاه الثمن، وقال: إن هناك جزءًا من الثمن الذي أعطيتُك يبقى وديعة عندك.

فالمسألة ليست أصلًا بصرفٍ، هذه المسألة نقول: هذه لا بأس بها، هذه في قول عامة أهل العلم.

المسألة الثانية: إذا أراد أن يصرف وأعطاه خمسمائة وقال: اصرفها لي، فذهب وما وجد إلا أربعمائة فقال: خذ هذه الأربعمائة، والمائة ريال المتبقية سأعطيك إياها غدًا. فهذه بعض العلماء منع منها، وقال: إن الصرف لا بد فيه من التقابض والتماثل، وهذا لم يتحقق.

ولكن الأظهر -والله أعلم- أن هذا لا بأس به إذا نوى أن الباقي وديعة عند صاحب المحل، وهذا قد نص على جوازه بعض الفقهاء، ومنهم فقهاء الحنابلة.

فمثلًا؛ عندما يعطيك خمسمائة، وهذا صاحب المحل لا يجد إلا أربعمائة، ينوي المصارفة في الأربعمائة، فهو يصرف أربعمائة بأربعمائة، والمائة ريال المتبقية تبقى أمانة أو وديعة عند صاحب المحل يستلمها في الموعد الذي يتفقان عليه. هذه، بعض فقهاء الحنابلة نصوا على هذه المسألة وعلى جوازها.

فهذا هو الأقرب والله أعلم، فهو يقول مثلًا: ما وجدت إلا أربعمائة، يقول: خلاص، اصرف لي أربعمائة، أربعمائة بأربعمائة تقابضٌ وتماثل، والمائة ريال الزائدة هذه ينوي أنها وديعة أو أمانة عند صاحب المحل يستلمها غدًا أو في أي وقت آخر.

فأيضًا هذه المسالة على القول الراجح لا بأس بها.

السؤال: ماذا يفعل مَن يُحب الخير، ولديه وسواس من الرياء شديد، يخاف أن يُحبط عمله فيترك الخير؟

الجواب: يقول بعض السلف: العمل لأجل الناس رياءٌ، وتَرْك العمل لأجل الناس رياء.

يعني: لا تُبَالِ بالناس، اعمَلْ لله ، سواءٌ رآك الناس أو لم يَرَوْكَ.

فالرياء هو أن الإنسان يعمل لأجل الناس، هذا هو الرياء، وأما إذا كان يعمل لله فلا يَضُر أن يراه الناس أو لا يرونه.

وصاحب السؤال يقول: عنده خوف شديد من الرياء، فيترك العمل خوفًا من الرياء؟

هذا من وسوسة الشيطان؛ أنه يريد أن يَصُده عن الخير، فيوسوس له: بأنك إن فعلت هذا الخير فأنت مُرَاءٍ، فيترتب على هذا أن يترك كثيرًا من الأعمال الصالحة لأجل ذلك. فهذه من وساوس الشيطان.

فنقول للأخ السائل الكريم: استعِذ بالله من الشيطان الرجيم، واستحضر هذه المقولة: إن العمل لأجل الناس رياء، وترك العمل لأجل الناس رياء، اعمَلْ لله ، ولا تُبَالِ بنظر الناس.

السؤال: لَعِبُ البالوت إذا لم يشتمل على أمرٍ محرم، ولم يُلْهِ عن واجبٍ؟

الجواب: أولًا: لعب البالوت إذا كان بمبالغ نقدية، إذا كان بعوض، يعني المهزوم يعطي الفائز مبلغًا نقديًّا؛ هذا لا يجوز، هذا من القِمَار والمَيْسِر، وهو مُحرَّم.

أما إذا كان لعب البالوت من غير عوض، ولم يُلْهِ عن أمر واجب، ولم يُوقِع في أمر محرم؛ فلا بأس به.

لكن بهذه الضوابط التي ذكرتُ، يكون كسائر اللُّعَب، والضابط فيها: أنها إذا لم توقع في أمر محرم، ولم تُلْه عن واجب، ولم تُدخِل في الميسر بأن كان فيها عِوَض، فالأصل في ذلك الإباحة.

السؤال: ما حُكْمُ لُبْسِ الملابس التي فيها جنابة، هل يجب عليه الغسل؟

الجواب: يعني: يقصد الملابس التي عليها أَثَرُ المَنِيِّ، المني ليس بنَجَسٍ، وإنما هو طاهر على القول الراجح.

فعلى ذلك؛ إذا كان طاهرًا فلا بأس بالصلاة في الملابس التي فيها آثار الماء، ولكن الأفضل والأحسن أن الإنسان يغسلها، يغسل هذه الملابس، هذا من كمال النظافة وكمال الطهارة، وإن كان المني ليس نَجَسًا، وإنما هو طاهر، لكن لنفترض مثلًا أنه صلى في ملابس وعليها أثر المني، فصلاته صحيحة؛ لأن المني طاهر، وليس بنجس.

ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه مالك: 47، وأحمد: 10463، وأبو داود: 2380، والترمذي: 720، وابن ماجه: 1676.
^2 رواه البخاري: 304.
^3 رواه مسلم: 1114.
^4, ^13, ^15, ^29, ^33 سبق تخريجه.
^5 رواه البخاري: 1946، ومسلم: 1115.
^6 رواه مسلم: 1121.
^7 رواه البخاري: 1945، ومسلم: 1122.
^8 رواه البخاري: 2996.
^9 رواه أحمد: 27233، وأبو داود: 2412.
^10 رواه الترمذي: 799.
^11 رواه مسلم: 690.
^12 رواه أحمد: 19047، وأبو داود: 2408، والترمذي: 715، والنسائي: 2315.
^14 رواه البخاري: 1952، ومسلم: 1147.
^16 رواه أحمد: 15828، والترمذي: 774.
^17 رواه أحمد: 8768، وأبو داود: 2367، والترمذي: 774، وابن ماجه: 1679، والنسائي في “الكبرى”: 3174.
^18 رواه البخاري: 1938.
^19 رواه البخاري: 5701، ومسلم: 1202.
^20 رواه البخاري: 1939.
^21 رواه أحمد: 22974، وأبو داود: 2149، والترمذي: 2777.
^22 رواه أحمد: 19197، وأبو داود: 2148.
^23 رواه البخاري: 5269، ومسلم: 127.
^24 رواه البخاري: 7492، ومسلم: 1151.
^25 رواه البخاري: 1927، ومسلم: 1106.
^26 رواه أحمد: 16383، وأبو داود: 142، والترمذي: 788، والنسائي: 87، وابن ماجه: 407.
^27 رواه أحمد: 16382، وأبو داود: 142.
^28 رواه أحمد: 16384، وأبو داود: 142.
^30 رواه أبو داود: 2377.
^31 رواه البخاري: 1933، ومسلم: 1155.
^32 رواه الحاكم: 1569.
^34 رواه أبو داود: 676، وابن ماجه: 1005.
^35 رواه البخاري: 615، ومسلم: 437.
^36 رواه مسلم: 1587.
zh