logo
الرئيسية/دروس علمية/التعليق على كتاب السلسبيل في شرح الدليل/(24) فصل في صلاة المسافر- من قوله: “قصر الصلاة الرباعية أفضل”

(24) فصل في صلاة المسافر- من قوله: “قصر الصلاة الرباعية أفضل”

مشاهدة من الموقع

عناصر المادة

ننتقل بعد ذلك إلى التعليق على “السلسبيل في شرح الدليل”، وكنا قد وصلنا إلى صلاة المسافر.

صلاة المسافر

فصلٌ في صلاة المسافر

وهذا الفصل من أهم الفصول، ومما تكثر فيه الأسئلة، والخلاف فيه كثيرٌ ومتشعبٌ بين أهل العلم، وربما أنك إذا قرأت في بعض كتب الخلاف يتشتت ذهنك؛ ولذلك سنذكر ضوابط وقواعد في هذا الباب، فمن يتابع معنا ويركِّز؛ سيضبط أصول هذا الباب إن شاء الله.

تعريف السفر

أولاً: في “السلسبيل” مقدِّمةٌ عن تعريف السفر.

السفر: هو مفارقة محل الإقامة، يعني: السفر الأصل أنه من الإسفار، والإسفار: هو البروز في الصحراء، هذا هو الأصل، وأما كون الإنسان يقيم ويسمَّى مسافرًا؛ فهذا خلاف الأصل؛ ولذلك لا يُتوسع فيه كما سيأتي.

سُمِّي السفر بذلك؛ لأن الإنسان يُسفِر عن نفسه، فبدلًا من أن يكون مكنونًا في بيته؛ أصبح بارزًا، ومنه قول الله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ [المدثر:34]، يعني: تبيَّن وظَهَر.

وقيل: إنما سمي السفر سفرًا؛ لأنه يُسفر عن أخلاق الرجال؛ فإن كثيرًا من الناس لا تُعرف أخلاقه ولا سيرته إلا بالسفر معه، وفي هذا: القصة المشهورة: أن رجلًا شهد عند عمر بن الخطاب  شهادةً، فقال له عمر : “لست أعرفك، ولا يضرك أني لا أعرفك، ائتِ بمن يُعرِّف بك”، فقال رجلٌ: أنا أَعرِفه، قال: “بأي شيءٍ تعرفه؟”، قال: بالعدالة والفضل، فسأله عمر ثلاثة أسئلةٍ، قال: “هو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه؟”، قال: لا، قال: “فعاملته بالدينار والدرهم اللذين يُستدل بهما على الورع؟”، قال: لا، قال: “فرفيقك في السفر الذي يُستدل به على مكارم الأخلاق؟”، قال: لا، قال عمر لهذا الرجل: “إذنْ أنت لست تعرفه”، فهنا عمر ذكر ثلاث علاماتٍ يُستدل بها على معادن الرجال:

  • العلامة الأولى: الجار القريب الملاصق الذي يعرف مدخله ومخرجه، فهذا يمكن أن يشهد على الإنسان أو يشهد له؛ ولهذا جاء في “مسند الإمام أحمد” بسندٍ صحيحٍ: أن رجلًا أتى النبي  فقال: يا رسول الله، كيف أعرف أني أحسنت؟ فقال له النبي : إذا قال جيرانك: أحسنت، فقد أحسنت، وإذا قال جيرانك: أسأت، فقد أسأت [1]، فاعتبر النبي شهادة الجيران؛ وهذا دليلٌ على اعتبار الرأي العام، ما يسمى في الوقت الحاضر بالرأي العام، فإذا شهد الجيران لإنسانٍ بأنه من المحافظين على الصلوات في المسجد، وأنه ذو أخلاقٍ رفيعةٍ، وأنه لم يُعرف بالمشاكل، ولم يعرف منه إلا الخير؛ إذنْ هذه شهادةٌ وتزكيةٌ عظيمةٌ له، وإذا شهد جيرانه عليه بأنه لم نره يومًا من الأيام في المسجد، وبأنه تدور حوله الريبة، ويأتيه أناسٌ يُشك فيهم، ونحو ذلك، فهذه شهادةٌ عليه.
  • الأمر الثاني: قال: “عاملته بالدينار والدرهم؟”، هذا هو المحك، إذا عاملت إنسانًا بالدينار والدرهم، ورأيت منه الورع والحرص على أداء الحقوق؛ فهذا دليلٌ على زكائه وعدالته؛ لأن بعض الناس يظهر التدين والصلاح، لكن عندما تعامله بالدينار والدرهم؛ تجد أنه شخصٌ آخر تمامًا، ليس بذاك الإنسان الذي يُظهر الصلاح والتدين، يستلف ويستدين ثم لا يسدد، يكذب يغش يُخادع، فتجد أنه في المعاملات المالية شخصٌ آخر، فإذن: معاملة الإنسان بالدينار والدرهم هذه من الأمور التي يُستدل بها على الورع.
  • الأمر الثالث: قال: “فرفيقك في السفر الذي يُستدل به على مكارم الأخلاق؟”، خاصةً السفر الطويل يمكن السفر القصير يعني قد لا يكشف ولا يبيِّن معدن الإنسان، لكن السفر الطويل، وكانت أسفار الناس سابقًا طويلةً؛ كانت على الإبل والرواحل، أيضًا حتى في وقتنا الحاضر السفر الطويل مع الإنسان يكشف لك أخلاقه ومعدنه؛ لأنه في السفر يظهر على حقيقته، ربما أنه في الحضر يُجامل، ويظهر بعض الأمور الحسنة، لكن في السفر يظهر لك على حقيقته، وتظهر أخلاقه ومعدنه، وقد سمى النبي السفر قطعةً من العذاب، قال: السفر قطعةٌ من العذاب؛ يمنع أحدَكم طعامه وشراب ونومه [2]، متفقٌ عليه، وإنما سمى النبي السفر قطعةً من العذاب؛ لأنه مَظِنةٌ للمشقة، فيما مضى هذا ظاهرٌ، وحتى أيضًا في الوقت الحاضر، المسافر لا يخلو من المشقة والتعب؛ لأنه قد يتعرض لما يتعرض له؛ مثلًا: فالطائرة قد تتأخر، تأتيه مصاعب ومتاعب في السفر، وهذا أمرٌ ظاهرٌ، فالسفر قطعةٌ من العذاب.

رخص السفر

قصر الصلاة الرباعية

قال المؤلف رحمه الله:

قصر الصلاة الرباعية أفضل.

المسافر إذا سافر سفرًا -يعني: إذا سافر مسافةً- يترخص معه برخص السفر؛ فيرخص له بأربع رخصٍ:

  1. الرخصة الأولى: قصر الصلاة الرباعية.
  2. والرخصة الثانية: الجمع بين الصلاتين.
  3. والرخصة الثالثة: الفطر في نهار رمضان.
  4. والرخصة الرابعة: امتداد مدة المسح على الخفين إلى ثلاثة أيامٍ بلياليهن.

فهذه أربع رخصٍ للمسافر، بدأ المؤلف أولًا: بالقصر، والأصل فيه قول الله ​​​​​​​: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]، فأباح الله تعالى لمن ضرب في الأرض -يعني لمن سافر- أن يقصر من الصلاة، لكن الله تعالى شَرَطَ ذلك بحال الخوف، وعن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر: إن الله قال: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]، فقد أَمِنَ الناس؟ قال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله عن ذلك؟ فقال: صدقةٌ تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته [3]، رواه مسلمٌ، يعني: كان في الأصل القصر في حال الخوف، ثم جعل الله تعالى هذه الرخصة في حال الأمن والخوف صدقةً من الله ورحمةً منه بعباده، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقصر في جميع أسفاره، ولم يرد عنه أنه أتم في سفرٍ قط؛ ولهذا فالقصر في السفر أفضل من الإتمام، لكن الإتمام جائزٌ عند الجمهور، وبعض أهل العلم قال: إنه مكروهٌ؛ لأنه خلاف هدي النبي .

قصر الصلاة في السفر المباح

قال:

لمن نوى سفرًا مباحًا.

لو أن المؤلف قال: لمن ابتدأ سفرًا؛ لكان أجود في العبارة، لماذا؟ لأن الإنسان قد ينوي السفر ولا يسافر؛ فلا يشرع له القصر.

وأفاد المؤلف بأن القصر إنما يكون في السفر المباح، أي الذي ليس بحرامٍ ولا مكروهٍ، والسفر قد يكون واجبًا، مثل السفر للحج والعمرة، حج الفريضة والعمرة الواجبة، وقد يكون مستحبًّا، إذا كان سفرًا لحجٍّ غير واجبٍ وعمرةٍ غير واجبةٍ، أو لصلة رحمٍ، أو لتعزيةٍ ونحو ذلك، وقد يكون مستوِي الطرفين؛ كالسفر للتجارة، وقد يكون السفر لمعصيةٍ؛ كالسفر لارتكاب الزنا وشرب الخمر ونحو ذلك.

طيب، السفر لأجل المعصية، هل يشرع معه الترخص برخص السفر؟

المؤلف يُفهم من كلامه أنه لا يشرع القصر في سفر المعصية، ولا الترخص برخص السفر عمومًا، وهذه المسألة اختلف فيها الفقهاء على قولين:

  • القول الأول: أن من سافر سفر معصيةٍ فليس له الترخص برخص السفر، وهذا قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة؛ قالوا: لأن الله تعالى قال: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:173]، فرخَّص الله في الأكل من الميتة لمن لم يكن عاديًا ولا باغيًا، ويقاس على هذا قصر الصلاة، قالوا: ولأن الترخص إنما شرع للإعانة على المباح، والترخيص للمسافر سفر معصيةٍ بقصر الصلاة -ورُخَصِ السفر عمومًا- فيه إعانةٌ له على المعصية.
  • القول الثاني: أنه يشرع الترخص برخص السفر في كل سفرٍ، سواءٌ أكان سفر طاعةٍ أم سفر معصيةٍ، وهذا هو مذهب الحنفية، وروايةٌ عند الحنابلة، واختارها ابن تيمية وابن القيم وجمعٌ من المحققين من أهل العلم، وهو القول الراجح؛ وذلك لعموم الأدلة الدالة على مشروعية الترخص برخص السفر من غير تفريقٍ بين سفرٍ وسفرٍ؛ ولأن الأصل في الصلاة أنها فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر، فصلاة السفر إذنْ الأصل أنها ركعتان.

فالقول الراجح إذنْ: أنه يشرع الترخص برخص السفر في سفر المعصية؛ كما أنه يشرع ذلك في بقية أنواع السفر.

قصر الصلاة في السفر لمحلٍّ معينٍ

قول المصنف رحمه الله:

لمحلٍ معين.

أي: لا بد أن يقصد المسافر موضعًا معينًا، فلو خرج ضائعًا أو هائمًا أو تائهًا لا يدري أين يتجه؛ فليس له الترخص برخص السفر.

المسافة التي تقصر فيها الصلاة

قوله:

يبلغ ستة عشر فرسخًا.

أي: أنه يشترط للترخص برخص السفر: أن تبلغ مسافة السفر ستة عشر فرسخًا فأكثر، وهذه المسألة من المسائل الشائكة التي اختلف فيها العلماء اختلافًا كثيرًا، حتى إن الحافظ ابن حجرٍ رحمه الله قال في “الفتح”: هي من المواضع التي انتشر فيها الخلاف جدًّا، وحَكى ابن المنذر وغيره فيها نحوًا من عشرين قولًا، ولكن حاصل هذه الأقوال يرجع إلى قولين:

  • القول الأول: عدم تحديد السفر بمسافةٍ معينةٍ، وإنما المرجع في ذلك للعرف؛ فما عدَّه الناس في العرف سفرًا؛ فهو سفرٌ، وما لم يَعدَّه الناس سفرًا؛ فليس بسفرٍ؛ قالوا: لأنه لم يَرِد في النصوص ما يدل على تحديد مسافة السفر، والتحديد بابه التوقيف، والأصل أن ما ورد في الشرع ولم يرد له حدٌّ في اللغة ولا في الشرع؛ فالمرجع فيه إلى العرف، وهذا اختيار الموفق بن قدامة وابن تيمية وجمعٍ من أهل العلم، رحمة الله تعالى على الجميع، وهذا القول من الناحية النظرية جيدٌ، لكنه من الناحية العملية يصعب تطبيقه؛ إذ إن الناس يختلفون في العرف اختلافًا كبيرًا، خاصةً في وقتنا الحاضر، فالعرف في السفر مضطربٌ، ولو أن طلبة علمٍ سافروا سفرًا ليس طويلًا، وإنما محتملًا؛ لاختلفوا في تحديد العرف؛ بعضهم يقول: العرف يدل لكذا، وبعضهم يقول: العرف يدل لكذا، فالعرف مضطربٌ في تحديد مسافة السفر؛ فلا يعول عليه.
  • القول الثاني: التحديد بمسافةٍ معينةٍ، وعلى هذا المذاهب الأربعة وأكثر أهل العلم، ثم اختلفوا في التحديد؛ فالحنفية يرون أن مسافة السفر ثلاثة أيامٍ، والجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة يرون أنه مسيرة يومٍ وليلةٍ، وبعضهم يعبر عن مسيرة يومٍ وليلةٍ بيومين قاصدَين، كما فعل المؤلف.

قال المؤلف:

وهي يومان قاصدان في زمنٍ معتدلٍ بسير الأثقال، ودبيب الأقدام.

يعني: لا يسير الإنسان في اليومين ليلًا ونهارًا، ولا يكون كثير النزول والإقامة، وإنما يكون معتدلًا في سيره؛ كسير الأثقال، يعني كسير الإبل المحملة بالأثقال، وحدد المؤلف مسافة السفر بستة عشر فرسخًا، وقد اختار هذا القول البخاري في “صحيحه”، قال: بابٌ في كم تقصر الصلاة، وسمى النبي يومًا وليلةً سفرًا، وكان ابن عمر وابن عباسٍ يقصران ويفطران في أربعة بُرُدٍ، ثم ساق بسنده عن أبي هريرة أن النبي قال: لا يحل لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يومٍ وليلةٍ إلا ومعها ذو محرمٍ [4]، قالوا: وهذا أقل ما يسمى سفرًا، لو كان هناك أقل منه؛ لذكره النبي ؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كأنه يقول: لا يحل لامرأةٍ أن تسافر أدنى مسافة سفرٍ إلا ومعها ذو مَحرمٍ، لكنه عدل عن ذلك وعبر بأقل مسافةٍ للسفر؛ فعلى هذا: تكون مسافة السفر محددةً بهذا الحديث، وهذا هو القول الراجح، تحديد أقل مسافةٍ للسفر بستة عشر فرسخًا، كما أشار إلى ذلك البخاري، وأيضًا كما هو المأثور عن ابن عباسٍ وابن عمر ، وقد ذكرنا رواية البخاري عنهما، قال البخاري: وكان ابن عمر وابن عباسٍ يقصران ويفطران في أربعة بُرُدٍ، وكانا يقولان: يا أهل مكة، لا تقصروا في أقل من أربعة بُرُدٍ، وكان ابن عباسٍ يقول: لا تقصر إلى عرفة وبطن نخلة، واقصر إلى عُسفان والطائف وجدة، فإذا قدمت على أهلٍ أو ماشيةٍ فأَتِمَّ [5]، أخرجه ابن أبي شيبة بسندٍ صحيحٍ، وابن عباسٍ وابن عمر لم يُعرف لهما مخالفٌ من الصحابة ؛ فكان هذا كالإجماع، ولا شك أن ابن عباسٍ وابن عمر من أعلم الناس بلغة العرب، وأيضًا بالشرع، فنرجع لفهمهما لأقل مسافةٍ للسفر، وقد فهما أن أقل مسافةٍ للسفر: أربعة بُرُدٍ.

طيب، إذنْ التحديد بأربعة بردٍ أولًا: يدل له حديث: لا يحل لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يومٍ وليلةٍ إلا ومعها ذو محرمٍ [6]، واليوم والليلة تعادل أربعة بُرُدٍ.

ثانيًا: أن هذا قد ورد عن ابن عمر وابن عباس ، ولم يعرف لهما مخالفٌ؛ فكان كالإجماع، وهذا هو القول الراجح في المسألة، وقد اختاره شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله، لكن نحتاج الآن أن نحدد هذه المسافة بالكيلومتراتٍ؛ لأن الناس لا يعرفون الآن أربعة بُرُدٍ، فأربعة بردٍ، البريد يعادل أربعة فراسخ، فأربعة بردٍ تُعادل ستة عشر فرسخًا، كما قال المؤلف، والفرسخ يعادل ثلاثة أميالٍ بالميل الهاشمي المعروف عند المتقدمين، فتكون المسافة بالأميال الشامية: نضرب (16×3=48)، فتكون المسافة إذنْ: أربعة بردٍ، تساوي ستة عشر فرسخًا، تساوي ثمانيةً وأربعين ميلًا، والميل يعادل ثلاثة آلافٍ وخمسمئة ذراعٍ بذراع الرجل المتوسط في طول يده، والميل يُقدَّر بألفٍ وستمئة وثمانين مترًا؛ وعلى هذا: تكون مسافة السفر: (80 كيلومترًا، و640 مترًا)، هذه أقل مسافةٍ يُقصر فيها في السفر، أقل مسافة سفرٍ يترخص فيها برخص السفر: (80 كيلومترًا) تقريبًا، هناك من طلاب العلم من حدد الثمانية والأربعين ميلًا بأقل من (80 كيلومترًا)، ويقابلهم من حددها بأكثر من (80 كيلومترًا)؛ للاختلاف في تقدير الميل.

والصواب أن (48 ميلًا) تعادل (80 كيلومترًا) تقريبًا، وتحديدًا تعادل (80،640 مترًا)، ومما يؤيد لذلك: الآثار عن الصحابة التي ذكرناها؛ فابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: “اقصر إلى عُسفان والطائف وجدة”، والمسافة ما بين مكة إلى عسفان قبل امتداد العمران تعادل (80 كيلومترًا) تقريبًا، كذلك أيضًا المسافة ما بين مكة إلى جدة وإلى الطائف قبل امتداد العمران، يعني لا تحسبها الآن، قبل امتداد العمران تعادل (80 كيلومترًا) تقريبًا، وربما ما بين مكة إلى الطائف قد تزيد، مكة إلى جدة كانت تعادل (80)، الآن مع امتداد عمران جدة ومكة؛ أصبحت أقل من (80 كيلو)؛ ولذلك من ذهب من جدة إلى مكة لا يشرع له القصر ولا الترخص برخص السفر الآن، لكن قديمًا كانت المسافة ما بين مكة إلى جدة (80)، فهذه مؤيِّدات القول بأن المسافة: (80 كيلومترًا).

هناك دليلٌ آخر، وهذه فائدةٌ قد لا تجدها في كتابٍ: النبي في حجة الوداع بقي في رحلته من المدينة إلى مكة عشرة أيامٍ [7] بسير الإبل المحملة، والمسافة ما بين المدينة إلى مكة (400 كيلو)؛ معنى ذلك: أن النبي كان يقطع في كل يومٍ (40 كيلومترًا)، ونحن قلنا: إن أقل مسافةٍ يترخص فيها برخص السفر: يومان، فمعنى ذلك: أن أقل مسافةٍ هي (80 كيلومترًا)، (40+40=80 كيلومترًا)، فخذ هذه الفائدة التي قد لا تجدها في كتابٍ، وهي تؤكد ما ذكرنا من تقدير أقل مسافة للسفر بـ(80 كيلومترًا).

كيف تحسب مسافة السفر؟

طيب، كيف تُحسب الـ(80 كيلومترًا)؟ نحن قلنا: الآن أقل مسافة للسفر: (80)، كيف تُحسب؟

قال المؤلف رحمه الله:

إذا فارق بيوت قريته العامرة.

أي: لا يقصر مسافرٌ الصلاة حتى يفارق عُمران مدينته أو قريته، وإلى هذا ذهب جماهير أهل العلم؛ لأنه قبل ذلك لا يكون ضاربًا في الأرض؛ لقول الله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء:101]، ولا يكون ضاربًا في الأرض حتى يخرج من محل الإقامة؛ ولهذا قال أنس بن مالكٍ : “صليت الظهر مع النبي بالمدينة أربعًا، وبذي الحليفة ركعتين” [8]، يعني: في حجة الوداع، مع أنه عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع قد تجهز للسفر، وتهيأ للسفر، ولبس لباس السفر، لكنه لما صلى الظهر في مسجده؛ صلاها ركعتين، ووصل إلى ذي الحليفة قبل العصر؛ لأن ذا الحليفة قريبةٌ من مكة، فلما صلى العصر في ذي الحليفة؛ صلاها ركعتين.

النبي عليه الصلاة والسلام تجهز للسفر، وتهيأ للسفر، ولبس لباس السفر، وصلى صلاة الظهر في مسجده أربع ركعاتٍ لم يقصر، وذهب إلى ذي الحليفة، وذو الحليفة قريبةٌ من المدينة، وصل لها قبل العصر، فلما صلى العصر في ذي الحليفة؛ صلاها ركعتين، فالنبي عليه الصلاة والسلام في المدينة صلى الظهر أربع ركعاتٍ، وفي ذي الحليفة ركعتين؛ لأنه في المدينة لم يفارق العُمران فصلاها أربع ركعاتٍ، مع أنه نوى السفر، وتجهز للسفر، ولبس ملابس السفر، لكنه لم يفارق العمران؛ فصلى الظهر أربع ركعاتٍ، لمَّا فارق العمران ووصل إلى ذي الحليفة؛ صلى العصر ركعتين.

فإذنْ لا يترخص برخص السفر إلا بعد مفارقة العمران، وبعض الفقهاء يقول: إذا خرج من البلد، وصار بين حيطان بساتين؛ فله القصر؛ لأنه ترك البيوت وراء ظهره، حتى وإن كان حول البيت خرابٌ قد تَهدَّم وصار فضاءً.

طيب إذنْ: إذا أردت أن تحسب مسافة السفر؛ فلا بد من أن تَخرج خارج العُمران، خارج المدينة، وتبدأ بحساب المسافة، أما أن تحسبها من بيتك؛ فهذا غير صحيحٍ، بعض الناس يحسب المسافة من بيته، يعني هذه ربما يصل للــ(80 كيلو)، وهو ما فارق أصل المدينة، يعني مدينةً كبيرةً؛ مثل مدينة الرياض، لو حسب المسافة من بيته؛ ربما (40 أو 50 أو حتى 60 كيلو) يقطعها وهو لم يغادر مدينة الرياض، فكيف يحسبها ضمن مسافة السفر؟!

إذنْ: ابتداء المسافة إنما يكون من مفارقة العُمران.

وأنبه هنا إلى أنه لا يُعتمد في حساب مسافة السفر على اللوحات الموجودة على الشوارع؛ لأنه -بحسب الاستقراء والتتبع- هذه اللوحات تَحسب المسافة من وسط المدينة، وليس من مفارقة العمران.

طيب، بعض المدن اتصل بعضها ببعضٍ؛ مثل مثلًا: الدمام والخُبَر، ومثل: الرياض والخرج، ومثل: جدة ومكة، كيف تكون مفارقة العمران؟ المعتبر: إذا فارق عمران البلد الذي هو مقيمٌ فيه، سواءٌ اتصل به بلدٌ آخر أم لا، فإذا وصل إلى آخر حيٍّ من أحيائها؛ يبدأ في حساب المسافة؛ مثلًا: من الرياض إلى الخرج، إذا وصل إلى آخر أحياء مدينة الرياض من جهة الجنوب، ووصل إلى نقطة التفتيش مثلًا؛ يبدأ بحساب المسافة، مثلًا: الدمام والخُبَر، إذا خرج من نطاق العمران للخبر؛ يبدأ حساب المسافة، إذا كان مقيمًا في الخُبَر، جدة ومكة، إذا خرج من النطاق العمراني لمدينة جدة، وهو معروفٌ؛ يبدأ في حساب المسافة؛ ولذلك أفضل طريقة لحساب المسافة: أنك إذا فارقت العمران؛ تَحسب، تضع عداد السرعة في السيارة على صِفرٍ، وتحسب المسافة، فإن خرجت معك أكثر من (80 كيلو)، فلك الترخص برخص السفر، وإلا فلا.

لا يُعيد مَن قَصَر ثم رجع قبل استكمال المسافة

قال:

ولا يُعِيد من قصر ثم رجع قبل استكمال المسافة.

يعني: لو خرج للسفر ناويًا السفر، وقصر الصلاة بعد أن فارق العمران، ثم عرض له عارضٌ، وقرر أن يلغي سفره ورجع؛ فصلاته صحيحةٌ، ولا يلزمه إعادتها.

حكم القصر بعد دخول الوقت

ويلزمه إتمام الصلاة؛ إن دخل وقتها وهو في الحضر.

إذا دخل على الإنسان وقت الصلاة في الحضر ثم سافر؛ مثلًا: أذن عليه الظهر في الرياض، وهو ذاهبٌ إلى مكة، وبعد مفارقة عمران الرياض توقف في الطريق، فأراد أن يصلي؛ هل يقصر أم يتم؟ المؤلف يقول: إنه يلزمه الإتمام، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، وعندهم قاعدة: أنه إذا اجتمع في العبادة السفر والحضر؛ يغلب دائمًا جانب الحضر، وأما أقوال العلماء في المسألة؛ فلهم في ذلك قولان:

  • القول الأول: أنه يلزمه الإتمام؛ لأنها وجبت عليه في الحضر؛ فلزمه إتمامها، وهذا هو المذهب عند الحنابلة.
  • القول الثاني: أنه يجوز له القصر، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية، وهو روايةٌ عند الحنابلة؛ لأنه سافر قبل خروج وقتها، أشبه ما لو سافر قبل وجوبها، ولأنه حين أداء الصلاة مسافرٌ، ويصدق عليه أنه مسافرٌ؛ فله الترخص، وهذا هو القول الراجح، بل إن ابن المنذر حكاه إجماعًا، وإن كانت حكاية الإجماع هذه لا تستقيم بخلاف الحنابلة، وهذا اختيار شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ، والشيخ محمد بن عثيمين، وكثيرٍ من المحققين من أهل العلم، رحمة الله تعالى على الجميع، ومما يؤكد هذا: أن عكس هذه المسألة إذا دخل عليه وقت الصلاة في السفر ثم أقام؛ فيجب عليه الإتمام عند جميع العلماء، فهذا مما يؤيد قول الجمهور، لا فرق بين المسألتين، فالعبرة بحال الأداء، العبرة بحال الأداء، إذا كنت وقت أداء الصلاة مسافرًا؛ فتقصر ولو دخل عليك الوقت في الحضر، وإذا كنت وقت الأداء مقيمًا؛ فتتم ولو دخل عليك وقت الصلاة في السفر.

إتمام المسافر إذا صلى خلف مقيمٍ

أو صلى خلف من يتم.

يعني: إذا ائتم المسافر بالمقيم؛ لزمه الإتمام، سواءٌ أدرك جميع الصلاة، أو أدرك بعضها، وقد سئل ابن عباسٍ رضي الله عنهما: ما بال المسافر إذا صلى وحده؛ صلى ركعتين، وإذا ائتم بمقيمٍ؛ صلى رابعًا؟ قال: “تلك السنة” [9]، وقال أبو مِجلَزٍ: قلت لابن عمر: أدركتُ ركعةً من صلاة المقيمين وأنا مسافرٌ، قال: “صل بصلاتهم”، قال ابن قدامة: ولا يُعرف لهما مخالفٌ في عصرهما؛ فكان كالإجماع، بل حتى لو لم يدرك المسافر مع المقيم إلا التشهد الأخير فيلزمه الإتمام، قال الأثرم: سألت أبا عبدالله يعني الإمام أحمد عن المسافر يدخل في تشهد المقيمين؟ قال: يصلي أربعًا، وهذه مسألةٌ يجهلها بعض العامة، تجد أنه يكون مسافرًا، ويأتم بمقيمٍ، ويقصر الصلاة، فنقول: السنة في هذا الإتمام، إذا صليت خلف مقيمٍ؛ فالسنة أن تتم، كيف تعرف أنه مقيمٌ؟ بالقرائن، فتجتهد في معرفة حاله بالقرائن، يعني إذا كان مثلًا في مصلًّى على الطريق؛ فالغالب أن هذا الذي يؤم الناس أنه مسافرٌ، لكن لو ظهر لك من لباسه وهيئته أنه مقيمٌ؛ فتتم، إذا اشتبه عليك الأمر، لا تدري هل هو مقيمٌ أو مسافرٌ؟ ولم يوجد عندك قرائن ترجح؛ فنرجع للأصل: وهو أن الأصل الإتمام وليس القصر.

نية القصر في الصلاة

أو لم ينو القصر عند الإحرام.

يعني: لم ينو قصر الصلاة عند تكبيرة الإحرام فيلزمه الإتمام، وهذا يرجع لمسألةٍ، وهي: هل تشترط نية القصر والجمع عند تكبيرة الإحرام أو لا تشترط؟

قولان للفقهاء:

القول الأول: أنها تشترط، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة؛ لأن الأصل إتمام الصلاة، فإطلاق النية ينصرف إليه، فإذا لم ينو القصر؛ لزمه الإتمام.

والقول الثاني: أنها لا تشترط، وهو مذهب الحنفية؛ لأن القصر عندهم عزيمةٌ أصلًا، فلا يفتقر إلى نيةٍ، وهو روايةٌ عند الحنابلة، واختاره ابن تيمية رحمه الله، وهو القول الراجح: أنه لا تشترط نية القصر، ولا نية الجمع؛ لأنه لا دليل يدل على اشتراط ذلك؛ ولأن من خُيِّر في العبادة قبل الدخول فيها؛ خُير بعد الدخول فيها؛ كالصوم، ولأن القصر في السفر هو الأصل وليس الإتمام.

مدة الإقامة التي تُقصر فيها الصلاة

أو نوى إقامةً مطلقةً، أو أكثر من أربعة أيامٍ.

يعني: إذا نوى المسافر إقامةً مطلقةً؛ فإنه يُتم؛ لأنه لم يعد مسافرًا، أو نوى أكثر من أربعة أيامٍ، وهذه -إن شاء الله- سيأتي الكلام عنها بالتفصيل.

أو أقام لحاجةٍ وظن ألا تنقضي إلا بعد الأربعة، أو أخر الصلاة بلا عذرٍ حتى ضاق وقتها عنها، ويقصر إن أقام لحاجةٍ بلا نية الإقامة فوق أربعةٍ ولا يدري متى تنقضي -أو حُبس ظلمًا، أو بمطرٍ- ولو أقام سنين.

المسافر إذا أقام؛ كم مدة الإقامة التي يترخص فيها برخص السفر؟ هذه المسألة من أشكل مسائل الفقه؛ لأن الأدلة فيها غير واضحةٍ، ولا يمكن ربطها بالعرف؛ لأن العرف فيها مضطربٌ وغير منضبطٍ، وأيضًا الآثار المروية فيها مختلفةٌ، فهي من المسائل الشائكة؛ ولذلك إذا قرأت فيها في كتب الفقه؛ تجد أن الكلام فيها متشعبٌ، وأن الأقوال فيها كثيرةٌ جدًّا، لكن نلخص الكلام فيها، ونحرص على ضبط هذه المسألة المهمة التي يكثر السؤال عنها، فنقول: المسافر إذا أقام ببلدٍ؛ فلا يخلو من حالين:

الحال الأولى: أن يكون له حاجةٌ لا يدري متى تنقضي، بل يقول: اليوم أرجع، غدًا ارجع، ففي هذه الحال يقصر، ولو طالت المدة، يقصر ويترخص برخص السفر، ولو أقام سنين، وقد نقل ابن المنذر الإجماع على ذلك، قال: أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لم يُجمِع إقامةً، وإن أتى عليه سنون، وهذا هو الذي أشار إليه المؤلف بقوله: “ويقصر إن أقام لحاجةٍ بلا نية الإقامة فوق أربعةٍ، ولا يدري متى تنقضي”.

والنبي لما أقام بتبوكٍ تسعة عشر يومًا قصر الصلاة؛ لأنه كان في تبوكٍ في حال حربٍ، ولا يدري متى يرجع؟ ولذلك كان يقصر الصلاة، ووردت أيضًا آثار عن بعض الصحابة؛ ابن عمر رضي الله عنهما أقام بأذربيجان ستة أشهرٍ يقصر الصلاة، حبسه الثلج، ولم يدرِ متى يزول؟ وأنسٌ  قال: “إن أصحاب النبي أقاموا بِرَامَهُرْمُزَ تسعة أشهرٍ يقصرون الصلاة”.

فإذنْ: إذا كان للإنسان حاجةٌ لا يدري متى تنقضي؛ فإنه يترخص برخص السفر وإن طالت المدة.

الحال الثانية: أن ينوي إقامةً معينةً، وهذا هو الذي أشار إليه المؤلف بقوله: “وأقام لحاجةٍ وظن ألا تنقضي إلا بعد الأربعة”، كأن ينوي الإقامة في بلد عشرة أيامٍ أو شهرًا، أو شهرين، أو نحو ذلك، فهل له الترخص برخص السفر أم لا؟ إنسانٌ مثلًا مقيمٌ في الرياض، وذهب لمكة يريد أن يقيم في مكة أسبوعين، هل له أن يترخص برخص السفر؟ اختلف العلماء في هذه المسألة اختلافًا كثيرًا على أكثر من عشرين قولًا؛ فمن أهل العلم من ذهب لعدم التحديد، وأن الإنسان إذا سافر مسافة سفرٍ، ثم أقام إقامةً مؤقتةً ولم يُجمِع الإقامة الدائمة؛ فله الترخص برخص السفر، وإن طالت المدة؛ وعلى هذا القول يجوز القصر للمبتعَثين، وكذلك العمال ونحوهم، وممن قال بهذا القول: الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، هو أبرز من قال بهذا القول، لكن يُشكل على هذا القول ما ذُكر من الإجماع على تحديد المدة التي يقصر فيها المسافر، كما حكى ذلك ابن المنذر.

ثم إن هذا القول يترتب عليه لوازم خطيرةٌ -يعني: القول بأن المسافر إذا لم يُجمِع الإقامة؛ فله الترخص- يترتب عليه أمورٌ كبيرةٌ وخطيرةٌ؛ منها مثلًا: أن جميع المبتعَثين يَقصرون ويَجمعون ويُفطِرون في نهار رمضان؛ ومنها: أيضًا أن العمال كلهم كل المقيمين جميع المقيمين يترخصون برخص السفر؛ من القصر والجمع والفطر في نهار رمضان، يعني عندنا مثلًا في المملكة أثناء تأليف الكتاب ذكر ما يقارب عشرة ملايين، الآن اثنا عشر مليونًا، اثنا عشر مليونًا الآن، هل يقال: إن هؤلاء يفطرون في نهار رمضان بحجة أنهم مسافرون؟! هذا بعيدٌ، يفطرون في نهار رمضان ويقصرون ويَجمعون، اثنا عشر مليونًا؟! بل في بعض الدول تصل نسبة المقيمين غير المواطنين ربما إلى (80%) أو أكثر، فهل يقصرون ويفطرون في نهار رمضان ويَجمعون؟! يعني: مثل هذا لا ترد به الشريعة، ولا يتفق مع الأصول والقواعد الشريعة.

بعض العلماء قال: المرجع للعرف، إذا قام المسافر إقامةً يدل العرف على أنه مسافرٌ؛ فيترخص برخص السفر، وإلا فلا، لكن العرف غير منضبطٍ، العرف في هذه المسائل غير منضبطٍ، وذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى التحديد بأربعة أيامٍ، قالوا: فمن عزم على الإقامة أكثر من أربعة أيامٍ؛ لم يترخص، وإن عزم الإقامة أربعة أيامٍ فأقل يترخص، واستدلوا بفعل النبي في حجة الوداع، فإنه أقام بمكة أربعة أيامٍ يقصر الصلاة، ولكن يَرِد على هذا الاستدلال إشكالاتٌ:

الإشكال الأول: هل إقامة النبي عليه الصلاة والسلام بمكة يقصر الصلاة في حجة الودع أربعة أيامٍ، أم عشرة أيامٍ؟ الواقع أنها عشرة أيامٍ وليست أربعةً؛ ولهذا قال أنسٌ : أقام النبي بمكة عشرة أيامٍ يقصر الصلاة؛ ولما سئل: كم أقمتم بمكة؟ قال: أقمنا عشرًا [10]؛ لأنه وصل مكة في الرابع من ذي الحجة، ورجع من مكة إلى المدينة في الرابع عشر من ذي الحجة، لكن مراد الجمهور: أنه أقام أربعة أيامٍ بالأبطح يقصر الصلاة، ثم خرج بعد ذلك إلى منًى في الثامن من ذي الحجة، فلم يعتبر خروجه إلى منًى، يعني أنه خارج هذه المدة، ولكن هذا محل نظرٍ، لا فرق، النبي عليه الصلاة والسلام في الأبطح، وفي منًى، وفي عرفاتٍ ومزدلفة كان يقصر الصلاة، فلا وجه للتفريق بينها، فإقامة النبي عليه الصلاة والسلام في مكة ليست أربعة أيامٍ، وإنما هي عشرة أيامٍ كما قال أناسٌ؛ بدليل أنه عليه الصلاة والسلام في الأبطح كان يقصر، وفي منًى كان يقصر، أيضًا هذا حصل اتفاقًا، لو أن النبي عليه الصلاة والسلام قدم لمكة في الثالث من ذي الحجة؛ فسيقصر الصلاة، لو قدم في الخامس من ذي الحجة؛ فسيقصر الصلاة، فهذا حصل اتفاقًا، ولم يرد ما يدل على هذا التحديد، وما يحصل اتفاقًا لا يستدل به على التحديد، ثم أيضًا التحديد بأربعة أيامٍ لم ينقل عن أحدٍ من الصحابة، لا بسندٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ، فالظاهر أنه قولٌ حدث بعد الصحابة.

هذه المسألة أنا ذكرت في “السلسبيل” أنها أشكلت عليَّ كثيرًا، يعني مِن أشكلِ -الحقيقةَ- المسائلِ التي مرت عليَّ، وراجعتها مدةً طويلةً، وتباحثت فيها مع بعض طلبة العلم، ومن أبرز من تباحثت معه هذه المسألة: صديقنا الشيخ الأستاذ الدكتور: عبدالله بن عبدالعزيز الجبرين رحمه الله تعالى، المتوفى سنة (1439 هـ)، والذي عكف على بحث هذه المسألة ما يقارب ستة أشهرٍ؛ جمعًا للنصوص والآثار الواردة فيها، ثم بعد مباحثةٍ ومناقشةٍ مستفيضةٍ خَلَص إلى ترجيح القول بتحديد المدة بتسعة عشر يومًا، وأنه أقرب الآراء في المسألة؛ وذلك لقول ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “أقام النبي تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر يومًا قصرنا، وإن زدنا أتممنا” [11]، هذا الأثر أخرجه البخاري في “صحيحه” عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، وأيضًا هو اختيار البخاري، تحديد المدة بتسعة عشر يومًا، ورجحه إسحاق بن راهويه، ثم رجحه أيضًا الشوكاني، ثم أيضًا تسعة عشر يومًا مقارِبةٌ للعرف، تقريبًا هي المدة المقاربة للعرف، إذا أقام مثلًا شهرًا أو شهرين؛ تعتبر مدةً طويلةً، إذا أقام عشرة أيامٍ أو أسبوعين؛ قصيرة، فهي مقاربةٌ للعرف، فالأقرب -والله أعلم- هو التحديد بتسعة عشر يومًا؛ لقول ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “فنحن” -يقصد نفسه ومن معه من الصحابة- “إذا سافرنا تسعة عشر يومًا قصرنا، وإن زدنا أتممنا”؛ ولذلك قال الشوكاني معلقًا على حديث ابن عباسٍ هذا: لله در ابن عباسٍ! ما أفقهه وأفهمه للمقاصد الشرعية! فإنه قال فيما رواه البخاري وغيره: “لما فتح النبي مكة؛ أقام فيها تسع عشرة ليلةً يصلي ركعتين، قال: فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسع عشرة؛ قصرنا، وأن زدنا؛ أتممنا”، وأقول -والقائل هو الشوكاني- هذا هو الفقه الدقيق، والنظر المبني على أبلغ تحقيق، وفي المسألة مذاهب، هذا أرجحها لدي، وابن المنذر رحمه الله ذكر أن علماء الأمصار أجمعوا على توقيتٍ وقَّتوه فيما بينهم، فكان مما أجمعوا على توقيته: أقل من عشرين ليلةً، فتكون هذه المدة أيضًا مجمَعًا عليها.

فمراد ابن المنذر: الرد على من أطلق المدة بأن هذا الإطلاق مخالفٌ للإجماع على التوقيت، وإن اختلفوا في تقديرها، لكنهم متفقون ومجمعون على أنها أقل من عشرين ليلةً، هذا مراد ابن المنذر بهذا الإجماع.

فإذنْ: نقول الأقرب -والله أعلم- في هذه المسألة أن يقال: إن من سافر وأقام: إن كان لم يحدد زمن أقامته، له حاجةٌ لا يدري متى تنقضي، بل يقول: اليوم أرجع، غدًا أرجع؛ فله الترخص برخص السفر وإن طالت المدة، وإن بقي شهورًا أو حتى سنين، وقد حُكي الإجماع على ذلك، حكاه ابن المنذر وغيره.

الحال الثانية: إذا أقام المسافر إقامةً حدد معها المدة: فإن كانت إقامته تسعة عشر يومًا فأقل؛ فله الترخص برخص السفر، أما إذا كانت إقامته أكثر من تسعة عشر يومًا؛ فليس له الترخص برخص السفر، هذا هو القول الراجح، وهو قول إسحاق والبخاري، وأيضًا رجحه الشوكاني، وهو الأقرب في هذه المسألة، والله تعالى أعلم.

قول المؤلف رحمه الله: “أو أخَّر الصلاة بلا عذرٍ حتى ضاق وقتها عنها”، أي: إذا أخر الصلاة بلا عذرٍ شرعيٍّ؛ وجب عليه أن يتمها، ولم يجز له قصرها؛ لأنه قد صار عاصيًا بتأخيرها عمدًا بلا عذرٍ، ولكن -على القول الراجح- له أن يقصر وإن أخر الصلاة بلا عذرٍ حتى ضاق وقتها، بناءً على القول الراجح: وهو أن المسافر سفر معصيةٍ له الترخص برخص السفر؛ لعموم الأدلة، وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن أحكام القصر.

أحكام الجمع بين الصلاتين

وننتقل بعد ذلك لأحكام الجمع.

الجمع بين الصلاتين في السفر

قال المصنف رحمه الله:

فصلٌ في الجمع

يباح بسفرٍ القصر والجمع.

الجمع رخصةٌ من رخص السفر، سواءٌ أكان سائرًا أم نازلًا، لكن هل هو سنةٌ للمسافر أو مباحٌ؟ اختلف العلماء في ذلك:

المذهب عند الحنابلة: أنه مباحٌ وتركه أفضل، وهذا قول المالكية والشافعية.

وهناك قولٌ بأن الجمع أفضل، وهو روايةٌ عن أحمد، وروي عنه التوقف.

وقال بعض أهل العلم: إن الجمع سنةٌ إذا وُجد سببه؛ كما لو كان مسافرًا سائرًا في الطريق، فالغالب أن المصلحة تقتضي الجمع، كما لو كان المسافر سائرًا، في “السلسبيل” مكتوبٌ هنا: “مسافرًا في الطريق”، الصواب: “سائرًا” يعني بمعنى نسخة “السلسبيل”، يصحح العبارة، لعلها تصحح -إن شاء الله- في الطبعة القادمة: “كما لو كان المسافر سائرًا”، وليس مسافرًا، “سائرًا في الطريق”.

فالغالب أن المصلحة تقتضي الجمع؛ لأن الجمع رخصةٌ، والله يحب أن تؤتى رخصه؛ ولأن هذا هو هدي النبي ، أنه كان يجمع عند وجود السبب.

أما لو كان المسافر نازلًا -يعني ليس سائرًا- فالأفضل له ترك الجَمْع؛ ولهذا لم يَجمع النبي في منًى في حجة الوداع، كان يصلي كل صلاةٍ في وقتها في يوم التروية وأيام التشريق، كان يصلي الظهر في وقتها ركعتين، والعصر في وقتها ركعتين، والمغرب في وقتها ثلاثًا، والعشاء في وقتها ركعتين، والفجر في وقتها ركعتين، ولم يكن يجمع عليه الصلاة والسلام، لكن في جميع أسفاره في الطريق كان يجمع ويقصر، في عرفة ومزدلفة جمع وقصر؛ لأن المصلحة تقتضي ذلك؛ ولهذا نقول: إن الجمع سنةٌ إذا وُجد سببه، أما إذا لم يوجد سببه؛ بأن كان المسافر نازلًا؛ فالأفضل تركه، لكن إذا وُجد سببه؛ كأن يكون يسير في الطريق؛ فالأرفق به الجمع، أو مثلًا في عرفة وفي مزدلفة، وجد سببه مع قلة المياه وكثرة الحجيج، وجد سببه، أيضًا لو كان في مكانٍ الماء قليلٌ، وقد لا يكفيهم ولا يتسع لأن يتوضؤوا لهذا الوقت والوقت الآخر، وهم مسافرون؛ فالأفضل الجمع، أو لو كان الجو باردًا مثلًا، كان الجو باردًا، والأرفق بهم الجمع؛ فالأفضل الجمع، فإذا وُجد مصلحةٌ تقتضي الجمع؛ فالأفضل الجمع، أما إذا لم يوجد مصلحةٌ، وكان المسافر نازلًا؛ فالأفضل ترك الجمع؛ كما كان النبي لا يَجمع في منًى في حجة الوداع، هذا الكلام عند مذاهب المالكية والشافعية والحنابلة، أما الحنفية أصلًا لا يرون الجمع إلا بين الظهر والعصر في عرفة، وبين المغرب والعشاء في مزدلفة فقط.

قال المؤلف رحمه الله:

بين الظهر والعصر والعشاءين بوقت إحداهما.

“العشاءين” يعني: المغرب والعشاء، مراد المؤلف: يعني أنه يجمع إما جمع تقديمٍ، أو جمع تأخيرٍ، كان هدي النبي أنه إذا ارتحل قبل زوال الشمس أخر الظهر حتى يجمعها مع العصر، وإذا ارتحل بعد الزوال قدم العصر مع الظهر وصلاهما جميعًا [12]، وكان يفعل ذلك في المغرب والعشاء [13].

الجمع بين الصلاتين للمريض

أيضًا يباح الجمع، قال:

ويباح لمقيم مريض يلحقه بتركه مشقة.

فالجمع لا يختص بالمسافر، وإنما يباح للمريض الذي تلحقه المشقة بترك الجمع؛ ولقول ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “جمع النبي بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوفٍ ولا سفرٍ، أراد ألا يحرج أمته” [14]؛ فدل ذلك على أنه متى وجد الحرج بترك الجمع؛ جاز فعل الجمع؛ ولهذا أمر النبي المستحاضة بالجمع بين الصلاتين، والاستحاضة نوعٌ من المرض، فالمريض إذا كان يلحقه الحرج بترك الجمع؛ يجوز له الجمع، إذا كان لا يلحقه الحرج بترك الجمع؛ فالأصل أنه يصلي الصلاة في وقتها، لكن ليس له القصر، المريض ليس له القصر، لكن له الجمع من غير قصرٍ إذا احتاج إلى الجمع.

الجمع بين الصلاتين للمرضع

ولمرضعةٍ لمشقة كثرة النجاسة.

يعني: وهذا الذي ذكره المؤلف في زمن المؤلف؛ لأنه في زمن المؤلف لم تكن توجد هذه الحفائظ التي توضع على الصبيان، فكان الصبي يخرج النجاسة، فيتسبب في تنجيس ملابس المرضعة، فيشق عليها أن تصلي كل صلاةٍ في وقتها لأجل ذلك؛ لتلويث الصبي لملابسها، أما في وقتنا الحاضر مع وجود الحفائظ التي توضع على الصبيان، ومع أيضًا وجود الحليب المجفف فلا يحتاج لهذه المسألة، ولا يقال للمرضعة: إن لها أن تجمع بسبب كثرة النجاسة؛ لأنه -ولله الحمد- تيسرت أمور الناس بوجود هذه الحفائظ التي توضع على الصبيان، وأيضًا بوجود الحليب المجفف الذي قل معه الاعتماد على الرضاعة الطبيعية، وإن كان طبعًا المطلوب هو الاعتماد على الرضاعة الطبيعية، لكن نحكي الواقع، فمع وجود الحليب المجفف أصبح هناك بديلٌ للرضاعة الطبيعية، وأيضًا مع وجود هذه الحفائظ أصبحت لا تخرج النجاسة من الصبي، وتلوث ملابس المرضعة فيشق عليها أن تصلي كل صلاة في وقتها؛ ولهذا فهذه المسألة تناسب الزمن الذي ذكره المصنف رحمه الله، ولا تناسب وقتنا الحاضر؛ ولهذا نحن بحاجةٍ لمتنٍ فقهيٍّ يناسب واقع الناس المعاصر الآن يعني الفقهاء السابقون اجتهدوا وصنفوا مصنفاتٍ تناسب زمنهم، لكن الآن توقفت المتون المعاصرة لم تعد الآن موجودةً إلا ما ندر؛ ولذلك من المشاريع التي أفكر فيها -إن شاء الله- تأليف متنٍ معاصرٍ في أبواب الفقه في المسائل المتقدمة والمسائل المستجدة، بحيث تستوعب هذه المسائل واقع الناس وما يحتاج إليه الناس من مسائل الفقه، وتشمل أيضًا النوازل والمسائل المستجدة؛ يعني مثلًا: مفطرات الصيام المعاصرة، نكتب هذه المفطرات يمكن في ثلاثة أسطرٍ؛ بحيث من يقرأها يعرف الحكم فيها، فإن شاء الله هذا من المشاريع التي أعتزم عليها بإذن الله ، ونسأل الله تعالى أن يعطينا الصحة والوقت، وأن يبارك في ذلك.

فهذه المسألة إذنْ مسألةٌ مناسبةٌ لزمن المؤلف، ولا تناسب زمننا؛ للاعتبارات التي ذكرناها.

الجمع للعاجز عن الطهارة لكل صلاةٍ

ولعاجزٍ عن الطهارة لكل صلاةٍ.

كأن يكون مريضًا، ويعجز عن أن يتطهر لكل صلاةٍ، ويشق عليه أن يتوضأ لكل صلاةٍ، فيجوز له الجمع.

القاعدة: أنه متى وُجد الحرج؛ جاز الجمع، والمؤلف ذكر أمثلةً فقط.

الجمع لعذر يبيح ترك الجمعة والجماعة

ولعذرٍ أو شغلٍ يبيح ترك الجمعة والجماعة.

وقد سبق الكلام عن الأعذار التي تبيح الجمعة والجماعة في درس سابق بالتفصيل.

صور جواز الجمع بين العشاءين

ويختص بجواز جمع العشاءين -يعني المغرب والعشاء- ولو صلى ببيته [15]: ثلجٌ وجليدٌ وَوَحَلٌ وريحٌ شديدةٌ باردةٌ، ومطرٌ يبل الثياب وتوجد معه مشقةٌ.

انتقل المؤلف لبيان صورٍ يجوز فيها الجمع بين المغرب والعشاء، وحيث يلحق الناس معها حرجٌ ومشقةٌ بأداء كل صلاةٍ في وقتها.

ثلجٌ وجليدٌ ووَحَلٌ وريحٌ شديدةٌ باردةٌ

الصورة الأولى: إذا وُجد ثلجٌ في الطرقات، ويلحق الناس الحرج بترك الجمع، وهذا يوجد الآن، الآن يوجد في بعض الدول التي تقع في أقصى الشمال، فعندهم ثلوجٌ، ونحن الآن في هذا الشهر، في شهر يناير، شهر ديسمبر ويناير، الثلوج عندهم كبيرةٌ، والطرقات مليئةٌ بالثلوج، ومثل الدول التي تقع في الشمال؛ مثل: كندا، والسويد، والدول التي تقع شمالًا، كل ما اتجهت شمالًا؛ كلما ازدادت برودة الجو، فهذه الدول التي تقع شمالًا الآن عندهم ثلوجٌ، فإذا وجدت ثلوجٌ، ويشق على الناس ترك الجمع؛ جاز الجمع لأجل ذلك.

“وجليدٌ”، لو وجد أيضًا ما هو دون الثلج، وهو الجليد، ويلحق الناس الحرج بأداء كل صلاةٍ في وقتها؛ جاز الجمع.

“ووَحَلٌ”، كذلك لو وجد الوَحَل، ويتعرض معه الناس للزَّلَق، ويَلحق الناسَ الحرج معه بترك الجمع؛ جاز الجمع.

“وريحٌ شديدةٌ باردةٌ”، لا بد فيها من أمرين:

  • الأمر الأول: أن تكون شديدةً، إن كانت غير شديدةٍ؛ فلا يجوز الجمع.
  • الثاني: أن تكون باردةً، فإن كانت شديدةً غير باردةٍ؛ فلا يجوز الجمع؛ لعدم وجود المشقة الكبيرة.

لكن أنبه هنا إلى أن مجرد شدة البرد لا تبيح الجمع؛ لأن مدينة النبي تقع على خط عرضٍ (24)، وكان يأتيها بردٌ شديدٌ في عهد النبي ، بل إن الأجواء المناخية في عهد النبي وفي وقتنا الحاضر في المدينة لم تختلف كثيرًا، يعني: ألفٌ وأربعمئة سنةٍ عند أهل المناخ لا تعتبر مدةً طويلةً عندهم، فلم تختلف الأجواء المناخية كثيرًا، وكان كثيرٌ من الصحابة  فقراء، ليس عندهم إلا ثوبٌ واحدٌ؛ كما قال جابرٌ : “أينا كان له ثوبان على عهد النبي ؟!”، ثوبٌ واحدٌ من غير ملابس داخليةٍ، ثوبٌ واحدٌ فقط، ومع ذلك لم ينقل عن النبي -لا في حديثٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ- أنه جمع لأجل شدة البرد، ولو كان ذلك مشروعًا؛ لفعله النبي -وهو الرفيق بأمته- ولو لمرةٍ واحدةٍ، فالجمع لشدة البرد غير مشروعٍ، ثم أيضًا شدة البرد يمكن التغلب عليها بالتدفئة، وبلبس الملابس الثقيلة.

فمجرد شدة البرد لا تبيح الجمع، لكن لو كانت شدة البرد مصحوبةً بأمرٍ آخر؛ كمطرٍ غزيرٍ مثلًا، أو رياحٍ باردةٍ، فهنا يجوز الجمع، أما مجرد شدة البرد؛ فهذه بمجردها لا تبيح الجمع، وأذكر أنني مرةً من المرات صليت في مسجدٍ من المساجد، ثم إن الإمام جمع بين الصلاتين، ولم أعرف سبب الجمع، ليس هناك مطرٌ، وليس هناك ريحٌ، فسألت وقلت: ما السبب؟ قالوا: إن الإمام يقول: إن البرد شديدٌ، وهذا الجمع لا يجوز، ولا تصح صلاة العشاء، لماذا لم يجمع النبي في المدينة ولو لمرةٍ واحدةٍ، مع أن شدة البرد في وقت النبي عليه الصلاة والسلام هي نفسها شدة البرد في وقتنا الحاضر؟ إن لم تكن في زمن النبي عليه الصلاة والسلام أشد، والثياب عندهم قليلةٌ، أما الحمد لله الآن وسائل التدفئة كثيرةٌ ومتيسرةٌ، والثياب الثقيلة متيسرةٌ؛ فلا يجوز الجمع إذنْ لمجرد شدة البرد.

مطرٌ يبل الثياب وتوجد معه مشقةٌ

ومطرٌ يبل الثياب، وتوجد معه مشقةٌ.

أي: يجوز الجمع عند نزول المطر الذي اجتمع فيه هذان الوصفان:

الوصف الأول: أنه يبل الثياب، فمِن صفات المطر الذي توجد معه مشقةٌ: أنه يبل الثياب؛ بحيث لو عصر الثوب؛ يخرج منه ماءٌ، وأيضًا توجد معه مشقةٌ، والمقصود بالمشقة المشقة غير المعتادة، يعني المشقة التي تكون لأجل نزول المطر، وتكون غير معتادةٍ، وأما المشقة المعتادة يعني حتى مع عدم نزول المطر فهذه غير مؤثرةٍ، ولا بد أن ندرك الفرق بين حال المساجد قديمًا وحالها في الوقت الحاضر؛ قديمًا كانت مبنيةً من الطين، ومسقوفةً بالخشب، ومفروشةً بالحصباء، وليس هناك كهرباء، والطرق غير مسفلتة، ووسائل المواصلات هي الدواب، وتخرج فضلاتها في الشوارع وفي الطرقات، عند نزول أدنى مطرٍ؛ يلحق الناس حرجٌ كبيرٌ بترك الجمع، خاصةً إذا كان مصحوبًا ببردٍ؛ لأن الأرض تصبح طينيةً ووَحِلةً، وفي المسجد يتقاطر المطر على الناس وعلى الحصباء، فيلحق الناس الحرج، أما في وقتنا الحاضر فالأمر اختلف اختلافًا كبيرًا؛ المساجد مفروشةٌ ومسقوفةٌ، والكهرباء موجودةٌ، والطرق مسفلتةٌ، أحيانًا لا يلحق الناس مع نزول المطر أدنى درجات الحرج غير المعتادة، بل إنه أحيانًا في الصيف يتلطف الجو، ليس فقط لا يلحق الناس حرجٌ، بالعكس، الناس يتفسحون ويتنزهون ويستبشرون، ولا توجد أدنى درجات الحرج والمشقة غير المعتادة؛ فلا يجوز الجمع في هذه الحال.

إذنْ لا بد من وجود حرجٍ ظاهرٍ يبيح الجمع؛ ولهذا المؤلف قال: “مطرٌ يبل الثياب، وتوجد معه مشقةٌ”.

طيب كيف نضبط هذا؟ كيف نضبط الحرج والمشقة؛ لأنه أيضًا يحصل اختلافٌ؛ بعض الناس يقول: هناك حرجٌ -عند نزول المطر- وبعض الناس يقول: ليس هناك حرجٌ؟ نضبط ذلك بالنظر إلى حال دنيا الناس: إذا تأثرت بهذا المطر؛ فلزم كثيرٌ من الناس بيوتهم بسبب المطر، وتأثرت الحركة التجارية، وحركة الناس في الشوارع، ونحو ذلك؛ معنى ذلك: أن المشقة والحرج كبيرٌ، لكن إذا كانت دنيا الناس تسير على ما هي عليه قبل نزول المطر، ولم يتغير منها شيءٌ، لكن إذا أتى الناس للمسجد قالوا: يلحقنا الحرج بترك الجمع؛ فمعنى ذلك: أن هذا غير صحيحٍ، وإذا شك إمام المسجد: هل يجمع أو لا يجمع بسبب المطر؟ فالأصل عدم الجمع؛ لأنه إذا صلى ولم يجمع؛ فصلاته صحيحةٌ عند الجميع، وإذا صلى وقد جمع؛ فربما لا تصح صلاته عند طائفةٍ من أهل العلم، وشرط الوقت هو آكد شروط الصلاة، قد تسقط كثيرٌ من الشروط والأركان والواجبات؛ مراعاة له، وهذا من الأمور المحكمة البينة، فلا نخرج عنه إلا بشيءٍ واضحٍ.

فإن قال قائلٌ: أليس في حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما: “جمع النبي بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوفٍ ولا سفرٍ” [16]؟

نقول: أولًا: هذا الحديث هو رواه مسلمٌ، لكن العلماء تكلموا عن هذا الحديث، وقالوا: إنه لا يُعمل بظاهره، أنه يجمع من غير سببٍ، لا يعمل بظاهره، ونقل الترمذي الإجماع على ذلك، إجماع الأمة على ترك العمل بظاهره.

ثانيًا: قيل: إن النبي إنما كان جمعه في حديث ابن عباسٍ هذا جمعًا صوريًّا؛ أخَّر الظهر إلى آخر وقتها، وقدَّم العصر لأول وقتها، وأخر المغرب لآخر وقتها، وقدم العشاء لأول وقتها، وهذا قد جاء في روايةٍ عند النسائي [17].

ثالثًا: قيل: كان هناك عذرٌ خَفِيَ على ابن عباسٍ، قيل: كان هناك وباءٌ في المدينة، وقال مالكٌ وأيوب: إنه كان هناك مطرٌ، وابن عباسٍ كان صغيرًا، ولو كان النبي عليه الصلاة والسلام جمع من غير خوفٍ ولا سفرٍ؛ لكان هذا من الأمور الملفتة للنظر، ولنقله عددٌ كثيرٌ من الصحابة.

وبكل حالٍ: هذا الحديث سماحة شيخنا عبدالعزيز بن بازٍ رحمه الله يقول: إن هذا الحديث من الأحاديث المشتبهة، فتُرد للنصوص المحكمة، النصوص المحكمة تدل على أنه يجب أن تؤدَّى كل صلاٍة في وقتها، وأنه لا يجوز الجمع بين الصلاتين من غير عذرٍ، فيُرد هذا النص المتشابه، أكثر ما يقال فيه أنه متشابهٌ؛ لهذه النصوص المحكمة، والجمع بين الصلاتين بغير عذرٍ معدودٌ عند كثيرٍ من أهل العلم من الكبائر؛ فإذنْ: لا يحتج بهذا الحديث على التساهل في الجمع من غير وجود السبب المقتضي لذلك.

قد يقول بعض الناس: إن بعض كبار السن يشق عليهم حضور المسجد مع نزول المطر؟ نقول: المشقة المعتادة غير مؤثرةٍ؛ لأنهم أيضًا يشق عليهم حضور الإتيان للمسجد حتى لو لم يوجد مطرٌ، كبير السن والمريض يشق عليهما المجيء للمسجد حتى لو لم يوجد مطرٌ، لكن المعول عليه المشقة غير المعتادة بسبب نزول المطر، هذه هي المشقة المؤثرة، وأما المشقة المعتادة فهذه غير مؤثرةٍ.

ويلاحظ التساهل الكبير من بعض أئمة المساجد عند نزول المطر في الجمع عند نزول المطر مع عدم وجود المشقة الظاهرة، وربما بعض الناس يقول: إن الله يحب أن تؤتى رخصه، اجمعوا، كيف لا تجمع؟! وهذا خطأٌ في الفهم؛ لأن الجمع في السفر سنةٌ، ولو لم توجد مشقةٌ بالإجماع، فعلة القصر في السفر هي السفر نفسه، أما علة الجمع بين الصلاتين في الحضر هي المشقة، فلا بد من وجود المشقة الظاهرة، وإلا لم يَجز الجمع، لكن عند الحنابلة هل الجمع بين المغرب والعشاء فقط، أو يشمل الجمع بين الظهر والعصر؟ المذهب عند الحنابلة: أن الجمع للمطر بين العشاءين فقط، بين المغرب والعشاء، وعندهم أنه لا يجوز الجمع بين الظهر والعصر، ولو كان هناك مطرٌ توجد معه مشقةٌ؛ قالوا: لأن الغالب في نزول الأمطار في النهار ألا يكون معها مشقةٌ.

والقول الثاني: أن الجمع يكون كما يكون بين المغرب والعشاء لأجل المطر؛ يكون كذلك بين الظهر والعصر إذا وجد الحرج والمشقة بترك الجمع، وهذا القول روايةٌ عن الإمام أحمد، وهو القول الراجح، واختار هذا القول ابن تيمية وجمعٌ من المحققين من أهل العلم؛ إذ إنه لا وجه للتفريق بين المغرب والعشاء والظهر والعصر، وقولهم: إن مظنة المشقة في الغالب بين المغرب والعشاء أنه غير مُسَلَّمٍ؛ فقد ينزل مطرٌ بالظهر يشق على الناس معه ترك الجمع أكثر من المطر الذي ينزل في المغرب، خاصةً إذا وجدت ريحٌ شديدةٌ باردةٌ مصاحبةٌ له.

فعل الأرفق من تقديم الجمع أو تأخيره

قال:

والأفضل فعل الأرفق من تقديم الجمع أو تأخيره.

يعني: يفعل المسافر ما هو الأرفق به من جمع التقديم أو جمع التأخير، والنبي كان إذا ارتحل قبل الزوال أخر الظهر إلى العصر، وإذا ارتحل بعد الزوال قدَّم العصر مع الظهر [18]، وهكذا يفعل في المغرب والعشاء [19]، فالمسافر يختار ما هو الأرفق له.

شروط صحة جمع التقديم

فإن جَمَع تقديمًا؛ اشتُرط لصحة الجمع نيته عند إحرام الأُولى.

النية عند الأُولى

انتقل المؤلف للكلام عن شروط صحة الجمع، ابتدأ أولًا بشروط صحة جمع التقديم فذكر الشرط الأول: وهو نيته عند إحرام الأولى أي: نية الجمع عند تكبيرة الإحرام للصلاة الأولى؛ لقول النبي : إنما الأعمال بالنيات.. [20]، وهذا هو قول الحنابلة والشافعية.

القول الثاني: أن الجمع لا يفتقر إلى نيةٍ كالقصر، وهذا هو قول الجمهور؛ لعدم الدليل الدال على هذا الشرط، وهذا هو القول الراجح، اختاره ابن تيمية رحمه الله تعالى.

الموالاة بين الصلاتين المجموعتين

ثم ذكر المؤلف الشرط الثاني، قال:

وألا يفرق بينهما بنحو نافلةٍ، بل بقدر إقامةٍ ووضوءٍ خفيفٍ.

أي أنه تشترط الموالاة بين الصلاتين المجموعتين، فلا يفرق بينهما إلا بوقتٍ يسيرٍ؛ في حدود قدر الوضوء الخفيف أو إقامة الصلاة.

وهذه المسألة اختلف فيها الفقهاء على قولين:

  • القول الأول: اشتراط الموالاة بين الصلاتين المجموعتين، وهو مذهب الشافعية والحنابلة؛ قالوا: لأن معنى الجمع هو المتابعة، ولا يحصل ذلك مع الفاصل الطويل.
  • القول الثاني: أنه لا تشترط الموالاة بين الصلاتين المجموعتين، وهو قولٌ عند الحنابلة، واختاره ابن تيمية رحمه الله، وهو القول الراجح؛ لعدم الدليل الدال لهذا الشرط، ومما يدل لذلك أيضًا: أن النبي في مزدلفة لما وصل إلى مزدلفة؛ أمر بالمؤذن فأذَّن، ثم أقام وصلى المغرب، ثم أمر بحط الرحال، ثم أمر المؤذن فأقام فصلى العشاء، ففَصَل النبيُّ بين المغرب والعشاء في مزدلفة [21]، فهذا فيه رد على من قال: تشترط الموالاة بين الصلاتين المجموعتين.

أن يوجد العذر عند افتتاحهما، وأن يستمر إلى فراغ الثانية

ثم ذكر المؤلف الشرط الثالث والرابع، قال:

وأن يوجد العذر عند افتتاحهما، وأن يستمر إلى فراغ الثانية.

أي: أن يوجد العذر المبيح للجمع عند تكبيرة الإحرام للأولى، وعند تكبيرة الإحرام للثانية، ويستمر إلى فراغ الثانية؛ لأنه عند افتتاح الأولى تكون النية، وعند افتتاح الثانية يحصل الجمع؛ فلا بد من وجود العذر فيهما، هذا شرطٌ معتبرٌ؛ وعلى هذا مثلًا: لو أنه أراد أن يجمع لأجل نزول المطر، فلما كبَّر للأولى؛ كان المطر غزيرًا ومصحوبًا برياحٍ باردةٍ، ثم لما فرغ منها؛ توقف المطر تمامًا، فليس له الجمع في هذه الحال، بل لا بد أن يستمر نزول المطر إلى الفراغ من الصلاة الثانية التي تجمع مع الأولى.

شروط جمع التأخير

انتقل المؤلف للكلام عن شروط جمع التأخير فذكر شرطين:

وإن جَمَع تأخيرًا.

نية الجمع بوقت الأولى

الشرط الأول:

قال:

اشتراط نية الجمع بوقت الأولى قبل أن يضيق وقت الثانية عنها.

لماذا اشترطوا هذا الشرط؟ لأنه إذا أخر الصلاة بدون نية الجمع، فيكون قد أخرها بدون عذرٍ؛ فيقع في الإثم، فإذا أراد أن يجمع جمع تأخيرٍ؛ فلا بد أن ينوي الجمع حتى لا يكون قد أخر الصلاة من غير عذرٍ؛ فيقع في الإثم.

مثال ذلك: رجلٌ لم يصل صلاة المغرب، ولكنه لم ينوِ الجمع مع العشاء، فلما خرج وقت المغرب قال: أريد أن أجمع المغرب مع العشاء، فليس له ذلك؛ لأنه أخَّر المغرب بدون عذرٍ ولم ينو الجمع، فلا بد من الجمع، لا بد من نية الجمع بوقت الأولى قبل أن يضيق وقت الثانية عنها.

بقاء العذر إلى دخول وقت الثانية

ثم ذكر المؤلف الشرط الثاني:

قال:

وبقاء العذر إلى دخول وقت الثانية.

يعني: يشترط أن يبقى العذر المبيح للجمع إلى وقت الثانية.

فإن زال العذر قبله؛ لم يجز الجمع.

كمسافرٍ نوى أن يجمع بين الظهر والعصر جمع تأخيرٍ، ثم إنه وصل إلى بلد الإقامة قبل دخول العصر، فليس له الجمع في هذه الحال، وإنما يلزمه أن يصلي الظهر في وقتها أربع ركعاتٍ، ثم يصلي العصر في وقتها؛ لأن سبب الجمع هو السفر، وقد زال، وهذه مسألةٌ ربما يجهلها بعض الناس، يكون مسافرًا ونوى الجمع، ثم يصل قبل دخول وقت الثانية، يعني يكون مسافرًا وينوي الجمع بين المغرب والعشاء، ثم يصل إلى بلد الإقامة قبل دخول وقت صلاة العشاء، فليس له الجمع في هذه الحال، بل يلزمه أن يصلي المغرب في وقتها ثلاث ركعاتٍ، وإذا دخل وقت صلاة العشاء؛ لزمه أن يصلي صلاة العشاء في وقتها.

لا يشترط للصحة اتحاد الإمام والمأموم

ولا يشترط للصحة اتحاد الإمام والمأموم، فلو صلاهما خلف إمامين، أو بمأمومٍ الأُولى، وبآخَر الثانية.

يعني: صح، لا يشترط اتحاد الإمام، لو صلى بهم المغرب إمامٌ والعشاء إمامٌ آخر؛ صح؛ لأن الأصل الجواز في مثل هذه المسائل، كذلك المأمومون، لو أن الإمام صلى المغرب بجماعةٍ، وصلى العشاء بجماعةٍ أخرى؛ صح ذلك.

أو خلف من لم يَجمع.

لو صلى من يَجمع خلف من لم يَجمع؛ صح ذلك؛ مثلًا: مسافرٌ أتى وصلى مع الناس صلاة الظهر، ثم لما سلموا؛ قام وصلى صلاة العصر، جمعها مع الظهر، لا بأس.

أو إحداهما منفردًا، والأخرى جماعةً.

يعني: كما لو صلى إحدى الصلاتين مع الجماعة، ثم صلى الصلاة الأخرى منفردًا، مسافرٌ أتى ووجد الجماعة يصلون صلاة المغرب فصلى معهم، ثم بعد ذلك بعدما سلم؛ قام وأقام وصلى العشاء ركعتين لا بأس.

أو صلى بمن لم يَجمع صح.

إذا كان الإمام يجمع والمأموم لا يجمع؛ صح ذلك، كل هذه المسائل تصح، لكل صلاةٍ حكمٌ في نفسها، ومستقلةٌ بشروطها وأركانها وواجباتها، فلا يشترط اتحاد الإمام والمأموم، ولا الجماعة والإفراد، الأمر في ذلك كله فيه سعةٌ.

وبذلك نكون قد انتهينا من الكلام عن أحكام القصر والجمع.

بقي معنا كم من الوقت؟

مداخلة:

الشيخ: طيب عشر دقائق، إذنْ نجعلها للإجابة عن الأسئلة.

نقف عند صلاة الخوف، ونكتفي بهذا القدر.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

الآن نجيب عما تيسر من الأسئلة:

الأسئلة

السؤال: ما ضوابط التبديع، ومتى يكون الإنسان مبتدعًا؟

الجواب: البدعة تلي الشرك، وهي أحب للشيطان من الكبيرة، ووصف الإنسان بأنه مبتدعٌ ليس بالأمر الهين إذا كان ليس كذلك، وصفت إنسانًا بأنه مبتدعٌ، وواقعه أنه ليس مبتدعًا؛ فقد قذفته بما هو منه بريءٌ، وبعض الناس عنده جرأةٌ على التبديع والتكفير وتصنيف الناس بما هم منه برآءٌ، وهؤلاء ما أعظم مصيبتهم عند الله ! ويدخلون في عموم قول الله : إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ -لاحِظ وصفهم بالغافلات- الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۝ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:23-24]، فمن يفعل ذلك مستحقٌّ للَّعنة في الدنيا والآخرة، وإذا لُعن الإنسان في الدنيا والآخرة؛ فأي خيرٍ يرجو؟! هذا مرضٌ أصيبَ به بعض الناس، الجرأة على التكفير والتبديع، وعلى أيضًا تصنيف الناس بما هم منهم برآءٌ، بعض الناس قد يكون غافلًا، ثم يأتيه من يصفه بأنه كذا وأنه كذا، فهذا الذي فعل ذلك قد قذفه، وجُرمه عند الله عظيمٌ، ومصيبته كبيرةٌ ويدخل في عموم الآية، والآية لا تختص فقط بالقذف بالزنا، بل تشمل كل من قَذف إنسانًا بما هو منه بريءٌ: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور:23]، من يقذفُ الأبرياء مستحقٌّ للَّعنة في الدنيا والآخرة، لكن إذا وقع الإنسان في البدع؛ فالذي يحكم بذلك هم العلماء، العلماء هم الذين يحكمون بأن فلانًا وقع في البدعة، وأنه مبتدعٌ، وليس ذلك متاحًا لأي أحدٍ، حتى لا يتجرأ الناس على القول بالتبديع والتكفير والتفسيق من غير تثبتٍ.

السؤال: شخصٌ بدأ الطواف من الركن اليماني بالخطأ، ثم لما وصل لنهاية الشوط؛ تبين له الخطأ، فهل يكمل الطواف، أم يبدأ من جديدٍ؟

الجواب: يكمل الطواف؛ لأنه لا بد أن يأتي الحجر الأسود، هو سيبدأ من الحجر الأسود قطعًا، لكن يكمل الطواف، يعني من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود؛ وبذلك يصح طوافه.

السؤال: من قدَّم عضوًا على عضوٍ أثناء الوضوء بالخطأ، وانتهى من صلاته، ماذا يجب عليه؟

الجواب: الترتيب من فروض الوضوء، إذا قدم عضوًا على عضوٍ؛ لم يصح وضوؤه، إلا تقديم اليد الشمال على اليمين، والرجل الشمال على الرجل اليمنى، هذا لا يجب بالإجماع، لكن إذا قدم بالنسبة لأعضاء الوضوء الأخرى؛ قدم مثلًا غسل اليدين على غسل الوجه، فهذا لا يصح وضوؤه؛ لأن الترتيب من فروض الوضوء، والله تعالى أدخل ممسوحًا بين مغسولين لأجل ذلك، قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، فلو لم يكن الترتيب واجبًا؛ لقال الله: فاغسلوا وجوهكم وأرجلكم، وامسحوا برءوسكم، لكنه أدخل ممسوحًا بين مغسولين؛ للدلالة على وجوب الترتيب.

السؤال: ما نصيحتكم لمن أسرف على نفسه بالذنوب والمعاصي، ويريد التوبة والاستقامة؟

الجواب: الله تعالى يقول: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، ما دمتَ حيًّا ولم تبلغ الروح الحلقوم؛ فباب التوبة مفتوحٌ، مهما كثرت وعظمت الذنوب، ورحمة الله واسعةٌ، والله يغفر الذنوب جميعًا، وهو واسع المغفرة، وأرحم الراحمين، المهم أن تبادر ما دام باب التوبة مفتوحًا، فإنه إذا بلغت الروح الحلقوم، وعاين الإنسان الموت؛ هنا لا تقبل منه التوبة؛ لأنه انتقل من الإيمان بالغيب إلى الإيمان بالمشاهدة، فعند طلوع الشمس من مغربها، وعند بلوغ الروح الحلقوم لا تُقبل التوبة حينئذٍ.

فأقول للأخ السائل الكريم: عليك أن تبادر الآن بالتوبة، ومن تاب تاب الله عليه، والله يحب التوابين، ويغفر الذنوب جميعًا، فتب إلى تعالى التوبة النصوح، واغتنم ما تبقى من عمرك فيما ينفعك بعد مماتك.

السؤال: هل تُشرع سنة الفجر بعد صلاة الفجر؟

الجواب: سنة الفجر: الأصل أنها تكون قبل صلاة الفجر، لكن إذا فاتت سنة الفجر قبل صلاة الفجر؛ فلا بأس أن يأتي بها بعد صلاة الفجر، والأفضل أن يأتي بها بعد طلوع الشمس وارتفاعها قِيدَ رمحٍ، يعني: بعد زوال وقت النهي، هذا هو الأفضل، لكن يجوز له أن يأتي بها بعد صلاة الفجر.

السؤال: هل يجوز التنازل عن التركة قبل قسمتها؟

الجواب: إذا تنازل الإنسان عن ذلك فلا بأس، لكن لا يلزم ذلك إلا بعد وفاة المورِّث؛ لأن التركة، الميراث، يدخل في ملك الإنسان قهرًا، فالتنازل إنما يلزم بعد الموت، بعد موت المورث هنا يتنازل، أما قبل الموت فلا يُدرى من يموت أولًا، يعني هو عندما يتنازل عن التركة، هل هو يضمن بأنه سيعيش بعد هذا الإنسان الذي تنازل عن حقِّه من الميراث منه، ربما يكون هو الميت أولًا، فلا داعي لهذا التنازل أصلًا، لا داعي له، لكن لا يقال: إنه حرامٌ، خلاف الأولى، وأما التنازل الذي تترتب عليه الأحكام الشرعية: هو التنازل بعد وفاة المورِّث.

السؤال: أنا أختم القرآن مرةً في الشهر في صلاة الليل خاصةً، هل يُجزئ ذلك، أم لا بد أن أجعل لي وردًا آخر خارج الصلاة؟

الجواب: الأمر في ذلك واسعٌ، المهم أنك تقرأ كل يوم وردًا من القرآن، وكونك تقرأ وتختم القرآن في الشهر مرةً، هذا حسنٌ، ولو أنك جعلته في مدةٍ أقل؛ كان ذلك أفضل، والمنقول عن السلف والصحابة أنهم كانوا يختمون القرآن كل أسبوعٍ مرةً، وهو الذي أرشد إليه النبي عبدلله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، بأن يختم القرآن في كل أسبوعٍ مرةً، لكن الأمر في هذا واسعٌ، لو جعلت في كل شهرٍ مرةً فلا بأس، ولو جعلت لك ختمةً في صلاة الليل، وختمةً أخرى خارج صلاة الليل فلا بأس، كل ذلك الأمر فيه واسعٌ؛ لأن هذا أصلًا ليس واجبًا، وإنما هو مندوبٌ إليه، فالأمر فيه واسعٌ.

السؤال: ما حكم الزواج من أمِّ زوجة الابن؟

الجواب: أم زوجة الابن أجنبيةٌ عنه؛ فلا بأس بالزواج بها.

السؤال: أين يجعل المصلي يديه بعد الرفع من الركوع؟

الجواب: هذا محل خلافٍ بين العلماء؛ فمنهم من قال: إنه يُرسلها، ومنهم من قال: إنه يقبض اليد اليمنى على اليسرى كما كان يفعل قبل الركوع، وهذا هو الذي يفتي به مشايخنا.

السؤال: ما هي المواضع التي يُشرع فيها رفع اليدين مع التكبير في الصلاة؟

الجواب: أربعة مواضع: عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وعند القيام من التشهد الأول، هذه المواضع الأربعة يُشرع معها رفع اليدين عند التكبير.

السؤال: ما معنى “تخبيب الزوج، أو تخبيب الزوجة”؟

الجواب: يعني: إفساد الزوجة على زوجها، أو الزوج على زوجته، فهناك من شياطين الإنس من يفعل ذلك؛ يفسد الزوجة على زوجها، ويزين للمرأة أن تطلب الطلاق أو الفسخ أو الخلع من زوجها، وهذا حرامٌ عليه، ولا يجوز له ذلك، أو أن يخبب الزوج على زوجته كذلك، هذا أيضًا لا يجوز، كل هذا من الإفساد، ومن التعدي على الآخرين.

السؤال: الرخصة الخامسة…، وهي جواز الصلاة على الراحلة أينما توجهت به؟

الجواب: نعم، هذه ربما لم يذكرها المؤلف؛ لأنها سبقت، تكلمنا عنها، وذكرها العلماء في أحكام صلاة النافلة، لكن الأخ السائل جزاه الله خيرًا.. يمكن أن هذه تضاف، نحن قلنا: إن المسافر يترخص بأربع رخصٍ؛ بالقصر والجمع، والفطر في نهار رمضان، وأيضًا تطويل مدة المسح على الخفين إلى ثلاثة أيامٍ بلياليهن، ممكن أن تكون هذه الرخصة الخامسة، وهي: جواز الصلاة على الراحلة أينما توجهت به.

السؤال: لو كان المسافر لا يدري كم سيمكث في بلد السفر؛ لكنه يعلم أنه سيمكث أكثر من عشرين يومًا، هل يترخص برخص السفر؟

الجواب: ليس له الترخص برخص السفر؛ لأن المقصود تحديد المدة على سبيل التقريب، وليس على سبيل التحديد، ما دام أنه يعرف أنه سيُقيم أكثر من عشرين يومًا؛ فليس له الترخص برخص السفر.

السؤال: ما حكم التفاؤل أو التشاؤم بالأبراج الجاهلية؟

الجواب: هذا لا يجوز، هذه الطِّيَرة المنهي عنها: لا عدوى ولا طِيَرة ولا هامَة ولا صَفَر [22]، فالطيرة شركٌ، هذه من أفعال الجاهلية، وقد ذكرها الله تعالى عن بعض الأمم السابقة: قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ [النمل:47]، ذكرها الله تعالى عن قوم صالحٍ ، وذكرها الله تعالى عن قوم موسى ، وذكرها الله تعالى عن أصحاب القرية؛ إذ جاءها المرسلون [23]، ولا تزال الآن تنتشر هذه الأمور؛ التطير والتشاؤم في البيئات التي يقل فيها نور الوحي، البيئات التي يقل فيها نور الوحي والنبوة تكثر فيها هذه الأشياء -التشاؤم والتطير- يتشاءمون من كل شيءٍ، حتى بالأيام، عندهم بعض الأيام، عندهم في بعض المجتمعات يوم الثلاثاء يتشاءمون به، يسمونه الثلاثاء الأسود، وبعضهم حتى بالأرقام، عندهم ثلاثة عشر هذا يتشاءمون به في بعض المجتمعات، وقد رأيت بنفسي في عمارةٍ المصاعد من 1، 2، 3 لما أتى 12 بعدها 14، قلت: لماذا لم يجعلوها 13؟ قالوا: يتشاءمون به! مقاعد الطائرة، بعضهم أحيانًا لا يجعلون في بعض مقاعد الطائرة رقم 13، كل هذه من الخرافات والخزعبلات التي ما أنزل الله بها من سلطانٍ، فالتشاؤم بزمانٍ أو بمكانٍ أو بصوتٍ أو بمسموعٍ، كل هذا من الطيرة المنهي عنها والمذمومة: الطيرة شركٌ [24]، لا عدوى ولا طيرة ولا هامَة ولا صَفَر [25].

وكذلك أيضًا التشاؤم أو التفاؤل بالأبراج الشمسية، هذا من التنجيم، ولا يجوز هذا الأمر، والأبراج ليس لها علاقة بما يقدره الله من الحوادث، هذه أبراجٌ لا عقل لها، كيف يكون لها علاقةٌ بما يُقدره الله تعالى من السعد أو النحس للإنسان؟ لكن هذه كلها من أمور الجاهلية، ولا يجوز الاشتغال بها.

السؤال: من كان في نزهةٍ في البرِّية وتجاوز مسافة السفر، فهل الأفضل جمع الصلوات، أم يكتفي بالقصر دون الجمع؟

الجواب: الأفضل الاكتفاء بالقصر دون الجمع، إلا إذا كان في الجمع مصلحةٌ؛ كأن يكون الماء قليلًا، أو يكون الجو باردًا، ونحو ذلك، أما إذا لم يكن فيه مصلحةٌ؛ فالأفضل الاقتصار على القصر من غير جمعٍ.

ونكتفي بهذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

موعدنا غدًا -إن شاء الله- بعد صلاة المغرب في التعليق على كتاب الفضائل من “صحيح مسلمٍ”.

والسلام عليكم.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه ابن ماجه: 4222، وأحمد: 3808.
^2 رواه البخاري: 1804، ومسلم: 1927.
^3 رواه مسلم: 686.
^4 رواه مسلم: 1338.
^5 رواه ابن أبي شيبة: 8140، والبيهقي في السنن الكبرى: 5494.
^6, ^10, ^16, ^18, ^19, ^25 سبق تخريجه.
^7 رواه البخاري: 1081، ومسلم: 693
^8 رواه البخاري: 1089، ومسلم: 690.
^9 رواه أحمد: 1862، بنحوه.
^11 رواه البخاري: 1080.
^12 رواه الشافعي في الأم: 7/ 195.
^13 رواه الشافعي في الأم: 7/ 195، وأحمد: 4531.
^14 رواه مسلم: ‌705.
^15 في نسخة زيادة: “إذا كان”.
^17 رواه النسائي: 589.
^20 رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907.
^21 رواه البخاري: 139، ومسلم: 1280.
^22 رواه البخاري: 5707، ومسلم: 2220.
^23 من آية [13-19] من سورة يس.
^24 رواه أبو داود: 3910، والترمذي: 1614، وابن ماجه: 3538، وقال الترمذي: حسن صحيح.
zh