عناصر المادة
ثم ننتقل بعد ذلك إلى التعليق على السلسبيل في شرح الدليل، وكنا قد وصلنا إلى صلاة الخوف.
صلاة الخوف
قال المصنف رحمه الله:
فصلٌ: في صلاة الخوف.
مشروعية صلاة الخوف
الأصل في صلاة الخوف الكتاب والسنة والإجماع؛ أما الكتاب فقول الله تعالى في سورة النساء: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:102]، أما السنة فقد صلى النبي صلاة الخوف على عدة صفات سيأتي الكلام عنها، وأجمع العلماء على ذلك.
تُشرع في القتال المباح حضرًا وسفرًا
قال: تصح صلاة الخوف إذا كان القتال مباحًا.
إذا كان يوجد معركةٌ وقتالٌ مشروع بين المسلمين والكفار فتصح صلاة الخوف؛ كما قال الله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239]. وقوله: “إذا كان القتال مباحًا” يُفهم منه أنه إذا كان محرمًا لا تصح.
حضرًا وسفرًا.
يعني: أن صلاة الخوف ليست خاصة بالسفر، بل يمكن أن تكون في الحضر، وهذا فيه ردٌّ على مَن خصَّها من العلماء بالسفر.
لا تأثير للخوف في عدد الركعات وإنما في صفة الصلاة
ولا تأثير للخوف في تغيير عدد ركعات الصلاة، بل في صفتها وبعض شروطها.
الخوف لا يؤثر في عدد الركعات، وإنما يؤثر في الصفة فقط وفي بعض الشروط، فليست صلاة الخوف مثلًا تُقصر لأجل الخوف، وإنما يؤثر في الصفة فقط، كما سيأتي.
وقد وردت السنة بعدة صفات، أشهرها ست أو سبع صفات، وبعضهم أوصلها إلى ستة عشر، وابن القيم رحمه الله وجماعة من أهل العلم يقولون: إن الصحيح المحفوظ أنها ستةٌ أو سبعة.
ومن أشهرها صلاة الخوف التي صلاها النبي في غزوة ذات الرِّقَاع؛ حيث صلى بهم النبي عليه الصلاة والسلام إمامًا، وصَفَّت طائفةٌ معه تجاه العدو، وصلى بهم ركعة، وثبت قائمًا، ثم هذه الطائفة التي صلت خلفه أتموا لأنفسهم ركعة أخرى، ثم انصرفوا وصفوا تجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى وصلى بهم الركعة الثانية في حق النبي عليه الصلاة والسلام، وهي الأولى في حقهم، ثم ثبت جالسًا وأتموا لأنفسهم الركعة الثانية، ثم سلم بهم، هذه أشهر صفات صلاة الخوف، وهناك صفاتٌ أخرى ذكرها أهل العلم.
الصلاة عند اشتداد الخوف
وإذا اشتد الخوف صلوا رجالًا وركبانًا.
رجالًا يعني: راجلين، وركبانًا يعني: راكبين.
للقبلة وغيرها، ولا يلزم افتتاحها إليها ولو أمكن يومئون طاقتهم.
يعني: لا يلزم استقبال القبلة في حال الخوف؛ لقول الله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239]، ولا يلزم الاستقبال حتى عند افتتاح الصلاة، وبالنسبة للسجود والركوع يومئون بالركوع والسجود، ويجعلون السجود أخفض من الركوع؛ ولهم التحرك والتقدم والتأخر والكَرّ والفَرّ والطعن والضرب، ولا يؤخرون الصلاة حتى يخرج وقتها، وإنما يصلونها في وقتها بإحدى صفات صلاة الخوف.
وقال بعض أهل العلم: إنه في حال المُسايَفة واشتداد الخوف والتحام الصفوف يجوز تأخير الصلاة عن وقتها؛ وهذا هو مذهب الحنفية ورواية عند الحنابلة، واختارها جمعٌ من المحققين من أهل العلم، كان شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله يرجِّح هذا القول، واستدلوا بأن النبي فعل ذلك في غزوة الأحزاب؛ حيث أخَّر صلاة العصر إلى ما بعد غروب الشمس، وقال: ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا؛ شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس[1] والحديث في الصحيحين.
والقول بأنه منسوخ غيرُ صحيح، الأصل عدم النسخ، وغزوة الأحزاب كانت في السنة الخامسة من الهجرة، لكن تلك الحال كانت حالًا شديدة، وصفها ربنا بأنها: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [الأحزاب:10]؛ يعني: هذه الحال.
ومما يدل على عدم النسخ: أن الصحابة فعلوا ذلك عندما فتحوا تُسْتَر في خُرَاسَان، عند فتح بلاد تُسْتَر بفارس في عهد عمر أخروا صلاة الفجر؛ لأنه كان وقت دخولهم لتُسْتَر كان وقت صلاة الفجر، ولم يتمكنوا من أدائها إلا ضحًى، وقد أخرجه البخاري في صحيحه مُعلَّقًا بصيغة الجزم. فكون الصحابة يفعلون ذلك؛ يدل على أنهم فهموا جواز التأخير في مثل هذه الحال، وأنه لم يُنسخ؛ لأنه لو بقوا وصلوا صلاة الفجر ولو بإحدى صفات صلاة الخوف لربما لم يتيسر لهم الفتح.
وعلى هذا نقول: إذا كان الخوف شديدًا في حال التحام الصفوف، وحال ما يسميه العلماء بـ”المُسايَفة”؛ فيجوز تأخير الصلاة عن وقتها؛ لحالٍ خاصةٍ وضيقةٍ أيضًا. أما إذا كان الخوف ليس شديدًا، وهذا هو الغالب على المعارك؛ أن الخوف ليس شديدًا، يكون ثَمَّة خوف لكنه ليس شديدًا؛ لأن الخوف الشديد يكون عند التحام الصفوف والمواجهة، لكن المعارك لا تكون طيلة الوقت مواجهةً والتحامًا، وإنما يكون هناك حصار، ويكون هناك يعني وقتٌ طويل لا يكون فيه التحامٌ بين الصفوف، فإذا كان الخوف ليس شديدًا فتُصلى بإحدى الصفات الواردة، هذا هو القول الراجح عند كثير من المحققين من أهل العلم في هذه المسائل.
مشروعية صلاة الخوف في غير القتال
وكذا في حالة الهربِ من عدوٍّ أو سيلٍ أو سَبُعٍ أو نار.
يعني: أن الخوف لا يختص فقط بالقتال، بل يشمل الخوف بأي سبب، سواءٌ كان من عدو أو سيل أو سَبُع أو نار أو نحو ذلك؛ مثلًا: لو كان نائمًا في البر وأتاه السيل وتبعه السيل، وخشي خروج الوقت، أو لحقه سَبُع؛ يعني: إذا لحقه السيل، السيل من خلفه يتبعه، لكن يخشى أنه من أمامه تسيل الأودية التي أمامه فيُحصر، فهنا يسير بالسيارة ويصلي وهو في السيارة بإحدى صفات صلاة الخوف؛ أو لحقه سَبُع أو لحقته نار ونحو ذلك فيصلي بإحدى صفات صلاة الخوف.
قال:
أو غريمٌ ظالم.
الغريم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام كان يَتْبَع غريمَه ويَلْزَمه حتى يُسدد الدين، وكان أيضًا هذا عليه الحال في عهد أبي بكر وأول عهد عمر رضي الله عنهما، ثم اتخذ عمر السجن بعد ذلك، فإذا كانت الملازمة بحقٍّ هذه لا بأس بها، لكن إذا كانت بغير حق ولحقه هذا الغريم الظالم يمشي خلفه جاز أن يصلي راجلًا أو راكبًا.
أو خوف فواتِ وقت الوقوف بعرفة.
لو خشي أنه لو وقف وصلى صلاةً مكتملةً بأركانها وشروطها وواجباتها؛ خرج وقت الوقوف بعرفة، طلع عليه فجر يوم النحر، فله أن يصلي بإحدى صفات صلاة الخوف؛ فمثلًا: إذا كان في السيارة والوقت ضيق، ويخشى أنه لا يدركه وقت الوقوف بعرفة؛ فيصلي في السيارة، ويومئ بالركوع والسجود.
أو خاف على نفسه أو أهله أو ماله أو ذبَّ عن ذلك وعن نفس غيره.
كذلك إذا خاف على نفسه، أو حتى خاف على الأهل أو المال أو خاف على غيره؛ يجوز له أن يصلي راجلًا أو راكبًا.
أو خاف عدوًّا إن تخلف عن رفقته، فصلى صلاة خائفٍ، ثم بان أمنُ الطريق لم يُعِد.
يعني: لو خشي العدوَّ إذا تخلف عن الرفقة وصلى صلاة خائف، ثم بعد ذلك تبين أنه ليس هناك عدو وأن الطريق آمنة؛ فالمؤلف يقول: إن صلاته صحيحة، ولكن القول الثاني -وهو المذهب عند الحنابلة- أن عليه الإعادة، ثم ذكر ذلك المرداوي في الإنصاف. والقول الثاني هو الراجح -أن عليه الإعادة-؛ لأنه تبين أن ما اعتقده سببًا لصلاة الخوف أنه ليس بسبب، وأنه مجرد توهُّم أو ظن.
هنا أُنبه إلى: أن الخوف لا بد أن يكون معتبرًا؛ لأن بعض الناس بطبيعته كثير الخوف وكثير الأوهام؛ يتوهم وعنده عقدة مؤامرة (الناس يتآمرون عليه)، ويخاف خوفًا شديدًا؛ هذا الخوف غير معتبر، إنما الخوف المعتبر عند العقلاء هذا هو المؤثر، أما الخوف المُتوهَّم فهذا لا أثر له.
مَن خاف وأَمِن في صلاته انتقل وبنى
ومَن خاف وأَمِن في صلاته انتقل وبنى.
إذا حصل الأمن في الصلاة انتقل إلى صلاة الآمن، ويبني على ما مضى من صلاته، ولا يلزمه الإعادة؛ أو كان يصلي صلاة آمن، ثم خاف في صلاته انتقل إلى صلاة الخوف، وبنى على ما مضى من صلاته، ولم تلزمه الإعادة.
الكَرُّ والفَرُّ وحَمْلُ النجاسة أثناء صلاة الخوف
وَلِمُصَلٍّ كَرٌّ وَفَرٌّ لمصلحةٍ ولا تبطلُ بطوله.
يعني: هذا بناءً على الخلاف في المسألة السابقة: إذا التحمت الصفوف، وكان في حال مُسايَفة، واشتد الخوف كثيرًا؛ فهل نقول: إن المصلي يصلي بإحدى صفات صلاة الخوف، ولو كان هناك كَرٌّ وفَرٌّ وحركة كثيرة؟ الجمهور يرون هذا.
القول الثاني الذي رجحناه: أنه في هذه الحال يُؤخر الصلاة، وهو معذورٌ بهذا التأخير، وقلنا: إن هذا هو القول الراجح، وأن الصحابة فعلوه عند فتح بلاد تُسْتَر.
قال:
وجاز لحاجة حَمْلُ نجسٍ ولا يعيد.
يعني: يجوز لمَن يصلي صلاة الخوف أن يحمل نجاسةً كأنْ يحمل سلاحًا نجسًا إذا احتاج إلى حملة، وليس عليه إعادة تلك الصلاة.
بهذا نكون قد انتهينا من أحكام صلاة الخوف.
وننتقل إلى باب صلاة الجمعة.
صلاة الجمعة
قال المؤلف رحمه الله:
باب: صلاة الجمعة.
معنى الجمعة وفضلها
الجمعة: بضم الميم (جُمُعة)، وقيل بإسكانها (جُمْعة)، وهما لغتان، والضم أشهَر (جُمُعة)، وأما بإسكان الميم (الجُمْعة) فالمراد بها الأسبوع كاملًا؛ “فنزل المطر جُمْعةً” يعني: أسبوعًا، فالعرب تُطلق الجُمْعة -بإسكان الميم- على الأسبوع، لكن اليوم المعروف الذي بين الخميس والسبت يقال له: جُمُعة -بضم الميم- وجُمْعة -بإسكانها-؛ يعني: يقال: جُمْعة وجُمُعة، وجُمَعة؛ وأما جُمْعة فالمقصود بها الأسبوع، فعندنا الآن بضم الميم، وبفتح الميم، وبإسكان الميم؛ بضم الميم وبفتحها لغتان (جُمُعة وجُمَعة) والأشهَر هو الضم، أما بإسكان الميم (جُمْعة) فالمقصود بها الأسبوع، كان يسمى في الجاهلية بالعروبة.
واختُلف في سبب تسميته بالجمعة على أقوال: من أحسنها ما رجحه الحافظ ابن حجر رحمه الله؛ أن خلق آدم قد جُمِعَ فيه، واستدل لذلك بحديث سلمان ؛ قال عليه الصلاة والسلام: يا سلمان، يوم الجُمُعة به جُمِعَ أبوك أو أبوكم[2]، وهذا قد ورد في أحاديث أخرى أن أبانا آدم خُلِق يوم الجمعة.
وهو أفضل أيام الأسبوع؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: خيرُ يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خُلق آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة[3] رواه مسلم. وهدى الله تعالى لهذا اليوم هذه الأمة، وأضل عنه اليهود والنصارى، فكان لليهود السبت، وكان للنصارى الأحد؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: نحن الآخِرون السابقون يوم القيامة، بَيْدَ أنهم أوتوا الكتاب مِن قَبلنا، فهدانا الله، فالناس لنا في تبع، اليهود غدًا والنصارى بعد غد[4]؛ يعني: نحن الآخِرون زمانًا، السابقون منزلةً.
أيضًا يوم الجمعة يُسمى “عيد الأسبوع”، وقد وردت تسميته بعيد الأسبوع في بعض الأحاديث، وهذه من وجوه الحكمة في النهي عن إفراده بالصوم؛ لأنه عيد الأسبوع. وصلاة الجمعة صلاة مستقلة ليست بدلًا عن الظهر، ولخصائصها التي تفارق فيها الظهر؛ ومنها: أنها لا تجوز فيها الزيادة على ركعتين، ولا تُجمع مع العصر -على القول الراجح-، ولا تنعقد بنية الظهر، لكن صلاة الظهر بدلٌ عنها، إذا فاتت فتُصلى ظهرًا.
شروط وجوب صلاة الجمعة
ثم انتقل المؤلف رحمه الله لـ:
شروط وجوب صلاة الجمعة.
ذكر المؤلف خمسة شروط:
الشرط الأول: الذكورية؛ فقال:
تجب على كل ذكر.
أما الأنثى فلا تجب عليها الجُمُعة، ولها أن تُصليها ظهرًا.
الشرط الثاني:
مسلم.
فالكافر لا تجب عليه الجمعة، ولا تجب عليه الصلاة عمومًا؛ لأنها عبادة، والعبادة تفتقد إلى نية، والنية لا تصح من كافر؛ يعني: إذا رأينا كافرًا لا نأمره بأن يصلي لا الجمعة ولا غيرها، لكنه مُحاسب على تركها؛ كما قال الله تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:42-43]، ويقال له: إذا أردت أن تصح منك الصلاة فصحِّح الأصل (وهو التوحيد)؛ اِشْهَد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم صلِّ فتُقبل منك، وتصح الصلاة.
الشرط الثالث: قال:
مُكلَّف.
يعني يشمل شرطين: البلوغ والعقل؛ أن يكون بالغًا عاقلًا، فغير البالغ لا تجب عليه الجمعة ولو قارب البلوغ؛ يعني: لو كان عمره أربع عشرة سنة، ولم تظهر منه إحدى علامات البلوغ؛ لم تجب عليه الجمعة. وكذلك المجنون أيضًا لا تجب عليه الجمعة.
الشرط الخامس: قال:
حُرّ.
الحرية؛ فالرقيق لا يجب عليه الجمعة، لكن الرقيق والصبي والمرأة إذا صلوا صحت منهم. هذه هي شروط وجوب صلاة الجمعة.
قال:
وكذا على مسافرٍ لا يباح له القصر.
يعني: تجب الجمعة على المسافر الذي لا يُباح له قصر؛ مَن هو المسافر الذي لا يباح له القصر؟
الجواب: هو المسافر سفر معصية، على المذهب أنه لا يباح له القصر، وسبق أن ذكرنا هذه المسألة، ورجحنا في الدرس السابق أن المسافر سفر معصية يجوز له الترخص برخص السفر؛ قلنا: إنه قول مُرجَّح عند كثير من المحققين من أهل العلم.
قال:
وعلى مقيمٍ خارج البلد إذا كان بينهما وبين الجمعة وقتَ فِعلها فرسخٌ فأكثر.
أولًا: قول المؤلف:
وعلى مقيمٍ خارج البلد.
يُفهم منه أن المقيم داخل البلد له حكم آخر، أو أنه تجب عليه الجمعة؛ سواءٌ سمع النداء أو لم يسمع، وهذا بالإجماع؛ لأن المسجد الجامع مبنيٌّ لأهل البلد الواحد، فلا فرق فيه بين القريب والبعيد؛ ولأن المدينة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام كانت بيوتًا متفرقة، ومع ذلك كان جميع أهل المدينة مأمورين بشهود الجمعة وداخلين في قول الله : فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]. وعلى ذلك مثلًا؛ مدينة كالرياض جميع سكانها يجب عليهم أن يصلوا الجمعة، سواءٌ سمعوا النداء أو لم يسمعوا، وهذا بخلاف صلاة الجماعة لا تجب إلا ممن يسمع النداء. وهذه من أوجه الفرق بين الجمعة والجماعة؛ فالجماعة إنما تجب على مَن سمع النداء؛ يعني: مَن كان بإمكانه أن يسمع الأذان لو أذن المؤذن من غير مكبر الصوت، فهنا يجب عليه أن يصلي الجماعة، لكن لو كان بعيدًا ما عنده مسجد قريب، ولو أذن المؤذن لَمَا سمع النداء لم تجب عليه الجماعة، لكن تجب عليه الجمعة، فالجمعة تجب على كل مَن كان داخل البلد، سواءٌ سمع النداء أو لم يسمعه، باتفاق العلماء.
طيب، مَن كان خارج البلد مسافةً تبلغ فرسخًا فأقل فتجب عليه أيضًا الجمعة، والفرسخ تقريبًا خمسة كيلو مترات؛ قالوا: وجه هذا التحديد لأنه هو الموضع الذي يُسمع منه النداء -في الغالب- إذا كان المؤذن صَيِّتًا، والريح ساكنة، والأصوات هادئة؛ فمثلًا في مثالنا السابق: ليس في الرياض، وإنما خارج الرياض، لكن في أطرافها، بحيث لم يبعد أكثر من خمسة كيلو مترات، فيجب عليه إذًا أن يصلي الجمعة في هذه الحال، سواءٌ سمع النداء أو لم يسمعه.
طيب، لو كان خارج البلد أكثر من فرسخ، فهنا لا تجب عليه الجمعة؛ فعندنا الآن ثلاث حالات:
- الحالة الأولى: مَن كان داخل البلد فتجب عليه الجمعة، سواءٌ سمع النداء أو لم يسمعه.
- الحالة الثانية: مَن كان خارج البلد، لكن في حدود فرسخ فأقل (يعني: في حدود خمسة كيلو مترات فأقل)؛ فتلزمه الجمعة كذلك، سواءٌ سمع النداء أو لم يسمعه.
- الحالة الثالثة: مَن كان خارج البلد أكثر من فرسخ (يعني: أكثر من خمسة كيلو مترات)؛ فلا تلزمه الجمعة.
وعلى ذلك؛ مَن يخرجون للبر، فإذا كان البر الذي يخرجون له قريبًا (أقل من خمسة كيلو مترات) تجب عليهم الجمعة، أما إذا كان البر الذي يخرجون له يبعد عن المدينة أكثر من خمسة كيلو مترات فلا تجب عليهم الجمعة، ولهم أن يصلوها ظهرًا أربع ركعات، لكن لا يتخذوا هذا عادةً لهم، بحيث أنه كلما أتى يوم الجمعة ذهبوا للبر وتركوا صلاة الجمعة، فينبغي ألا يتخذوا هذا عادةً لهم، لكن لو حصل أحيانًا، خرج مجموعة إلى البر، وكان هذا البر يبعد عن المدينة التي هم مقيمون فيها أكثر من خمسة كيلو مترات فلا تجب عليهم الجمعة، ولهم أن يصلوها ظهرًا.
ولا تجب على مَن يباح له القصر.
وهو المسافر سفرًا مباحًا، فالجمعة لا تلزم المسافر، هناك قولٌ بوجوبها عليه، لكنه قول ضعيف، أكثر أهل العلم على عدم وجوب الجمعة والجماعة على المسافر، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يُسافر الأسفار ولم يُنقل عنه أنه صلى الجمعة في أي سفر من أسفاره، وهكذا الخلفاء الراشدون كذلك، بل إن المسافر لا يُشرع له أن يقيم الجمعة، وإقامته للجمعة بدعة؛ فلو أن جماعةً مسافرين قالوا: نُريد أن نُقيم الجمعة ويخطب بنا أحدُنا، فهذا غير مشروع، بل إنه بدعة؛ مثلًا مجموعة في الطائرة قالوا: نُريد أن نُقيم الجمعة في الطائرة ويخطب بنا أحدُنا؛ نقول: إن هذا العمل غير مشروع، بل هو من البدع، فالمسافر لا يجوز له أن يقيم الجمعة. لكن هل يجوز للمسافر أن يصلي مع مَن أقام الجمعة؟ نقول: هذا هو الأفضل، لكنه لا يجب عليه ذلك. وعلى ذلك؛ لو أن مسافرًا مثلًا سافر من الرياض إلى مكة وأقام في مكة مثلًا ثلاثة أيام، ووافق يوم الجمعة، وهو مقيمٌ في الفندق؛ هل يجب عليه أن يصلي الجمعة؟ لا تجب عليه الجمعة، له أن يصليها ظهرًا، لكن الأفضل والأكمل أن يصلي مع الناس الجمعة.
ولا على عبدٍ ومُبَعَّضٍ وامرأة.
يعني: لا تجب الجمعة على هؤلاء؛ المُبَعَّض: هو مَن بعضه حُرّ وبعضه عبد؛ وقد سبق القول بأن هؤلاء لا تجب عليهم الجمعة.
ومَن حضرها منهم أجزأته، ولم يُحسَب هو ولا مَن ليس من أهل البلد من الأربعين، ولا تصح إمامتهم فيها.
يعني: لو أن المسافر أو الرقيق أو المرأة حضروا الجمعة فيجزئهم ذلك باتفاق العلماء، لكنهم لا يُعَدّون من العدد المعتبر، وهو -على المذهب- أربعون، فلا يُحسَبون من هؤلاء الأربعين، ولا تصح إمامتهم. أما المرأة فهذا ظاهر لا الجمعة ولا الجماعة، وأما إمامة المسافر والعبد لصلاة الجمعة فمحل خلاف، فالجمهور على أنه يصح أن يكون المسافر والعبد إمامًا في الجمعة، والحنابلة على أنه لا يصح؛ قالوا: لأنهما من غير أهل فرض الجمعة، ولا تنعقد بهما.
والراجح -والله أعلم-: هو قول الجمهور، أنه لا بأس بذلك، وهذا هو الذي عليه عمل الناس اليوم؛ لأنه لا دليل يدل على عدم صحة إمامتهم الجمعة. وعلى ذلك؛ ما يفعله بعض الدعاة من الذهاب لبلدان بعيدة وإمامتهم للجمعة فيها؛ على المذهب لا يصح، لكن على القول الراجح -وهو قول الجمهور- يصح؛ فالقول الراجح أنه لا بأس بأن يَؤُمّوا الناس الجمعة مع كونهم مسافرين.
شروط صحة صلاة الجمعة
ننتقل بعد ذلك إلى:
شروط صحة صلاة الجمعة.
قال المؤلف:
وشُرِطَ لصحة صلاة الجمعة أربعةُ شروط.
هذه شروط صحة صلاة الجمعة.
وقت الجمعة
الأول:
أحدها: الوقت.
ثم بيَّن المؤلف الوقت ما هو؟ قال:
وهو من أول وقت العيد إلى آخر وقت الظهر، وتجب بالزوال، وبعده أفضل.
شرط الوقت -كما سبق- هو آكَد شروط الصلاة، وقد تسقط كثير من الشروط والأركان والواجبات مراعاةً لشرط الوقت، ولم يختلف العلماء في آخر وقت صلاة الجمعة، وهو أنه بنهاية وقت صلاة الظهر؛ يعني: من حين أن يصبح طول ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال؛ وأما أول وقت الجمعة ففيه ثلاثة أقوال:
- القول الأول: أن أول وقته هو أول وقت صلاة العيد؛ يعني: من حين طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح (بعد طلوع الشمس بنحو عشر دقائق إلى ربع ساعة)؛ وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة، وهو من المفردات.
- القول الثاني: أنها تصح في الساعة السادسة (قبل الزوال بساعة)؛ وهذا اختيار الخرقي والموفق ابن قدامة، وهو رواية عن أحمد.
- والقول الثالث: أن أول وقت صلاة الجمعة هو الزوال؛ وهو قول الجماهير.
استدل أصحاب القول الأول والثاني بحديث سلمة بن الأكوع ، قال: “كنا نصلي مع النبي جمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظلٌّ نستظل به”[5]؛ قالوا: فهذا دليلٌ على أن النبي كان يصلي الجمعة قبل الزوال، ونوقش بأنه ليس صريحًا في ذلك، وإنما سلمة لم يقل: وليس للحيطان ظِلٌّ، وإنما قال: “ظِلٌّ نستظل به”؛ فالإنسان إذا خرج من صلاة الجمعة ونظر للحيطان والجدران -خاصة في فصل الصيف- يجد أن ظلها قصير لا يصح أن يُستظل به، والمدينة تقع على خط عرض أربعة وعشرين في وقت الصيف؛ يعني: في شهر مايو ويونيو وأغسطس الظل قصير، أقصر ما يكون في يونيو، قصير الظل، لكنه لا ينعدم. ومثل ذلك مدينة الرياض أيضًا على خط أربعة وعشرين، الظل لا ينعدم، ينعدم الظل على مدار السرطان، في واحد وعشرين يونيو والأيام القريبة منه ينعدم تمامًا، وقد ذهبتُ إلى مدار السرطان في هذا الوقت، ووجدتُّ أن الظل منعدم تمامًا. مدار السرطان أين يقع؟ يمر هو بجنوب المملكة يمر في حَوْطَة بني تميم ومَهْد الذهب، هذه المناطق يمر بها مدار السرطان، فإذا أردتَّ أن ترى انعدام الظل اذهب في واحد وعشرين يونيو مثلًا إلى حَوْطَة بني تميم وقت أذان الظهر، الظل منعدم تمامًا، ثم يتولد بعد ذلك.
طبعًا هذا مدار السرطان على خط عرض ثلاثة وعشرين ونصف، مدينة النبي عليه الصلاة والسلام تقع على خط عرض أربعة وعشرين، ومثل ذلك الرياض أيضًا، فالظل يقصر فيها جدًّا، لكنه لا ينهدم، ففي وقت الصيف يقصر الظل كثيرًا. والنبي عليه الصلاة والسلام لم تكن خطبته طويلة، كانت قصيرة؛ فيُمْكن للخطيب أن يخطب بعد الزوال وينصرف الناس، وليس للحيطان ظلٌّ يُستظل به، وقد رأيت هذا بنفسي في مدينة الرياض؛ يعني: خطبتُ الجمعة، وصليتُ بهم الجمعة، وخرجتُ ووجدتُّ أن الحيطان ليس لها ظل يُستظل به في فصل الصيف، أما في فصل الشتاء فالظل طويل، مثل هذه الأيام الظل طويل، بل حتى أن طول ظل كل شيء مثله، حتى وقت أذان الظهر؛ ولذلك الفقهاء يقيدون ذلك يقولون: أن يصبح طول ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال؛ لأن ظل الزوال في أيام الشتاء يُصبح طويلًا.
فإذَن؛ هذا الدليل -حديث سلمة- ليس صريحًا، ليس للحيطان ظلٌّ يُستظل به، هذا يُمْكن أن يخطب بعد الزوال وينصرف الناس وليس للحيطان ظلٌّ يُستظل به، خاصةً في فصل الصيف، وأنا قد رأيتُ هذا بنفسي؛ خطبتُ بالجامع وأيضًا لم أخرج مُستعجِلًا؛ خطبتُ وأتيتُ بالأذكار، وخرجتُ ووجدتُّ أن الحيطان ليس لها ظلٌّ يُستظل به، مع أن دخولي كان بعد الزوال، خطبة وصلاة، وأيضًا إتيان بالأذكار بعد الصلاة، وربما أحيانًا يأتي مَن يسأل ويستفتي، ومع ذلك خرجتُ وليس للحيطان ظلٌّ يُستظل به، فهذا الحديث ليس صريحًا في أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يخطبُ قبل الزوال.
مداخلة: والحيطان ليست بالطويلة في عهد النبي .
الشيخ: كذلك نعم الحيطان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام لم تكن طويلة، وإنما قصيرة.
أيضًا استدلوا بحديث سهل بن سعد : “ما كنا نَقِيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة”[6]؛ طبعًا العرب طريقتهم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وقبل عهد النبي عليه الصلاة والسلام؛ كانوا بعد صلاة الفجر لا ينامون، ليس مثل حال الناس اليوم، ما ينامون، فكانت هناك الغَدْوة أو الإفطار، وكان الغداء قبل الظهر، والعَشاء قبل المغرب، ثم بعد صلاة العشاء الناس كلهم ينامون، بعد صلاة العشاء الناس ينامون ما في أحد يكون مستيقظًا؛ ولهذا كَرِه النبيُّ عليه الصلاة والسلام النومَ قبلها (يعني: قبل العِشاء) والحديثَ بعدها[7].
فكانت هذه طبيعة الناس؛ فكان الغداء عند العرب قبل الظهر، والقيلولة كانت أيضًا قبل الظهر، القيلولة كانت معروفة عند العرب؛ يعني: أنهم يقومون بعد الفجر يحتاجون إلى قيلولة منتصف النهار، فكانت قبل الظهر، لكن يوم الجمعة يقول سهل: ما كنا نَقِيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة؛ قالوا: إنه لا يُسمى غداءً ولا قيلولةً إلا قبل الزوال؛ نوقش بأن الصحابة كانوا يبكرون للجمعة، وهذا هو المظنون بهم، ويؤخرون الغداء والقيلولة يوم الجمعة خاصة إلى ما بعد صلاة الجمعة؛ لأنهم قد اشتغلوا بالتبكير والذهاب للمسجد الجامع، فانشغلوا عن القيلولة وعن الغداء بصلاة الجمعة؛ فهذا أيضًا ليس بصريح.
ولهذا جاء في حديث أبي سهيل بن مالك عن أبيه قال: “كنت أرى طَنْفَسَةً لعقيل بن أبي طالب يوم الجمعة تُطرح إلى جدار المسجد الغربي، فإذا غَشِيَ الطَّنْفَسَةَ كلَّها ظلُّ الجدار خرج عمر وصلى بالناس الجمعة”، قال: “ثم نرجع بعد صلاة الجمعة فنَقِيل قائلة الضحى”[8]؛ لاحظ هنا قال: “ظل الجدار خرج”، ومع ذلك ما كانوا يَقِيلون إلا بعد صلاة الجمعة.
واستدلوا كذلك بحديث عبدالله بن سيدان: “شهدتُّ الجمعة مع أبي بكر ؛ كانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار، ثم شهدتُّها مع عمر كذلك إلى أن أقول: قد انتصف النهار، ثم شهدتُّها مع عثمان إلى أن أقول: قد زال النهار، فما رأيتُ أحدًا عاب ذلك ولا أنكَرَه”[9]، ولكن هذا صريح، لكنه ضعيف لا يثبت.
القول الثالث: أن ابتداء وقت صلاة الجمعة بعد زوال الشمس؛ وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية، والمنقول عن جمهور الصحابة والتابعين، واستدلوا لذلك بما جاء في الصحيحين عن أنس أن النبي كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس، وبوَّب عليه البخاري: “باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس”، وفي حديث سلمة : “كنا نُجَمِّعُ مع رسول الله إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبَّع الفيء”[10]؛ هذا هو القول الراجح، وهو المأثور عن الصحابة والتابعين، بل البخاري في صحيحه جزم بهذا القول؛ قال: “باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس”.
وعلَّق على هذا الحافظ ابن حجر في الفتح؛ قال: “جَزَم البخاري بهذه المسألة مع وقوع الخلاف فيها لضعفِ دليل المخالف فيها”؛ اعتَبَر القول بأن وقت صلاة الجمعة يبدأ قبل الزوال أنه قولٌ ضعيف.
ومما يُبيِّن ضعفه أنه يلزم منه أن الخطيب لو ابتدأ الخطبة بعد طلوع الشمس بعشر دقائق؛ أن صلاته صحيحة، ولا يخفى ضعف وبُعد هذا القول؛ ولهذا لم يُعمل به على مر الأعصار؛ يعني: من عهد الإمام أحمد إلى وقتنا الحاضر؛ لماذا لم يوجد خطيب واحد عمل بهذا القول؛ خطب الجمعة بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح؟ هذا مما يُبيِّن ضعف هذا القول.
فالقول الراجح إذَن: أن وقت الجمعة إنما يبتدئ بزوال الشمس؛ يعني: وقت الجمعة هو وقت صلاة الظهر؛ ولهذا على الخطباء أن يتقيدوا بذلك، ووزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد -التي تُمثِّل ولي الأمر هنا عندنا في المملكة العربية السعودية- عَمَّمت على الخطباء أكثر من مرة في أن يلتزم الخطيب بالدخول بعد الزوال؛ بناءً على فتوى سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله، والوزارة تُمثِّل ولي الأمر، وما دام أن ولي الأمر اعتمد هذا القول فليس للخطيب أن يدخل قبل الزوال ويقول: أعتمد على مذهب الحنابلة في هذه المسألة؛ فنقول: اجتهاداتك الخاصة يا أخي الكريم اجعلها لنفسك، لكن الأمور المتعلقة بالشأن العام والمتعلقة بعموم الناس فيلزمك أن تَتَّبع رأي كبار أهل العلم في البلد وما اعتمده ولي الأمر في هذا؛ كبار أهل العلم والذي اعتمده ولي الأمر هو أن وقت الجمعة يبتدئ بعد الزوال، فيلزم الخطباء اتباع هذه التعليمات وألَّا يُوقِعوا الناس في الحرج. وقد ورد استفتاءٌ قبل أيام عن أحد الخطباء أنه صلى بالناس وانقضت الصلاة قبل الزوال، وأن هناك مَن أفتاهم بأن يُعيدوها ظهرًا. طيب، لماذا يُوقِع هذا الخطيب الناس في الحرج؟! يعني: ما الداعي لهذه العجلة؟! أكثر أهل العلم يرون عدم صحة الصلاة، فما الداعي لهذا الاستعجال؟! فهذا فيه مخالفة من وجوه:
- أولًا: أنه مخالف لظاهر السنة -وإن كان المسألة فيها قول آخر-.
- ثانيًا: فيه تعريضٌ لصلاة نفسه ولصلاة مَن خلفه للبطلان عند أكثر أهل العلم.
- ثالثًا: فيه مخالفة لولي الأمر، ولي الأمر اعتمد القول بألا يدخل الخطيب إلا بعد الزوال، ومع ذلك تجد أن هذا الخطيب يُعمِل اجتهاداته الخاصة، ويدخل قبل الزوال، بل بعضهم يصلي قبل الزوال، ويُوقِع الناس في الحرج، فمِثْل هذا -خاصةً من نُبِّه وتكرر التنبيه عليه ولم يتقيد بالتعليمات- فينبغي أن يُرفع أمره للجهة المسؤولة، حتى لا يُوقِع الناس في الحرج؛ لأن المسألة مسألة صحة وعدم صحة، عند أكثر أهل العلم لا تصح الصلاة، وشرط الوقت آكَد شروط الصلاة؛ فنقول: يا أخي الكريم، أيها الخطيب، اجعل اجتهاداتك الخاصة لنفسك، أما الشيء المتعلق بعموم الناس فيلزمك أن تعتمد على الفتوى المعتمدة لكبار أهل العلم في البلد.
طيب، هنا تنبيه في السلسبيل: بعض الخطباء يجعل الخطبة قبل الزوال والصلاة بعد الزوال؛ عند أكثر أهل العلم لا تصح؛ لأن الخطبة جزءٌ من الصلاة، وسماها الله ذكرًا؛ فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]، وذكر الله يشمل الخطبة والصلاة، فالخطبة جزءٌ من الصلاة، وهذا يُبين لنا خطورة هذه المسألة؛ ولذلك على الخطيب أن يلتزم بألا يدخل إلا بعد الزوال.
الاستيطان
الشرط الثاني من شروط صحة صلاة الجمعة: قال:
الثاني: أن تكون بقرية -ولو من قصبٍ- يستوطنها أربعون استيطانَ إقامةٍ لا يظعنون صيفًا وشتاءً.
الشرط الثاني: هو الاستيطان، وعبَّر عنه المصنف بهذه الجملة “أن تكون بقرية”؛ والقرية إذا أُطلقت تشمل بالاصطلاح المعاصر القرية والمدينة؛ ولذلك قال الله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ [يس:13]، ثم قال بعد ذلك: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى [يس:20]؛ فدل ذلك على أنها تُسمى قرية ومدينة. وأما هذا الاصطلاح -تسمية المدينة بالبلد الكبير، والقرية بالبلد الصغير- هذا اصطلاحٌ حادث، ومراد المصنف بهذه العبارة الاستيطان، فالاستيطان شرطٌ لصحة صلاة الجمعة؛ ومعنى الاستيطان: أن يُقيم ببلد بما جرت العادة البناء به، فلا يرحلُ عنه صيفًا ولا شتاءً؛ أي أن إقامته تكون دائمة. وعلى هذا؛ أهل الخيام وبيوت الشَّعر لا تجب عليهم الجمعة؛ لأن تلك الخيام وبيوت الشَّعر لا تُنصَب للاستيطان غالبًا.
وكذلك من أهل البوادي الذين يقيمون في البادية لا تجب عليهم الجمعة؛ لعدم الاستيطان، فأهل البادية الذين يكونون في البر ويرحلون طلبًا للعشب والكلأ لا تجب عليهم الجمعة، فعندما يقال: البادية والبدوي؛ المقصود به المقيم في البر (في البادية) يبحث عن العشب والكلأ، ويتنقل من مكان لمكان، أما مَن كان مقيمًا في الحاضرة فهو يُعتبر من الحضر، يُعتبر حاضرًا -وإن كان أصله بدويًّا-، لكن يُعتبر حضريًّا باعتبار أنه مقيم في الحاضرة. فإذَن إذا قيل هنا: أهل البادية لا تجب عليهم الجمعة؛ فالمقصود بهم: أهل البادية المقيمون في البرية، فهؤلاء لا تجب عليهم الجمعة؛ لأنهم غير مستوطنين، وإنما يتنقلون من مكان لآخر بحثًا عن العشب والكلأ.
هكذا أيضًا لو خرج مجموعة أشخاصٍ للبر وأقاموا مخيمًا، فلا تجب عليهم الجمعة، بل لا تصح منهم لو أقاموها جمعة، وإنما يصلونها ظهرًا. لكن -كما سبق- هل يجب عليهم أن يذهبوا لأقرب جامع ويصلوا معه؟ نقول: إن كانت إقامتهم تبعد عن البلد أكثر من خمسة كيلو مترات فلا تجب عليهم الجمعة، ولهم أن يصلوها ظهرًا؛ أما إذا كانت إقامتهم أقل من خمسة كيلو مترات عن البلد فيجب عليهم أن يصلوا الجمعة مع أهل البلد.
قال:
وتصح فيما قارب البنيان من الصحراء.
فيما قارب البنيان بشرط أن يكونوا مستوطنين؛ مثل: بعض الهِجَر في الصحراء وأصحابها مقيمون فيها إقامةً دائمةً؛ فهؤلاء يقيمون الجمعة.
حضور العدد المعتبر شرعًا
الثالث: حضور أربعين، فإن نقصوا قبل إتمامها استأنفوا ظهرًا.
يعني: حضور العدد المعتبر شرعًا، وهذا العدد المعتبر شرعًا اختلف فيه العلماء على أقوال:
- القول الأول: القول الذي قرره المؤلف، وهو المذهب عند الحنابلة والشافعية؛ وهو أن العدد المعتبر أربعون.
- القول الثاني: أن العدد المعتبر اثنا عشر؛ وهو مذهب المالكية.
- القول الثالث: أن العدد المعتبر ثلاثة (اثنان يستمعان، وواحدٌ يخطب)؛ وهو قول أبي يوسف من الحنفية، وروايةٌ عند الحنابلة.
القائلون بأن العدد المعتبر أربعون استدلوا بقول كعب : “أول مَن صلى بنا الجمعة في المدينة أسعد بن زرارة، ثم سُئل: كم كان عددكم؟ قال: أربعون”[11]. وأيضًا قالوا: إن مصعب بن عمير لما قَدِمَ المدينة صلى بهم الجمعة وهم أربعون.
أما مَن قالوا بأن العدد المعتبر اثنا عشر فاستدلوا بأن النبي كان في الجمعة يخطب، فَقَدِمَت عيرٌ من الشام، فانصرف الناس إليها ولم يتبقَّ معه إلا اثنا عشر؛ فأنزل الله قوله: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [الجمعة:11].
أما القول الثالث فقال أصحابه: إن العدد المعتبر ثلاثة (اثنان يستمعان، وواحدٌ يخطب)؛ واستدلوا بقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9]؛ قالوا: فَاسْعَوْا أتت بصيغة الجمع، وأقل الجمع ثلاثة.
وأيضًا حتى لو قيل: إن أقل الجمع اثنان فالمخاطب هو المأموم لكي يستمع للخطبة؛ قال: فَاسْعَوْا يعني: اذهبوا واستمعوا إلى الخطبة، فحتى لو قيل: إن أقل العدد اثنان (فاثنان يستمعان، وواحدٌ يخطب).
واستدلوا أيضًا بحديث أبي الدرداء أن النبي قال: ما من ثلاثةٍ في قرية ولا بدو لا تُقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليكَ بالجماعة، فإنما يأكل الذئبُ من الغنم القاصية[12] أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي بسند حسن أو صحيح، وهذا يشمل الجمعة وغيرها.
والقول الراجح: هو القول الثالث؛ وهو أن أقلَّ عددٍ معتبرٍ في الجمعة ثلاثة (اثنان يستمعان، وواحدٌ يخطب)، وهذا هو اختيار ابن تيمية وشيخنا ابن باز وابن عثيمين رحمة الله تعالى على الجميع؛ وذلك لقوة دليله، فإنهم استدلوا بظاهر الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] فأقل الجمع ثلاثة إذا اعتبرناهم جميعًا، أو إذا اعتبرنا مَن يستمع (أقل الجمع اثنان: فاثنان يستمعان، وواحدٌ يخطب).
أما ما استدل به القائلون بأنها أربعون فالاستدلال به استدلالٌ ضعيف؛ استدلالهم بتجميع أسعد بن زرارة أو مصعب بن عمير رضي الله عنهما، فهذا إنما وقع اتفاقًا، على أن أثر مصعب بن عمير هناك مَن يقول من أهل العلم: إن الصواب أنهم كانوا اثني عشر، لكن -على تقدير صحته- هذا وقع اتفاقًا، وليس صريح الدلالة في اشتراط أربعين.
وأما ما استدل به المالكية من قدوم العيد والنبي يخطب ولم يتبقَّ معه سوى اثني عشر؛ فهذا أيضًا حصل اتفاقًا، وما يحصل اتفاقًا لا يستقيم الاستدلال به.
فالقول الراجح إذَن: إنَّ أقلَّ عددٍ معتبرٍ تنعقدُ به الجمعة ثلاثةٌ (اثنان يستمعان، وواحدٌ يخطب).
الشرط الرابع من شروط صحة صلاة الجمعة: تقدُّم خطبتين، وهذا الشرط محل إجماع؛ لأن النبي ما صلى الجمعة بغير خطبة.
ثم انتقل المؤلف بعد ذلك -بعدما ذكر هذا الشرط- للكلام عن شروط صحة الخطبتين؛ ذكر خمسة شروط:
شروط صحة الخطبتين
الأول: قال
الوقت.
دخول الوقت -على الخلاف الذي ذكرناه قبل قليل؛ وذكرنا أن الراجح: أن ابتداء وقت خطبة الجمعة بعد الزوال-.
قال:
والنية.
لعموم قول النبي عليه الصلاة والسلام: إنما الأعمال بالنيات[13].
الثالث:
ووقوعهما حضرًا.
فلا يصحان من السفر -كما سبق-.
الرابع:
حضور الأربعين.
وسبق الكلام عن هذه المسألة وقلنا: إن الراجح أن أقل عدد معتبرٍ هو ثلاثة (اثنان يستمعان، وواحدٌ يخطب).
وأن يكونا ممن تصح إمامته فيها.
يعني: أن يكون الخطيب مما تَصِحُّ إمامته لصلاة الجمعة؛ فلا يكون الخطيب مثلًا رقيقًا، ولا يكون صبيًّا، ونحو ذلك.
أركان الخطبتين
وأركانهما.
أركان الخطبتين.
ستة أركان: حمد الله.
يعني: أن يبتدئ الخطيب خطبته بحمد الله، وهذا هو هدي النبي ؛ كان يفتتح خطبه بحمد الله تعالى، حتى خطبتَي العيدين والاستسقاء؛ الصحيح افتتاحهما بحمد الله. وأما قول مَن قال من الفقهاء بأن خطبتَي العيدين يُستحب افتتاحهما بالتكبير؛ فهذا قولٌ مرجوح ولا دليل عليه، بل جميع خطب النبي عليه الصلاة والسلام كان يفتتحها بـ”الحمد لله”. وهكذا أيضًا في الدروس والمحاضرات والكلمات؛ السنة أن تُفتتح بـ”الحمد لله”.
طيب، هل الأفضل أن تُفتتح بـ”بسم الله الرحمن الرحيم” أو بـ”الحمد لله رب العالمين”؟
ننظر إلى هدي النبي عليه الصلاة والسلام، ماذا كان عليه الصلاة والسلام يفتتح خطبه وكلماته ومواعظه؟ كان يفتتحها بـ”الحمد لله”، ولم يُنقل عنه -ولو لمرة واحدة- أنه افتتحها بـ”بسم الله الرحمن الرحيم”، وإنما البسملة يُفتتح بها الكتب والرسائل والمخاطبات؛ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام في مخاطباته لملوك ورؤساء العالم كان يفتتح كتبه ومخاطباته بـبسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم[14]. سليمان عليه الصلاة والسلام افتتح كتابه: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل:30-31]؛ فما يُكتب يُفتتح بالبسملة، وما يُلقى يُفتتح بالحمدَلَة، هذه قاعدة؛ فمثلًا هذا الدرس تُلاحظون أننا نفتتحه بـ”الحمد لله رب العالمين” وليس بـ”بسم الله الرحمن الرحيم”، طبعًا هذا على سبيل الأفضلية، وإلا لو افتتحه بـ”بسم الله الرحمن الرحيم” فالأمر في هذا واسع.
ثانيهما.
يعني: ثاني أركان الخطبتين؛ قال:
والصلاة على رسول الله .
وعللوا ذلك قالوا: لأن كل عبادةٍ افتقرت إلى ذكر الله، وافتقرت إلى ذكر رسوله كالأذان.
والركن الثالث:
قراءة آية من القرآن.
لهدي النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان في خطبه يقرأ القرآن.
الركن الرابع:
الوصية بتقوى الله.
يعني: لا بد أن يقول الخطيب: أوصيكم بتقوى الله أو اتقوا الله -إما في الخطبة الأولى أو الثانية-.
الركن الخامس:
موالاتهما مع الصلاة.
يعني: لا يصح أن يكون الفاصل بين خطبة الجمعة والصلاة طويلًا عُرفًا.
الركن السادس:
الجهر؛ بحيثُ يسمعُ العددُ المعتبرُ حيثُ لا مانع.
يعني: لا يصح أن يخطب الخطيب سرًّا أو بصوتٍ منخفض لا يسمعه الناس.
هذه أركان الخطبتين الستة عند الحنابلة، وذهب بعض أهل العلم إلى عدم اعتبار هذه الأركان الستة؛ وقالوا: إن الخطيب إذا خطب خطبةً يحصل بها المقصود والموعظة فإن ذلك كافٍ؛ إذ إنه لا دليل يدل على رُكْنِيَّة هذه الأركان الستة، وإنما تدل على أن هذا هو غالب هدي النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا هو القول الراجح: أن هذه الأركان الستة التي ذكروها أنها لا تُعتبر أركانًا، إنما هي من السنن والآداب التي ينبغي أن يأتي بها الخطيب؛ قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: “إن هذه الأركان التي ذكروها ليس عليها أدلةٌ ظاهرة”؛ معنى ذلك: لو أن الخطيب مثلًا نسي أن يصلي على النبي عليه الصلاة والسلام، فعند الحنابلة أنه لا تصح الخطبة، وعلى القول الراجح تصح. لو نسي الخطيب أن يُوصي الناس بتقوى الله؛ على المذهب عند الحنابلة لا تصح، وعلى القول الراجح أنها تصح. لو نسي أن يقرأ آية من القرآن -وهذا يحصل من بعض الخطباء-؛ يعني: خطبتين لم تشتمل على آيةٍ من القرآن؛ فعلى المذهب عند الحنابلة لا تصح الخطبة، وعلى القول الراجح أنها تصح.
السنن المستحبة للخطبتين
ثم انتقل المؤلف بعد ذلك للكلام عن السنن المستحبة للخطبتين؛ قال:
وسننهما -أولًا- الطهارة.
يُستحب للخطيب أن يكون متطهرًا، لو أنه خطب وهو محدث، ثم مثلًا تذكر وذهب يتوضأ؛ فالخطبة صحيحة لأنها ذكر وليست صلاةً.
الثاني:
وسترُ العورة.
يعني: يُستحب ستر العورة، لكنه ليس واجبًا، لو انكشف شيءٌ من عورته فخطبته صحيحة، وهذا قد يحصل عندما يكون محرمًا، أحيانًا ينكشف مثلًا -خاصةً ما تحت السرة-؛ فعلى هذا نقول: إن خطبته صحيحة.
وإزالة النجاسة.
هذا مستحب وليس واجبًا، لو كان على لباسه نجاسة ثم أزالها بعد الخطبة؛ فخطبته صحيحة.
الدعاء للمسلمين
والدعاء للمسلمين.
يعني: يُستحب أن يدعو للمسلمين في الخطبة؛ لأن الدعاء لهم مسنونٌ في غير الخطبة، ففيها من باب أولى؛ وقد رُوي في ذلك حديثٌ أخرجه البزار والطبراني: “أن النبي كان في خطبة الجمعة يستغفر للمؤمنين والمؤمنات”[15]، ولكنه من جهة الصناعة الحديثية لا يثبت، ضعيف، ولم يرد أن النبي كان يدعو في خطبة الجمعة، إلا ما ورد في قصة الأعرابي الذي أتى والنبي عليه الصلاة والسلام يخطب؛ قال: هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادعُ الله أن يُغيثنا؛ فرفع النبي يديه، وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا[16] وهذا دعاء، وما عدا ذلك لم يُنقل، وبعض أهل العلم ذهب إلى أن الدعاء في خطبة الجمعة غير مشروع.
والراجح أنه لا بأس به؛ لأن دعاء النبي بنزول المطر يدل على أصل مشروعية هذا العمل، وأن الدعاء في الخطبة لا بأس به.
وأيضًا أُثِرَ هذا عن بعض الصحابة والتابعين؛ أنهم كانوا يدعون في الخطبة، لكن مع ذلك ينبغي ألا يُطيل الخطيب في الدعاء؛ لأن هذا لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام بصورة واضحة -أنه في كل خطبة كان يدعو-، إنما الذي نُقِلَ أنه دعا لَمَّا استسقى فقط؛ ولذلك لا يُتوسَّع في الدعاء، بل يدعو بدعاءٍ مختصرٍ جامعٍ. ويُلاحظ أن بعض الخطباء يجعل أكثر الخطبة الثانية دعاءً، هذا لم يرد، بل ينبغي أن يكون أكثر الخطبة الثانية هو التوجيه والإرشاد للناس، وإن دعا في آخرها لا بأس، لكن لا يغلب عليه الدعاء؛ لأنه لم يُنقل عن النبي عليه الصلاة والسلام بسندٍ صحيحٍ أنه دعا في خطبة الجمعة إلا عندما استسقى. فعلى هذا نقول: الخطيب لا بأس يدعو في آخر الخطبة الثانية، لكن لا يُطيل الدعاء، وإنما يختار أدعيةً جامعةً من غير إطالة.
أيضًا لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام يلتزم بربط الخطبة بالأحداث -مع كثرة الأحداث في زمنه-، بل لا يكاد؛ يعني: بعد الهجرة لا تكاد سنة من السنوات إلا وفيها غزوة، ومع ذلك ما كان عليه الصلاة والسلام يربط كل خطبةٍ بحدث، وإنما كان يُركز على الموعظة؛ لأن الناس محتاجون للموعظة، والنفوس تغفل كثيرًا. نعم، لا بأس أن يربط الخطبة بحدثٍ مهم، لكن لا يكون هذا هو الغالب عليه وديدنه، بحيث يتتبع الأخبار والأحداث السياسية، وتكون خطبته موافقةً لهذه الأحداث، هذا ليس عليه دليلٌ ظاهر، وإنما لو كان هناك حدثٌ كبير ويحتاج الناس إلى أن يُبيَّن الوجه الشرعي فيه، هنا لا بأس، خاصةً إذا طُلِبَ منه، كأنْ يُطلَب مثلًا من وزارة الشؤون الإسلامية ونحو ذلك، لكن لا يكن هذا هو ديدن الخطيب؛ تتبع الأحداث السياسية وربط الخطبة بها، وإنما يكون الغالب على خطبة الجمعة الموعظة، وتذكير الناس، وبيان ما ينفعهم في أمور دينهم.
كذلك أيضًا يُلاحظ أن بعض الخطباء يُبالغ في معالجة القضايا، يُقطِّع الموضوع الواحد إلى عدة جُمَع، يمكن يمضي شهر أو شهران وهو في موضوع واحد، مثل موضوع الطلاق مثلًا؛ يقول: تكلمنا في الجمعة الماضية عن كذا ثم يبدأ…؛ يعني: سلسلة من الخطب، يبقى شهرًا أو شهرين في موضوعٍ واحدٍ، هذا أيضًا خلاف السنة، ما كان النبي عليه الصلاة والسلام يفعل هذا، ولا كان الصحابة والتابعون يفعلون مثل ذلك، وإنما ينبغي أن تكون الخطبة وحدة موضوعية؛ لأنه ليس بالضرورة أن مَن حضر معك الجمعة الماضية يحضر هذه الجمعة. نعم، في بعض الأحيان لصفات عارضة -لكن ليست هي الغالبة- لا بأس أن يكون الموضوع طويلًا ينقسم إلى خطبتين، لكن لا يكون هذا هو الغالب على حال الخطيب.
أن يتولاهما مع الصلاة واحد
وأن يتولاهما مع الصلاة واحدٌ.
يعني: الأفضل أن مَن يتولى الخطبة يتولى الصلاة؛ لأن هذا هو هدي النبي عليه الصلاة والسلام، وهدي أصحابه، ولكن لا بأس بالاستخلاف للعذر، بل حتى لغير عذر، لكنه خلاف الأفضل؛ يعني: الخطيب يطلب بأن يصلي غيره بدلًا عنه، لا بأس، لكن الأفضل أن يتولى الخطبة والصلاة شخصٌ واحدٌ.
طيب، الشعر في الخطبة، هل يجوز أن يُذكَر الشعر في الخطبة؟
قال بعض العلماء: إنه يجوز؛ لأن الشعر عبارةٌ عن كلام موزون، ومن جنس كلام الخطيب. والقول الثاني: إنه لا يُباح الشعر في الخطبة؛ لأن الخطبة مقامُها مقامٌ عظيم، وسمّاها اللهُ “ذِكرَ الله”، فلا ينبغي أن يُجعل فيها الشعر، والشعر إنما ورد في القرآن على سبيل الذم؛ كما قال الله تعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ [الشعراء:224]؛ إذا كان أتباعهم وُصِفوا بالغواية فالشعراء أَوْلى بهذا الوصف، لكن الله استثنى منهم: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا [الشعراء:227]، وكان بعض الصحابة شعراء كحَسَّان وعبدالله بن رواحة رضي الله عنهما، مَن سخَّر شعره في الحق وفي الدفاع عن الحق وأهله كان فعله حسنًا وشعره طيبًا؛ والله تعالى أيضًا قال: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69]؛ وهذا ذمٌّ شديد للشعر وَمَا يَنْبَغِي لَهُ يعني: لا يليق بمقام النبوة، وأيضًا لا يليق بمقام العلماء؛ ولهذا اشتُهِرَ عن الشافعي بيته الذي قال فيه:
وَلَوْلَا أَنَّ الشِّعْرَ بِالْعُلَمَاءِ يُزْرِي | لَكُنْتُ الْيَوْمَ أَشْعَرَ مِنْ لَبِيدِ |
فالشعر لم يرد في القرآن إلا على سبيل الذم إلا مَن استثناهم الله ، أو كان شعرهم مثل شعر حَسَّان وعبدالله بن رواحة ونحو ذلك؛ هذا هو الذي جعل بعض العلماء يقول: إنه لا يجوز أن يُلقى الشعر في الخطبة.
والقول الراجح -والله أعلم- أنه يجوز إلقاء الشعر في الخطبة، ولكن الأفضل تركه، وإذا ذكره الخطيب لا يُكثِر منه، ولا يكون في كل خطبة، بل ينبغي للخطيب أن يتحاشى الشعر في الخطبة ما أمكن. وقد ورد النهي عن إنشاد الشعر في المسجد إلا مَن كان شعره مثل شعر حَسَّان ، يُلاحظ أن بعض الخطباء لا يكاد يخطب خطبةً إلا وفيها الشعر، بل مليئة بالأشعار، هذا خلافُ السنة، فإذا ذكر الخطيب الشعر ينبغي أن يكون بقَدْرٍ مُعَيَّن، وألا يُكثِر من ذلك، وأن يكون الشعر أيضًا في الموعظة ونحو هذا، لكن يُقِلّ منه ما أمكن ويتحاشاه في الخطبة ما أمكن.
رفع الصوت بهما
ورفع الصوت بهما حسب الطاقة.
لأن هذا هو هدي النبي ؛ كما في حديث جابر : كان النبي إذا خطبَ احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه مُنذِر جيشٍ يقول: صبَّحَكم ومَسَّاكم[17]. فلا ينبغي للخطيب عندما يُلقي الخطبة يُلقيها بكلامٍ بارد كأنه يقرأ مقالًا أو يقرأ صحيفة، بل ينبغي أن يتفاعل مع ما يقول، ويرفع صوته، ويلقيه بصوت مرتفع وبحرارة؛ لأن هذا أدعى إلى التأثير في نفوس المستمعين للخطبة.
أن يخطب قائمًا على مرتفع
وأن يخطب قائمًا.
هذا هو هدي النبي أنه كان يخطب قائمًا؛ قال جابر بن سَمُرة : “مَن نبَّأك أنه كان يخطب جالسًا فقد كذب، ما كان النبي يخطب إلا قائمًا”[18]. وظاهر كلام المؤلف أن القيام للخطبة مستحبٌّ وليس واجبًا؛ لأنه يحصل المقصود بالخطبة إذا خطب وهو جالس. وذهب بعض أهل العلم إلى أن القيام في الخطبة شرطٌ لصحتها؛ لأن الأصل في العبادات التوقيف، ولم يرد عن النبي أنه خطب جالسًا؛ وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة -والله أعلم-؛ يعني: لا حاجة لأن يخطب الخطيب وهو جالس وهو قادر على القيام، هذا خلاف السنة، والقول الراجح: إن الخطبة لا تصح إذا فعل ذلك.
قال:
على مرتفع.
هذه هي السنة؛ أن يكون الخطيب على منبر أو على مكان مرتفع؛ لأنه أبلغ في الإعلام، ولأن الناس إذا شاهدوا الخطيب كان ذلك أبلغ في موعظتهم، والنبي كان يخطب على جِذْعٍ، ثم بعد ذلك صُنع له المنبر فقام وأصبح يخطب عليه. والعجيب أن هذا الجِذْع الذي كان النبي يخطب عليه؛ لمَّا صُنع له المنبر سُمِعَ له صوتٌ مِثْلُ صوتِ العِشَار (مِثْلُ صوتِ وَلَدِ الناقة)، فنزل النبي وأخذ هذا الجِذْع وضمّه إليه، وجعل يُسَكِّتُه كما يُسَكَّت الصبي! سبحان الله! جِذْع، ومع ذلك يبكي! له مشاعر، وظهر منه الصوت، وأصبح يبكي كما يبكي الصبي، سبحان الله!
وجاء في بعض الروايات أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: أما ترضى أن تكون جِذْعًا في الجنة[19]، فجعل يُسَكِّتُه كما يُسَكَّت الصبي، آية من آيات الله .
الاعتماد على سيف أو عصا
معتمدًا على سيفٍ أو عصا.
يعني: أنه يُسَن للخطيب أن يعتمد على سيفٍ أو عصا، وهذا قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، واستدلوا بأن النبي كان يفعل ذلك؛ يتوكأ على عصا أو قوس، وكما جاء عند أحمد وابن ماجه، وأيضًا في حديث البراء كذلك[20]. وذهب بعض أهل العلم إلى أن الاعتماد على السيف عند الخطبة لا أصل له، وأما الاعتماد على العصا أو القوس فيشرع عند الحاجة، فإذا احتاج الخطيب إلى الاعتماد على العصا؛ كأن يكون كبيرًا في السن أو مريضًا أو نحو ذلك فلا بأس، بل يُعتبر سنة، أما إذا لم يكن له حاجة في الاعتماد على العصا، فلا يقال: إن الاعتماد على العصا في الخطبة سنة، وهذا هو القول الراجح؛ لأن النبي إنما اعتمد على العصا قبل اتخاذه المنبر لحاجته للعصا؛ لأنه كان عليه الصلاة والسلام يخطب مُرتجِلًا، والذي يخطب مُرتجِلًا يقولون: الأحسن أن يُمسك بيده شيئًا؛ لأن هذا أجمع لذهنه، ويُعينه على الاستحضار، أما بعد اتخاذ المنبر فلم يُحفظ عن النبي أنه كان يعتمد على العصا في الخطبة.
ولذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: “لم يكن يأخذ بيده سيفًا ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوسٍ أو عصا قبل أن يتخذ المنبر، وكان في الحرب يعتمد على قوس، وفي الجمعة يعتمد على عصا، ولم يُحفظ عنه أنه اعتمد على سيف، وما يظنه بعض الجهال أنه كان يعتمدُ على السيف دائمًا، وأن ذلك إشارةٌ إلى أن الدين قام بالسيف؛ فمن فرط جهله، فإنه لا يُحفظ عنه بعد اتخاذه المنبر أنه كان يرقاه بسيفٍ ولا قوسٍ ولا غيره، ولا قبل اتخاذه أنه اتخذ بيده سيفًا ألبتة، وإنما كان يعتمد على عصا أو قوس”.
إذَن؛ الاعتماد على العصا إنما يكون في حق مَن احتاج لذلك؛ كأن يكون مريضًا أو كبيرًا في السن أو نحو ذلك، أما إذا لم يكن بحاجة لذلك فليس من السنة أن يعتمد خطيبُ الجمعة على عصا.
الجلوس بين الخطبتين
وأن يجلس بينهما قليلًا.
يعني: يُستحب للخطيب أن يجلس بين الخطبتين قليلًا كما قال الجمهور، فلو لم يجلس واستمر قائمًا جاز؛ ولهذا قال المؤلف: فإن أبى أو خطب جالسًا فَصَل بينهما بسكتة؛ يعني: لو أنه وهو قائم انتهى من الخطبة الأولى، ثم فَصَل بسكتة وهو قائم، وبدأ الخطبة الثانية؛ لا بأس، لكن السنة أن يجلس بينهما قليلًا.
تقصير الخطبة
وسُنَّ قَصْرُهما، والثانية أقصر.
أي: إنه يُسَن تقصير الخطبة، وأن تكون الخطبة الثانية أقصر من الخطبة الأولى؛ لقول عمار : سمعت رسول الله يقول: إنّ طُولَ صلاة الرجل وقِصَرَ خطبته مَئِنَّةٌ من فِقهه؛ فأطيلوا الصلاة، وأَقْصِروا الخطبة، وإن من البيان لسحرًا[21] رواه مسلم. وعن جابر بن سَمُرة قال: “كنتُ أصلي مع النبي ؛ فكانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا”[22] رواه مسلم، وفي لفظ عنه: “كان لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، وإنما هُنَّ كلمات يسيرات”[23].
والسنة تقصير الخطبة؛ ولذلك فوائد:
منها: عدم حصول الملل للمستمعين لها.
ومنها: أنه أوعى للسامع، فإن الخطبة إذا طالت أنسى بعضُها بعضًا.
ومنها: أن ذلك أدعى للتركيز؛ بأن يأتي الخطيب بكلامٍ مُرَكَّز وليس بمُكَرَّر، فإن قيل: إن النبي كان في الجمعة يقرأ غالبًا بـ”سبح والغاشية”، هل معنى ذلك أن الخطبة تكون أقصر من “سبح والغاشية”؟ الجواب: لا، وإنما المقصود بقِصَر الخطبة القِصَرُ النسبي، فلو خطب رجلٌ خطبةً أقصر من قراءة “سبح والغاشية” لكانت قصيرةً جدًّا ومُخِلة، ولم يحصل بها المقصود من الخطبة، فخطبة الجمعة ينبغي أن تكون قصيرة؛ يعني: بالنسبة للخطب الطويلة، وليس معنى ذلك أنها تكون أقصر من “سبح والغاشية”.
وأحسن ما قيل في تقدير طولِ خطبة الجمعة: إنها بقدر قراءة سورة “ق” مرتلةً؛ لأن النبي كان يُكثر من قراءة سورة “ق” في خطبة الجمعة، وكان يرتلها؛ فقراءة سورة “ق” مرتلةً يعني: في حدود من عشر دقائق إلى ربع ساعة -تقريبًا في هذا القدر-، هذا هو الوقت المناسب للخطبة، وبعض الناس عنده تطويلٌ مُمِلٌّ للخطبة، بحيث تصل إلى ساعة أو ما يُقاربها؛ وبعض الناس عنده تقصيرٌ مُخِلٌّ، فخطبته في حدود ثلاث دقائق أو أربع دقائق، فلا يحصل المقصود من الخطبة.
والصواب: هو الاعتدال في ذلك، وأن يحترم الناسُ عقولَ هؤلاء الذين حضروا وأتوا يُريدون أن يستفيدوا من الخطبة، فدقيقتان أو ثلاث دقائق أو أربع لا يحصل المقصود من الخطبة؛ ولذلك فينبغي الاعتدال؛ يعني: تكون في حدود عشر دقائق، في هذا القدر تقريبًا، أحيانًا موضوع الخطبة قد يستدعي أن يطيل قليلًا أكثر من هذا، لكن لا يُطيل إطالة مملة، وصولها مثلًا إلى الساعة وما يقارب الساعة هذه إطالة مُمِلة.
وينبغي للخطيب أن يبتعد عن الألفاظ الغريبة التي لا يفهمها معظم المستمعين، وأن يبتعد عن التشدق، وأن يأتي بأسهل العبارات المناسبة لجميع الشرائح، الخطيب الذي يأتي بعبارات لا يفهمها معظم المستمعين للخطبة هذا يُعتبر عِيٌّ من الكلام، وليس هذا بليغًا ولا فصيحًا، إنما البليغ والفصيح الذي يستطيع أن يُوصل الفكرة والكلام الذي يُريده إلى المستمعين بأقصر عبارة، هذه هي البلاغة، وهي الفصاحة عند العرب.
لا بأس أن يخطب من صحيفة
ولا بأس أن يخطب من صحيفة.
يعني: من ورقة، حتى لو كان يُحسن الارتجال؛ لأنه إذا خطب من ورقة تكون خطبته مُرَكَّزة، لكن إذا كان عنده القدرة على الارتجال، ويجمع مع ذلك أن تكون خطبته مُرَكَّزة؛ فهذا هو الأكمل، وهو المعروف عن النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة، لكن لو أراد أن يخطب من ورقة فلا بأس، والأمر في هذا واسع.
الأحكام المتعلقة بالخطبة
ثم انتقل المؤلف للكلام عن بعض الأحكام المتعلقة بالخطبة؛ فقال:
فصلٌ: يَحرم الكلام والإمام يخطب، وهو منه بحيث يسمعه.
يعني: يَحرم الكلام والإمام يخطب بحيث إن هذا المتكلم يسمع الخطيب، أما إذا كان لا يسمعه فلا بأس بالكلام حينئذٍ؛ لقول النبي : إذا قلتَ لصاحبك يوم الجمعة: أَنصِت، والإمامُ يخطب؛ فقد لَغَوْتَ[24] متفق عليه، ولقوله عليه الصلاة والسلام: مَن تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمَثَل الحمار يحمل أسفارًا، والذي يقول له: أنصت، ليس له جمعة[25]؛ والمعنى: أن ثواب جمعته يبطل، لكنها تُجزئ ولا يعاقب على تركها.
قال:
ويباح إذا سكت بينهما، أو شرع في دعاء.
يعني: لا بأس بالكلام بين الخطبتين، أو بدأ الخطيب في الدعاء، لكن الأولى عدم الكلام.
والقول الراجح: إنه يحرم الكلام ما دام الخطيب لم يفرغ من الخطبة، حتى لو شرع في الدعاء؛ لعموم قول النبي : إذا قلتَ لصاحبك يوم الجمعة: أَنصِت، والإمامُ يخطب؛ فقد لَغَوْتَ.
قال:
وتحرم إقامة الجمعة وإقامة العيد في أكثر من موضعٍ من البلد إلا لحاجة.
عند الفقهاء أن الجمعة في البلد الواحد إنما تكون واحدة، ولكن هذا لمَّا كان الناس قِلَّة، والأمصار والبلدان صغيرة، أما في وقتنا الحاضر -مع كثرة الناس- فالحاجة قائمة إلى تعدد الجمعة، سكان الأرض كان قبل مئة وخمسين عامًا: مليار، الآن تضاعف سبع مرات، أصبح سبعة مليارات، فتضاعف عدد سكان الأرض عدة مرات في جميع البلدان، فالحاجة إلى تعدد الجمعة قائمة؛ ولهذا المؤلف استثنى قال:
إلا لحاجة كضيقٍ وبُعْدٍ وخوفِ فتنة.
يعني: إذا كان تعدد الجمعة لحاجة فلا بأس؛ كضيقِ مسجد البلد عن أهله، أو بُعده عن بعض أهل البلد، أو خوف فتنة، ونحو ذلك.
فإن تعددت لغير ذلك، فالسابقة بالإحرام هي الصحيحة.
لو كان التعدد لغير حاجة، فالجامع السابق هو الذي جمعته صحيحة، وأما الجامع الذي بعده جمعته غير صحيحة؛ يعني: لو كان هناك جامعان متجاوران تُقام فيهما الجمعة، ولا يمتلئ لا هذا ولا هذا، فالمسجد الجامع الأول (الذي بُني أولًا) هو الذي جمعته صحيحة، وأما المسجد الجامع بعده فجمعته غير صحيحة.
قال:
ومَن أحرم بالجمعة في وقتها وأدرك مع الإمام ركعةً أتم جمعةً، وإن أدرك أقلَّ نوى ظهرًا.
انتقل المؤلف للكلام عما تُدرك به الجمعة؛ فيقول المؤلف: إن الجمعة تُدرك بإدراك ركعة، وإدراك الركعة يكون بإدراك الركوع؛ وعلى ذلك مَن أدرك الركوع الثاني من صلاة الجمعة فقد أدرك الجمعة، ومَن فاته الركوع الثاني من الركعة الثانية من صلاة الجمعة فقد فاتته الجمعة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: مَن أدرك من الجمعة ركعةً فليُصلِّ إليها أخرى[26] أخرجه ابن ماجه، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما: مَن أدرك ركعةً من صلاة الجمعة أو غيرها فقد أدرك الصلاة[27] لكن هذا الحديث جميع طرقه معلولة؛ ولهذا قال ابن حبان: “إنه لا يصح منها شيء”، وقال الدارقطني: “الصواب مَن أدرك من الصلاة”.
وعلى هذا؛ فالمحفوظ من الرواية والثابت من جهة الصناعة الحديثية هو حديث أبي هريرة أن النبي قال: مَن أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة[28] هو الحديث الذي اتفق على إخراجه البخاري ومسلم. وأما ما ورد: مَن أدرك ركعةً من الجمعة فهذه لا تثبت، وحديث أبي هريرة : مَن أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة فهذا يعمّ الجمعة وغيرها.
والحنفية خالفوا الجمهور؛ فقالوا: إن الجمعة تُدرك بإدراك التشهد. والقول الراجح: هو قول الجمهور، وهو أن الجمعة إنما تدرك بإدراك ركعة.
على ذلك؛ مَن أتى وقد فاته الركوع من الركعة الثانية من صلاة الجمعة فقد فاتته الجمعة، ويقضي أربع ركعات ظهرًا؛ ونقول له: أحسَنَ اللهُ عزاءك في ثواب الجمعة، فات عليك ثواب الجمعة، وفاتتك الجمعة، وتصليها الآن ظهرًا، أما مَن أدرك الركوع الثاني من الركعة الثانية أو ما قبله فقد أدرك الجمعة.
وأقل السنة بعدها ركعتان.
يعني: أقل السنة بعد صلاة الجمعة ركعتان؛ وجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا صلى السنة بعد الجمعة في المسجد صلاها أربعًا، وإذا صلاها في البيت صلاها ركعتين؛ وجاء في حديث أبي هريرة أن النبي قال: إذا صلى أحدكم الجمعة فليُصلِّ بعدها أربعًا[29] وهو في مسلم. ومن هنا اختلف العلماء؛ فقال بعضهم: إنه إذا صلى السنة بعد الجمعة في المسجد صلاها أربعًا، وإذا صلاها في بيته صلاها ركعتين.
والقول الثاني: إن السنة بعد الجمعة أربع ركعات مطلقًا، سواءٌ صلاها في البيت أو في المسجد، وهذا هو القول الراجح، وهو اختيار شيخنا عبدالعزيز بن باز رحمه الله؛ لأن حديث أبي هريرة : إذا صلى أحدكم الجمعة فليُصلِّ بعدها أربعًا من قول النبي عليه الصلاة والسلام، وهو حديث صريح صحيح في صحيح مسلم، وصريح الدلالة. وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فمن فِعل النبي عليه الصلاة والسلام؛ ودلالة القول أقوى من دلالة الفعل -كما سبق-؛ لأن دلالة الفعل يرد عليها عدة احتمالات، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام أحيانًا في السنة الراتبة التي قبل الظهر يصليها ركعتين وأحيانًا أربعًا، لكن جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أنها أربع ركعات؛ صلاة الضحى حث النبي عليه الصلاة والسلام عليها لكن كان أحيانًا ما يصليها. فالعبرة إذَن بالقول، القول دلالته مقدمة على الفعل، هي أقوى وأصرح؛ وعلى ذلك فالقول الراجح: إن السنة بعد الجمعة أنها أربع ركعات؛ ركعتين ثم ركعتين.
قال:
وأكثرها ستة.
يعني: أكثر السنة بعد الجمعة ست ركعات، لكن لم يرد في هذا شيءٌ صحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام، والمحفوظ أربع ركعات -كما في حديث أبي هريرة السابق-.
وأما قبلها.
يعني: قبل الجمعة ليس هناك سنةٌ راتبة، وإنما يصلي ما كُتِبَ له، وقد جاء في حديث سلمان أن النبي قال: مَن اغتسل يوم الجمعة، وتطهر بما استطاع من طُهْرٍ، ثم ادَّهَن أو مسَّ من طيبٍ، ثم راح فلم يُفَرِّق بين اثنين، فصلى ما كُتِبَ له، وهذا موضع الشاهد: ثم إذا خرج الإمام وأَنصَت؛ غُفِرَ له ما بينه وبين الجمعة الأخرى[30] رواه البخاري، قوله: فصلى ما كُتِبَ له دليلٌ على عدم تحديد السنة التي قبل الجمعة، له أن يصلي مثنى مثنى ما شاء، إن شاء ركعتين، وإن شاء أربعًا، وإن شاء ستًّا، وإن شاء ثمانية، وإن شاء أكثر من ذلك، بل إن الفضل لمَن أتى المسجد الجامع يوم الجمعة أن ينشغل بالصلاة مثنى مثنى، إلى وقت النهي (إلى قُبيل الزوال بنحو عشر دقائق)، وهذا مأثور عن كثير من السلف؛ أُثِرَ عن الإمام الأوزاعي أنه كان إذا أتى المسجد الجامع ينشغل بالصلاة، وأنه حُسِبَ له ستٌّ وثلاثون ركعة، فأفضل عمل تعمله إذا أتيتَ المسجد الجامع أن تنشغل بالصلاة مثنى مثنى، وما أحسن أن تجعل تلاوة القرآن في الصلاة -ولو أن تقرأ من المصحف، أو تقرأ من المصحف الذي في الجوال-، تقرأ وتُصلي، واعلم أنك لن تسجد لله سجدةً إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة.
قال:
وسُنَّ قراءة سورة الكهف في يومها.
لحديث أبي سعيد أن النبي قال: مَن قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين[31] رواه الحاكم والبيهقي، واختُلف في ثبوت هذا الحديث؛ صحّحه الحاكم وضعّفه النووي والذهبي، ورُوي موقوفًا على أبي سعيد ، ومن حيث الصناعة الحديثية لا يثبت هذا الحديث عن النبي ، وإنما رُوي موقوفًا على أبي سعيد ، وهناك أيضًا مَن يرى أنه لا يثبت حتى عن أبي سعيد ، ولم يثبت عن الصحابة أنهم كانوا يعملون بمدلول هذا الحديث بتخصيص يوم الجمعة بقراءة سورة الكهف، ولو كان الحديث محفوظًا لاشتهر وتسابق الصحابة والتابعون إلى العمل به؛ لأن الهمم والدواعي تتوافر لنقل ذلك.
وعلى هذا؛ لا يُشرع تخصيص يوم الجمعة بقراءة سورة الكهف -على القول الراجح-، ولكن باعتبار قوة الخلاف في هذه المسألة لا يُنكر على مَن فعل ذلك؛ يعني: مَن قرأ سورة الكهف يوم الجمعة فلا يُنكر عليه؛ لأنها ورد فيها حديث، ومن القائلين به أئمة كبار كالإمام الشافعي، فمَن قرأ سورة الكهف يوم الجمعة فهو قولٌ لبعض أهل العلم، ولكن الأقرب من حيث التحقيق عدم تخصيص يوم الجمعة بقراءة سورة الكهف، وأن سورة الكهف تُقرأ في أي وقت، ولا يتخصص ذلك بيوم الجمعة؛ لأن الحديث المروي في تخصيصها بيوم الجمعة لا يثبت.
وأن يقرأ في فجرها: “الم” السجدة، وفي الثانية هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ [الإنسان:1].
وهذا قد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة : أن النبي كان يقرأ في فجر الجمعة بـ”الم” تنزيل السجدة، وهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ [الإنسان:1][32] والحديث في الصحيحين، وجاء في رواية الطبراني من حديث ابن مسعود : “وكان يُديم ذلك”[33]؛ وعلى هذا فالأصل استحباب المداومة على هذا، خاصةً أن قوله: “كان” في حديث أبي هريرة يُشعر بالاستمرار والمداومة.
قال:
وتُكره مداومته عليهما.
يعني: على قراءة هاتين السورتين في فجر كل جمعة؛ حتى لا يعتقد العامة وجوب ذلك. لكن القول بالكراهة محل نظر، والظاهر من هدي النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يُداوم؛ لأن أبا هريرة قال: “كان”، و”كان” تُفيد الاستمرارية، خاصةً أن رواية ابن مسعود عند الطبراني صرَّحت بذلك، فالأقرب هو المداومة على قراءة هاتين السورتين، إلا أنه ينبغي أن يترك قراءتهما أحيانًا حتى لا يعتقد العامة وجوب ذلك؛ ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله: لا ينبغي المداومة عليها بحيث يتوهم الجهال أنها واجبة وأن تاركها مسيء، بل ينبغي تركها أحيانًا؛ يعني: مثلًا يقرأها ثلاث جُمَع ثم يتركها الجمعة الرابعة، حتى لا يعتقد العامة أنها واجبة.
وبذلك نكون انتهينا من الكلام عن الأحكام المتعلقة بصلاة الجمعة.
ونقف عند باب صلاة العيدين.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الآن نُجيب عما تيسر من الأسئلة.
الأسئلة
السؤال: هل يأثم من نسي حفظه من القرآن؟
الجواب: هذا فيه تفصيل؛ إذا كان المقصود بـ”نسي حفظه” أنه نسي حفظه وأيضًا ترك العمل به، بحيث أصبح مضيعًا للصلوات، متجرئًا على الحرمات؛ هذا يأثم، أما إذا كان محافظًا على الواجبات لكنه انشغل ونسي ما حفظه أو نسي كثيرًا مما حفظه؛ فإنه لا يأثم؛ لأن الوعيد الوارد في حق مَن حفظ القرآن ثم نسيه، إنما هو في حق مَن حفظه ثم ترك العمل به، وأصبح يتجرأ على ارتكاب الحرمات؛ هذا هو الذي ورد في حقه الوعيد.
السؤال: ما حكم تربية الكلاب في البيوت؟
الجواب: لا يجوز تربية الكلاب في البيوت؛ والنبي يقول: مَن اقتنى كلبًا غير كلبِ صيدٍ أو حرثٍ أو ماشية؛ فإنه ينقص من عمله -أو قال: من أَجْره- كل يوم قيراطان[34]، في بعض الروايات: قيراط[35]، وفي بعضها: قيراطان؛ وجاء تفسير القيراط في صلاة الجنازة بأنه مثل جبل أحد، وهذا وعيدٌ شديد، فلا يجوز تربية الكلاب في البيوت، لا يجوز اقتناءُ الكلاب إلا لهذه الأغراض الثلاث، أو ما كان في معناها: إلا أن يكون كلب الصيد يكون كلبًا مُعلَّمًا يصطاد به، أو حرث يكون كلب مزرعة لحراسة المزرعة، أو ماشية بأن يكون كلب لحراسة الماشية، يقاس عليها مثلًا الكلاب البوليسية في الوقت الحاضر التي تُجعل للكشف عن المخدرات والمتفجرات ونحو ذلك، ما عدا ذلك لا يجوز تربية الكلاب.
وما يفعله بعض الناس من اقتناء الكلاب في بيوتهم تقليدًا للنصارى هذا لا يجوز، وورد فيه هذا الوعيد: أنه ينقص من عمله -أو من أجره- كل يوم قيراط أو قيراطان؛ يعني: هو يجمع الحسنات الآن من صلاة وصيام وقراءة قرآن، وتذهب بسبب هذا العمل، ثم أيضًا وجود الكلب في البيت يمنع دخول الملائكة؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: لا تدخل الملائكةُ بيتًا فيه صورةٌ ولا كلب[36]؛ فوجود الكلب في البيت يمنع دخول الملائكة، إذا لم تدخل الملائكة البيت دخلته الشياطين فآذت أهل البيت، آذتهم بأنواع الأذية؛ ومن ذلك مثلًا الإعانة على السحر، ومن ذلك مثلًا الإزعاج والكوابيس المزعجة، ونحو ذلك، فالشياطين لا تأتي للناس إلا بالشر، والملائكة لا تأتي إلا بالرحمة والخير والبركة، فوجود الكلب في البيت يمنع دخول الملائكة؛ ولهذا فعلى الإنسان أن يمتثل هذا التوجيه النبوي، وألا يقتني كلبًا في بيته إلا لهذه الأغراض الواردة في الحديث: إلا أن يكون كلب صيدٍ أو حرثٍ أو ماشية.
السؤال: شخصٌ له مبلغ عند آخر، ثم تُوفي المدين، فقال الدائن: “الله يبيحه”؛ هل يجوز أن يطالب بحقه من المال من ورثته؟
الجواب: إذا كان قد أسقط عنه الدين وأباحه ليس له الرجوع؛ لأنه قد وهب هبةً في حكم المقبوضة، وأسقط عنه الدين فليس له التراجع، ويبقى على فعله الأول ومعروفه؛ فإن العائد في هِبَته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه[37].
السؤال: ما حكم الصلاة بالدم الكثير عُرفًا، سواءٌ في صلاة الخوف أو غيره؟
الجواب: الدم الكثير عُرفًا نجس، وقد حُكِيَ إجماع العلماء على ذلك، لكن يُعفى عن الدم اليسير عُرفًا، أما الدم الكثير فنُقل إجماع العلماء على نجاسته، فلا تصح الصلاة في اللباس الذي فيه دمٌ كثير.
السؤال: ما حكم الدعاء على الظالم، لكن الداعي ليس هو المظلوم من هذا الظالم؟
الجواب: الدعاء على الظالم جائز عمومًا، فإذا كان المظلوم هو الذي يدعو فهذا أبلغ في الإجابة، لكن حتى لو دعا غيرُه على مَن ظَلَم فلا بأس بذلك؛ لأن الله تعالى استثنى هذه الحالة، قال: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]؛ فيشمل ذلك مَن ظُلِمَ، ويشمل كذلك إذا دعا غيرُه على الظالم.
السؤال: لو خطب الخطيب خطبةً واحدةً نسيانًا؛ فما الحكم؟
الجواب: بعض أهل العلم يرى أنها لا تصح، وقال آخرون: إنها تصح؛ لأنه أتى بالقدر الواجب، والمسألة فيها خلاف قوي بين أهل العلم، ولم يتحرر لي الآن القول الراجح في هذه المسألة.
السؤال: شخصٌ نوى أن يسافر إلى مكة لأداء العمرة، والتنزه في جدة، لكن لم يتيسر له حجز العمرة إلا بعد ثلاثة أيام للوصول إلى جدة، فنوى التنزه في جدة، ومن ثَمَّ أخذ العمرة؛ من أين يُحرِم؟
الجواب: إن كان قد جزم بنية العمرة عند مروره بالميقات، فإذا أراد العمرةَ فلا بد أن يرجع للميقات ويُحرِم منه، أما إذا كان لم يجزم بالنية، وإنما كان مترددًا، ثم بعد ذلك لمَّا قام في جدة تيسرت له العمرة وحصل له التصريح بالعمرة فيُحرِم من جدة.
نسأل الله أن يوفق الجميع لما يُحب ويرضى، وأن يرزقنا جميعًا الفقه في الدين والعلم النافع.
ربنا آتنا من لدنك رحمةً وهيئ لنا من أمرنا رشدًا.
اللهم ربنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.
اللهم أعنا على ذكرك، وعلى شكرك، وعلى حُسن عبادتك.
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
اللهم إنا نسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم؛ ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه البخاري: 2931، ومسلم: 627. |
---|---|
^2 | رواه ابن خزيمة: 1732. |
^3 | رواه مسلم: 854. |
^4 | رواه البخاري: 876، ومسلم: 855. |
^5, ^10 | رواه مسلم: 860. |
^6 | رواه البخاري: 6248، ومسلم: 859. |
^7 | رواه البخاري: 547، ومسلم: 647. |
^8 | رواه مالك في الموطأ ت: الأعظمي: 17. |
^9 | رواه الدارقطني: 1623، وابن أبي شيبة: 5132. |
^11 | رواه أبو داود: 1069. |
^12 | رواه أبو داود: 547، والنسائي: 847، وأحمد: 21710. |
^13 | رواه البخاري: 1، ومسلم: 1907. |
^14 | رواه البخاري: 7، ومسلم: 1773. |
^15 | رواه الطبراني في المعجم الكبير: 7079، والبزار في البحر الزخار: 4664. |
^16 | رواه البخاري: 1013، ومسلم: 897. |
^17 | رواه مسلم: 867. |
^18 | بنحوه رواه النسائي: 1415، وأحمد: 20954. |
^19 | بنحوه رواه أحمد: 21260. |
^20 | رواه ابن ماجه: 1107، وأحمد: 18712. |
^21 | رواه مسلم: 869. |
^22 | رواه مسلم: 866. |
^23 | رواه أبو داود: 1107. |
^24 | رواه البخاري: 934، ومسلم: 851. |
^25 | رواه أحمد: 2033. |
^26 | رواه ابن ماجه: 1121. |
^27 | رواه النسائي: 557، وابن ماجه: 1123. |
^28 | رواه البخاري: 580، ومسلم: 607. |
^29 | رواه مسلم: 881. |
^30 | رواه البخاري: 910. |
^31 | رواه الحاكم: 3392، والبيهقي في السنن الكبرى: 5996. |
^32 | رواه البخاري: 891، ومسلم: 880. |
^33 | رواه الطبراني في المعجم الصغير: 986. |
^34 | رواه البخاري: 5481، ومسلم: 1574. |
^35 | رواه مسلم: 1574. |
^36 | بنحوه رواه البخاري: 3227. |
^37 | رواه البخاري: 2589، ومسلم: 1622. |