عناصر المادة
شروط الصلاة
قَالَ المُصنف رحمه الله:
باب شروط الصلاة:
وهي تسعة: الإسلام والعقل والتمييز، والطهارة مع القدرة، ودخول الوقت.
قال الشارح وفقه الله:
ننتقل بعد ذلك إلى السلسبيل في شرح الدليل، وكنا قد وصلنا إلى (باب شروط الصلاة).
تعريف الشرط
الشروط: جمع شرط، والشرط معناه في اللغة: العلامة، ومنه قول الله تعالى: فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [محمد:18] يعني: علاماتها.
وتعريف الشرط عند الأصوليين: التعريف المشهور: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجودٌ ولا عدمٌ لذاته.
ما يلزم عدمه العدم: كالطهارة؛ يلزم من عدم الطهارة عدم صحة الصلاة، لكن لا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، يعني: لا يلزم من وجود الطهارة وجود الصلاة، فقد يتطهر الإنسان ولا يصلي، هذا هو التعريف المشهور للشرط عند الأصوليين، ويجتمع مع الركن في أن كل واحد منهما عند فقده لا تصح العبادة بدونه.
الفرق بين الشرط والركن
وأما الفرق بين الشرط والركن: فمن وجهين:
- الوجه الأول: أن الركن جزء من ماهية العبادة، بينما الشرط خارجٌ عنها، فمثلًا استقبال القبلة خارجٌ عن الصلاة، لكن الركوع والسجود جزءٌ من الصلاة.
- أيضًا الفرق الثاني: أن الشروط تكون قبل العبادة وتستمر إلى الفراغ منها، بينما الأركان تكون أثناء العبادة، وقد ينتقل الإنسان فيما بينها، فشرط استقبال القبلة مثلًا يكون قبل الدخول في الصلاة، ويستمر إلى الفراغ منها، لكن ركن الركوع ركن السجود ركن تكبيرة الإحرام هذا يكون في أثناء الصلاة، وينتقل المصلي من ركن إلى ركن، ينتقل مثلًا من تكبيرة الإحرام إلى قراءة الفاتحة إلى الركوع، ونحو ذلك.
قال: (وهي تسعةٌ) وهي يعني شروط الصلاة، تسعة: عُرِفَت بالاستقراء، (الإسلام والعقل والتمييز) هذه الشروط الثلاثة هي في الحقيقة شروطٌ لكل عبادة ما عدا الحج، شرط التمييز في الحج لا يشترط، فيصح الحج من غير المميز.
-
الشرط الأول: الإسلام
فقول المؤلف: (الإسلام) خرج به الكافر، فلا تصح الصلاة من كافر؛ لأن الصلاة تفتقر إلى نية، والنية لا تصح من كافر، كما قال الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23] فهي لا تصح من الكافر، ولا تجبُ عليه، يعني: لا يُطالب بها، إذا رأينا كافرًا لا نأمره بالصلاة، وهذه المسألة مرتبطة بمسألةٍ أصولية، وهي: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟
والقول الراجح: أنهم مخاطبون، كما قال الله تعالى عن المجرمين: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:42-43] وقالوا في آخر الآيات: وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر:46] هذا يدل على أنهم كفار، ومع ذلك حوسبوا على ترك الصلاة، وهذا يدل على أنهم محاسبون على ترك جميع الواجبات، وأنهم مخاطبون بفروع الشريعة.
هنا تساؤل ذكر في السلسبيل: الكافر في النار فكيف يُعاقب على ترك الصلاة؟ نقول: النار دركات، كما أن الجنة درجات، والمسلم إذا كان يُعاقب على ترك الصلاة فالكافر من باب أولى.
-
الشرط الثاني: العقل
أيضًا الشرط الثاني: (العقل) فالمجنون لا تصحُّ منه الصلاة، ولا تجب عليه، وهذا بالإجماع؛ لقول النبي : رفع القلم عن ثلاثة.. وذكر منهم: عن المجنون حتى يُفيق [1].
السكران؟ السكران إما أن يكون قد ذهب عقله أو لا، فإن كان قد ذهب عقله لم تصح منه الصلاة، وإن كانت واجبةٌ عليه، لكن لا تصح على سكره؛ لأنه لا يعقل النية، أما إن كان عقله لم يذهب وعقله معه يعقل ما يقول، فالراجح أن الصلاة تصح منه؛ لأن الله تعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43] فدل ذلك على أن السكران إذا علم ما يقول أن صلاته صحيحة، ويقولون: إن من أدمن السُّكر فإن عقله لا يذهب بالكلية، بل يبقى عنده شيء من العقل والإدراك، وإن كان قد يهذي ويخلط أحيانًا، لكن يبقى في الجملة العقل والإدراك موجودان، فالعبرة هي قول الله تعالى: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43] إذا كان السكران يعلم ما يقول فتصح صلاته، وإذا كان لا يعلم لم تصح.
-
الشرط الثالث: التمييز
(التمييز) لا تصح الصلاة من الصبي غير المميز؛ لأنه لا يعقل النية، وغير المميز هو من كان دون سبع سنين، وعلى ذلك فالطفل الذي دون سبع سنين يُعتبر فرجة في الصف، ووجوده كعدمه، ينبغي ألا يصف مع المصلين، بل ينبغي لوالده ألا يُحضره، وإذا اضْطُرَّ لإحضاره فيجعله في آخر المسجد، أو يجعله في آخر الصف، المسجد بيت الله ، ليس محلًا للأطفال ومنتزهًا للأطفال، أو مكانًا يتجمع فيه الأطفال، هو بيتُ الله سبحانه، هي دُورٌ للعبادة، فلذلك تجد أن بعض الناس يأتي بطفلٍ صغير عمره ثلاث سنين، أربع سنين للمسجد، الأولى ألا يأتي به؛ لأن هذا الطفل لا يعقل، فربما تصدر منه تصرفات مزعجة مؤذية لجماعة المسجد، لكن إذا اضطر لذلك، بعض الناس يضطر، إذا اضْطُرَّ لذلك لا بأس؛ لأن بعض الصحابة كانوا يأتون بصبيانهم، كان يقول: إني لأُكَبِّر وأنا أريد أن أُطوِّل الصلاة، فأسمع صوت بكاء الصبي، فأخففها مخافة أن تفتن أمه [2] وهذا الصبي الظاهر أنه صوت صبي غير مميز، كان الصحابة يُحضرون صبيانهم، لكن عند الحاجة، فإذا اضطر الإنسان لإحضار هذا الصبي غير المميز عند الحاجة فيجعله في آخر الصف، أو يجعله في آخر المسجد، ولا يؤذي به المصلين.
-
الشرط الرابع: الطهارة مع القدرة
(الطهارة مع القدرة) وكذا الطهارة مع القدرة، هذا هو الشرط الرابع، ولم يُبيِّن المؤلف مقصوده بالطهارة، هل هي من الحَدَث أم من النَّجَس؟ لكن لما عد المؤلف فيما بعد من الشروط اجتناب النجاسة دل ذلك على أن مقصوده هنا الطهارة من الحدث، وهذا الشرط محلُّ إجماع، ويدل له الآية الكريمة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] وقول النبي : لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ [3] متفق عليه.
وقول المؤلف: (مع القدرة) يفهم منه أنه مع عدم القدرة يسقط هذا الشرط، بل جميع الشروط تسقط، جميع الشروط يشترط فيها القدرة، ما عدا شرطين، وهما: شرط النية مستطاع ما دام الإنسان عاقلاً، ما دام عقله معه، ولا يتصور عدم استطاعة النية.
وشرط الوقت: كذلك لا يتصور عدم القدرة فيه، أيضًا يسقط هذا الشرط الطهارة من الحَدَث عن صاحب الحدث الدائم، كمن معه سلسُ بول، فيسقط هذا الشرط في الحدث الدائم فقط، فإذا تطهر لا يضره خروج الحدث الدائم، وإنما تنتقض طهارته بالنواقض الأخرى، يعني هذا رجل أو امرأة معه سلس بول، نقول: توضأ، ولا يضرك البول الخارج بعد ذلك، فلا تنتقض الطهارة بالبول، لكن تنتقض بالنواقض الأخرى، تنتقض بالريح، تنتقض بالبول، تنتقض بالنواقض الأخرى، أما الحدث الدائم إذا توضأت لا يضرك خروجه، ولا تنتقض الطهارة به.
-
الشرط الخامس: دخول الوقت
الخامس: (دخول الوقت) وهذا الشرط هو آكد شروط الصلاة، وهنا المؤلف عبَّر بدخول الوقت، بينما صاحب زاد المستقنع عبَّر بالوقت، أيُّ: التعبيرين أدق؟ تعبير صاحب الدليل أدق؛ لأن التعبير بالوقت قد يُفهم منه أن الصلاة لا تصح قبل الوقت، ولا بعده، ولكن التعبير بدخول الوقت يفهم أن الصلاة تصح بعد الوقت.
والقول الراجح هو إذا كان لعذرٍ فباتفاق العلماء، ويدل الاشتراط لهذا الشرط قول الله : إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] أي: مفروضًا في الأوقات، وقول الله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء:78] الدلوك: معناه الزوال، لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وهذا كما قال ابن كثير وغيره يشمل الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ لأن غسق الليل معناه: اشتداد ظلمته، فكأن الآية معناها: أقم الصلاة من زوال الشمس إلى شدة ظلمة الليل، وهذا يشمل الأوقات الأربعة: الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم قال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الإسراء:78] يعني: صلاة الفجر، سُمِّيت قرآنًا؛ لأنه يُشرع تطويل القراءة فيها.
وجاء تفصيل الكلام عن المواقيت في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص في صحيح مسلم، وهو أصلٌ في هذا الباب، يقول فيه النبي : وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر.. إلى آخره [4].
وذكرنا أن شرط الوقت هو آكد شروط الصلاة؛ لأن جميع الشروط قد تسقط مراعاةً لشرط الوقت، فلو افترضنا أن إنسانًا كان عاجزًا عن استقبال القبلة، عاجزًا عن الطهارة، عاجزًا عن ستر العورة، عاجزًا عن بقية الشروط والأركان، فنقول: صلِّ على حسب حالك، لكن لا تدع الصلاة حتى يخرج وقتها، وهذا أكثر ما يكون للمرضى مرضًا شديدًا، تجد أنه على فراشه لا يستطيع أن يتحرك، لكن عقله معه، عاجزًا عن أن يتوضأ، عاجزًا عن استقبال القبلة، عاجزًا عن الركوع، عاجزًا عن السجود، عاجزًا عن كثيرٍ من الشروط والأركان، نقول: لا تدع الصلاة حتى يخرج وقتها، صلِّ على حسب حالك، ولو أن تومئ بالركوع والسجود، حتى إذا عجزت عن الإيماء بالركوع والسجود تنوي الإيماء بقلبك.
فالصلاة لا تسقط على مكلف ما دام عقله معه، إلا في حالة واحدة، وهي عن المرأة إذا كانت حائضًا أو نفساء، والشريعة الإسلامية عُنيت بتفصيل أوقات الصلوات، وحتى أن جبريل أتى النبي وأَمَّهُ مرتين، المرة الأولى أَمَّهُ في أول الوقت، واليوم الثاني أَمَّهُ في آخر الوقت، وقال: الصلاة ما بين هذين الوقتين [5] هذا يدل على عناية الشريعة بهذا الشرط، كون جبريل ينزل في يومين متواليين يَؤُم النبي الصلوات الخمس، في اليوم الأول في أول الوقت، وفي اليوم الثاني في آخر الوقت، ثم يقول: الصلاة ما بين هذين الوقتين، هذا يدل على آكدية شرط الوقت؛ ولذلك العلماء عُنُوا بهذا الشرط وتكلموا عنه كلامًا مفصلًا، بل قال العلماء: إن من شكَّ في الوقت لا يحلُّ له أن يصلي حتى يتيقن دخول الوقت، أو يغلب على ظنه دخوله، وهذه العبارة نقلتها في السلسبيل من كلام الموفق في المغني، لا بد من اليقين بدخول الوقت، أو على الأقل غلبة الظن بدخوله، أما مع الشك فلا تصح الصلاة، هذا الكلام يظهرُ أثرُهُ أحيانًا عندما يراد الجمع بين الصلاتين، مثلًا عندما يكون هناك مطر، ويكون هناك اشتباه، يعني عند الإمام وعند جماعة المسجد هل يجمعون؟ هل هذا المطر تحصل به مشقة؟ هل يُجيز الجمع أم لا؟
فنقول: شرط الوقت هو آكد شروط الصلاة، وهذا من الأمور المحكمة أن كل صلاة تُصلى في وقتها، فلا يُصار إلى الجمع إلا بأمرٍ واضح، أما إذا كان الأمر غير واضح فلا تجمع، صلِّ الصلاة في وقتها، هذه فائدة لطالب العلم، إذا أشكل عليك أمر الجمع فلا تجمع، بل ارجع للأصل وهو أن الصلاة تُصلى في وقتها.
أيضًا بالنسبة لاختلاف التقاويم في وقت صلاة الفجر، التقاويم مختلفة فيها اختلاف كبير قد يصل إلى ثُلْث ساعة، مع هذا الاختلاف، يعني: هذا الاختلاف مع أنهم أُناس مختصين، فلكيين مختصين، ومع ذلك اختلفوا هذا الاختلاف الكبير، فهذا يُورث الشك، وهذا يستدعي من المسلم الاحتياط، وعدم الاستعجال في إقامة صلاة الفجر، حتى يغلب على ظنه دخول وقتها، فينتظر ثُلْث ساعة، بعد ثُلْث ساعة يصليها؛ لأنه لو صلاها قبل ثُلْث ساعة فصلاته محل شك، هل صلاها في الوقت أم لا؟ يعني: ثُلْث ساعة بعد الأذان.
مواقيت الصلاة
(باب مواقيت الصلاة)
ثم شرع المؤلف في بيان مواقيت الصلاة ومعرفتها بعد ذلك، وتكلم عنها مبتدئًا بوقت الظهر، وكما ذكرنا أن القرآن فيه إشارات، وذكرنا قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء:78]، أيضًا قول الله تعالى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ هذا المراد به المغرب والعشاء، وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الروم:17] الفجر، وَعَشِيًّا العصر، وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم:18] الظهر، هذا أيضًا فيه إشارة لمواقيت الصلاة.
تكلم المؤلف بالتفصيل عن مواقيت الصلاة، وقبل أن أبدأ الحقيقة أن هذا الموضوع أعني مواقيت الصلاة ينبغي لطلبة العلم العناية به؛ لأن كثيرًا منهم يُدرك الكلام النظري له، لكن التطبيق العملي هناك قصور كبير، فعندما تسأل طالب علم: كيف تزول الشمس؟ وضح لي عمليًّا كيف تزول الشمس؟ تجد أنه لا يُجيب إجابةً كافية، عندما يصبح طول كل شيء مثله بعد ظل الزوال كيف يكون؟ ما المقصود بسقوط القرص؟ الشفق، شفق المغرب أو شفق الفجر؟ الفرق بين الفجر الكاذب والفجر الصادق؟
هذه مسائل ينبغي العناية بها، وقلة العناية بها هي التي أورثت الأشكال في بعض الأوقات. نبدأ أولًا بوقت صلاة الظهر.
وقت صلاة الظهر
قَالَ المُصنف رحمه الله:
باب: مواقيت الصلاة.
فوقت الظهر من الزوال، إلى أن يصير ظل كل شيء مثله، سوى ظل الزوال، ثم يليه الوقت المختار للعصر: حتى يصير ظل كل شيء مثليه، ثم هو وقت ضرورة إلى الغروب، ثم يليه وقت المغرب، حتى يغيب الشفق الأحمر، ثم يليه وقت العشاء المختار إلى العشاء، إلى ثلث الليل، ثم هو وقت ضرورة إلى طلوع الفجر، ثم يليه وقت الفجر إلى شروق الشمس.
قال الشارح وفقه الله:
(فوقت الظهر من الزوال) بدأ المؤلف الظهر ولم يبدأ بالفجر؛ لأن جبريل بدأ بها حين أمَّ النبي ، وأيضًا ورد تسميتها بالصلاة الأولى كما في حديث أبي برزة، قال: «كان رسول الله يصلي الهجير، وهي التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس» [6] رواه البخاري.
وجاء أيضًا في حديث جابر بن سمرة، قال: «صلى رسول الله بنا الصلاة الأولى، ثم أقبل على صبيانٍ وأخذ خدي كُلٍّ منهم» [7]، يعني: يُلاطفهم، وهذا في صحيح مسلم.
والشاهد قوله: «صلى رسول الله الأولى» فكان الصحابة يُسمون صلاة الظهر الصلاة الأولى، فهي أول الصلوات الخمس؛ وذلك لأنها أول صلاةٍ بعد فرض الصلاة، فإن الصلاة فُرِضَت حين عُرِجَ بالنبي إلى السماء، نزل من السماء بعدما عُرِجَ به؛ نزل في أول النهار في الصباح، فكانت أوَّلُ صلاةٍ فُرِضَت بعد المعراج بعد فرضية الصلاة هي صلاة الظهر، أول صلاة صُلَيَّت بعد فرضية الصلاة هي صلاة الظهر، فلذلك تُسمى الأولى، ويبدأ كثير من الفقهاء بها لأجل هذه المعاني، وبعضهم يبدأ بالفجر، يقول: لأنها أول صلاة النهار، لكن البُدَاءة بالأولى (الظهر) أقرب إلى النصوص.
بداية وقت الظهر
قال: (من الزوال) يعني: يبدأ وقت صلاة الظهر من الزوال، وهذا بالإجماع.
معنى الزوال
والزوال: معناه ميلُ الشمس إلى جهة المغرب، ويُعرف الزوال بزيادة الظل بعد تناهي قصره؛ وذلك أن الشمس حينما تطلع من جهة الشرق يكون ظل الأشياء إلى جهة الغرب طويلًا، ثم يبدأ الظل يتناقص يتناقص يتناقص إلى أن يقف التناقص، وهو ظل جهة الغرب، يتجه إلى الشمال إلى الشمال، وإذا وقف التناقص يقف دقائق، ثم يزيد إذا زاد هذا هو الزوال، زيادة الظل بعد تناهي قصره.
كذلك أيضًا يعني في اتجاه الظل، الظل جهة الغرب، ثم يتجه إلى الشمال، إذا وصل إلى الشمال الحقيقي هذا هو وقت النهي إذا انحرف من الشمال إلى جهة الشرق تكون زالت الشمس، فعندنا إذًا علامتان لزوال الشمس:
علامات زوال الشمس
- العلامة الأولى: زيادة الظل بعد تناهي قصره.
- العلامة الثانية: أن تتجه الشمس من الشمال إلى الشرق، لكن العلامة الأولى أدق؛ لأن اتجاه الشمس أحيانًا قد لا يكون دقيقًا بدرجة كافية، فزيادة الظل بعد تناهي قصره هي العلامة الأدق، وهناك برامج الآن موجودة على الحاسب الآلي تحسب لك طول الظل، يوميًا تعطيك طول الظل، سأتكلم إن شاء الله تعالى عنها بعد قليل.
هل هناك إشكالية بالنسبة للتقاويم في وقت صلاة الظهر؟
بعض التقاويم ليس فيها إشكالية، لكن بعضها الآخر فيها إشكالية؛ لأنها تضع زوال الشمس على منتصف النهار الذي هو وقت النهي، فيقسمون المدة الزمنية ما بين شروق الشمس وغروبها على اثنين، ويضعون أذان الظهر على منتصف النهار، يفترض أن يكون هناك زيادة على منتصف النهار بقدر ما تزول به الشمس، فالشمس عندما تدخل في دائرة الزوال، يعني لعلنا نمثل هذا بهذه الورقة، يعني: الشمس هي تأتي من الشرق إلى جهة الغرب، فتدخل في دائرة الزوال، الشمس تأتي هكذا دائرة الزوال، عندما تدخل في دائرة الزوال هذه هذا هو وقت النهي، عندما تكون في المنتصف هنا يؤذن الظهر في بعض التقاويم، فنحتاج إلى أن نُضيف دقائق حتى تخرج الشمس من دائرة الزوال، خروج الشمس من دائرة الزوال هذا هو الذي يُحقق وقت الزوال، فالزوال يبدأ من خروج الشمس من دائرة الزوال، وليس عند منتصف دائرة الزوال، إذًا دخول الشمس إلى دائرة الزوال هذا وقت النهي، خروج الشمس من دائرة الزوال هنا تزول به الشمس.
الذي يحصل الآن أن كثيرًا من التقاويم يجعلون أذان الظهر عندما تصل الشمس إلى منتصف دائرة الزوال، هنا في هذه النقطة، ولكن هذا غير صحيح من الناحية الشرعية، نحتاج إلى أن نُضيف تقريبًا دقيقتين إلى ثلاث دقائق حتى تخرج الشمس من دائرة الزوال وتزول؛ ولذلك ينبغي الاحتياط في هذه المسألة، ينبغي أن الإنسان لا يستعجل بصلاة الظهر بعد الزوال مباشرة، ينتظر إلى دقيقتين، إلى ثلاث دقائق، حتى يزول وقت النهي، هذا أكثر ما يحصل في المطارات، تجد أنهم ينتظرون متى يؤذن المؤذن؟ مجرد أن يقول: الله أكبر يُقيم الصلاة ويصلي، فهنا يقول: ينبغي الاحتياط في هذا حتى تخرج الشمس من دائرة الزوال.
هنا ذكرت لكم تجربة قمتُ بها: ذهبت إلى مدار السرطان، مدار السرطان يكون عندما تصل الشمس إلى درجة ثلاثة وعشرين ونصف شمالًا، هذا إنما يكون في واحد وعشرين يونيو من كل عام، مدار السرطان هنا يمر بالمملكة، يمر حوطة بني تميم، ويمر أيضًا مهد الذهب، حوطة بني تميم ومهد الذهب، يمر بهما مدار السرطان، فإذا كنت في هذا المكان يوم واحد وعشرين يونيو تجد أن الظل وقت أذان الظهر ينعدم تمامًا، وقت الزوال ينعدم تمامًا، وقد ذهبتُ إلى ذلك المكان أكثر من مرة وجدته كذلك، ينعدم الظل تمامًا وقت الزوال، يتولد الظل بعد تقريبًا دقيقتين إلى ثلاث دقائق، فهذا إذًا هو تعريف الزوال: زيادة ظلِّ بعد تناهي قصره، إذاً نحتاج تقريبًا من دقيقتين إلى ثلاث دقائق بعد الزوال الموجود في بعض التقاويم حتى نتأكد من زوال الشمس فعليًّا.
نهاية وقت الظهر
قال: “إلى أن يصير ظل كل شيء مثله سوى ظل الزوال” يعني: أن وقت الظهر يمتد إلى أن يصبح طول ظل كل شيء مثله؛ لحديث عبدالله بن عمرو بن العاص، وفيه أن النبي قال: وقتُ الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله [8].
لكن المؤلف هنا ذكر قيدًا مهمًا، قال: “سوى ظلِّ الزوال” يعني: أن نهاية وقت الظهر عندما يُصبِحُ طول ظل كل شيء مثله، مضافًا إليه ظل الزوال، ما معنى ظل الزوال؟
ظل الزوال يعني: الظل الذي يُوجد وقت زوال الشمس؛ لأن وقت زوال الشمس لا ينعدم الظل في كثير من البلدان، الرياض مثلًا ما ينعدم فيها الظل، لا ينعدم إلا..، في مدار الجدي أيضًا ليس في جميع السنة في واحد وعشرين يونيو، فمعنى ذلك لا بد أن نحسب هذا الظل الموجود وقت الزوال، ونضيفه لطول الشاخص، مثلًا: إذا كان هذا طول الشاخص نضيف له ظل الزوال، ظل وقت الزوال كم؟ ظل وقت الزوال متر، نضيف لظل هذا الشاخص مترًا، ظل الزوال متر ونصف، نضيف مترًا ونصفًا، وهكذا.
فإذًا يكون نهاية وقت صلاة الظهر أن يصبح طول ظل كل شيء مثله، مضافًا إليه ظل الزوال، طيب؛ لماذا قلنا بهذا؟ قد يقول قائل: في حديث النبي ما قال إلى ظل الزوال، قال: إلى أن يصبح ظل كل شيء مثله، وكان ظل الرجل كطوله؟
نقول: هذا القيد لا بد منه، لو لم نقل به في أيام الشتاء يكون ظل الرجل كطوله وقت الزوال، كيف تعمل مع هذه؟ بل ربما يزيد، يعني: في الشتاء يقولون في برج الجدي يصل ظل الزوال إلى ثمانية أقدام، وعادةً طول الإنسان سبعة أقدام، معنى ذلك أنه وقت أذان الظهر، يعني وقت الزوال طول الشاخص ليس كطوله، بل أطول منه، فلذلك نحن نحتاج إلى هذا القيد، لا بد من هذا القيد.
إذًا نهاية وقت الظهر حين يُصبح ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال، يعني: مضافًا إليه ظل الزوال، فانتبهوا بارك الله فيكم إلى المسألة، يعني: أحد طلبة العلم اتصل علي، وقال: العصر فيه إشكالية، قلت: ما هي؟ قال: أنا رأيت أن طول كل شيء مثله قبل أذان العصر بساعة، قلت: هل حسبت ظل الزوال؟ قال: وما هو ظل الزوال؟ يعني: ما فهم المقصود بظل الزوال، فهذا قيد مهم، لا بد من أن يفهمه طالب العلم؛ أن يُصبح طول ظل كل شيء مثله، مضافًا إليه ظل الزوال لا بد من هذا القيد، وإلا يكون الحساب عندك غير صحيح.
إذًا وقت الظهر من زوال الشمس إلى أن يُصبح ظل كل شيء مثله، مضافًا إليه ظل الزوال.
وقت صلاة العصر
قال: (ثم يليه الوقت المختار للعصر) يعني: أن وقت العصر يدخل بخروج وقت الظهر؛ وبذلك يُعلَم أنه لا فارق بين العصر والظهر، ولا فاصل بينهما في قول أكثر العلماء، وذهبت المالكية في قولٍ عندهم إلى أن هناك وقت مشترك بقدر أربع ركعات بين الظهر والعصر، ولكن هذا قولٌ مرجوح لا دليل عليه.
والصواب: ما عليه أكثر العلماء من أنه ليس هناك فاصلٌ بين الظهر والعصر؛ لصراحة حديث عبدالله بن عمرو، فإن النبي قال: وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله، ما لم يحضر العصر [9].
فهذا دليلٌ على أنه لا فاصل بين الظهر والعصر، معنى ذلك أن وقت الظهر يمتد إلى أذان العصر، فالظهر والعشاء من أطول الأوقات، فمثلًا هذا اليوم يعني يؤذن الظهر ونحن في مدينة الرياض الحادية عشرة وتسعٍ وأربعين دقيقة، العصر يؤذن الثالثة وسبع عشرةَ دقيقة، لو أن رجلًا أو امرأةً صلى الظهر الساعة الثالثة هل عليه حرج؟ نقول: لا، هو صلى في الوقت، لكن الرجل طبعًا يجب عليه أن يُصلي مع الجماعة في المسجد، لكن نفترض أنه من أهل الأعذار، أو أن امرأةً ما صلت الظهر إلا الساعة الثالثة، نقول: هي صلت في الوقت، صحيح فاتها الأفضل، الأفضل أن تصلي الصلاة في أول وقتها، لكن ليس عليها إثم، هي صلاة في الوقت؛ لأن وقت الظهر يمتد إلى أذان العصر.
بداية وقت العصر
وقد اختلف العلماء في نهاية وقت الظهر، وبداية وقت العصر على قولين:
- القول الأول: قول الجمهور، أن وقت الظهر يمتد إلى أن يصبح ظل كل شيءٍ مثله بعد ظل الزوال، وبه يبدأ وقت العصر، وهذا قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، ورواية عند الحنفية، وقال به أبو يوسف ومحمد بن الحسن.
- القول الثاني: أن وقت الظهر يمتد إلى أن يصبح طولُ ظِلِّ كُلِّ شيءٍ مثليه بعد ظل الزوال، وأن العصر من حين أن يُصبح طول ظل كل شيء مثليه بعد ظل الزوال، وهذا هو المشهور من مذهب الحنفية.
ولاحظ أن بين القولين فارقًا كبيرًا؛ إذ أن جزءًا من وقت الظهر عند أبي حنيفة داخلٌ في وقت العصر عند الجمهور، فمن حين أن يُصبح طول ظل كل شيء مثله إلى أن يصبح طول ظل كل شيء مثليه، يعني هذا عند الجمهور هو يعتبر وقتٌ للعصر، وعند الحنفية يعتبر وقت للظهر.
أما الجمهور فاستدلوا بالأحاديث السابقة، ومنها حديث عبدالله بن عمرو بن العاص، وهو صريح ما لم يحضر العصر: وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله، ما لم يحضر العصر وإمامة جبريل النبي .
الحنفية استدلوا بأن وقت العصر يبدأ من حين أن يصبح طول ظل كل شيء مثليه، بحديث عبدالله بن عمر أنه سمع النبي يقول.. الحديث موجود في السلسبيل يعني أقرأه بسرعة: إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتوا أهل التوراة التوراة، فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا، فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتينا القرآن، فعملنا إلى غروب الشمس، فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتابين: أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين، وأعطيتنا قيراطًا قيراطًا، ونحن أكثر عملًا؟! قال الله: وهل ظلمتكم من أجلكم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء [10] رواه البخاري.
قالوا: فعملُ هذه الأمة أقل من عمل النصارى فيجب أن يكون وقت العصر أقل من وقت الظهر، ولا يكون ذلك إلا إذا كان ابتداء وقت العصر هو آخر وقت الظهر حين يُصبح ظلُّ كل شيء مثليه، لكن هذا الاستدلال مُناقَش.
أولاً: بأن المراد بهذا الحديث كثرة العمل، وكثرة العمل لا تستلزم كثرة الزمن، فبعض الناس يعمل عملًا كثيرًا في زمن قليل، نحن ذكرنا قصة سعد بن معاذ قبل قليل كيف أنه بقي في الإسلام ست أو سبع سنين، ومع ذلك لما مات اهتز لموته عرش الرحمن.
أيضًا: يُناقش هذا الاستدلال: بأن المراد ضرب المثل لا تحديد وقت الصلاة، هذا حديثٌ مجمل، أما الأحاديث الدالة على تحديد الوقت وابتداء وقت العصر أحاديث محكمة صحيحة صريحة.
أيضًا: أن المراد بقوله: «أكثر عملًا» مجموع عمل الفريقين لا عمل النصارى، فهذا الاستدلال استدلالٌ ضعيف، كيف يؤتى لاحتمالٍ في حديثٍ وتُتْرك الأحاديث الصحيحة الصريحة في أوقات الصلاة التي لو لم يرد منها إلا حديث عبدالله بن عمرو، وهو في صحيح مسلم، وهو صريح في تحديد وقت الظهر بدايةً ونهايةً، وبداية العصر، يعني هل هناك أصرح من قول النبي : وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله، ما لم يحضر العصر [11]، ليس هناك أصرح من هذا، ما قال كطوليه، والحديث في صحيح مسلم، يعني: فالعجب من الخلاف في هذه المسألة مع صراحة الأحاديث فيها، لكن هذه سنة الله أن أفهام البشر تتفاوت، والترجيح في المسائل الخلافية من الأمور النسبية.
نهاية وقت العصر
قال: “حتى يصير ظل كل شيء مثليه” يعني: أن الوقت الاختياري للعصر يمتد إلى أن يصير طول ظل كل شيء مثليه، فنهاية العصر على المذهب أن يصبح طول ظل كل شيء مثليه، واستدلوا بحديث جابر في قصة إمامة جبريل للنبي ، فإنه أَمَّهُ في المرة الأولى حين أصبح طول ظل كل شيء مثله، وفي المرة الثانية حين أصبح طول ظل كل شيء مثليه، وقال: الوقت ما بينهما [12].
القول الثاني في المسألة: أن الوقت الاختياري للعصر يكون إلى اصفرار الشمس؛ لحديث عبدالله بن عمرو: ووقت العصر ما لم تصفرَّ الشمس [13]، وهو حديثٌ صحيحٌ في صحيح مسلم، والصريح في أن نهاية العصر اصفرار الشمس، وهذا القول روايةٌ عن الإمام أحمد، قال عنها الموفق ابن قدامة: هي أصح عنه، وهذا هو القول الراجح؛ في أن نهاية الوقت الاختياري للعصر أنه اصفرار الشمس، وليس حين يُصبح طولُ ظل كل شيءٍ مثليه.
إذًا عندنا في نهاية وقت العصر الاختياري قولان:
- القول الأول: أن نهاية وقت العصر الاختياري حين يصبح طول ظل كل شيء مثليه، وهذا هو المذهب.
- القول الثاني: أن نهاية وقت العصر الاختياري هو اصفرار الشمس.
وقلنا: القول الراجح هو القول الثاني، الموفق ابن قدامة رحمه الله حاول أن يقرب بين القولين، فقال: إنهما وقتان متقاربان، يوجد أحدهما قريبًا من الآخر، يعني: قالوا: اصفرار الشمس قريب من أن يصبح طول ظل كل شيء مثليه، لكن الحقيقة أن عند تطبيق الأمر على الواقع الفارق بينهما كبير، فمثلًا يعني: أنا قست هذا اليوم الاثنين السادس والعشرين من شهر محرم عام ألف وأربعمائة وثنتين وأربعين للهجرة، رأيتُ أن طول ظل كل شيء مثليه، هذا اليوم في مدينة الرياض في حدود الرابعة والنصف؛ تحديدًا في الرابعة وثلاثة وثلاثين دقيقة، بينما اصفرار الشمس حدود الخامسة والنصف تقريبًا، الفرق بينهما ساعة كاملة، كيف يُقال: إن الوقتين متقاربان؟ فقول الموفق رحمه الله هنا محل نظر، إلا إذا كان الأمر في الشام مختلفٌ عن الأمر هنا ربما، لكن التطبيق في الواقع العملي؛ طبقتُ هذا فوجدتُّ أن الفارق كبير، يعني: نلاحظ هنا في التطبيق في هذا اليوم فارق حدود ساعة بيْن أن يُصبح طول كل شيء مثليه بعد ظل الزوال، وبين اصفرار الشمس الفارق بينهما تقريبًا ساعة، فالفرق ليس قصيرًا، الفرق طويل، ساعة كاملة، فقول الموفق رحمه الله: وقتان متقاربان، هذا محل نظر، وعلى ذلك فلا سبيل إلا إلى الترجيح، وعند الترجيح حديث عبد الله بن عمرو من قول النبي هو صحيح في صحيح مسلم وصريح، قال: وقت العصر ما لم تصفرّ الشمس، وعلى هذا فيكون قول الراجح في نهاية العصر أنه اصفرار الشمس، هذا الوقت الاختياري.
وقت الضرورة لصلاة العصر
قال: (ثم هو وقت ضرورة إلى الغروب) يعني: وقت الضرورة لصلاة العصر يمتد إلى غروب الشمس؛ لقول النبي : من أدرك من العصر ركعةً قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر [14] فدل ذلك على أن وقت الضرورة يمتد إلى غروب الشمس.
وعلى هذا فللعصر وقتان ضروري واختياري:
- الاختياري: كما ذكرنا القولين: إلى أن يُصبح طول ظل كل شيءٍ مثليه، أو إلى اصفرار الشمس، ورجحنا إلى اصفرار الشمس.
- الضروري: إلى غروب الشمس.
الوقت الضروري يكون عند الحاجة إلى تأخير الصلاة، أو وجود عذرٍ كأن يُصاب الإنسان بجرحٍ فينشغل بتضميده، أو ينشغل بإنقاذ مصاب، أو الحائض تطهر قبيل غروب الشمس مثلًا، وتغتسل ولا تتمكن من أداء الصلاة إلا في هذا الوقت الضروري، أو يغلب الإنسان النوم، ولا يستيقظ إلا قُبيل غروب الشمس، أو يكون في الطائرة مثلًا، ويعلم بأن الطائرة سوف تهبط وتصل المطار قبل غروب الشمس، فيُريد أن يأتي بالصلاة بجميع أركانها وشروطها بعد هبوطها للمطار، ونحو ذلك، فهذه تعتبر أوقات ضرورة يجوز تأخير الصلاة فيها إلى ما بعد اصفرار الشمس، وقبل غروب الشمس، لكن تأخير وقت صلاة العصر عن وقتها الاختياري إلى الضروري بدون عذر هذا محرم، والدليل لذلك قول النبي : تلك صلاةُ المنافق يَرْقُبُ الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلًا [15].
وقت صلاة المغرب
قال: “ثم يليه وقت المغرب” يعني: يلي وقت العصر وقت المغرب.
ولم يُبَيِّن المؤلف ابتداء وقت المغرب لوضوحه، وهو أنه يكون بغروب الشمس، والمقصود بغروب الشمس سقوط قرص الشمس في الأفق، وهنا أؤكد على كلمة (سقوط القرص)؛ لأن بعض الناس يفهم أن الغروب بمعنى ذهاب الحمرة وذهاب الصفرة هذا غير صحيح، أذكر أن أحد الناس قال لي: إنه يسمع الأذان من إذاعة القرآن للمغرب وهو يرى الشمس في مدينة الرياض، قلت إن هذا غير صحيح، أين رأيت ذلك؟ فحدد لي المكان فذهبت إلى المكان نفسه فرقبت الشمس وجدت أن الشمس تغرب في وقتها المطابق للتقويم، وأن التقويم بالنسبة لمدينة الرياض لغروب الشمس صحيح، فعرفتُ السبب عند الأخ الكريم؛ أنه اعتقد أن غروب الشمس هو ذهاب الحمرة، هذا غير صحيح، الشمس بعدما يسقط القرص يكون آثار الحمرة باقيًا هذا لا يضر، العبرة بسقوط القرص، وليس ذهاب الحمرة، فانتبهوا لهذه المسألة.
تجد بعض الناس يُشكك في وقت غروب الشمس، ويقول: الشمس ما غربت، والتقويم فيه خطأ، لكن ما فهمك لغروب الشمس؟ ما معنى غروب الشمس عندك؟ فإذا كان يقصد ذهاب الحمرة فالحمرة تتأخر بعد سقوط القرص، المقصود بغروب الشمس سقوط القرص في الأفق، هذا هو المقصود، وهو يُحسب بدقة في الأماكن المستوية تحسبها التقاويم أجهزة إحداثيات.. الساعات، لكن في الأماكن المرتفعة يحتاج إلى إضافة دقائق يكون لها حساب مختلف عن غيرها الأماكن المرتفعة؛ ولذلك لو أنك مثلًا في مدينة الرياض وقت غروب الشمس، وأذن المؤذن، ثم أقلعت الطائرة سترى الشمس، كذلك الأماكن المرتفعة مثل مثلًا الهَدَا في الطائف، الهدا توقيته يختلف عن توقيت مدينة الطائف، يتأخر عن مدينة الطائف؛ لذلك ينبغي ألَّا يؤقتوا بتوقيت مدينة الطائف، وأن يكون لهم حساب خاص، أيضًا الباحة، الباحة فيها مناطق مرتفعة، تقويم وضع على مستوى سطح البحر؛ ولذلك تحصل إشكالية عندهم، بعضهم يقول: إنني أرى الشمس والمؤذن يؤذن، المؤذن يؤذن على التقويم، يفترض أن من كان مرتفعًا يتأخر عن التقويم؛ لأن كلما ارتفعت كلما تأخر غروب الشمس، فإذًا في الأماكن المستوية مثل مدينة الرياض مثلًا هنا لا إشكال، مثل الدمام، مثل مثلًا مكة، جدة، هنا يعتمد على التقاويم، لكن الأماكن المرتفعة هذه لها حساب خاص، بل حتى الأماكن المرتفعة في الفنادق، لو كنت مثلًا في مكة في دور عالي من الأدوار العلوية هذا حسابه يختلف عن الدور السفلي، لكن الفارق ليس كبيرًا ممكن دقيقة أو دقيقتين، يعني: كلما كنت في مكان مرتفع كلما احتاج إلى حساب خاص، إذًا وقت المغرب يكون بغروب القرص بسقوط القرص، وهو الوقت الذي يحل به فطر الصائم؛ لقول النبي : إذا أقبل الليل من ههنا، وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم [16].
نهاية وقت المغرب
قال: “حتى يغيب الشفق الأحمر” يعني: يمتد وقت المغرب إلى مغيب الشفق الأحمر؛ لقول النبي في حديث عبدالله بن عمرو: ووقت صلاة المغرب ما لم يغِب الشفق [17] والشفق فيه حُمرة نسبية، هو ليس أحمر قانيًا، هو فيه حمرة نسبية، يكون أحمر بعد غروب الشمس، ثم بعد ذلك يكون أبيض، فيمتد هذا الشفق بعد غروب الشمس، يعني: بحسب التطبيق العملي له يمتد من ساعة إلى ساعة وثنتي عشرة دقيقة، يصل في الصيف إلى ساعة وثنتي عشر دقيقة، في غير الصيف حدود ساعة بعد غروب الشمس، وما يوجد في بعض التقاويم من جعل الفارق بين المغرب والعشاء ساعة ونصف، هذا من باب التوسعة على الناس؛ ولذلك جعلوه ساعة ونصف على مدار السنة، وإلا وقت العشاء ونهاية المغرب قبل ذلك، فلذلك ينبغي الاحتياط في هذا، خاصة للأخوات النساء، لا يؤخرن صلاة المغرب أكثر من ساعة بعد غروب الشمس؛ لأنهن إذا أخرن صلاة المغرب أكثر من ساعة فربما يكُنَّ قد صلينَ المغرب بعد خروج وقتها.
وقت صلاة العشاء
قال: “ثم يليه وقت العشاء المختار إلى ثلث الليل، ثم هو وقت ضرورة إلى طلوع الفجر”.
بداية وقت العشاء
وقت العشاء يبتدئ من غروب الشفق، يعني من نهاية وقت المغرب؛ لحديث عبدالله بن عمرو: وقت صلاة المغرب إذا غابت الشمس ما لم يسقط الشفق، ووقت العشاء إلى نصف الليل [18]. والعشاء يبتدئ من غروب الشفق، يعني: من نهاية وقت المغرب.
نهاية وقت العشاء
والعشاء ذكر المؤلف أن لها وقتين اختياري وضروري:
الاختياري: يرى المؤلف أنه يمتد إلى ثلث الليل، وهذه هي الرواية المشهورة عند الحنابلة، وهو قول المالكية، وقول الشافعي في الجديد.
والقول الثاني في المسألة: أن وقت العشاء الاختياري يمتد إلى منتصف الليل، وهو مذهب الحنفية، ورواية عند الحنابلة.
استدل أصحاب القول الأول القائلون بأن نهاية وقت العشاء الاختياري إلى ثلث الليل بحديث جابر في إمامة جبريل النبي ، فإنه أَمَّهُ في اليوم الأول؛ أَمَّهُ لصلاة العشاء في اليوم الأول حين غرب الشفق، وفي اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل، وقال: الوقت ما بين هذين الوقتين.
أما أصحاب القول الثاني القائلون بأن وقت العشاء الاختياري يمتد إلى منتصف الليل فاستدلوا بحديث عبدالله بن عمرو، وفيه أن النبي قال: ووقت العشاء إلى نصف الليل [19]، رواه مسلم.
والقول الراجح هو القول الثاني، وهو أن وقت العشاء الاختياري يمتد إلى منتصف الليل، وليس إلى ثلث الليل؛ لأن حديث عبدالله بن عمرو من قول النبي هو صريح، وأيضًا صحيح في صحيح مسلم، بينما حديث جابر هو فعلًا وليس قولًا، وعند الأصوليين أنه على تقدير التعارض بين الحديثين فدلالة القول أقوى وأصرح من دلالة الفعل، وهذه قاعدة مفيدة لطالب العلم؛ دلالة القول أقوى وأصرح من دلالة الفعل، يعني: حتى في غير الأحاديث، يعني: إنسانٌ قال قولًا وفعل فعلًا، فأيهما الذي يُنسب له القول أو الفعل؟ قال: أنا أرى كذا وكذا وكذا، لكن رأيته يفعل خلاف ذلك، فالرأي الذي ينسب له هو القول؛ لأن الفعل يحتمل عدة احتمالات، يحتمل أنه كان معذورًا، يحتمل أنه كان ناسيًا يحتمل عدة احتمالات، فدلالة القول أصرح وأقوى من دلالة الفعل.
ومما يدل على رجحان هذا القول: أن النبي كان أحيانًا يؤخر العشاء إلى منتصف الليل، لو كان وقتها الاختياري يمتد إلى ثلث الليل لما أخَّر إلى هذا الوقت؛ لأنه يكون قد خرج وقتها، كما في حديث عائشة: «أعتم النبي ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى، فقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي [20]، وكما في حديث أبي هريرة: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل، أو نصفه [21] فلو كان نهاية العشاء الاختياري ثلث الليل لكان تأخيرها إلى ما قبل ثلث الليل، هذا إذًا وقت العشاء الاختياري القول الراجح فيه أنه يمتد إلى منتصف الليل.
هل للعشاء وقت ضروري؟
وأما الوقت الضروري.. أولًا: هل للعشاء وقت ضروري أم لا؟
قولان: للفقهاء:
- القول الأول: أن للعشاء وقتًا ضروريًا يمتد إلى طلوع الفجر، وعلى هذا المذاهب الأربعة: مذاهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
- القول الثاني: أن العشاء ليس له وقت ضروري، وهذا ذهب إليه أبو محمد ابن حزم، وهو قول عند الحنابلة.
القائلون بأن العشاء له وقت ضرورة استدلوا بحديث أبي قتادة أن النبي قال: أما إنه ليس في النوم تفريط، وإنما التفريط على من لم يصلِّ الصلاة حتى يجيءَ وقت الصلاة الأخرى [22]، رواه مسلم.
وجه الدلالة: أن هذا الحديث دل على اتصال الأوقات، قال: حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى فوقت الظهر يمتد إلى العصر، والعصر يمتد إلى المغرب، والمغرب إلى العشاء، هكذا أيضًا العشاء ينبغي أن يمتد إلى طلوع الفجر، وأما ما بين الفجر والظهر فخرج بالإجماع.
والقول الراجح هو قول الجمهور، وهو أن العشاء لها وقتٌ ضروري يمتدُّ إلى طلوع الفجر، والقول بأن العشاء ليس له وقت ضروري قولُ قِلَّة من الفقهاء، بل لم يقل به سوى الظاهرية، وهو قول عند الحنابلة، وأكثر أهل العلم على أن العشاء له وقت ضرورة.
ما قلناه في الوقت الضروري للعصر ينسحب على الوقت الضروري للعشاء، فليس للإنسان أن يؤخر صلاة العشاء إلى ما بعد منتصف الليل إلا لضرورة لعذر، كما ذكرنا في إنسانٍ مثلًا أصيب بجرح فانشغل بتضميد جرحه، امرأة حاضت ولم تطهر إلا بعد منتصف الليل، أيضًا يحصل في الحج خاصةً عند الدفع من عرفات إلى مزدلفة، أحيانًا يكون في زحام، فلا يتمكن الحجاج من الوصول إلى مزدلفة إلا بعد منتصف الليل، نقول: لا حرج يؤخرون صلاة العشاء إلى ما بعد منتصف الليل، المهم أن يصلوها قبل طلوع الفجر، ويدخلون في الضرورة، ووقت العشاء الضروري يمتد إلى طلوع الفجر، وعلى هذا فوقت العشاء الضروري يستوعب الليل كله، فيكون وقت العشاء هو أطول الأوقات يليه وقت الظهر.
كيفية معرفة نصف الليل
مداخلة:…
الشيخ: نعم حساب الليل، إذا قلنا: منتصف الليل أو ثلث الليل ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فمنتصف الليل ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر، اقسمه على اثنين، ثلث الليل اقسمه على ثلاثة، هذا هو المقصود.
وقت صلاة الفجر
قال: “ثم يليه وقت الفجر إلى شروق الشمس” لم يُبيِّن المؤلف ابتداء وقت طلوع الفجر؛ لأنه معروف، وهو يبدأ بطلوع الفجر الصادق وهو البياض المعترض في الأفق، وهذا هو التعريف للفجر الصادق، وليس فيه أصلًا خلاف بين العلماء، وما ذكره بعض المعاصرين من أن فيه خلافًا هذا افتراضٌ غير صحيح أصلًا، ليس هناك خلاف في تعريف الفجر الصادق، هو البياض المعترض في الأفق، هذا تعريف عامة الفقهاء، ولم أرَ من ذكر تعريفًا آخر أو خلافًا في المسألة إلا بعض العلماء المعاصرين لما حصلت الإشكالية في بعض التقاويم، وإلا تعريف الفجر العلماء متفقون عليه على أنه البياض المعترض في الأفق.
والنبي حذَّر من الاغترار والاشتباه بالفجر الكاذب، وأنه قد يغُر من لا يعرفه، فيحسب أن الفجر الكاذب هو الفجر الصادق، يقول : لا يغرنكم الساطع المصعد حتى يعترض لكم الأحمر [23]، وهذا حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي.
وتأمل قول النبي : لا يغرنكم كلمة يغر دليلٌ على اغترار بعض الناس بالفجر الكاذب.
وقوله: الساطع فيه إشارة إلى أن الفجر الكاذب له سطوع في بعض ليالي السنة، فيحسبه بعض الناس أنه هو الفجر الصادق، خاصةً مع صفاء الجو.
وقوله: المصعد يعني: يصعدُ في السماء، ويكون عموديًا.
وقوله: حتى يعترض لكم الأحمر يعني: المقصود بالأحمر الأبيض، والعرب لا تُعبِّر عن الأبيض بالبياض، إنما تصفه بالحمرة، كما قال ثعلب؛ ولذلك يقولون على الرجل الأبيض البشرة: أحمر، وجاء في بعض الروايات من صفات النبي ذلك مع أنه أبيض.
فالنبي حذَّر من الاغترار بالفجر الكاذب، وهذا هو سبب الإشكالية الموجودة في اختلاف التقاويم، هو أن بعضها ضُبِطَ على الفجر الكاذب، على أول اضاءة، وأول إضاءة هي إضاءة الفجر الكاذب، أول إضاءة تخرج في الشرق، فلا بد إذًا من التمييز بين الفجر الكاذب والفجر الصادق، وقد ذكر هذه المسألة القرافي، وأنكر على من فعل ذلك أو اعتمد على درجات الفلك، ولا يرى أيُّ أثرٍ للفجر الصادق، والله تعالى أناط وقت الفجر بالتبيُّن، فقال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187].
وأشرنا لاختلاف التقاويم، ومع هذا الاختلاف ينبغي الاحتياط، ينبغي أن يكون عند المسلم ورع، وأن يحتاط ما دام الاختلاف قائمًا يحتاط للصوم، ويحتاط للصلاة؛ للصوم يُمسك مع الأذان، والصلاة لا يُقيم الصلاة إلا بعد ثلث ساعة، فإن قال قائل: سنة الفجر هل يُحتاط لها؟ نقول: نعم؛ لأن النبي قال: ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها [24] رواه مسلم، وإذا كانت خيرًا من الدنيا وما فيها، ينبغي أن تحرص على إيقاعها في الوقت، أن تتيقن أنك صليتها في وقتها.
الفرق بين الفجر الكاذب والصادق
هناك فروقٌ ذُكِرَت في الفرق بين الفجر الكاذب والصادق:
- الفرق الأول: أن الفجر الكاذب يمتد طولًا من الشرق إلى الغرب، على شكل عمودي، بينما الصادق يمتد معترضًا ما بين الشمال إلى الجنوب.
- الثاني: أن الفجر الكاذب يكون على شكل ذنب الذئب السرحان، فإن شكله يكون هرمي.
- الفرق الثالث: أن الفجر الكاذب يكون غير متصلًا بالأفق، بل يكون بينه وبين الأفق مسافة، بينما الصادق يكون ملاصقًا للأفق.
- الرابع: أن الكاذب قد تطول مدته، قد يصل إلى ساعة وأكثر، بينما الصادق ينفجر بسرعة، وتزداد إضاءتُهُ في وقت وجيز؛ ولذلك سُمِيَ فجْرًَا.
أنا رأيتُ بعض العلماء المعاصرين ذكر فرقًا، وهو أن الفجر الكاذب يعقبه ظلمة، ولكن بالتطبيق العملي، وقد رقبت الفجر أكثر من ثلاثين مرة لم أجد ذلك، وإنما الذي وجدَّتُّهُ أن الفجر الكاذب إذا خرج يخرج بعده الفجر الصادق ويغطيه، يعني: الفجر الصادق عندما يخرج ينفجر، إذا انفجر قوة إضاءة الفجر الصادق تُغطي إضاءة الفجر الكاذب، ولم أرَ ظلمةً تعقب الفجر الكاذب، هذا موجود نظريًّا في بعض الكتب، لكن عمليًّا لم أقف على هذا، رغم أنني خرجتُ مرارًا لمراقبة الفجر، وهذه هي مواقيت الصلاة، نحن أطلنا فيها في السلسبيل وفي التعليق؛ لأهميتها، وأنصح بالاحتياط، وألا يؤدي الإنسان الفريضة خاصة إلا وهو متيقِّنٌ بدخول الوقت، لا يصلي مع الشك في دخول الوقت؛ لأن الوقت هو آكد شروط الصلاة.
بم يُدرك الوقت؟
قَالَ المُصنف رحمه الله:
ويدرك الوقت بتكبيرة الإحرام، ويحرم تأخير الصلاة عن وقت الجواز، ويجوز تأخير فعلها في الوقت مع العزم عليه، والصلاة أول الوقت أفضل، وتحصل الفضيلة بالتأهب أول الوقت، ويجب قضاء الصلاة الفائتة مرتبة فورًا، ولا يصح النفل المطلق إذًا، ويسقط الترتيب بالنسيان وبضيق الوقت ولو للاختيار.
قال الشارح وفقه الله:
“ويدرك الوقت بتكبيرة الإحرام” لقول النبي : من أدرك من العصر سجدة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، ومن أدرك من الصبح سجدةً قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح [25]، قالوا: فقوله: (سجدة) يدل على أن من أدرك جزءًا من أجزاء الصلاة، فقد أدرك الوقت، ولكن هذا الاستدلال محل نظر؛ إذ أن المقصود بالسجدة الركعة؛ لأن الروايات يُفسر بعضها بعضًا، وقد جاء في الرواية الأخرى: من أدرك ركعةً من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر [26]، وهي رواية في الصحيحين، ويؤيدها حديث أبي هريرة في الصحيحين أيضًا: من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة [27]، ثم إن الإمام مسلمًا أورد أولًا الرواية التي فيها إدراك الركعة: من أدرك ركعةً من الصبح قبل أن تطلع الشمس ثم أورد رواية: من أدرك سجدة والإمام مسلم يورد الرواية الضعيفة بعد الرواية الصحيحة من باب التنبيه إلى ضعفها كما أشار إلى ذلك في مقدمته، وعلى هذا فالقول الراجح أن الوقت إنما يُدرك بإدراك ركعة، وليس بإدراك تكبيرة الإحرام، أو بإدراك قدر تكبيرة الإحرام.
حكم تأخير الصلاة عن وقتها
قال المؤلف رحمه الله:
“ويحرم تأخير الصلاة عن وقت الجواز”.
تأخير الصلاة عن وقتها محرم، بل معدودٌ عند العلماء من الكبائر؛ لقول الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5]، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: “هم الذين يؤخرونها عن وقتها”، فتوعدهم الله بالويل، مع أنه وصفهم بالمصلين، هم يصلون، لكنهم عن صلاتهم ساهون، يعني: يؤخرونها عن وقتها، فتوعدهم الله بالويل؛ ولحديث أنس أن النبي قال: تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلًا [28] هذا الحديث رواه مسلم، يعني: هو في الحاشية رواه مالك، لكن الحديث في مسلم، فوصف النبي من أخَّر الصلاة عن وقتها عمدًا بالنفاق، مع أنه أخَّرها عن وقتها الاختياري فقط إلى الوقت الضروري، فكيف بمن أخرها حتى يخرج وقتها؟ وهذه إشكالية كبيرة لدى.. يعني لا أُبالغ إن قلتُ: لدى كثير من المسلمين؛ أنهم يؤخرون الصلاة عن وقتها، خاصةً صلاة الفجر، لا يُصلونها إلا بعد طلوع الشمس، وهم بذلك كل يوم يرتكبون كبيرة من كبائر الذنوب، فعليهم أن يتوبوا إلى الله ، وأن يحرصوا على أن يصلوا الصلاة في وقتها، النبي يقول: من صلى الصبح فهو في ذمة الله [29] رواه مسلم؛ لماذا خصَّ الصبح؟ لماذا قال: من صلى الصبح فهو في ذمة الله؟ لماذا لم يقل من صلى العصر، الظهر، المغرب، العشاء؟
قال أهل العلم: لأن الذي يُحافظ على صلاة الفجر كما أمر الله كان رجلًا مع جماعة في المسجد، وإن كانت امرأةً في وقتها؛ هذا دليلٌ على أنه إنسان صادق مع الله، فيكون في ذمة الله، يعني: في حفظه وعهده وضمانه؛ ولذلك قال: فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه حتى يكبه في نار جهنم يعني: كأنه يُقال: هذا الإنسان الصادق هذا إنسانٌ صادق مع الله لا أحد يتعرض له، من تعرض له فإن الله يعاقبه، وأفضل الصلوات صلاة العصر؛ لأنها الصلاة الوسطى، ويليها صلاة الفجر، وهاتان الصلاتان تشهدهما الملائكة، كما قال الله تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [الرعد:11] قال النبي : يجتمعون فيكم ملائكةٌ بالليل، وملائكة بالنهار في صلاة الصبح وصلاة العصر [30]، والإنسان سبحان الله يعني انظر إلى عناية الله بابن آدم، وُكِّلَ به في اليوم والليلة ثمانية من الملائكة، كما ذكر ذلك الحافظ ابن كثير عند تفسير الآية وغيره، وكِّلَ بكل إنسان ثمانية من الملائكة، أربعة من صلاة الفجر إلى صلاة العصر، وأربعة من صلاة العصر إلى صلاة الفجر، هؤلاء الأربعة اثنان يكتبان أحدهما عن اليمين يكتب الحسنات، والآخر عن الشمال يكتب السيئات، واثنان يحفظانه بأمر الله ، لكن إذا جاء القدر خليا بينه وبينه، اثنان حافظان، واثنان كاتبان، فيجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر يتعاقبون، فإذا أتى وقت العصر الموجودون يصعدون، والنازلون هم الذين يبقون؛ يبقون من العصر إلى الفجر، ثم هؤلاء ينزلون، وهؤلاء يصعدون، ويبقى هؤلاء من الفجر إلى العصر وهكذا، يتعاقبون في صلاتي الصبح وصلاة العصر.
حكم تأخير الصلاة إلى نهاية وقتها
قال:
” ويجوز تأخير فعلها في الوقت مع العزم عليه” في الوقت يجوز تأخيرها فيه، لو أن شخصًا أراد أن يؤخر صلاة الظهر مثلًا إلى الساعة الثالثة لا بأس، لكن بشرط أن يكون عازمًا على أن يصليها في وقتها.
ما أفضل وقت لأداء الصلاة؟
قال:
“والصلاة أول الوقت أفضل” هذه قاعدة أو ضابط في هذا الباب؛ أن الصلاة في أول الوقت أفضل، إلا ما سيستثنى؛ لحديث عبدالله بن مسعود قال: «سألت النبي : أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها [31]، وعلى هذا فتعجيل الصلاة في أول وقتها في جميع الصلوات أفضل، إلا صلاتين: الصلاة الأولى: صلاة العشاء، فالأفضل تأخيرها إلى ثلث الليل، والصلاة الثانية: الظهر إلى حين الإبراد عند اشتداد الحر، فالظهر السنة إذًا تعجلها في أول وقتها، إلا عند اشتداد الحر فيستحب تأخيرها إلى حين الإبراد؛ لقول النبي : إذا اشتد الحرف فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم [32]، ولكن في وقتنا الحاضر مع وجود المكيفات هل يُقال: باستحباب تأخير صلاة الظهر إلى الإبراد؟
نقول: الجواب: لا، لا يشرع تأخير صلاة الظهر إلى حين الإبراد؛ وذلك لأن علة الأمر بالإبراد منصوصٌ عليها، وهي شدة الحر، فإن شدة الحر من فيح جهنم، وهي التي تذهب الخشوع، ومع وجود المكيفات تزول هذه العلة، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، وعلى ذلك فالمساجد التي فيها مكيفات لا يُشرع تأخير صلاة الظهر فيها إلى حين الإبراد، لكن تُطبق هذه السنة في المساجد التي ليس فيها مكيفات مع شدة الحر، أو البلدان التي لا يكون فيها مكيفات، أو في السفر، ونحو ذلك.
طيب هناك إيرادٌ يورده بعض الناس، يقول: درجة الحرارة في آخر وقت الظهر ربما تزيد على أول وقت الظهر، وإذا راقبت جدول درجات الحرارة تجد أنها تتزايد إلى أن تُصبح أعلى درجة لوقت الحرارة قُبيل العصر عند تقريبًا الساعة الثالثة، فيقولون الإبراد هو تأخير صلاة الظهر إلى آخر وقتها، طيب تأخير صلاة الظهر إلى آخر وقتها هنا يترتب عليه زيادة الحر؛ لأن درجة الحرارة عند الزوال أقل من درجة الحرارة في آخر وقت الظهر، وهذا إشكالٌ الحقيقة لم أجد له جوابًا، إلا أن يُقال: إن الفائدة من الإبراد هو أن يستفيد الذاهب للمسجد من ظل الحيطان.
وأما بالنسبة للعصر، فالسنة أيضًا أن تُصلى في أول وقتها؛ لحديث أبي برزة: «كان رسول الله يصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية» [33]، وفي حديث رافع بن خديج: “كنا نصلي مع النبي العصر فننحر جزورًا، فتقسم عشر قسم، فنأكل لحمًا نضيجًا قبل أن تغرب الشمس” [34] وهذا يظهر أنه في وقت الصيف؛ لأن وقت العصر في الشتاء قصير، أما في الصيف فطويل، فالعصر أيضًا تُصلى في أول وقتها.
المغرب أيضًا السنة أن تُصلى في أول وقتها، وهي آكد الصلوات تعجيلًا، كان يصليها إذا غربت الشمس، لكن ليس مباشرة، بل كان ينتظر قليلًا، قال: صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، قال في الثالثة: لمن شاء [35] وكان الصحابة يبتدرون السواري يصلون قبل المغرب ركعتين، فيُجعل فاصل بين أذان المغرب والصلاة بقدر ركعتين.
العشاء السنة تأخيرها إلى ثلث الليل إن لم يشق على الناس، أما إن كان فيه مشقة على الناس فتُصلى في أول وقتها، كما هو عليه الحال الآن في المساجد العامة تأخيرها إلى ثلث الليل ربما يشق على الناس، فتصلى في أول وقتها، لكن لو كان الناس مثلًا في برية أو في سفر، أو المرأة مثلًا في البيت، فالأفضل أن تُؤخر صلاة العشاء إلى ثلث الليل.
وأما الفجر فالسنة تعجيلها بعد طلوع الفجر الصادق، لكن بعد التأكد من دخول الوقت «كان النبي يصليها بغلس» وهذا قول الجمهور أن التغليس بها أفضل، وذهب الحنفية إلى أن الإسفار بها أفضل؛ لحديث: أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر [36].
والقول الراجح هو قول الجمهور؛ لأن هدي النبي «أنه كان يصلي صلاة الصبح بغلس» كما تقول عائشة قالت: «كان يصلي الصبح بغلس، فينصرف نساء المؤمنين لا يُعْرَفْنَ من الغلس» [37].
الراجح هو أن صلاة الفجر تُصلى بغلس، كما هو قول الجمهور، وأما حديث: أسفروا بالفجر فالمعنى: لا تتعجلوا حتى يتبين الفجر، وتتحققوا من طلوع الفجر.
وقال بعض العلماء: إن المقصود: أطيلوا القراءة في صلاة الفجر، حتى تنصرفوا منها وقت الإسفار، فعلى هذا يُبتدأ بصلاة الفجر وقت الغلس، ويُنصرف منها، وقد بدأ الإسفار، وهذا هو الذي رجحه ابن القيم رحمه الله.
قال: “وتحصل الفضيلة بالتأهب أول الوقت”.
يعني: إذا استعد المسلم للصلاة في أول وقت حصل على الفضيلة، خاصة في المساجد التي تؤخر فيها الصلاة، بعض المساجد يكون الفارق بين الأذان والإقامة نصف ساعة تقريبًا، فحتى يُدرك الإنسان الفضيلة أول الوقت تحصل له الفضيلة بالتأهب أول الوقت.
أحكام قضاء الصلاة الفائتة
قال: “ويجب قضاء الصلاة الفائتة مرتبة فورًا”.
انتقل المؤلف للكلام عن أحكام قضاء الصلاة الفائتة، فذكر أنه يجب قضاؤها، واشترط أن يكون القضاء مرتبًا، أما وجوب القضاء فلقول النبي : من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها [38] تُقضى سواء كان تركها لعذر أو لغير عذر، أما لعذر فبالاتفاق، وأما لغير عذر فعند أكثر العلماء، ونُقِلَ الإجماع على ذلك، وأما قول من قال: إن من ترك الصلاة لغير عذر فإنها لا تصح، ولا تقبل لم يقل به إلا أبو محمد ابن حزم وقلة من أهل العلم، واعتبره بعض العلماء من الأقوال الشاذة، والصواب: أن الصلاة تقضى مطلقًا، لكنه إذا تركها لغير عذرٍ حتى خرج وقتها فإنه يأثم.
حكم ترتيب الصلوات الفائتة
“مرتَّبة”.
يعني: يشترط في قضاء الصلوات الفائتة أن تكون مرتبة، وقد اختلف العلماء في حكم الترتيب في قضاء الفوائت على قولين:
- القول الأول: أنه واجب، وبه قال الجمهور، لكنه يسقط بالنسيان والجهل.
- القول الثاني: أن الترتيب مستحب وليس واجبًا، وهذا هو مذهب الشافعية.
استدل الجمهور بعموم قول النبي : من نسي صلاةً أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها [39] ولأن النبي لما فاته أربع صلوات في الخندق قضاها مرتبة [40]، لكن هذا الحديث ضعيف.
وجاء في حديث حبيب بن سَبَّاع: «أنه صلى المغرب، فقال: هل عَلِمَ أحدًا منكم إني صليت العصر؟ قالوا: ما صليتها، فصلى العصر، ثم أعاد المغرب» [41]؛ لكن أيضًا هذا الحديث أخرجه أحمد، وهو حديث ضعيف، فلا يثبت في هذه المسألة شيء.
الشافعية استدلوا على عدم وجوب الترتيب لعدم الدليل، قالوا: الدليل هو عدم الدليل على وجوب الترتيب.
والقول الراجح: هو القول الثاني: أن الترتيب مستحب، وليس واجبًا؛ لأنه ليس هناك دليلٌ ظاهر، والأحاديث التي استدل بها الجمهور كلها ضعيفة، وأيضًا مما يدلُّ على رجحان القول الثاني اللوازم التي أوردها الشافعية على قول الجمهور، فقالوا: لو فات إنسان صلاةٌ من سنوات طويلة، نفترض مثلًا من عشر سنوات، أو من عشرين سنة، استفتى وقال: والله إني أذكر أني صليت العشاء بدون وضوء ناسيًا، فَأُفْتِيَ بأن عليه أن يعيدها، طيب إذا أعادها الآن يترتب على ذلك أن الصلوات التي بعدها كلها وقعت غير مرتبة، فعلى قول الجمهور يلزمه أن يُعيد صلوات عشر سنين، أو عشرين سنة، وهذا قول لا تأتي به الشريعة؛ ولهذا قال الحافظ ابن رجب: إيجاب قضاء سنين عديدة ببقاء صلاةٍ واحدةٍ في الذمة لا يكاد يقوم عليه دليلٌ قوي.
وقال النووي رحمه الله: المعتمد في المسألة أنها ديونٌ عليه، فلا يجبُ عليه ترتيبها إلا بدليلٍ ظاهر، وليس لهم دليلٌ ظاهر؛ ولأن من صلى بغير ترتيب فقد فعل الصلاة التي أُمِرَ بها، فلا يلزمُ وصفٌ زائدٌ بغير دليل ظاهر.
من اللطائف ما ذكره المرداوي في الإنصاف، وأيضًا ذكره ابن رجب في فتح الباري، قال: الحافظ ابن رجب: أخبرني بعض أعيان علماء شيوخنا الحنبليين أنه رأى النبي في منامه، وسأله عما يقوله الشافعي وأحمد في هذه المسألة أيهما أرجح؟
قال: ففهمتُ منه أنه أشار إلى رجحان ما يقوله الشافعي، يعني: أن الترتيب في قضاء الفوائت أنه مستحبٌّ وليس واجبًا، طبعًا هذه المنامات يُستأنس بها، ولا يُعتمد عليها، ما يراها الإنسان، الرؤى يعني: يُستفاد منها في البشارة أو النذارة والاستئناس، لكن لا يترتب عليها أحكام شرعية.
حكم التنفل لمن عليه صلوات فائتة
قال: “ولا يصح النفل المطلق إذًا”.
يعني: لا يصح للإنسان أن يتنفل وعليه قضاءٌ واجب، كما أنه لا يصحُّ أن يصوم الست من شوال أو عرفة أو عاشوراء وعليه قضاءٌ واجب، فقاسوا الصلاة على الصوم.
والقول الثاني في المسألة: أنه لا بأس أن يتنفل، ولو كان عليه قضاءٌ واجب، وهذا هو القول الراجح؛ أنه لا بأس أن يأتي الإنسان بالنفل المطلق، ولو كان عليه صلواتٌ لم يقضها؛ لعدم الدليل الدال على أنه لا يصح ذلك.
أما ما يروى حديثًا: «من أدرك رمضان وعليه من رمضان شيءٌ لم يقضه لم يُتَقَّبَلْ منه، ومن صام تطوعًا وعليه من رمضان شيء ولم يقضه فإنه لا يتقبل منه حتى يصومه» [42]، فهو حديث ضعيف لا يصح عن النبي .
الحنابلة لما قالوا بوجوب الترتيب في قضاء الفوائت استثنوا من ذلك مسائل:
المسألة الأولى: قالوا يسقط الترتيب بالنسيان، لو نسي أن يرتب يقولون: يسقط الترتيب؛ لعموم قول الله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، وقول النبي : إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه [43]، وأضاف بعضهم الجهل، لكن المذهب عند الحنابلة أن الترتيب لا يسقطُ بالجهل.
وأيضًا أضافوا مسألة أخرى: قالوا: وبضيق الوقت ولو للاختيار، هذه الحالة الثانية: التي يسقط فيها الترتيب، أو الحالة الثالثة إذا اعتبرنا الجهل، فإذا ضاق الوقت وخشي خروج وقت الاختيار، وكذا إن خشي خروج الوقت كله، فمن باب أولى أنه يسقط الترتيب عنده.
وعلى القول الراجح: أنه لا يجب الترتيب أصلًا، وإنما يستحب، وهذا مما يؤكد رجحان القول الثاني.
علامات القول المرجوح: ورود المستثنيات عليه، يعني: لاحظ الآن القول الأول، ورد عليه ثلاث استثناءات: النسيان والجهل وضيق الوقت، بينما القول الثاني ما يرد عليه أي استثناء، فالقول الراجح أنه يُستحب قضاء الفوائت، ولا يجب هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
ونكتفي بهذا القدر في التعليق على لطائف الفوائد.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
نقف عند الشرط السادس، وهو ستر العورة، نفتتح به درسنا القادم إن شاء الله.
والآن نُجيب عما تيسر من الأسئلة.
الأسئلة
السؤال: ما المقصود باصفرار الشمس؟
الجواب: يعني أن يميل لون الشمس إلى اللون الأصفر على الجدران، وعلى الأرض، هذا هو المقصود، وهو يعني تقديره تقدير نسبي، مثلًا أن يصبح طول ظل كل شيء مثله، أو مثليه، تستطيع أن تُقدِّرَه بشكل دقيق، وهناك برامج تحسبه، لكن اصفرار الشمس في الحقيقة يعني نسبي، ربما أنك تقول الشمس مصفرَّة، أما من بجوارك يقول: لا، الشمس حتى الآن لم تصفر، فهو تقريبي، يعني: قبل تقريبًا غروب الشمس بحدود نصف ساعة، أو قريب من هذا الوقت.
السؤال: كم المدة الزمنية من اصفرار الشمس إلى غروبها؟
الجواب: يعني في حدود نصف ساعة تقريبًا، وقد تزيد وقد تنقص بحسب فصول السنة، وحسب أيضًا الأماكن.
السؤال: من استيقظ من النوم في آخر وقت الصلاة وهو في البر، فإذا توضأ خرج الوقت، فهل يتيمم ليُدرك الوقت؟ أو يتوضأ ولو خرج الوقت ثم بعدها يصلي؟
الجواب: هذه المسألة خلافٌ قوي، فمن أهل العلم من قال إنه يتيمم؛ لأجل أن يُدرك الوقت قالوا: لأنه تعارض عندنا شرطان: شرط الوقت، وشرط الطهارة، وشرط الوقت آكد، وهذا القول منقولٌ عن أبي العباس ابن تيمية رحمه الله.
القول الثاني: أنه يتوضأ ولو خرج الوقت، وهذا قول أكثر أهل العلم، وهو القول الراجح؛ إذ أن الله شرط للتيمم فقدان الماء عدم الماء: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43] فكيف يُصلي الإنسان الصلاة متيممًا، وهو واجدٌ للماء؟ هذا يتنافى مع الآية الكريمة، وأما كونه سيفوته الوقت، إن كان معذورًا فلا إثم عليه، وإن كان غير معذور فعليه التوبة إلى الله ، أما أن يُقال له: صلِّ متيممًا والماء موجود عنده فهذا لا يتفق مع ظاهر النصوص.
السؤال: في الحديث: إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصلِّ الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى [44] هل يدل على أن وقت الفجر إلى الظهر؟
الجواب: لا، هذا خرج بالإجماع، أشرنا لهذا، وقلنا: إنه خرج بالإجماع، يعني: حديث أبي قتادة: إنما التفريط على من أخَّرَ الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى يشمل جميع الصلوات ما عدا الفجر، فالظهر يمتد إلى العصر، العصر يمتد إلى المغرب، المغرب إلى العشاء، العشاء إلى الفجر، ما بين طلوع الشمس إلى زوال الشمس هذا خرج بالإجماع، فلا يمتد وقت الفجر إلى الزوال بإجماع العلماء، وإنما وقت الفجر ينتهي بطلوع الشمس.
السؤال: هل الاستماع للدرس عن بعد يدخل في الحديث: من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا [45] أم أن هذا خاصٌّ بالمساجد؟
الجواب: لا شك أن الحضور في المساجد أنه أفضل وأعظم أجرًا؛ لحديث: إن لله ملائكةً سيارةً تلتمسُ مجالس الذكر [46] هذا خاصٌّ بالمساجد، لكن مع ذلك أقول في الظروف الحالية، من كان من عادته أنه يحضر الدرس في المسجد، وبسبب الظروف الحالية تعذر عليه ذلك، فأصبح يتابع الدرس عن بُعْد، فيُرجى أنه ينال أجر من حضر في المسجد، وأدلة الشريعة تدلُّ لهذا؛ أن من كان من عادته أنه يعمل عملًا صالحًا، وأنه حصل له عائق يُعيقه عن ذلك العمل يُكتب له أجره كاملًا، كما قال : إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا [47] فمن كان من عادته أنه يحضر الدرس في المسجد، لكن بسبب الظروف الحالية الآن أصبحَ يُتابع عن بعد، فالذي يظهر والله أعلم، أنه يكتب له الأجر كاملًا كما لو حضر في المسجد، أما من كان ليس من عادته ذلك، وإنما يتابع الدرس عن بعد من قديم، فأجره أقل من أجر من يحضر في المسجد، وكلٌّ على خير، لكن من يحضر أعظم أجرًا وثوابًا، وأيضًا هو الذي يتعرض لمغفرة الله : أشهدكم أني قد غفرت لهم [48].
السؤال: إذا قام الإمام للخامسة في صلاة الظهر ونُبِّهَ ولم يرجع، ظنًا منه أنه على صواب، فماذا يجبُ على من يُتابعه؟
الجواب: يجب على من يُتابعه أن يجلس، ولا يتابعه في الركعة الخامسة، فإن تابعه في الركعة الخامسة بطلت صلاته؛ لأنه تعمد زيادة ركعة في الصلاة، فيسبِّح يقول: سبحان الله، سبحان الله، إذا لم يستجب الإمام يجلس، حتى يكون الإمام في التشهد فيسلم معه، أما أنه يتابعه في الركعة الخامسة، وهو يعلم أنها خامسة هذا لا يجوز، وهذا يبطل الصلاة، لكن إذا فعل ذلك جاهلًا، وهو الغالب على كثير من العامة، أنه إذا لم يستجب الإمام تابعه جهلًا منه فصلاته صحيحة، أما إذا كان يعلم بهذا الحكم، وتعمد متابعة الإمام في الركعة الخامسة فلا تصح صلاته، والإمام يجب عليه إذا سبَّح به ثقتان أن يرجع ما لم يجزم بصواب نفسه، أما إذا جزم بصواب نفسه حتى لو سبَّح به أكثر من اثنين لا يرجع، لكن إذا لم يجزم بصواب نفسه يجب عليه الرجوع إذا سبح به ثقتان.
السؤال: ما حكم انتقال النية أثناء الصلاة من وترٍ إلى شفع؟
الجواب: ليس له ذلك، إذا كان يصلي وترًا، يعني: نواها مثلًا ركعة ليس له أن يقلبها ركعتين أو العكس؛ لأنها كلها صلاة مقصودة، إذا كان هذا هو مقصود السائل بالسؤال؛ لأن يعني السؤال يحتمل أكثر من معنى.
السؤال: هل يجوز تأدية السنن الرواتب بعد خروج وقتها؟ وهل فعل النبي تأدية سنة الظهر بعد العصر خاصٌ به؟
الجواب: نعم السنن الرواتب تقضى كما تقضي الفرائض، إذا كانت الفرائض تقضى فالسنن تقضي كذلك، فمن فاتته سنة الفجر يقضيها، من فاتته سنة الظهر يقضيها، ولو بعد خروج الوقت، لكن لا يقضيها في وقت النهي، وأما قضاء النبي سنة الظهر بعد العصر، فهذا خاص به؛ ولذلك لما سألته أم سلمه: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا. [49].
السؤال: هل ثبت أن النبي تأخر عن صلاة الجماعة هو وبعض أصحابه، فلما جاؤوا ووجدوا الصلاة قد انتهت صلوا فرادى، ولم يصلوا جماعة ثانية؟ وإن كان كذلك فهل يدل على عدم مشروعية الجماعة؟
الجواب: هذا لم يثبت عن النبي ، وإنما روي عن بعض الصحابة فقط، يعني: روي عن بعض السلف، لكن لم يرد عن النبي ، والصواب في هذه المسألة أن الإنسان إذا وجد أن الجماعة الأولى قد صلت يقيم جماعة ثانية، ولا حرج في هذا، ومما يدل لذلك: «أن رجلًا دخل بعد ما صلى النبي فقال: ألا من يتصدق على هذا؟ فقام رجل فصلى معه [50]، وأقيمت جماعة ثانية بعد الجماعة الأولى.
وأما الآثار المروية عن بعض السلف في هذا تُحمل على أن هذا خلاف الأوْلى، وأن الأوْلى أنه لا تُقام أكثر من جماعة، وهذا أيضًا اجتهاد منهم، لكن عموم الأدلة يدل على جواز إقامة جماعة ثانية وثالثة، وهذا هو الذي عليه عمل المسلمين من قديم الزمان، فعموم الأدلة يدل على الجواز، وعموم الأدلة هذه لا يمكن أن يخصص بآثار رويت عن بعضهم؛ لأن هذه الآثار اجتهادات من هؤلاء العلماء، فلا تقوى على تخصيص عموم الأدلة، وعلى ذلك إذا انتهت الجماعة الأولى يجوز إقامة جماعة ثانية، وإذا انتهت الجماعة الثانية يجوز إقامة الجماعة الثالثة، وهكذا، لعموم الأدلة، وليس هناك دليل لا من كتاب الله ولا من سنة رسول الله يمنع إقامة الجماعة الثانية.
نكتفي بهذا القدر.
وإن شاء الله موعدنا غدًا بعد صلاة المغرب في التعليق على كتاب الفضائل من صحيح مسلم، وفي آخر الدرس سنجيب أيضًا عما يتيسر من الأسئلة.
ونسأل الله للجميع الفقه في الدين، والتوفيق لما يحب ويرضى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | رواه أبو داود: 4401. |
---|---|
^2 | رواه البخاري: 708، ومسلم: 470. |
^3 | رواه البخاري: 6954، ومسلم: 225. |
^4, ^8, ^9, ^13, ^17, ^19 | رواه مسلم: 612. |
^5 | رواه أبو داود: 393، والترمذي: 149، وأحمد: 3081. |
^6 | رواه البخاري: 547. |
^7 | رواه مسلم: 2329 بنحوه. |
^10 | رواه البخاري: 557. |
^11, ^12, ^18, ^25, ^28, ^39, ^44 | سبق تخريجه. |
^14, ^26 | رواه البخاري: 579، ومسلم: 608. |
^15 | رواه مسلم: 622. |
^16 | رواه البخاري: 1954، ومسلم: 1100. |
^20 | رواه مسلم: 638. |
^21 | رواه الترمذي: 167، وقال: حسنٌ صحيحٌ. |
^22 | رواه مسلم: 681. |
^23 | بنحوه رواه أبو داود: 2348، والترمذي: 705، وقال: حسنٌ. |
^24 | رواه مسلم: 725. |
^27 | رواه البخاري: 580، ومسلم: 607. |
^29 | رواه مسلم: 657. |
^30 | رواه البخاري: 555، ومسلم: 632. |
^31 | رواه البخاري: 527، ومسلم: 85. |
^32 | رواه البخاري: 536، ومسلم: 615. |
^33 | رواه البخاري: 547، ومسلم: 647. |
^34 | رواه البخاري: 2485، ومسلم: 625. |
^35 | رواه البخاري: 1183. |
^36 | رواه الترمذي: 154، وقال: حسنٌ صحيحٌ، وابن ماجه: 672. |
^37 | رواه البخاري: 873. |
^38 | بنحوه رواه البخاري: 597، ومسلم: 684. |
^40 | رواه الترمذي: 179. |
^41 | رواه أحمد: 16975. |
^42 | رواه أحمد: 8621. |
^43 | رواه ابن ماجه: 2043. |
^45 | رواه مسلم: 2699. |
^46 | رواه مسلم: 2689. |
^47 | رواه البخاري: 2996. |
^48 | رواه البخاري: 6408. |
^49 | رواه أحمد: 26678. |
^50 | رواه أبو داود: 574. |