عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، نسألك اللهم علمًا نافعًا ينفعنا.
نستكمل -أيها الإخوة- ما وقفنا عنده في شرح كتاب “العمدة” في كتاب الزكاة.
وقد ذكرنا في الدروس السابقة الأموال التي تجب فيها الزكاة، وأنها أربعة أنواع:
- السائمة من بهيمة الأنعام.
- والخارج من الأرض من الحبوب والثمار.
- والنقدان.
- وعروض التجارة.
وبينا تفصيل أحكام كل نوعٍ، وننتقل بعد ذلك لمسائل متعلقةٍ بإخراج الزكاة، وجَمَعَها المصنف رحمه الله في هذا الباب.
باب إخراج الزكاة
فنستمع أولًا لعبارة المصنف:
القارئ:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين وللمستمعين.
قال المصنف رحمه الله :
باب إخراج الزكاة
لا يجوز تأخيرها عن وقت وجوبها إذا أمكن إخراجها، فإن فعل فتلِف المال، لم تسقط عنه الزكاة، وإن تلِف قبله سقطت، ويجوز تعجيلها إذا كَمَل النصاب، ولا يجوز قبل ذلك، فإن عجَّلها إلى غير مستحقها لم يُجزئه، وإن صار عند الوجوب من أهلها، وإن دفعها إلى مستحقِّها فمات أو استغنى أو ارتد أجزأت عنه، وإن تلف المال لم يرجع على الآخذ، ولا تُنقل الصدقة إلى بلدٍ تُقصَر إليه الصلاة، إلا ألَّا يجد من يأخذها في بلدها.
الشرح:
قال: باب إخراج الزكاة
وإخراج الزكاة واجبٌ، وقلنا: إن الزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، ومن جحد وجوبها، فهو كافرٌ بإجماع المسلمين، ولكن من كان مقرًّا بوجوبها، وأنها فريضةٌ من فرائض الدين، لكنه منع إخراجها بخلًا أو تهاونًا، فهل يكفر أم لا؟
حكم مانع الزكاة بخلًا أو تهاونًا
هذه المسألة محل خلافٍ بين أهل العلم، ومن أهل العلم من قال: إنه يكفر، واستدل بقول الله : فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة: 11]. قالوا: فإن مفهوم هذه الآية: أنهم إذا لم يتوبوا من الشرك، أو لم يقيموا الصلاة، أو لم يؤتوا الزكاة، فليسوا بإخوانٍ لنا في الدين، وإذا كانوا ليسوا بإخوانٍ لنا في الدين فهم كفارٌ.
والقول الثاني: أن مانع الزكاة بخلًا أو تهاونًا لا يكفر، ولكنه يفسق، فهو فاسقٌ ومرتكبٌ لكبيرةٍ من كبائر الذنوب، لكنه لا يكفر، وإلى هذا ذهب جماهير الفقهاء وأكثر أهل العلم قديمًا وحديثًا، واستدلوا لذلك بما جاء في “صحيح مسلم” من حديث أبي هريرة أن النبي لمَّا ذكر عقوبة مانع الزكاة قال: ما من صاحب إبلٍ ولا بقرٍ ولا غنمٍ لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة بُطِحَ لها بقاعٍ قَرْقَرٍ.. إلى آخره. وجاء في آخر الحديث: ثم صُفِّحَت له صفائح من نارٍ، فأحمِيَ بها جبينه وجنبه وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنةٍ، ثم يرى سبيله؛ إما إلى الجنة، وإما إلى النار [1].
ما وجه دلالة هذا الحديث على أن مانع الزكاة بخلًا أو تهاونًا لا يكفر؟
أحسنت، لو كان كافرًا لم يكن له سبيلٌ إلى الجنة، فهذا من أقوى الأدلة الدالة على أن مانع الزكاة لا يكفر، وهذا الحديث كما ترون في “صحيح مسلم”، وهو صحيحٌ من جهة الإسناد، وصريحٌ من جهة الدلالة، فلو كان يكفر لم يكن له سبيلٌ إلى الجنة؛ لأن الله حرَّم الجنة على الكافرين، وهذا هو القول الراجح: أن مانع الزكاة لا يكفر.
فإن قال قائل: أليس الله قال: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة: 11]؟
فالجواب: أنه لا بد من الجمع بين النصوص الواردة، فلا يُؤخذ بطرَفٍ ويُترك طرفٌ؛ فالأخذ بطرفٍ من النصوص وترك طرفٍ آخر منها، هذه طريقة أهل الزيغ، وأما الراسخون في العلم فإنهم يجمعون بين النصوص الواردة، وهكذا في مسائل الاعتقاد، أهل السنة والجماعة جمعوا بين نصوص الوعد والوعيد، بينما الفِرَق المنحرفة أخذت بطرفٍ من النصوص وتركت طرفًا آخر، فالوَعِيديَّة من الخوارج والمعتزلة أخذوا من نصوص الوعيد، وكفَّروا مرتكب الكبيرة، فهو عند الخوارج كافرٌ، وعند المعتزلة في منزلةٍ بين المنزلتين، ومخلدٌ في النار عند الجميع.
يقابلهم المرجئة الذين قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنبٌ، فأخذوا بنصوص الوعد وتركوا نصوص الوعيد، ووفق الله أهل السنة فجمعوا بين نصوص الوعد والوعيد، وقالوا: إن مرتكب الكبيرة في الدنيا مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، وفي الآخرة تحت مشيئة الله ؛ إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، لكنه إذا دخل النار لا يخلد فيها، وهذا يدل -يا إخوان- على أهمية العناية بالتوحيد.
يا إخوان، من مات على التوحيد فهو على خيرٍ وإلى خيرٍ، حتى وإن دخل النار لا يخلد فيها، لكن من مات على الشرك، هذا هو المخلد في النار أبد الآباد، إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة: 72].
فالشرك بالله من أعظم الذنوب، أعظم ذنبٍ عُصِيَ الله به: الشرك بالله، ولا يعتقد الإنسان أنه بعيدٌ عن الشرك، إبراهيم الخليل -عليه الصلاة والسلام- قال: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [إبراهيم: 35]. قال أهل العلم: لا أحد يأمن على نفسه من الشرك بعد دعاء إبراهيم هذا.
وكما ترون الآن أن بعض مظاهر الشرك تضرب بأطنابها في بعض بلدان العالم الإسلامي، فالذين يطوفون بالقبور، ويسألون أصحاب القبور المدد، ويسألونهم قضاء الحاجات، وتفريج الكُرُبات، هذا هو الشرك الأكبر، ما الفرق بين هؤلاء وبين من يذهبون للأصنام، ويطلبونها قضاء الحاجات، وتفريج الكُرُبات، كفار قريش هل يعتقدون أن الأصنام هي التي تخلق وترزق وتضر وتنفع؟ أبدًا، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف: 87]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25]، لكنهم يقولون: هذه أصنام أناس صالحين، نريد أن تشفع لنا عند الله، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3]، نريد أن تقربنا إلى الله، تشفع لنا، ما الفرق بينهم وبين من يأتي لصاحب القبر ويقول: أريد من صاحب القبر أن يشفع لي عند الله في قضاء الحاجات، أو تفريج الكُرُبات؟ فهذا هو الشرك الأكبر، فانتبهوا -أيها الإخوة- وحذِّروا من ترونه واقعًا في هذا المنكر العظيم، هذا أعظم ذنب عُصيَ الله به، إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة: 72]، إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء: 48]، فانتبهوا لهؤلاء الذين يُلبِّسون على الناس بالشعوذة والسحر وبالكهانة، ويطلبون منهم دعاء غير الله ، أو الذين يذهبون للقبور ويدعون أصحابها من دون الله، ويسألونهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، هذا هو الشرك الأكبر الذي لا يقبل الله من الإنسان معه صرفًا ولا عدلًا.
طيب، نضع جائزة على بعض المسائل التي ذكرناها، والإخوة ذكروا أن هناك عددًا من الجوائز.
معتقد أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة
طيب، ما معتقد أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة؟
نعم، تفضل، ارفع صوتك ولو تقف، ارفع صوتك يا أخي.
في الدنيا فاسقٌ بكبيرته، ومؤمن بإيمانه، وفي الآخرة تحت مشيئة الله، لكن هل يخلد في النار؟ لا يخلد في النار، بارك الله فيك، تفضل.
إذنْ احفظوا هذا أيها الإخوة: معتقد أهل السنة والجماعة في مرتكب الكبيرة: أنه مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته في الدنيا، وفي الآخرة تحت مشيئة الله -بارك الله فيك- في الآخرة تحت مشيئة الله؛ إن شاء الله عذبه، وإن شاء عفا عنه، لكنه لا يُخلَّد في النار.
حكم الزكاة في مال الصبي والمجنون
طيب، من المسائل المتعلقة بإخراج الزكاة، هل تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون؟
الصبي والمجنون من المعلوم أنهما لا تجب عليهما الصلاة ولا الصيام، ولا سائر الواجبات الشرعية؛ لكونهما مرفوعًا عنهما القلم؛ لقول النبي : رفع القلم عن ثلاثةٍ: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يُفيق [2]، لكن بالنسبة للزكاة، هذا مجنونٌ له مالٌ، أو صبيٌّ له مالٌ، هل تجب فيه الزكاة؟
نقول: نعم، تجب في مال الصبي والمجنون الزكاة؛ لأن الزكاة تتعلق بالمال، بغض النظر عن الذمة، لهذا؛ قال : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: 103]. ولم يقل: خذ منهم، وكان عمر يقول: اتجروا في أموال اليتامى؛ كي لا تأكلها الصدقة.
فأموال اليتامى، وأموال الصبيان، وأموال المجانين، تجب فيها الزكاة وإن كانوا غير مكلفين.
حكم تأخير الزكاة عن وقتها
طيب، نعود لعبارة المؤلف رحمه الله، قال: “لا يجوز تأخيرها عن قرب وجوبها إذا أمكن”. عن وقت وجوبها، وفي بعض النسخ: “قرب وجوبها إذا أمكن إخراجها”.
أي: أن الزكاة يجب إخراجها على الفور، ولا يجوز تأخيرها، وهذا راجعٌ لقاعدةٍ أصوليةٍ، وهي: هل الأمر بالشريعة على الفور أم على التراخي؟ والصحيح: أنه على الفور، وعلى ذلك فالأصل: وجوب إخراج الزكاة على الفور، لكن يستثنى من ذلك ما إذا كان في التأخير مصلحة شرعية، كأن تكون مصلحة الفقير في التأخير.
مثال ذلك: رجل حلَّت زكاته في شهر رمضان، ويعرف أن فقيرًا سيحل موعد إيجاره في شهر شوال، ولو أعطاه الزكاة في رمضان لربما أنفقها، فأراد أن يحبس هذه الزكاة عنده إلى شهر شوال، حتى يسدد عن هذا الفقير إيجار المنزل، فهذا لا بأس به، لكن ينبغي أن يكتب ذلك؛ حتى لو قدر الله تعالى عليه وفاة، يعرف الورثة أنه لم يخرج الزكاة.
وأيضًا لو كان هذا الفقير سيئ التدبير، إذا أعطيته زكاةً لم يحسن تدبير المال، فلا بأس أن تقسِّط عليه الزكاة؛ كلَّ شهرٍ تعطيه جزءًا من الزكاة، لكن -كما ذكرت- تكتب ذلك في وصيتك، أو تكتبه في ورقة، حتى يعلم الورثة بذلك فيما لو قدر الله عليك شيئًا.
طيب، وهكذا أيضًا لو وجبت الزكاة على إنسانٍ وليست عنده سيولةٌ نقديةٌ، كأن يكون عنده أرضٌ معدةٌ للبيع، فقيل: يجب عليك أن تزكيها، هذه الأرض تساوي قيمتها مثلًا مئتي ألفٍ، وسبق أن شرحنا بالأمس زكاة عُروض التجارة، ومقدار الزكاة فيها، مئتا ألف كم زكاتها؟ لا أحد يتكلم، الذي يعرف يرفع يده، تفضل، قف، الأخ الذي قبلك، تفضل.
نعم، نقسم أي مبلغ على أربعين، فإذا قسمنا مائتي ألفٍ على أربعين كم الناتج؟ خمسة آلافٍ، بارك الله فيك بالتوفيق.
فلو كان رجلٌ عنده أرضٌ، وهذه الأرض معدةٌ للبيع، فيها الزكاة، ومقدارها: مئتا ألفٍ، فزكاته خمسة آلافٍ، قال: أنا ما عندي خمسة آلافٍ، ما عندي سيولةٌ نقديةٌ، فهل أقترض لأجل أن أزكي؟ نقول: لا يجب، بل يجوز لك أن تؤخر الزكاة حتى تجد سيولةً نقديةً؛ لأن الزكاة مبناها على المواساةٍ، فلا يلزم الإنسانَ أن يقترض من غيره، أو حتى يبيع بعض ما يملك لأجل أن يزكي، فهذه أيضًا من الصور التي أجاز بعض الفقهاء فيها تأخير الزكاة.
حكم من أخر الزكاة فتلف المال
قال: “فإن فعل فتلف المال لم تسقط الزكاة”.
يعني: إذا أخر الزكاة عن وقت الوجوب فتلف المال، فلا تسقط الزكاة، بل يجب عليه أن يخرجها؛ لأنه مفرطٌ بهذا التأخير، ولأن الزكاة دَين الله ، فلا تسقط، “وإن تلف قبله”، يعني: قبل وجوب الزكاة، تلف المال قبل وجوب الزكاة، سقطت، وهذا ظاهرٌ؛ لأن المال قد تلف قبل أن تجب عليه الزكاة، فلا يجب عليه أن يزكيها.
حكم تعجيل الزكاة
قال: “ويجوز تعجيلها إذا كَمَل النصاب”.
يجوز تعجيل الزكاة، وقد أرسل النبي عمر بن الخطاب لقبض الزكوات، فقيل: منع ثلاثة: خالد بن الوليد، والعباس بن عبدالمطلب، وابن جميلٍ، فقال النبي : ما ينقم ابن جَميلٍ إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله ورسوله، وأما خالدٌ: فإنكم تظلمون خالدًا، قد احتبس أدراعه وأعتُدَه في سبيل الله، وأما العباس بن عبدالمطلب، فعم رسول الله ، فهي عليَّ ومثلُها معها [3].
لاحظ هنا: كيف أن النبي فرَّق في التعامل بين هؤلاء الثلاثة: العباس كان قد تعجَّل النبي زكاته، ولذلك؛ قال: فهي عليَّ ومثلها معها. تعجل زكاته من قبل، لكن خالد بن الوليد اعتذر عنه النبي ، بينما ابن جميل لم يعتذر عنه، قيل: إنه كان من المنافقين، فلاحِظْ أن النبي فرَّق في التعامل بين أصحابه؛ إنسانٌ معروفٌ بالصلاح والاستقامة والخير، والبذل والإنفاق، فهذا إذا ذُكر عنه سوءٌ، ينبغي أن يُعتذَر عنه، وأن يُذبَّ عن عرضه، كما قال الله : وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور: 16].
فإذا سمعت سوءًا عن أخيك المسلم المعروف بالخير والصلاح والاستقامة، فينبغي أن تذب عن عرضه، فالنبي دافع عن خالد بن الوليد قال: إنكم تظلمون خالدًا. فخالدٌ لا يمكن أن يمنع الزكاة؛ لأنه قد احتبس أدراعه وعتاده في سبيل الله، يعني وقف بعض ماله في سبيل الله، رجلٌ وقف بعض أمواله في سبيل الله، هل يظن به أنه سيمنع الزكاة؟! ما يمكن، لكن ابن جميلٍ لم يعتذر عنه النبي ، بل ذمه، قيل: إنه كان من المنافقين، قال: ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرًا فأغناه الله. فالإنسان المعروف بالشر والفساد وأذية المؤمنين، هذا لا يعتذر عنه، ولا يدافع عنه، بل تجوز غيبته، فيما أظهر فيه الشر، فلا غيبة لفاسقٍ فيما جهر به من الفسق، ولهذا؛ قال : وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء: 105]. لا تكن مدافعًا عن الخائنين.
وأما العباس فتعجل النبي زكاته لعامين، وهذا هو موضع الشاهد، فتعجيل الزكاة يجوز، يجوز لك أن تعجل الزكاة، فلو أن فقيرًا تثق به أتى إليك وقال: يا فلان، أنا الآن محتاجٌ حاجةً ملحَّةً، صاحب البيت مثلًا سوف يخرجني إن لم أسدد، وأنت عندك زكاةٌ قد اعتدت أن تخرجها في رمضان، فلا بأس أن تعجل إخراجها الآن لمصلحة الفقير، بل إن هذا هو الأفضل، وتسد حاجة أخيك المسلم، وتُعتبَر من الزكاة التي كنت تخرجها في رمضان، فهذا من صور تعجيل الزكاة.
زكاة الدخل الشهري
وأيضًا مما يدخل في هذا الباب زكاة الدخل الشهري، وقد أصبح الآن كثير من الناس تأتيهم الدخول شهريًّا من مرتبٍ، أو تقاعدٍ، أو أي مصدرٍ، وهذا الدخل الشهري يضعه في البنك، ويصرف منه، ولا يدري ما الذي حال عليه الحول؟ وما الذي صرفه؟ فما الحل؟
نقول: أولًا إذا كان لا يدخر شيئًا من هذا الراتب، هذا لا زكاة عليه، لكن إذا كان يدخر نصابًا فأكثر، سبق أن حسبنا النصاب، وقلنا: إنه في حدود (1,112) ريالًا سعوديًّا، إذا كان يدخر نصابًا فأكثر، فهذا يجب عليه أن يزكي هذا الدخل، طيب كيف يزكيه؟ ولا يقول: لا أدري ما الذي صرفته وما الذي بقي؟ نقول: تجعل لك تاريخًا معينًا في السنة، ولنفترض مثلًا أنه واحد رمضان من كل عام، تزكي جميع الرصيد الذي عندك، سواء ما حال عليه الحول، أو الذي لم يحل عليه الحول، وتنوي تعجيل الزكاة فيما لم يَحُل عليه الحول، إذنْ تزكي جميع الرصيد، وتنوي تعجيل الزكاة فيما لم يحل عليه الحول، وتعجيل الزكاة كما ذكرنا جائزٌ، وبذلك لا تنظر لزكاة مالك إلا مرةً واحدةً في السنة، كلما أتى 1 رمضان زكيت جميع ما عندك، ناويًا تعجيل الزكاة فيما لم يحل عليه الحول، فهذه الطريقة أسهل وأفضل وأحوط أيضًا، وإن أردت أن تزكي كل شهر بشهره لا بأس، تطلب كشف حساب مثلًا من البنك، وتنظر ما الذي صرفته، وما الذي ادخرت، فتزكي ما حال عليه الحول، لا بأس، لكن كثير من الناس يجدون صعوبة في هذه الطريقة، ولذلك؛ نقول: الطريقة السهلة أنك تزكي جميع الرصيد، وتنوي تعجيل الزكاة فيما لم يحل عليه الحول، وبهذا لا تنظر لزكاة مالك إلا مرةً واحدةً في السنة في هذا التاريخ، فانتبه لهذه الفائدة، هذا يريحك ولا تبقى في قلق، ما الذي حال عليه الحول؟ وما الذي لم يحل عليه الحول؟ تزكي في هذا التاريخ كل ما عندك، وتنوي تعجيل الزكاة فيما لم يحل عليه الحول.
حكم تعجيل الزكاة قبل بلوغ النصاب
قال: “ولا يجوز قبل ذلك”.
يعني: لا يجوز تعجيل الزكاة قبل بلوغ النصاب، فلو أنك ما عندك مثلًا إلا مئة ريالٍ مثلًا، وقلت: أنا سأعجِّل الزكاة إذا مَلَكتُ مبلغًا أكون قد زكيت، نقول: لا، ليس لك أن تعجل الزكاة قبل بلوغ النصاب؛ لأن النصاب هو سبب الزكاة، فلم يجز تقديمها عليه.
قال: “فإن عجلها إلى غير مستحقها لم يجزئه، وإن صار عند الوجوب من أهلها”.
يعني: إن عجل الزكاة لكنه دفعها لغير مستحِقٍّ، دفعها لغنيٍّ، أو من تلزمه نفقته ونحو ذلك، فلا تجزئه حتى ولو صار عند الوجوب من أهلها، حتى لو أن هذا الغني افتقر، لا يجزئه إخراج الزكاة، وإنما تكون صدقةً كسائر الصدقات.
قال: “وإن دفعها إلى مستحقها فمات، أو استغنى، أو ارتد أجزأت”.
إن اجتهد ودفعها لمستحقها، لكن هذا المستحق تغيرت أحواله، والإنسان -أيها الإخوة- يتغير، ولذلك؛ كان من أعظم الأدعية: ربنا لا تزع قلوبنا بعد إذ هديتنا، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك، فالإنسان يتأثر ويتغير.
فيقول: لو أنه دفع هذه الزكاة لإنسان كان مستقيمًا، ثم ارتد، فهذه الزكاة تجزئه، ولا يُلزَم بإخراجها مرةً ثانيةً، أو أعطاها إنسانًا وبعدما سلَّم له الزكاة مات، هذه أيضًا تجزئه، طيب، أين تذهب الزكاة ما دام أنه مات؟ لورثته، أو أعطاها فقيرًا، أعطى الزكاة فقيرًا، ثم إن هذا قدَّر الله أنْ مات قريبٌ له فاغتنى وأصبح غنيًّا، بين عشيةٍ وضحاها أصبح غنيًّا، يقول: تجزئه؛ لأنه لما استلمها كان مستحِقًّا لها، وكان من أهلها.
قال: “وإن تلف المال لم يرجع على الآخذ”.
يعني: هذا رجلٌ قال: أنا أريد أن أعجل زكاة مالي، فلما عجل زكاة ماله وأعطاها فقيرًا، إذا هو بعد أسبوعٍ تلِف جميع ماله، ما عاد عنده شيءٌ، هل يرجع لهذا الفقير، ويقول: أعطني الزكاة التي أعطيتك؟ لا، ليس له أن يرجع؛ لأنه قد قبضها، فليس له الرجوع عليه، ولأنها قد دفعت إلى مستحقها.
حكم نقل الزكاة إلى بلد آخر
قال: “ولا تُنقل الصدقة إلى بلدٍ تُقصَر إليها الصلاة، إلا ألَّا يجد من يأخذها في بلدها”.
هنا انتقل المؤلف بكلامه إلى مسألةٍ مهمةٍ، يكثر السؤال عنها، هل يجوز نقل الزكاة أم لا؟ زكاة المال وزكاة الفطر، يقول المصنف: إنها لا تنقل الزكاة، لا تنقل إلى بلدٍ آخر بينه وبينها مسافة قصرٍ، مسافة القصر كم كيلو؟ (80 كيلو)، إلا في حالة واحدة، وهي ألا يجد من يأخذها في ذلك البلد؛ لكونهم مثلًا أغنياء، والدليل في هذا قول النبي لمعاذٍ : أعلِمْهم أن الله قد افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم [4]. متفق عليه.
قالوا: إن معنى: “تؤخذ من أغنيائهم” يعني: من أغنياء البلد، وترد إلى فقراء البلد.
والقول الثاني في المسألة: أنه يجوز نقل الزكاة إلى بلدٍ آخر لحاجةٍ أو لمصلحةٍ، فالحاجة أن يكون فقراء ذلك البلد أشد من فقراء البلد الذي هو فيه، ومثال ذلك: رجلٌ مثلًا مقيمٌ هنا في مكة، ويريد أن يخرج الزكاة، وله أقارب فقراء في بلدٍ آخر؛ لنفترض مثلًا: في مصر، أو في اليمن، أو في الشام، أو في أي بلد، له فقراء في بلدٍ آخر، ويرى أن الفقراء في ذلك البلد أشد فقرًا، وأشد حاجةً من الفقراء الموجودين هنا في مكة، فهنا نقول: لا بأس بنقل الزكاة للفقراء الذين هم أشد حاجةً من الفقراء الموجودين في البلد الذي يقيم فيه الإنسان.