الرئيسية/برامج إذاعية/فقه المعاملات/(77) أحكام الوقف- مسائل متنوعة
|categories

(77) أحكام الوقف- مسائل متنوعة

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.

حياكم الله تعالى في هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج والتي نستكمل فيها ما تبقى من أحكام الوقف إن شاء الله تعالى، فنقول:

حكم تخصيص بعض الأولاد بالوقف

إن من أحكام الوقف: أنه لا يجوز أن يخص بعض أولاده بوقفٍ دون الآخرين، كأن يجعل الوقف خاصًا بالذكور دون الإناث، أو يجعله خاصًا بأولاده من زوجة دون أولاده من الزوجة الأخرى؛ فإن هذا يُعتبر وقف جنَف، يقول النبي : اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم [1].

قال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله: “اعلم أن كلام الفقهاء رحمهم الله في مسائل الوقف على الأولاد وأحد الورثة من قولهم: يُقدَّم كذا أو يُقدَّم كذا، إنما ذلك مطلقٌ راجعٌ إلى معاني ألفاظ الواقفين، ولكنه محمولٌ على المقيَّد في الشرع وفي كلام الفقهاء من أنه لا يحل لأحدٍ أن يوقِف وقفًا يتضمن المحرَّم والظلم، بأن يكون وقفه مشتملًا على تخصيص أحد الورثة دون الآخرين، أو على حرمان من لهم الحق.

وهذا القيد يتعيَّن؛ لأن الله تعالى أمر بالتعاون على البر والتقوى، ونهى عن الظلم، وأمر بالعدل، فكل ما خالف هذا فإنه مردودٌ على صاحبه غير نافذ التصرُّف؛ فإن العبد ليس له أن يتصرَّف في ماله بمقتضى شهواته النفسية وهواه، بل عليه ألا يخالف الشرع ولا يخرج عن العدل، وإن فعل ذلك كان باطلًا بمقتضى قوله : من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد [2]”.

حكم الوقف على المحتاج من الذرية

وإذا كان العدل بين الأولاد واجبًا فلا يجوز أن يخص بعض أولاده بوقفٍ دون الآخرين، فإنه يجوز أن يجعل الوقف على المحتاج من الذريّة، وقد نص على هذا الفقهاء، ويدل لذلك ما جاء في صحيح البخاري: أن الزبير بن العوام  وقّف دوره واشترط أن تسكن المردودة من بناته غير مضرّةٍ ولا مُضرٍّ بها، فإن استغنت بزوجٍ فليس لها حق.

بعض الناس يكون له أولادٌ كثير من ذكور وإناث، وصغار وكبار، ويخشى أنه إن مات وتقاسم الورثة التركة ألا يبقى بيتٌ للصغار من أولاده يسكنون فيه، أو لبناته اللاتي ليس لهن أزواج، إما لكونهن مطلّقات أو أرامل أو لم يتزوجّن، فيوقف بيته على المحتاج من ذريّته لئلا يُباع البيت بعد وفاته، وإنما يبقى للمحتاج من ذريّته.

نقول: هذا لا بأس به، بل هو عملٌ طيب ومحمودٌ شرعًا، وحينئذ يكون هذا البيت للمحتاج من الذريّة، سواء كان من الذكور أو الإناث، يكون بطنًا بعد بطن، ومن أغناه الله ​​​​​​​ لا يُشارك المحتاج في السكنى في ذلك البيت.

ولكن هل يدخل أولاد البنات في الوقف على الذريّة؟

اختلف العلماء في هذه المسألة.

والقول الصحيح الذي عليه المحققون من أهل العلم أنهم يدخلون، وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

ويدل لذلك قول الله سبحانه: وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ [الأنعام:84] … إلى قوله: وَعِيسَى [الأنعام:85]، ومعلومٌ أن عيسى عليه السلام هو ابن ابنته، وقد جعله الله تعالى من ذريّته، فدل ذلك على أن أولاد البنات يدخلون في مسمى الذريّة.

ويدل لذلك أيضًا: أن الله تعالى لما ذكر قصة عيسى وإبراهيم وموسى في سورة مريم قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ [مريم:58] ومعلومٌ أن عيسى عليه السلام هو ابن بنتٍ.

وقال النبي  للحسن بن علي -وهو ابن ابنته فاطمة-: إن ابني هذا سيد [3]، فجعله ابنًا له، وبناءً على ذلك فمن وقّف وقفًا على المحتاج من ذريّته فيدخل في ذلك المحتاج من بنيه الذكور وأولادهم، والمحتاج من بناته وأولادهن.

وأما إذا كان أولاد الصُلْب غير محتاجين وأولاد الأولاد محتاجون، وهو قد وقّف هذا الوقف على المحتاج من ذريّته، فإن أولاد الأولاد هم الذين يستحقون الانتفاع بهذا الوقف دون الأولاد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “يستحق ولد الولد وإن لم يستحق أبوه شيئًا، ومن ظنَّ أن الوقف كالإرث فإن لم يكن والده أخذ شيئًا لم يأخذ هو، فلم يقله أحدٌ من الأئمة، ولهذا لو انتفت الشروط في الطبقة الأولى أو بعضها لم تُحرم الثانية مع وجود الشروط فيهم إجماعًا”.

حكم الفاضل من ريع الوقف

من أحكام الوقف: أنه إذا فضل شيءٌ من ريعه فإنه يُصرف فيما هو من جنسه؛ إذ أن ذلك أقرب إلى مقصود الواقف، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن الوقف إذا فَضُل من ريعه شيءٌ واستُغني عنه؟

فقال: “يُصرف في نظير تلك الجهة، كالمسجد إذا فَضُل عن مصالحه صُرِف في مسجدٍ آخر؛ لأن الواقف غرضه في الجنس والجنس واحد، فلو قُدِّر أن المسجد الأول خرِب ولم ينتفع به أحدٌ صُرِف ريعه في مسجدٍ آخر، فكذلك إذا فَضُل عن مصلحته شيءٌ فإن هذا الفاضل لا سبيل إلى صرفه إليه ولا إلى تعطيله، فصرْفه في جنس المقصود أولى وهو أقرب الطرُقِ إلى مقصود الواقف، وقد روى أحمد عن عليًا أنه حثّ الناس على إعطاء مُكاتَبٍ ففضُل شيءٌ عن حاجته فصرفه في المكاتبين”.

أبرز أوجه الفرق بين الوقف والوصية

ونختم الكلام عن مسائل الوقف وأحكامه بذكر أبرز أوجه الفرق بين الوقف والوصية؛ وذلك أن من الناس من لا يفرّق بين الوقف والوصية، فنجد أنه يقول: إنني قد سبّلت هذا الشيء وهو يريد أنه قد أوصى به.

فنقول: الوقف والوصية كلٌ منهما تبرعٌ يُراد به التقرُّب إلى الله ​​​​​​​، ويشتركان كذلك في أنه لا يجوز أن يُقصَد بهما حرمان الورثة أو بعضهم من الميراث، وأن كلًّا منهما يُراعى في تنفيذه شرط الموقِف والموصي إذا واقف شرطه الشرع.

ومن أبرز الفروق بينهما ما يأتي:

  • أولًا: أن الوقف يكون منجّزًا في الحياة، وأما الوصية فإنها تكون معلقةً بالموت.
  • ثانيًا: أن الوقف يجوز في أي مقدارٍ من المال، بل يجوز للإنسان أن يسبّل جميع ماله، إلا أن يكون ذلك في مرض موته فيكون حكمه حكم الوصية -كما سبق بيان ذلك في حلقة سابقة-، وأما الوصية فإنها لا يصح أن تكون في أكثر من الثلث.
  • ثالثًا: أن الوقف تحبيسٌ للأصل، وأما الوصية فإنها قد تكون لتمليك الموصى له الأصل.
  • رابعًا: أن الوقف لا يصح إلا بأصلٍ معلوم، وأما الوصية فإنها تصح بما سيوجد وبالمنافع والأعيان وإسقاط الديون.
  • خامسًا: أن الوقف لا يصح تغييره، بل إنه متى ما وقّف إنسانٌ وقفًا؛ خرجت العين الموقوفة من ملكه في الحال، بخلاف الوصية فإنها -كما سبق- معلَّقةٌ بموت الموصي، ولذلك فإن للموصي أن يغيَّر وأن يعدِّل فيها ما شاء.

هذا ما تيسر عرضه من أحكام الوقف، وأسأل الله ​​​​​​​ أن يوفقنا جميعًا للتزود بالأعمال الصالحات، والمسارعة للطاعات، وأن يهب لنا من لدنه رحمة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2587.
^2 رواه مسلم: 1718.
^3 رواه البخاري: 2704.
مواد ذات صلة