عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
حياكم الله تعالى في هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج، والتي سنتحدث فيها إن شاء الله تعالى عن شيءٍ من أحكام اللقطة، نذكر منها ما يتسع له وقت هذه الحلقة، ونستكمل الحديث عن بقية أحكامها في الحلقة القادمة إن شاء الله؛ فنبتدئ أولًا بتعريف اللقطة، فنقول:
تعريف اللقطة
“اللقَطة” بفتح اللام وفتح القاف، ويقال: “لُقاطة” بضم اللام، ويقال: “لَقَطة” بفتح اللام والقاف.
قال الخليل بن أحمد: “اللقَطة” بفتح القاف اسمٌ للملتقِط، قال: لأن ما جاء على “فُعَلة” فهو اسمٌ للفاعل، كالصُرعة.
قال: واللقْطة بسكون القاف: المال الملقوط، مثل: “الضُحْكة” أيْ الذي يُضحكُ منه، و”الهُزأة” أيْ الذي يُهزأ به.
كذا قال الخليل بن أحمد، ولكن بعض علماء اللغة كالأصمعي وابن الأعرابي والفرّاء قالوا: اللقَطة بفتح القاف هي اسمٌ للمال الملقوط أيضًا.
وأما معنى اللقطة في اصطلاح الفقهاء: فهو مالٌ أو مختصٌ ضلّ عن ربه.
فقولهم: “مالٌ” أيْ المراد ما يصح تملُّكه ويجوز بيعه.
وقولهم: “مختصٌ” المراد مالا يصح تملكه ولا يجوز بيعه ككلب الصيد مثلًا.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله في المغني: “الضالة اسمٌ للحيوان خاصة دون سائر اللقطة، والجمع ضوالّ، ويقال لها أيضًا الهوام والهوامل”.
والأصل فيها ما جاء في الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني قال: سُئل رسول الله عن لقطة الذهب والورِق، فقال: اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عرّفها سنة، فإن لم تُعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فادفعها إليه، قال: وسئل عن ضالة الإبل فقال: ما لك ولها، دعها فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربُّها، قال: وسئل عن ضالة الغنم فقال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب [1].
ومعنى قوله : اعرف وكاءها وعفاصها الوكاء: ما يُربط به الوعاء الذي تكون فيه النفقة، والعفاص: الوعاء الذي تكون فيه النفقة، والمراد معرفة صفاتها حتى إذا جاء صاحبها ووصفها وصفًا مطابقًا لتلك الصفات دُفِعت إليه، وإن اختلف وصفه لها عن الواقع لم تُدفع إليه.
وقوله في هذا الحديث عن ضالة الإبل: فإن معها حذاءها المراد بذلك خُفّها؛ لأنه لقوّته وصلابته يشبه الحذاء.
وقوله: وسقاءها المراد بطنها لأنها عندما تشرب الماء تشرب كثيرًا ويكفيها هذا الماء الذي تشربه مدة طويلة، ثم إن عندها صبرًا على العطش أكثر من غيرها من الحيوانات.
حالات المال الضال
وإذا ضلَّ مالٌ عن صاحبه فلا يخلو الأمر من ثلاث حالات:
- الحال الأولى: أن يكون هذا المال مما لا تتبعه همّة أوساط الناس، كالسوط، والرغيف، والعصا، والثمرة ونحو ذلك.
فهذا يجوز لملتقطه أن يأخذه من غير تعريف، ويدل لذلك حديث جابر قال: “رخّص رسول الله في العصا والسوط وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به” [2]، وهذا الحديث أخرجه أبو داود والبيهقي، وإن كان في سنده مقالٌ، إلا أنه مؤيَّدٌ بما جاء في الصحيحين عن أنس : “أن النبي مرّ بتمرة في الطريق فقال: لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها” [3]، فبيّن النبي في هذا الحديث أنه لولا أنه يخشى أن تكون تلك التمرة التي وجدها من الصدقة لأكلها، فما منعه من أكلها إلا خشية أن تكون من الصدقة؛ إذ أن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد .
فدل هذا الحديث: على أن الشيء اليسير كالتمرة ونحوها مما يجوز أخذه والتقاطه من غير تعريف، وضبطه الفقهاء بما لا تتبعه همّة أوساط الناس.
ولكن ما المراد بأوساط الناس؟ فإن من الناس من يكون غنيًّا، ولكنه شحيحٌ جدًا، لدرجة أن همّته تتبع الأشياء الحقيرة، ومن الناس من يكون فقيرًا ولا تلتفت همّته للأشياء الحقيرة.
قال أهل العلم: المراد بأوساط الناس أوساط الناس خُلُقًا.
- الحال الثانية: أن يكون مما يمتنع من صغار السباع، إما لضخامتها كالإبل والخيل والبقر، وإما لطيرانها كالطيور، وإما لسرعة عدوها كالضباء، وإما لدفعها عن نفسها بنابها كالفهود.. فهذا القسم بأنواعه يحرم التقاطه، ولا يملكه آخذه بتعريفه؛ لقول النبي لما سئل عن ضالة الإبل: ما لك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها [4]، وفي رواية عند مسلم: “أن النبي لما سئل عن ضالة الإبل، غضب حتى احمرّت وجنتاه أو احمرّ وجهه، ثم قال: ما لك ولها” [5]، وفي صحيح مسلم عن زيد بن خالد الجهني أن رسول الله قال: من آوى ضالةً فهو ضالٌ ما لم يعرّفها [6].
ويلحق بهذا القسم الآلات والأدوات الكبيرة، والمعدات الثقيلة، وبالجملة ما يحتفظ بنفسه ولا يُخشى عليه من الضياع، فيحرم أخذه والتقاطه كالإبل ونحوها، بل ربما تكون أولى.
- الحال الثالثة: أن يكون المال الضالُّ من سائر الأموال كالنقود والذهب والفضة والأمتعة وما لا يمتنع من صغار السباع كالأغنام ونحوها، فهذه يجوز التقاطها لمن يقصد تعريفها ثم تملُّكها بعد ذلك؛ لقول النبي لما سئل عن ضالة الغنم قال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب [7].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقًا على هذا الحديث: “فيه إشارةٌ إلى جواز أخذها، كأنه قال: هي ضعيفةٌ لعدم الاستقلال، معرّضةٌ للهلاك، مترددةٌ بين أن تأخذها أنت أو أخوك، والمراد به ما هو أعمُّ من صاحبها أو من ملتقطٍ آخر، وقوله: أو للذئب المراد به جنس ما يأكل الشاة من السباع، وفيه حثٌ له على أخذها؛ لأنه إذا علم أنه إن لم يأخذها بقيت للذئب؛ كان ذلك أدعى له على أخذها”.
العلماء متفقون على جواز التقاط هذا النوع من الضوال، ولكن هل الأفضل الالتقاط؛ لأن فيه حفظًا لمال أخيه المسلم، أو أن الأفضل ترك الالتقاط لكونه أسلم وأبرأ للذمة؟ ثم إذا التقط شاةً ونحوها مما يحتاج إلى نفقة، فلو بقيت عنده سنة من أجل تعريفها فربما يؤول الأمر إلى أن يكون مقدار النفقة عليها أكثر من قيمتها، فلو كانت قيمة الشاة مثلًا أربعمائة ريال ويشتري لها كل يوم علفًا بريالين، فمعنى ذلك أنه سينفق عليها في السنة أكثر من قيمتها، فكيف يجاب عن هذا الإشكال؟
هذا ما سنتكلم عنه في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
نلتقي بكم على خير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.