عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
كنا قد تكلمنا في الحلقة السابقة عن جملة من أحكام الجعالة، ونستكمل في هذه الحلقة الحديث عن بقية أحكامها، فنقول وبالله التوفيق:
صور للجعالة في الوقت الحاضر
المسابقات الثقافية التي توضع لها أسئلة وترصد جوائز
من صور الجعالة في الوقت الحاضر: المسابقات الثقافية التي توضع لها أسئلة وترصد جوائز لأفضل المتسابقين، فهذا يُعتبر من قبيل الجعالة، ولا بأس به بشرط ألا يبذل المتسابقون أي عوضٍ مادي للدخول في تلك المسابقة، فإن شُرِط للدخول في المسابقة بذل عوضٍ لم يجز ذلك لدخوله في الميسر، ولو كان ذلك العوض يسيرًا كشراء قسيمة المسابقة ونحو ذلك.
عمليات التنقيب عن المياه والبترول والمعادن
ومن صور الجعالة أيضًا: عمليات التنقيب عن المياه والبترول والمعادن، فيقال للشركات المتخصصة في عمليات التنقيب: إن وجد شيئًا من ذلك فلها كذا من المال، أو من ذلك الشيء الذي عثرت عليه.
عقد الوساطة التجارية في بعض صوره
ومن ذلك أيضًا: عقد الوساطة التجارية في بعض صوره، كأن يأتي شخصٌ لآخر ويقول له: إن بعت لي هذه السلعة فلك كذا من المال.
عمليات تحصيل الديون المشكوك فيها
ومن ذلك أيضًا: عمليات تحصيل الديون المشكوك فيها، كأن يأتي شخصٌ لآخر ويقول له: إن حصّلت ديوني فلك كذا من المال، أو يجعل له نسبة مشاعة من تلك الديون كأن يقول: فلك ربعها مثلًا.
ومن صور الجعالة أيضًا: ما تُعلن عنه بعض الجهات الأمنية من رصد جوائز لمن يتعاون معها في الإخبار عن المجرمين، كمروِّجي المخدرات ونحوهم.
حكم فسخ عقد الجعالة
الجعالة عقدٌ جائزٌ لكلٍ من الطرفين فسخها متى ما شاء؛ ولو بغير رضا الطرف الآخر.
فإن كان الفسخ من جهة العامل فإنه لا يستحق شيئًا؛ لأنه أسقط حق نفسه حيث لم يأتِ بما شُرِط عليه العوض.
أما إن كان الفسخ من جهة الجاعل، فإن كان الفسخ قبل الشروع في العمل فلا شيء عليه، وإن كان بعد الشروع في العمل فعليه للعامل أجرة عمله.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “لا نعلم في ذلك خلافًا”.
ونوضح هذا بالمثال: قال رجلٌ من الناس: من بنى لي هذا الحائط فله كذا من المال، فهذا يُعتبر جعالة، فلو أن الجاعِل فسخ العقد قبل أن يشرع العامل في بنائه فلا شيء عليه، أما إن فسخ العقد بعدما شرع العامل في البناء فإن العامل يستحق أجرة المثل.
ومن أحكام الجعالة: أن العوض في الجعالة إذا كان مجهولًا فإن المجعول له الذي يسميه بعض الفقهاء بالعامل يستحق أجرة المثل في ذلك.
ونوضح هذا بالمثال: قال رجلٌ من الناس: من عثر على محفظتي التي ضاعت فله جائزة، لكنه لم يبيّن مقدار هذه الجائزة، فلو اختلف الجاعِل والمجعول له في مقدار الجائزة، فإنها تُقدَّر بأجرة المثل، ولكن ما الحكم فيما لو كان الجاعل قد بيّن مقدار الجُعْل، واختلف مع المجعول له فيه؟
ففي مثالنا السابق: لو أن الجاعل ادّعى أنه قال: من عثر على محفظتي فله خمسون ريالاً، فعثر عليها رجلٌ من الناس وادّعى أن الجاعل قال: فله مائة ريال، فما الحكم في هذا؟
نقول: إن كان لأحدهما بيّنةٌ فالقول قول صاحب البيّنة، أما إن لم توجد بيّنةٌ لأحدهما فالقول قول الجاعل في قول كثيرٍ من الفقهاء؛ لأن الجاعل منكرٌ للزيادة التي يدّعيها المجعول له، والأصل براءة ذمته.
قال الفقهاء: ومن رد لقطة أو ضالة أو عمل لغيره عملًا بغير جعل ولا إذنٍ، لم يستحق عليه عوضًا؛ لأنه عملٌ يُستحق به العوض مع المعاوضة فلا يُستحق مع عدمها، ولأننا لو قلنا إنه يستحق على ذلك العمل الذي عمله من غير جُعْلٍ ولا إذنٍ، لو قلنا إنه يستحق عليه عوضًا لألزمنا الإنسان ما لم يلتزمه ولم تطب نفسه به.
مثال ذلك: رجلٌ وجد محفظة في الطريق فاتصل بصاحبها وأوصلها إليه، ثم إنه طالب صاحب المحفظة بمالٍ نظير عثوره على تلك المحفظة وإيصالها إليه، فهل له حق المطالبة بذلك؟
نقول: ليس له ذلك، ما دام أن صاحب المحفظة لم يجعل جُعْلًا لمن عثر عليها، ولكن إن تبرع له صاحب المحفظة بشيءٍ فهذا من مكارم الأخلاق.
وقد استثنى الفقهاء من هذا الحكم مسألتين:
- المسألة الأولى: ردُّ العبد الآبق أي الهارب، سواء ردّه من داخل البلد أو من خارجه، فيستحق عليه دينارًا أو اثني عشر درهمًا.
وقد روي في ذلك حديثٌ عن النبي أورده البيهقي في السنن الكبرى عن ابن أبي مليكة وعمرو بن دينار: “أن النبي جعل ردّ الآبق إذا جاء به خارجًا من الحرم دينارًا” [1].
وهذا الحديث ضعيفٌ من جهة الإسناد، ولكنه مرويٌّ عن عدد من الصحابة، فقد روي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنهم.
قال الموفق ابن قدامة: “هو قول من سمّينا من الصحابة ولم نعرف لهم في زمنهم مخالفًا؛ فكان إجماعًا”.
- المسألة الثانية: تخليص متاع غيره من هلكة كغرق أو حرقٍ ونحو ذلك، كأن يجد شخصٌ بيتًا يحترق فقام بتخليص الأمتعة والحوائج من ذلك البيت، فإنه يستحق على ذلك أجرة المثل حتى وإن لم يأذن له صاحب البيت بذلك؛ لأن في هذا حثًا وترغيبًا في إنقاذ الأموال من الهلكة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “من استنقذ مال غيره من المهلكة وردّه استحق أجرة المثل ولو بغير شرط في أصح القولين، وهو منصوص أحمد وغيره”.
الجُعْل من أجل الشفاعة
ونختم هذه الحلقة بالتنبيه على مسألة مهمة ربما تخفى على بعض الناس، وهي: أن من الناس من يجعل جُعلًا لمن يشفع له عند أحدٍ من الناس، فنقول: إنه لا يجوز أخذ مالٍ مقابل الشفاعة مطلقًا، سواء اعتُبِر ذلك جعالة، أو هدية، أو أجرة، أو غير ذلك.
قال المرداوي رحمه الله في كتابه الإنصاف: “لا يجوز إعطاء الهدية لمن يشفع عند السلطان ونحوه. ذكره القاضي وأومأ إليه -أيْ الإمام أحمد-؛ لأنها كالأجرة، والشفاعة من المصالح العامة فلا يجوز أخذ الأجرة عليها..
قال: وفيه حديثٌ صريحٌ في السنن من شفع لأخيه شفاعة، فأهدى له هدية فقبلها، فقد أتى بابًا عظيمًا من أبواب الربا [2]”.
وهذا الحديث الذي أشار إليه صاحب “الإنصاف” قد أخرجه أبو داود وأحمد، وقد حسّن إسناده بعض أهل العلم.
هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة؛ نكتفي بهذا القدر، ونلتقي بكم على خير في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.