logo
الرئيسية/برامج إذاعية/فقه المعاملات/(71) أحكام اللقطة- حالات المال الضال

(71) أحكام اللقطة- حالات المال الضال

مشاهدة من الموقع

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

كنا قد ابتدأنا الحديث في الحلقة السابقة عن أحكام اللقطة، وذكرنا أن المال إذا ضلّ عن صاحبه فلا يخلو الأمر من ثلاث حالات:

حالات المال الضال

  • الأولى: أن يكون من الأشياء اليسيرة التي لا تتبعها همّة أوساط الناس، فهذا يجوز أخذه من غير تعريف.
  • الثانية: أن يكون مما يمتنع من السباع بنفسه كالإبل ونحوها، فهذا النوع يحرم التقاطه.
  • الثالثة: أن يكون من سائر الأموال كالأغنام والأمتعة والنقود ونحوها، فهذا يجوز التقاطه لمن يقصد تعريفه، ثم تملّكه بعد ذلك إن لم يجئ صاحبه.

وطرحنا في نهاية الحلقة السابقة تساؤلين:

  • الأول: هل الأفضل التقاط هذا النوع من الأموال، أو أن الأفضل ترك التقاطه؟
  • الثاني: إذا كان الملتقط حيوانًا يحتاج إلى نفقة كشاة مثلًا، فإن الإنفاق عليه بإعلافه وسقيه خلال سنة التعريف ربما يفوق قيمة الحيوان نفسه.

هل الأفضل التقاط سائر الأموال كالأغنام والأمتعة والنقود

ونبدأ أولًا بالإجابة عن التساؤل الأول وهو: هل الأفضل التقاط هذا النوع من الأموال، أو أن الأفضل ترك التقاطه؟

مثلاً: رجلٌ وجد كيسًا به نقود هل الأفضل في حقه التقاطه أو ترك التقاطه؟

نقول:

أولًا: إذا لم يأمن الملتقط نفسه عليها -أيْ على اللقطة- فليس له أخذها؛ أما إن أمن نفسه عليها؛ فقد اختلف العلماء في حكم التقاطها، مع اتفاقهم على جوازه.

  • فمنهم من ذهب إلى أن الأفضل ترك الالتقاط، وهو مرويٌ عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، وهو المنصوص عليه من مذهب الحنابلة، وهو من مفردات المذهب كما قال صاحب الإنصاف؛ ووجه هذا القول: أن الآخذ للقطة يعرِّضُ نفسه لأكل الحرام، ويعرِّض نفسه لتضييع واجب التعريف وأداء الأمانة فيها، فكان تركها أسلم وأبرأ للذمة.
  • وذهب بعض العلماء إلى أن الأفضل أخذ اللقطة وتعريفها، وهو مذهب الحنفية والشافعية، واستدلوا بقول الله ​​​​​​​: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، وبقول الله سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، ومن مقتضى الولاية والأخوّة أن يحفظ المؤمن مال أخيه المؤمن عندما يجده ضالًّا فيأخذه ويعرّفه.
  • وذهب بعض أهل العلم إلى التفصيل في المسألة، فقالوا: إن كان هذا الشيء يُخشى ضياعه لو لم يُلتقط فإن الأفضل الالتقاط، كأن يجد شاة في البريّة ويخشى عليها إن لم يلتقطها أن تأكلها السباع، فإن الأفضل الالتقاط في هذه الحال؛ لأن فيه حفظًا لمال أخيه المسلم، أما إن كان لا يخشى عليه الضياع لو لم يُلتقط؛ فإن الأفضل ترك الالتقاط؛ لأن في الترك حينئذ إبراءً للذمة.

ولعل هذا القول الأخير هو الأقرب في هذه المسألة، والله تعالى أعلم.

قال المرداوي في الإنصاف: “وعند أبي الخطاب إن وجدها بمضيعةٍ فالأفضل أخذها، قال الحارثي: وهذا أظهر الأقوال، قلت -والقائل هو صاحب الإنصاف-: هو الصواب”.

إذا كان الملتقط حيوانًا يحتاج إلى نفقة كشاة مثلًا

وأما التساؤل الثاني وهو: أن الملتقط إذا وجد حيوانًا كشاة ونحوها مما يحتاج إلى نفقة، فإن الإنفاق على هذا الحيوان بإعلافه وسقيه ربما يفوق قيمته، فهذا صحيحٌ، ولذلك لو افترضنا أن قيمة الشاة خمسمائة ريال مثلًا، وجعل ملتقطها يشتري لها كل يومٍ علفًا بريالين، فإنه سينفق عليها خلال العام أكثر من قيمتها، ومن هنا فقد ذهب كثيرٌ من المحققين من أهل العلم إلى أن الملتقط في هذه الحال يخيَّر بين ثلاثة أمور:

  • الأول: أكلها في الحال، وعليه قيمتها.
  • الثاني: تركها والإنفاق عليها من ماله وتعليفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا كانت له.
  • الثالث: بيعها وحفظ ثمنها لصاحبها.

قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “وجملة ذلك أن ملتقط الشاة وما كان مثلها مما يباح أكله يتخيَّر ملتقطها بين ثلاثة أشياء:

  • أحدها: أكلها في الحال، وبه قال مالكٌ، وأبو حنيفة، والشافعي، وغيرهم، قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن ضالّة الغنم في الموضع المخوف عليها له أكلها؛ لقول النبي : هي لك أو لأخيك أو للذئب [1]، فجعلها له في الحال، وسوّى بينه وبين الذئب، والذئب لا يؤخِّر أكلها؛ ولأن في أكلها إغناءً عن الإنفاق عليها، وحراسةً لماليتها على صاحبها إذا جاء؛ فإنه يأخذ قيمتها بكمالها، وفي إبقائها تضييعٌ للمال بالإنفاق عليها والغرامة في علْفها فكان أكلها أولى، وإذا أراد أكلها حفظ صفتها، فمتى جاء صاحبها غرمها له في قول عامة أهل العلم.
  • الثاني: تركها والإنفاق عليها من ماله، ولا يتملّكها، فإن تركها ولم يُنفق عليها ضمنها؛ لأنه فرّط فيها، وإن أنفق عليها متبرِّعًا لم يرجع على صاحبها، فإن أنفق بنية الرجوع على صاحبها وأشهد على ذلك رجع عليه بما أنفق في إحدى الروايتين عن أحمد.
  • الثالث: بيعها وحفظ ثمنها لصاحبها..

قال رحمه الله: ويجب تعريفها في هذه المواضع؛ لأنها لُقطةٌ لها خطر، وإنما ترك النبي  ذكر تعريفها في قوله: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب [2]؛ لأنه ذكرها بعد بيان التعريف فيما سواها، فاستغنى بذلك عن ذكره فيها، ولا يلزم من جواز التصرُّف فيها في الحول سقوط تعريفها كالمطعوم، وإذا أراد بيعها أو أكلها لزمه حفظ صفاتها”.

وقد أثنى ابن القيم رحمة الله تعالى عليه على اختيار الموفق ابن قدامة لهذا القول، وهو التخيير بين هذه الأمور الثلاثة فقال: لقد أحسن الموفق في اختيار التخيير كل الإحسان..

قال رحمه الله: “وهذا القول -أيْ التخيير بين هذه الأمور الثلاثة- أفقه وأقرب إلى مصلحة الملتقط والمالك؛ إذ قد يكون تعريفها سنة مستلزمًا لتغريم مالكها أضعاف قيمتها إن قلنا: يرجع عليه بنفقتها، وإن قلنا: لا يرجع، استلزم تغريم الملتقط ذلك، وإن قيل: يدعها ولا يلتقطها كانت للذئب وتلفت، والشارع لا يأمر بضياع المال..

قال رحمه الله: وأين في الدليل الشرعي المنع من التصرُّف في الشاة الملتقطة في المفازة وفي السفر بالبيع والأكل، وإيجاب تعريفها والإنفاق عليها سنة، مع الرجوع بالإنفاق أو مع عدمه، هذا ما لا تأتي به شريعةٌ فضلًا عن أن يقوم عليه دليل”.

والحاصل أيها الإخوة: أن من وجد شاة ونحوها مما يحتاج إلى الإنفاق عليه فإنه يختار الأصلح من بيعها وحفظ ثمنها، أو أكلها في الحال مع ضمان قيمتها، أو حفظها لصاحبها مع الإنفاق عليها والرجوع على صاحبها بما أنفق، مع تعريفها لمدة سنة في هذه الأحوال الثلاثة.

وسنتكلم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى عن كيفية هذا التعريف.

نستودعكم الله تعالى.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحاشية السفلية

الحاشية السفلية
^1 رواه البخاري: 2372، ومسلم: 1722.
^2 سبق تخريجه.
مواد ذات صلة
zh