عناصر المادة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
لا يزال الحديث موصولًا عن أحكام اللقطة، وكانت آخر مسألة توقفنا عندها في الحلقة السابقة تعريف اللقطة، ووعدنا بأن نبدأ بها هذه الحلقة، فنقول:
حكم التعريف باللقطة
يجب التعريف على كل ملتقطٍ، سواء أراد تملُّكها، أو أراد حفظها لصاحبها، إلا في الشيء اليسير الذي لا تتبعه همّة أوساط الناس:
- لقول النبي لما سئل عن اللقطة: عرّفها سنة، ثم اعرف عفاصها ووكائها، فإن جاء أحدٌ يخبرك بها وإلا فاستنفقها [1].
- ولأن إمساكها من غير تعريف تضييعٌ لها عن صاحبها فلم يجز.
- ولأنه لو لم يجب التعريف لما جاز الالتقاط.
- ولأن بقاءها في مكانها إذًا أقرب إلى وصولها إلى صاحبها، إما بأن يطلبها في الموضع الذي ضاعت منه فيه فيجدها، وإما بأن يأخذها من يعرّفها، فلما جاز الالتقاط لزم التعريف.
مدة التعريف ومكانه
وأما مدة التعريف، فهي سنةٌ كما جاءت بذلك الأحاديث عن النبي .
وأما مكان التعريف، فيكون في مجامع الناس كالأسواق وأبواب المساجد ونحو ذلك.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “قال العلماء: محل ذلك المحافل كأبواب المساجد والأسواق ونحو ذلك، يقول: من ضاعت له نفقة أو نحو ذلك من العبارات، ولا يذكر شيئًا من الصفات”.
وأقول: في الوقت الحاضر يمكن أن يكون التعريف عن طريق الصحف ونحو ذلك من الوسائل الإعلامية؛ لأن المقصود من التعريف إخبار أكبر قدرٍ ممكن من الناس بتلك اللقطة، لعل صاحبها أن يكون منهم ويصل إليها، ووسائل الإخبار والإعلام تؤدي هذا الغرض.
قال بعض الفقهاء: يعرّفها أول أسبوع كل يوم، ثم يعرّفها كل أسبوع لمدة شهر، ثم يعرّفها في الشهر مرة واحدة.
ولكن هذا القول ليس عليه دليلٌ ظاهر، والصواب هو أن ذلك راجعٌ إلى العُرْف، فما عدّه الناس في عرفهم وعادتهم تعريفًا حصل التعريف به؛ لأن الشارع أطلق التعريف ولم يحدّه بشيء معيّن، فيُرجع في تحديده إلى العُرْف.
وقد صوّب هذا القول المرداوي في الإنصاف رحمه الله تعالى.
حكم التعريف باللقطة داخل المسجد
ويحسن التنبيه هنا إلى أن التعريف لا يجوز أن يكون داخل المساجد، ففي صحيح مسلم عن بريدة : “أن رجلًا نشد في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر؟ فقال النبي : لا وجدت؛ إنما بُنيت المساجد لما بُنيت له” [2].
وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالّةً فقولوا: لا ردّ الله عليك [3]، أخرجه الترمذي.
ففي هذين الحديثين نهى النبي عن البيع والشراء، وعن نشدان الضالة داخل المسجد.
وعلّل ذلك بأن المساجد إنما بُنيت لما بُنيت له من إقام الصلوات وذكر اسم الله تعالى، ولم تُبن المساجد لأن يباع وأن يُشترى فيها، وأن تُنشد فيها الضالة.
وفي معنى نشدان الضالة التعريف من الملتقط عنها، وبهذا يُعلم خطأ بعض الناس عندما يفقد شيئًا ثم يأتي ويسأل الناس عنه داخل المسجد، أو عندما يعثر بعض الناس على شيءٍ، يأتي لإمام المسجد ويطلب منه الإعلان عنه داخل المسجد، فإن هذا كله في معنى نشدان الضالة الذي نهى النبي عن أن يكون داخل المسجد، بل أمر بالدعاء على من فعل ذلك بألا يردّ الله عليه ضالّته.
والمخرج في مثل هذا: أن من فقد شيئًا يقف عند باب المسجد من الخارج ويسأل الناس عنه، وكذلك عندما يُعثر على شيء يُكتب ورقة تُعلَّق خارج المسجد، يُعلن فيها عن ذلك الشيء الذي قد عُثِر عليه.
كيفية التعريف باللقطة ومتى تُدفع لطالبها؟
وأما كيفية التعريف فقد قال الموفق رحمه الله في بيانه: “يذكر -أيْ المعرِّف- جنسها لا غير، فيقول: من ضاع منه ذهبٌ، أو فضةٌ، أو دراهم، أو دنانير، أو ثياب ونحو ذلك؛ لقول عمر لواجد الذهب: قل: الذهب بطريق الشام.. الذهب بطريق الشام.
ولا يصفها؛ لأنه لو وصفها لعلم صفتها من يسمعها، فلا تبقى صفتها دليلًا على ملكها لمشاركة من يسمعه للمالك في ذلك؛ ولأنه لا يأمن من أن يدّعيها من سمع صفتها، ويذكر صفتها التي يجب دفعها بها فيأخذها فتفوت على مالكها.
ومتى جاء طالب اللقطة فوصفها لزم دفعها إليه بلا بيّنة، حتى وإن لم يغلب على ظنه صدقه؛ لقول النبي في حديث زيد بن خالد: اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عرّفها سنة فإن لم تُعْرَف فاستنفقها، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدّها إليه [4]، أيْ: إذا ذكر صفاتها؛ لأن ذلك هو المذكور في صدر الحديث.
ولم يذكر النبي البيّنة، ولو كانت شرطًا للدفع لذكرها عليه الصلاة والسلام؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ ولأن إقامة البيّنة على اللقطة يكاد يكون متعذرًا؛ لأنها إنما تسقط حال الغفلة، على أن من العلماء من اعتبر الوصف -وصفًا مطابقًا للواقع- بيّنة في حقيقة الأمر؛ لأن البيّنة في لسان الشارع: اسمٌ لكل ما أبان الحق، وحينئذ فيكون وصف اللقطة وصفًا مطابقًا للواقع هو في حقيقة الأمر بيّنة.
وقد أشار الموفق ابن قدامة رحمه الله إلى هذا المعنى فقال: “جعل النبي بيّنة مدّعِ اللقطة وصْفَها، فإذا وصَفَها فقد أقام بيّنته”.
وبكل حال متى جاء طالب اللقطة ووصفها وصفًا مطابقًا للواقع وجب دفعها إليه، سواء اعتبرنا ذلك الوصف بيّنة أو لم نعتبره، وقلنا: إنها تُدفع إليه بموجب ذلك الوصف من غير بيّنة.
متى يجوز التصرف في اللقطة؟ وحكم الإشهاد عليها
أما إن عرّفها سنة ولم تُعرّف تملّكها ملتقطها، ولكن لا يجوز له التصرُّف فيها حتى يعرف وعاءها ووكاءها، وقدرها وجنسها وصفتها.
والأفضل أن تكون معرفة صفاتها من حين التقاطها، ويجب عليه ذلك عندما يريد التصرُّف فيها بعد التعريف؛ لأن عينها تنعدم بالتصرُّف فلا يبقى له سبيلٌ إلى معرفة صفاتها إذا جاء طالبها.
قال العلماء: ويُستحب أن يكتب صفاتها؛ ليكون أثبت له مخافة أن ينساها إن اقتصر على حفظها بقلبه.
قالوا: ويُستحب له أن يشهد عليها حين يجدها.
قال الإمام أحمد رحمه الله: “لا أحب أن يمسها حتى يُشهد عليها”.
وفائدة الإشهاد: صيانة نفسه من الطمع فيها، وحفظها من ورثته إن مات، ومن غرمائه إن أفلس.
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، ونلتقي بكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى على خير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.