عناصر المادة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
نتحدث معكم في هذه الحلقة عن مسائل من أحكام الإجارة.
فنقول: إن هذا العقد -أعني الإجارة- يتكرر في حياة الناس وفي تعاملاتهم اليومية والشهرية والسنوية، وهو جديرٌ بالتعرُّف على أحكامه؛ إذ أنه ما من تعاملٌ يجري بين الناس إلا وهو محكومٌ بشريعة الإسلام وفق ضوابط شرعية ترعى المصالح وترفع المضار.
تعريف الإجارة
الإجارة: مشتقةٌ من الأجر، وهو العوض، ومنه قول الله تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام: قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [الكهف:77]، ومنه سُمّي الثواب أجرًا.
ومعنى الإجارة في اصطلاح الفقهاء: عقدٌ على منفعة مباحة من عينٍ معيّنة أو موصوفة في الذمة مدّة معلومة، أو على عملٍ معلومٍ بعوض معلوم.
وهذا التعريف يشتمل على غالب شروط صحة الإجارة، فقولهم في التعريف: “عقدٌ على منفعة” يخرج به العقد على العين؛ فلا يسمى إجارة، وإنما يسمى بيعًا.
وقولهم: “مباحة” يخرج به العقد على المنفعة المحرّمة.
وقولهم: “معلومة” يخرج به المنفعة المجهولة؛ فلا يصح العقد عليها.
وقولهم: “من عينٍ معيّنةٍ أو موصوفة في الذمة أو عملٍ معلوم” يؤخذ منه أن الإجارة على نوعين:
- الأول: أن تكون الإجارة على منفعة عينٍ معيّنة، أو عينٍ موصوفة في الذمة.
مثال العين المعيّنة أن يقول: آجرتك هذه الدار، ومثال الموصوفة أن يقول: آجرتك سيارة صفتها كذا ومن نوع كذا مثلًا. - الثاني: أن تكون الإجارة على أداء عملٍ معلوم، كأن يستأجر سيارة أجرة بحمله إلى مكانٍ معيّن.
وقولهم: “مدة معلومة” أيْ يُشترط في النوع الأول -وهو الإجارة على المنفعة- أن تكون هذه الإجارة لمدةٍ محدودة، كيوم أو شهر أو سنة مثلاً، فلا بد أن تكون المدة معلومة.
وقولهم: “بعوضٍ معلوم” أيْ لا بد أن يكون مقدار الإجارة معلومًا.
شروط صحة الإجارة
وبهذا يتضح أن مجمل شروط الإجارة بنوعيها:
- أن يكون عقد الإجارة على المنفعة لا على العين.
- وأن تكون المنفعة مباحة.
- وأن تكون معلومة.
- وإذا كانت الإجارة على غير معيّنة فلا بد أن تكون مما ينضبط بالوصف.
- وأن تكون مدة الإجارة معلومة.
- وأن يكون العِوض في الإجارة معلومًا.
الإجارة من العقود اللازمة
الإجارة من العقود اللازمة، ومعنى ذلك أن الإجارة إذا انعقدت بالإيجاب والقبول أو بما يدل عليها عرفًا وحصل التفرّق من مكان التأجير فليس للمؤجِّر ولا للمستأجر الفسخ إلا برضا الطرف الآخر، وذلك أنها بيع منافع في الحقيقة.
والعقود منها ما هو لازمٌ كالبيع والإجارة، فليس لأحدهما الفسخ إلا برضا الطرف الآخر.
ومنها ما هو جائزٌ كالوكالة، فلكلٍ من الوكيل والموكِّل فسخ الوكالة متى ما شاء، ولو بغير رضا الطرف الآخر.
ومنها ما هو جائزٌ من وجه لازمٌ من وجهٍ آخر كالرهن؛ فإنه لازمٌ من جهة من عليه الحق وهو الراهن، وجائزٌ من جهة من له الحق وهو المرتهن.
فالإجارة إذًا من العقود اللازمة، ولذلك فإنه ليس للمؤجِّر ولا للمستأجر أن يفسخ عقد الإجارة إلا برضا الطرف الآخر.
حكم العربون في الإجارة
يصح العربون في الإجارة، ومعنى العربون هنا: دفع جزءٍ من ثمن الأجرة إلى المؤجِّر، على أنه إن تمّ عقد الإجارة فهو من الأجرة، وإلا فإنه يكون للمؤجِّر.
وقد اختلف العلماء في حكمه، والصحيح -إن شاء الله- أنه لا بأس به، سواء كان ذلك في البيع أو كان في الإجارة، وهو مرويٌ عن عمر بن الخطاب ، قال البخاري في صحيحه: اشترى نافع بن عبدالحارث دارًا للسجن بمكة من صفوان بن أمية على أنه إن رضي عمر فالبيع بيعه، وإن لم يرض فلصفوان أربعمائة دينار [1].
وسئل الإمام أحمد عن بيع العربون؟ فقال: “أيُّ شيءٍ أقول.. هذا عمر!”.
والعربون يكون في البيع ويكون كذلك في الإجارة، وذلك بأن يدفع المستأجر مبلغًا من المال على أنه إن تم عقد الإيجار فهو من الأجرة، وإلا فهو من المالك فلا بأس بذلك.
ولكن يحسن التنبيه هنا إلى أن العربون في حالة عدم إتمام عقد الإجارة أنه من حق المالك للعين المراد تأجيرها.
وأما الوسيط كالمكتب العقاري مثلًا فليس له أن يأخذ العربون إلا برضا المالك، وإنما يأخذ مقابل تعبه فقط، أما العربون فإنه يكون من نصيب المالك في حالة عدم إتمام عقد الإجارة، أما إن تمّ عقد الإجارة فإنه يكون جزءًا من الأجرة.
أحكام ومسائل الإجارة
من أحكام الإجارة: أنه لا يجوز أن تكون في أمور محرّمة، فلا يجوز تأجير الدور والدكاكين والمحلات للمعاصي كبيع المواد المحرّمة، ونحو ذلك.
ومن أحكامها أيضًا: أنه يجوز للمستأجر أن يؤجِّر ما استأجره لآخر يقوم مقامه لاستيفاء المنفعة؛ وذلك لأنها مملوكةٌ له، فجاز له أن يستوفيها بنفسه وبنائبه.
ولكن بشرط: أن يكون المستأجر الثاني مثل المستأجر الأول في استيفاء المنفعة أو دونه، لا أكثر منه ضررًا، كما لو استأجر دارًا للسكن فيجوز له أن يؤجِّرها لغيره ليسكن في تلك الدار، ولا يجوز أن يؤجّرها لمن يجعل فيها مصنعًا أو معملًا، أو يجعل فيها ورشة ونحو ذلك.
حكم أخذ الأجرة على أعمال العبادة والقُرَب
ومما يذكره الفقهاء في هذا الباب: أخْذ الأجرة على أعمال العبادة والقرَب.
فينصُّ كثيرٌ من الفقهاء على أن ذلك لا يجوز، فلا يجوز أخذ الأجرة على أعمال القُرَبِ والعبادات؛ كإمامة المسجد، وكالأذان، ونحو ذلك من الوظائف الدينية؛ لأن هذه الأعمال يُتقرَّبُ بها إلى الله ، وأخذ الأجرة عليها يخرجها عن ذلك.
ولكن ذكر أهل العلم أنه يجوز أخذ الرزق من بيت المال على الأعمال التي يتعدى نفعها، كإمامة المساجد والأذان، وتعليم القرآن، والقضاء والفتيا ونحو ذلك، فهذه لا يجوز أخذ أجرةٍ عليها، ولكن يجوز أن يؤخذ عليها رزقًا من بيت المال؛ لأن ذلك ليس بمعاوضة وإنما هو إعانةٌ على الطاعة، ولا يخرجه ذلك عن كونه قربة، ولا يخلُّ بالإخلاص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “الفقهاء متفقون على الفرق بين الاستئجار على القُرَب وبين رزق أهلها، فرزق المقاتِلة والقضاة والمؤذنين والأئمة جائزٌ بلا نزاع، وأما الاستئجار فلا يجوز عند أكثرهم..
وقال أيضًا: وما يؤخذ من بيت المال فليس عِوضًا وأجرة، بل رزقًا للإعانة على الطاعة، فمن عمل منهم لله أثيب، وما يأخذه رزقٌ للإعانة على الطاعة”.
نستكمل الحديث عن بقية أحكام ومسائل الإجارة في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
فإلى ذلك الحين أستودعكم الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | صحيح البخاري: 3/ 123. |
---|