عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حياكم الله تعالى في هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج.
أيها الإخوة كنا قد تكلمنا في الحلقة السابقة عن جُملة من أحكام ومسائل الحجر، وكنا قد ذكرنا أن الحجر ينقسم إلى قسمين:
- حجرٌ على الإنسان لأجل حظّ غيره.
- حجرٌ على الإنسان لأجل مصلحته هو.
تتمة أحكام الحجر على المفلس
وذكرنا أن من أبرز صور الحجر على الإنسان لأجل حظ غيره: الحجر على المفلس، وتكلمنا عن جملة من أحكام الحجر على المفلس، ونستكمل الحديث عنها في هذه الحلقة.
أدلة مشروعية الحجر على المفلس
فنقول وبالله التوفيق: الحجر على المفلس قد وردت به السنة، فقد حجر النبي على معاذ، وباع ماله في دينه، وقد روي ذلك من طرقٍ متعددة يشد بعضها بعضًا.
وروى مالك في الموطأ أن رجلًا من جهينة كان يسبق الحاج فيشتري الرواحل فيغلي بها، ثم يسرع السير فيسبق الحاج، فأفلس فرُفِع أمره إلى عمر بن الخطاب ، فقال عمر: “أما بعد، أيها الناس، فإن الأسيفع أسيفع جهينة قد رضي من دينه وأمانته بأن يقال: سبق الحاج، ألا وإنه قد ادّان معرضًا فأصبح قد دين به، فمن كان له عليه دينٌ فليأتنا بالغداة، نقسم ماله بين غرمائه، وإياكم والدين، فإن أوله همٌّ وآخره حرب”.
الأحكام المتعلقة بالحجر على المفلس
ويتعلق بالحجر على المفلس جملةٌ من الأحكام، منها:
- الحكم الأول: أنه يتعلق حق الغرماء بماله الموجود قبل الحجر، وبماله الحادث بعد الحجر، فلا ينفذ تصرّف المحجور عليه في ماله بعد الحجر بأي نوع من أنواع التصرّف، ولا يصح إقراره بشيء من ماله لأحد من الناس؛ وذلك لأن حقوق الغرماء متعلقة بأعيانه، فلم يُقبل الإقرار عليه، بل ليس له التصرّف في ماله قبل الحجر عليه تصرفًا يضر بغرمائه.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “إذا استغرقت الديون ماله لم يصح تبرّعه بما يضر بأرباب الديون، سواء حجر عليه الحاكم، أو لم يحجر عليه، وهذا هو مذهب مالك، واختيار شيخنا -يريد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع-، قال: وهو الصحيح، وهو الذي لا يليق بأصول المذهب غيره، بل هو مقتضى أصول الشرع وقواعده؛ لأن حق الغرماء قد تعلق بماله؛ ولهذا يحجر عليه الحاكم، ولولا تعلّق حق الغرماء بماله لم يسع الحاكم الحجر عليه، فصار كالمريض مرض الموت، وفي تمكين هذا المدين من التبرع إبطال حقوق الغرماء، والشريعة لا تأتي بمثل هذا، فإنها إنما جاءت بحفظ حقوق أرباب الحقوق بكل طريق، وسد الطريق المفضية إلى إضاعتها”.
وبهذا يتبيّن أن من كان عليه دينٌ وماله أقل من دينه، فليس له أن يتبرع بشيء من ماله، لا بهبة ولا صدقة ولا غيرها؛ لأن ماله قد تعلّق به حق الغرماء، اللهم الشيء اليسير، فقد أجاز بعض العلماء التبرّع بالشيء اليسير، سئل الإمام أحمد رحمه الله عن المدين هل يتصدّق أو لا يتصدق؟ فقال: يتصدق بالشيء اليسير كالخبزة وشبهها، أما ما يضر بالغرماء فلا يجوز.
ومنع بعض الفقهاء هذا المدين حتى من الصدقة بالشيء اليسير، وقالوا: إن القليل مع القليل يصبح كثيرًا؛ ولأن هذا المدين إذا مُنِع من الصدقة كان هذا دافعًا له لأن يسعى في وفاء دينه.
والعجيب أن بعض الناس تكون عليهم الديون كثيرة، ويفعلون في إكرام الناس ودعوتهم فعل الأغنياء، وربما اقترن بالولائم التي يقيمونها للضيوف سرفٌ وتبذير، وهذا خطأ كبير؛ إذ أن قضاء الدين واجب، فكان الواجب على هذا المدين أن يسعى إلى سداد دينه، فإن الدين أمره عظيم، حتى إن النبي أخبر بأن الشهيد الذي قد باع نفسه لله يُغفر له كل شيءٍ إلا الدين، [1]؛ فالتهاون بأمر الدين ليس من الشرع، وليس من العقل. - الحكم الثاني من أحكام الحجر على المفلس: أن من وجد عين ماله الذي باعه على هذا المفلس، أو أقرضه إياه، أو آجره إياه قبل الحجر عليه، فله أن يرجع به وأن يسحبه منه.
ويدل لذلك قول النبي : من أدرك متاعه بعينه عند إنسانٍ قد أفلس فهو أحق به [2]، متفق عليه.
وقد ذكر الفقهاء أنه يُشترط للرجوع لمن وجد ماله عند المفلس المحجور عليه، يُشترط لذلك عدة شروط:
-
- الشرط الأول: كون المفلس حيًّا، إلى أن يأخذ ماله منه، ويدل لذلك الحديث السابق؛ فإنه قد جاء فيه عند أبي داود زيادة: فإن مات فصاحب المتاع أسوة الغرماء [3].
- الشرط الثاني: بقاء ثمنها كلها في ذمة المفلس، فإن قبض صاحب المتاع شيئًا من ثمنه لم يستحق الرجوع به.
- الشرط الثالث: بقاء العين كلها في ملك المفلس، فإن وجد بعضها فقط لم يرجع به؛ لأنه لم يجد عين ماله، وإنما وجد بعضه.
- الشرط الرابع: كون السلعة بحالها لم يتغير شيءٌ من صفاتها.
- الشرط الخامس: كون السلعة لم تزد زيادة متصلة.
- الشرط السادس: كون السلعة لم يتعلَّق بها حق الغير، فإن تعلّق بها حق الغير بأن يكون المفلس قد رهنها مثلًا، فليس لصاحب السلعة الرجوع.
فإذا توفّرت هذه الشروط جاز لصاحب السلعة أن يرجع بها، وأن يسحبها إذا ظهر إفلاس من هي عنده، قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “وإن أقرض رجلًا مالًا، ثم أفلس المقترض، وعين المال قائمةٌ فله الرجوع فيها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: من أدرك متاعه بعينه عند رجلٍ قد أفلس، فهو أحق به ولأنه غريمٌ وجد عين ماله، فكان له أخذها كالبائع”.
- الحكم الثالث من أحكام الحجر على المفلس: أن المفلس إن تصرَّف في ذمته بشراءٍ أو ضمان، ونحو ذلك، صح تصرّفه في ذمته؛ لأنه أهلٌ للتصرُّف، والحجر إنما هو متعلقٌ بماله لا بذمته، ويُطالب بما لزمه من ثمن مبيعٍ ونحوه بعد فك الحجر عنه.
ونوضح هذه المسألة بالمثال: هذا رجلٌ قد حُجر عليه في ماله، ذهب واشترى له سيارة بدينٍ في ذمته لا من عين ماله الذي قد حُجِر عليه فيه، فهذا التصرّف -أعني الشراء- صحيحٌ لأن الحجر عليه إنما هو في أعيان المال فقط، وأما الذمة فليس عليها حجرٌ، ولكنه إنما يُطالب بثمن تلك السيارة بعد فك الحجر عنه.
- الحكم الرابع: أن الحاكم يبيع مال المفلس، ويقسّم ثمنه بقدر ديون غرمائه الحالّة؛ لأن هذا هو المقصود من الحجر عليه، ويترك الحاكم للمفلس ما يحتاج إليه من مسكن ومؤونة، ونحو ذلك.
وأما الدين المؤجَّل فلا يحل بالإفلاس، ولا يزاحم الديون الحالّة؛ لأن الأجل حقٌ للمفلس فلا يسقط كسائر حقوقه، ويبقى في ذمة المفلس، ثم بعد توزيع ماله على أصحاب الديون الحالّة، فإن سددها ولم يبق منها شيءٌ انفك عنها الحجر بلا حكم حاكم؛ لزوال موجبه، ولكن إن بقي عليه شيءٌ من ديونه الحالّة؛ فإن الحجر لا ينفك عنه إلا بحكم الحاكم؛ لأنه هو الذي حكم عليه بالحجر، فهو الذي يحكم بفك الحجر عنه.
حكم إحضار المفلس والغرماء عند بيع مال المفلس
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله: “ويستحب إحضار المفلس -أيْ عند بيع ماله- لمعانٍ أربعة:
- أحدها: إحصاء ثمنه وضبطه.
- الثاني: أنه أعرف بثمن متاعه وجيّده ورديئه.
- الثالث: أن الرغبة تكثر فيه فإن شراءه من صاحبه أحبُّ إلى المشترين.
- الرابع: أنه أطيب لقلبه.
قال: ويُستحب إحضار الغرماء لأمورٍ أربعة كذلك:
- أحدها: أنه يباع لهم.
- الثاني: أنهم ربما رغبوا في شيء فزادوا في ثمنه، فيكون أصلح لهم وللمفلس.
- الثالث: أنه أطيب لقلوبهم، وأبعد عن التهمة.
- الرابع: لعل فيهم من يجد عين ماله فيأخذها، فإن باعه من غير حضورهم كلهم جاز ذلك”.
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، ونستكمل الحديث عن أحكام الحجر في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
فإلى ذلك الحين أستودعكم الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.