عناصر المادة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تتمة أحكام الحجر على الإنسان لحظّ نفسه
كنا قد تكلمنا في الحلقة السابقة عن جُملة من مسائل وأحكام الحجر، تكلمنا عن القسم الثاني من أحكام الحجر، وهو: الحجر على الإنسان لحظّ نفسه.
وذكرنا أنه يشمل الحجر على السفيه وعلى الصغير وعلى المجنون، ثم ذكرنا أن الحجر على الصغير لا يزول إلا باجتماع أمرين؛ وهما: البلوغ، والرشد.
الأمر الثاني الذي يزول به الحجر عن الصبي
أما البلوغ فله علامات تكلمنا عنها بالتفصيل في الحلقة السابقة، ووعدنا باستكمال الحديث عن الأمر الثاني الذي يتحقق به البلوغ، وهو الرشد.
ما هو الرُّشد؟
فنقول وبالله التوفيق: الرشد هو الصلاح في المال؛ لقول الله : وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، فلا ينفك الحجرِّ عن الصغير، ولا يُدفع إليه ماله قبل البلوغ والرشد ولو صار شيخًا.
وقد روي أن القاسم بن محمد كان يلي أمر شيخٍ من قريش ذي أهلٍ ومال، فلا يجوز له أمرٌ في ماله دونه؛ لضعف عقله، قال ابن إسحاق: رأيته شيخًا يخضب لحيته، وقد جاء إلى القاسم بن محمد، فقال: يا أبا محمد، ادفع إليَّ مالي، فإنه لا يولّى على مثلي، فقال: إنك فاسدٌ، قال: امرأتي طالقٌ ألبتّة، وكل مملوكٍ لي حرٌ إن لم تدفع إليّ مالي.
فقال القاسم بن محمد: ما يحل لنا أن ندفع إليك مالك على حالك هذه.
قال ابن إسحاق: ما كان يعاب على الرجل إلا سفهه.
كيف يُعرف رُشد الصبي؟
يُعرف رشد الصبي بأن يمتحن فيمنح شيئًا من التصرُّف، فإذا تصرّف مرارًا فلم يغبن غبنًا فاحشًا، ولم يبذل ماله في حرامٍ، أو فيما لا فائدة فيه؛ فهذا دليل على رشده.
فإذا تحقق هذان الأمران -أعني البلوغ والرشد- وجب أن يُدفع إلى اليتيم ماله.
بم يزول الحجر عن المجنون والسفيه؟
أما المجنون؛ فيزول الحجر عنه بأمرين:
- الأول: زوال الجنون، ورجوع العقل إليه.
- الثاني: أن يكون رشيدًا كما سبق في حق الصغير إذا بلغ.
وأما السفيه؛ فيزول عنه الحجر بزوال السفه، واتصافه بالرشد في تصرفاته المالية.
من يتولى مال الصبي والمجنون والسفيه حال الحجر؟
يتولى مال كلٍ من هؤلاء الثلاثة -أعني الصبي والمجنون والسفيه- حال الحجر أبوه إذا كان عدلًا رشيدًا لكمال شفقته، ثم من بعد الأب وصيُّه؛ لأنه نائبه فأشبه وكيله في حال الحياة.
ويجب على من يتولى أموالهم ممن ذُكِر أن يتصرف بالأحظ لهم، وما لا حظ لهم فيه فليس له التصرف فيه كالهبة والتبرعات والمحاباة، ونحو ذلك، يدل لذلك قول الله : وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام:152]، أيْ لا تتصرفوا في مال اليتيم إلا بما فيه مصلحةٌ وحظ لهم.
كيف يتصرف الولي في مال اليتيم؟
الآية الكريمة وإن كانت نصّت على مال اليتيم، فإنها تتناول مال السفيه والمجنون؛ قياسًا على مال اليتيم، وبناءً على ذلك فليس للولي أن يتصرف في مال اليتيم بما لا حظ له فيه إطلاقًا، وبما له فيه حظ ولكن غيره أحظ منه، وإنما الواجب على الولي أن يتصرف بالأحظ للآية الكريمة: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام:152].
وينبني على هذا أن ولي اليتيم ليس له أن يتبرع من مال اليتيم بأي شيء، بل ليس له أن يتصدّق من مال اليتيم؛ لأن هذا ليس من حظ اليتيم، وليس له أن يقرض من مال اليتيم.
واستثنى بعض الفقهاء من ذلك: أن يكون إقراضه برهنٍ، ووجدت مع ذلك مصلحة راجحة في إقراضه، كأن يخاف على مال اليتيم من نهب، ونحو ذلك.
وعلى ولي اليتيم ونحوه عليه المحافظة عليه، وعدم إهماله، والمخاطرة به، وأكله ظلمًا، يقول الله : إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].
من هو اليتيم؟
واليتيم في لغة العرب وفي الشرع كذلك هو من فقد أباه قبل البلوغ، أما بعد البلوغ فإنه لا يسمى يتيمًا، وكذلك من فقد أمه دون أباه لا يسمى يتيمًا، وقد وردت النصوص الكثيرة مرغّبة في الإحسان إلى اليتامى، وأخبر النبي بأنه هو وكافل اليتيم في الجنة كهاتين. وأشار بأصبعيه.
مشروعية تنمية مال اليتيم
ومن الإحسان إلى اليتيم أن يسعى وليُّه لتنمية ماله؛ كي لا تأكلها الصدقة؛ فإن أموال اليتامى إذا تُركت بدون تنمية، ربما أكلتها أو أكلت معظمها الزكاة؛ لأن الزكاة تجب في أموال اليتامى، وكذلك في أموال المجانين.
ولولي اليتيم والمجنون أن يدفع أموالهما لمن يتّجر بها مضاربة؛ لأن ذلك تصرفٌ في مال اليتيم بالتي هي أحسن، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها فعلت ذلك بمال محمد بن أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين.
وقال عمر : “اتّجروا بأموال اليتامى كي لا تأكلها الصدقة”.
حكم أكل الولي من مال اليتيم
كما أن ولي اليتيم ينفق عليه من ماله بالمعروف، وإذا كان ولي اليتيم فقيرًا فله أن يأكل من مال اليتيم قدر أجرته لقاء ما يقدمه من خدمة لماله، يقول الله : وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6] أيْ: ومن كان محتاجًا إلى النفقة، وهو يحفظ مال اليتيم ويتعاهده فليأكل منه بالمعروف.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: “نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه، إذا كان محتاجًا فله أن يأكل منه”.
وعن عائشة قالت: “أُنزلت هذه الآية في ولي اليتيم وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:6] بقدر قيامه عليه”.
ولكن ما الضابط فيما يباح لولي اليتيم الفقير أن يأكل من مال اليتيم؟
قال الفقهاء: له أن يأخذ أقل الأمرين من أجرة مثله، أو قدر حاجته، وقد روي أن رجلًا جاء إلى النبي فقال: “إن عندي يتيمًا عنده مالٌ، وليس لي مال، أأكل من ماله؟ قال: كل بالمعروف غير مسرف [1].
أما ما زاد عن هذا الحدّ الذي رخّص الله فيه، فلا يجوز أكله من مال اليتيم، وقد توعّد الله عليه بأشد الوعيد يقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10] ويقول : وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا [النساء:6] ويقول: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء:2].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ويستحب إكرام اليتيم، وإدخال السرور عليه، ودفع الإهانة عنه، فجبْر قلبه من أعظم مصالحه”.
ولولي اليتيم شراء الأضحية له من ماله، إذا كان اليتيم موسرًا؛ لأنه يوم فرح وسرور، ولوليه أيضًا تعليمه بالأجرة من ماله؛ لأن ذلك من مصالحه.
هذا هو ما اتسع له وقت هذه الحلقة، أسأل الله أن يوفقنا جميعًا لما يرضيه، وأن يرزقنا السداد في القول والعمل، وإلى لقاء في حلقة قادمة إن شاء الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحاشية السفلية
^1 | بنحوه رواه أبو داود: 2872، وابن ماجه: 2718، والنسائي: 3668، وأحمد: 6747. |
---|