عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخليله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المستمعون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حياكم الله تعالى في هذه الحلقة الجديدة من هذا البرنامج، والتي نستكمل فيها الكلام عن أحكام الحَجْر، وقد سبق أن تكلمنا في الحلقة السابقة عن جملة من مسائله وأحكامه، وذكرنا أن الحَجْر ينقسم إلى قسمين: حَجْرٌ على الإنسان لأجل حظّ غيره، وحَجْرٌ على الإنسان لحظ نفسه.
وتكلمنا عن أحكام النوع الأول، وهو الحجر على الإنسان لحظ غيره، وعن أبرز صوره، وهو الحجر على المفلس.
ثانيًا: الحجر على الإنسان لحظ نفسه
نتكلم في هذه الحلقة إن شاء الله تعالى عن النوع الثاني من أنواع الحجر، وهو الحجر على الإنسان لحظ نفسه، ويشمل ذلك الحجر على السفيه، وعلى الصبي، وعلى المجنون.
أدلة مشروعيته والحكمة منه
الأصل فيه قول الله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا إلى قوله سبحانه: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:5-6].
والحكمة من هذا النوع من الحجر هي: حفظ مال المحجور عليه، وتوفيره له؛ لأن هذا الدين هو دين الرحمة لم يترك شيئًا فيه مصلحة للإنسان إلا حث عليه، ولا شيئًا فيه مضرّة إلا حذّر منه، فإذا كان الإنسان غير مؤهّلٍ لطلب الكسب ومزاولة التجارة -إما لسفهه أو لجنونه أو لصغر سنه- فإن الإسلام يمنعه من التصرُّف ويقيم عليه وصيًّا يحفظ له ماله وينمّيه حتى يزول عنه المانع، فإذا زال عنه المانع سُلِّم إليه ماله موفورًا.
الفرق بين نوعي الحجر
وهذا النوع من الحجر يعمُّ الذمة والمال، فلا يتصرف مَن انطبق عليه في ماله ببيعٍ ولا تبرُّع ولا غيرهما، ولا يتحمل في ذمّته دينًا أو ضمانًا أو كفالة، ونحو ذلك.
وبهذا يظهر الفرق بين هذا النوع من الحجر والنوع الأول، وهو الحجر على الإنسان لحظ غيره؛ حيث إن هذا النوع من الحجر يشمل المال والذمة، بينما في الحجر على الإنسان -المفلس- لحظ غيره، لا يصح تصرُّف المفلس في أعيان ماله، لكن يصح تصرفه في ذمته بشراء أو ضمانٍ، ونحو ذلك، وقد سبق بيان هذا في الحلقة السابقة.
حكم التصرف مع السفيه والصغير والمجنون
وإذا تقرّر أنه لا يصح تصرف السفيه والصغير والمجنون في أموالهم، فما حكم تصرُّف غير السفهاء معهم، كأن يعطونهم أموالًا بيعًا، أو قرضًا، أو وديعة، أو عارية، فما الحكم في ذلك؟
نقول: من تصرّف مع السفيه أو الصغير أو المجنون، فإنه يسترد ما أعطاهم إن وجده باقيًا، فإن تلف ما في أيديهم أو أتلفوه، فإنه يذهب هدرًا لا يلزمهم ضمانه؛ لأنه قد فرّط بتسليطهم عليه برضاه واختياره.
حكم المحجور عليه إذا تعدى على نفس أو مال
أما لو تعدى المحجور عليه لصغر أو جنون، ونحو ذلك على نفسٍ أو على مال، فإنه يضمّن ويتحمل ما يترتب على جنايته من غرامة؛ لأن المجنيّ عليه لم يأذن لهم بذلك ولم يفرّط، مثال ذلك: صبيٌ اعتدى على سيارة؛ مارٌّ في الطريق فكسر زجاج سيارته، فيضمّن ما ترتب على تعديه هذا، ولا يقال: إنه صبيٌ ومرفوعٌ عنه القلم؛ لأن القاعدة الفقهية تقول: إن ضمان الإتلاف يستوي فيه الأهل وغيره.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “يُضمّن الصبي والمجنون والنائم ما أتلفوه من الأموال، وهذا من الشرائع العامة التي لا تتم مصالح الأمة إلا بها، فلو لم يُضمّنوا جنايات أيديهم لأتلف بعضهم أموال بعض، وأدُّعي الخطأ، وعدم القصد”.
بم يزول الحجر عن الصبي؟
ويزول الحجر عن الصبي بأمرين:
- الأمر الأول: البلوغ.
- والأمر الثاني: الرشد.
علامات البلوغ
أما الأمر الأول وهو البلوغ، فإن البلوغ يُعرف بعلامات ثلاثٌ يشترك فيها الذكر والأنثى؛ وتختص الأنثى بزيادة علامتين فوق هذه العلامات الثلاث، وهذه العلامات هي:
- العلامة الأولى: إنزال المني يقظة أو منامًا، وهذه العلامة محل إجماع بين أهل العلم؛ لقول الله سبحانه: وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا [النور:59]، وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ [النور:58].
والحلم هو: أن يرى الصبي في منامه ما يُنزل به المني الدافق؛ ولقول النبي : رُفع القلم عن ثلاثة… وذكر منهم: الصبي حتى يحتلم [1]. - العلامة الثانية: السن، وهو بلوغ خمس عشرة سنة، وهذه العلامة محل خلاف بين الفقهاء، ولكن القول الصحيح الذي يدل له ظاهر السنة هو اعتبار هذه العلامة، يدلُّ لذلك ما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: “عُرضت على النبي يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني، وعُرِضت عليه يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني” [2]؛ ومعنى “فأجازني” أيْ: أمضاني للخروج إلى القتال.
وفي لفظ عند البيهقي بسند صحيح: أنه لما ردّه في غزوة أحد، قال: “ولم يرني بلغت، قال: وعُرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني، ورآني بلغت” [3]؛ فقوله: “ورآني بلغت” دليلٌ على أن النبي إنما أجازه لأجل البلوغ، وليس لأجل سبب آخر.
فدل ذلك على أن بلوغ خمس عشرة سنة من الولادة يكون بلوغًا.
قال نافع: فقدمت على عمر بن عبدالعزيز وهو خليفة حدّثته بهذا الحديث، فقال: هذا هو حدُّ البلوغ، وكتب إلى عُمّاله بذلك.
وقد أورد إشكال على حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا وهو أن غزوة أحد إنما وقعت في السنة الثالثة من الهجرة، وغزوة الخندق إنما وقعت في السنة الخامسة من الهجرة، وابن عمر في هذا الحديث يقول: “عُرِضت يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعُرضت يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني”؛ وقد أجيب عن هذا من وجهين:- الوجه الأول: أنه كان في أُحُد في أول السنة الرابعة عشرة، وفي الخندق في آخرها.
- الوجه الثاني: أن قوله: “وأنا ابن خمس عشرة سنة” يعني أنه قد بلغها ولا يمنع ذلك من أن يكون قد تجاوزها، كما تقول للرجل الذي له ست عشرة سنة هذا له خمس عشرة سنة يعني فأكثر وبناءً على اعتبار هذه العلامة، وقد يكون الإنسان أول النهار غير مكلَّف، ويكون في آخر النهار مكلّفًا؛ وذلك باستكمال خمس عشرة سنة منذ ولِد.
- العلامة الثالثة: إنبات الشعر الخشن حول ذكر الرجل وفرج المرأة.
وقيّد الفقهاء الشعر هنا بكونه خشنًا، أيْ صلبًا قويًّا احترازًا من الشعر الخفيف؛ فإنه قد يحصل لبعض الصغار فلا يُعتبر.
ويدل لاعتبار هذه العلامة ما جاء في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن النبي لما حكّم سعد بن معاذ في بني قريظة، حكم بأن تُقتل مقاتلتهم، وتُسبى ذراريهم، فقال النبي : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات [4]، ثم أمر بأن يُكشف عن مؤتزرهم، فمن أنبت فهو من المقاتلة، ومن لم ينبت ألحقوه بالذريّة.
قال عطية القرظي: “عُرِضت على رسول الله يوم قريظة، فشكّوا فيَّ، فأمر النبي أن ينظروا إليّ، هل أنبتُّ بعد؟ فنظروا إليّ فلم يجدوني أنبت بعد، فألحقوني بالذريّة” [5].
- العلامة الرابعة من علامات البلوغ، وهذه العلامة تختص بها الأنثى دون الذكر: الحيض.
قال الموفق ابن قدامة: “الحيض علمٌ على البلوغ في حق الجارية، لا نعلم فيه خلافًا، وقد دلّ عليه قول النبي : لا يقبل الله صلاة حائضٍ إلا بخمار [6].
- أضاف بعضهم علامة خامسة، وهي: الحمل، وبعضهم يجعل هذه العلامة تابعة للعلامة السابقة؛ لأنه لا يمكن أن تحمل امرأةٌ إلا وهي تحيض.
هذه العلامات هي التي يحصل بها البلوغ، ولكن لا يكفي البلوغ لفك الحَجْر عن الصبي حتى يتحقق أمرٌ آخر وهو الرشد، وسنتكلم إن شاء الله تعالى في بداية الحلقة القادمة عن حقيقة الرشد، وعن جملة من مسائله وأحكامه.
فإلى ذلك الحين أستودعكم الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.