عناصر المادة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخليله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
نتناول معكم في هذه الحلقة جملة من أحكام السلم، ونستكمل بقية الأحكام في هذا الباب في حلقة قادمة إن شاء الله تعالى.
تعريف السَّلَم
السلم في اللغة: مأخوذٌ من التسليم والإسلام، ويقال له: السلف.
قال بعض أهل اللغة: السلم لغة أهل الحجاز، والسلف لغة أهل العراق.
والصواب الذي عليه المحققون من أهل اللغة أن السلم والسلف بمعنى واحد في لغة أهل الحجاز وأهل العراق، ويدل لذلك أن النبي وهو يتكلم بلغة الحجازيين قال: من أسلف في شيءٍ فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم [1].
وسمي سلَمًا لتسليم رأس المال في مجلس العقد، ويسمى سلفًا لتقديم رأس المال الذي هو الثمن.
ويعرّف الفقهاء السلَم بأنه: عقدٌ على موصوف في الذمة مؤجَّل بثمن مقبوض في مجلس العقد.
فقولهم في التعريف “عقدٌ على موصوف” أيْ: أنه لا بد أن يقع العقد على موصوفٍ غير معيَّن، فلا يصح السلم في المعيَّن؛ إذ أن السلم في المعيَّن لا يصح، وإنما يمكن له أن يبيعه بيعًا ولا حاجة للسلم في هذه الحال.
وقولهم: “في الذمة” احترازًا من الموصوف المعيَّن، كأن يقول: أسلمت إليك كذا ريال بالسلعة المعيّنة في المكان الفلاني والتي صفتها كذا وكذا، فهذا لا يصح السلم فيه ولو كان موصوفًا؛ إذ أنه موصوفٌ معيَّن وليس موصوفًا في الذمة.
وقولهم: “مؤجّل” أيْ: أنه لا بد في السلم من التأجيل، فلو كان السلم حالًّا لم يصح في قول بعض الفقهاء، وفي المسألة خلافٌ سنعرض له إن شاء الله عند الكلام عن شروط صحة السلم.
وقولهم: “بثمنٍ مقبوض في مجلس العقد” هذا القيد لا بد منه؛ إذ أنه لو لم يقبض الثمن في مجلس العقد صار من قبيل بيع الدين بالدين وهو لا يجوز.
صورة السلم
هو أن يأتي رجلٌ إلى آخر وينقده عشرة آلاف ريال مثلًا على أن يعطيه بها مائة كيلو تمرٍ من نوعٍ معين بعد مدة معينة.
أدلة جواز السلم
والسلم جائزٌ بالإجماع، ويدل لجوازه قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282] قال ابن عباس رضي الله عنهما: أشهد أن السلَف المضمون إلى أجلٍ مسمى قد أحلّه الله في كتابه وأذن فيه، ثم قرأ هذه الآية.
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله المدينة وهم يسلفون بالتمر السنة والسنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيءٍ فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم [2].
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى قال: “إنّا كنا نسلف على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر في الحنطة، والشعير، والزبيب، والتمر” [3].
وقد أجمع العلماء على جواز السلم، وجوازه من محاسن الشريعة الإسلامية؛ إذ أن فيه توسعة للناس ورفعًا للحرج عنهم، ولذلك فإنه يسمى بيع المحاويج، وفيه مصلحة للطرفين: للمسلِم: وهو المشتري، وللمُسْلَمِ إليه: وهو البائع.
فالمسْلِم الذي هو المشتري ينتفع بالسلَم وذلك بشرائه للمسْلَم فيه وهو المبيع بأقل من قيمته الحاضرة، إذ أنه قد جرت عادة الناس بأن يكون ثمن المسْلَم فيه أقل من بيع الحاضر.
وأما المسلَمُ إليه الذي هو البائع فإنه ينتفع بالسلَم وذلك بحصوله على الثمن الذي هو رأس مال السلَم مقدمًا.
والسلَم نوعٌ من البيع، ويصح بألفاظ البيع وبلفظ السلم والسلف، وبكل ما دل عليه.
شروط صحة السلم
ويُشترط لصحة السلم شروطٌ:
أولها: شروط صحة البيع، والتي سبق الكلام عنها مفصّلًا؛ وذلك لأن السلم نوعٌ من البيع كما سبق، فيُشترط له ما يُشترط للبيع.
ثانيا: يُشترط لصحة السلم كذلك شروطٌ زائدة على شروط البيع، نذكر منها في هذه الحلقة شرطين ونستكمل الكلام عن بقيتها في الحلقة القادمة إن شاء الله.
الشرط الأول: أن يكون فيما يمكن ضبط صفاته
كالمكيل والموزون والمذروع ونحو ذلك؛ وأما ما لا يمكن ضبط صفاته فلا يصح السلم فيه؛ وذلك لأنه يختلف كثيرًا فيفضي إلى المنازعة بين الطرفين، وقد عُلِم من أصول وقواعد الشريعة سد كل ما يفضي إلى المنازعة والخصومة بين الناس.
وإن المتأمل لكتب الفقه ليجد أن الفقهاء المتقدمين قد ذكروا أمثلة لما لا يمكن ضبط صفاته في زمنهم، وأما في وقتنا الحاضر فقد أصبح يمكن ضبط صفاتها بدقة متناهية، بسبب التقدم الصناعي والتكنولوجي الذي يعيشه العالم اليوم.
فعلى سبيل المثال: كان كثيرٌ من الفقهاء المتقدمين رحمهم الله تعالى ينصون على عدم صحة السلم في الأواني؛ نظرًا لاختلافها، ولعدم إمكان ضبطها، وذلك لكونها تصنّع يدويًا في زمنهم، وأما في الوقت الحاضر فيمكن ضبط صفات الأواني بدقة متناهية، وذلك بمعرفة نوعها ورقمها، وحينئذ نقول: لا إشكال في صحة السلم فيها.
وبكل حال فالقاعدة: هي أن ما أمكن ضبط صفاته جاز الإسلام فيه وما لا فلا.
وأما الحيوان فهل يقال: إنه يمكن ضبط صفاته في الجملة فيصح السلم فيه، أو يقال: إنه لا يمكن ضبط صفاته على وجه الدقة فلا يصح السلم فيه؟
اختلف الفقهاء في ذلك:
- فالجمهور على أنه يصح السلم في الحيوان، وقد نص عليه الإمام أحمد في رواية الأثرم، وروي عن عدد من الصحابة منهم ابن مسعود وابن عباس وابن عمر.
- وذهب بعض الفقهاء إلى عدم صحة السلم فيه، وهو مذهب الحنفية.
وقول الجمهور في هذا أسعد بالدليل، ففي صحيح مسلم عن أبي رافع : “أن النبي استسلف من رجلٍ بكرًا فقدمت عليه إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فقال: لا أجد إلا خيارًا رباعيًا، فقال : أعطه إياه؛ فإن خير الناس أحسنهم قضاءً” [4].
وفي “سنن أبي داود” بسند صحيح عن عبدالله بن عمرو بن العاص : “أن النبي أمره أن يجهّز جيشًا فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين والبعيرين بالثلاثة إلى إبل الصدقة” [5].
الشرط الثاني: أن يصفه بما يختلف به الثمن ظاهرًا
من شروط صحة السلم: أن يصفه بما يختلف به الثمن ظاهرًا؛ فيذكر جنسه ونوعه، وقدره وبلده، وحداثته وقِدمه، وجودته ورداءته.
وإنما اشتُرِط ذلك؛ لأن المسلَم فيه عوضٌ في الذمة، فلا بد من العلم به كالثمن، ولأن العلم شرطٌ في المبيع، وطريقه إما الرؤية أو الوصف، والرؤية متعذّرةٌ هنا فيتعين الوصف.
ولا يجب استقصاء كل الصفات؛ لأنه قد يتعذّر، وقد ينتهي الحال فيها إلى أمرٍ يتعذر معها تسليم المسلَّم فيه، وإنما يُكتفى بالأوصاف الظاهرة التي يختلف بها الثمن ظاهرًا، بل إنه لو استقصي جميع الصفات حتى انتهى إلى حالٍ يندر معها وجود المسلَّم فيه بتلك الأوصاف، بطل السلَم حينئذ؛ لأن من شروط السلم أن يكون المسلم فيه عام الوجود عند المحل، واستقصاء الصفات يمنع منه.
ونكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، وإلى حلقة قادمة إن شاء الله.
أستودعكم الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.